Skip to main content

الرسالة الأولى: الخطاب الثالث

1يو 2: 1 و 2

"يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل (لخطايا) كل العالم أيضاً"

هذان العددان يتبعان الإصحاح الأول ويخصانه، وهما تتمة لازمة له. ومع أن العدد الثالث يبدأ بأداة العطف على ما قبله إلا أنه في الواقع يقود إلى موضوع وهو تطبيق الحق الذي يتضمنه الإصحاح الأول، بطرق غاية في الأهمية والخطورة لوقاية النفوس من الخداع والضلال. ولكننا نترك الكلام عن هذا الموضوع الآن، لأن غرضنا التأمل في العددين الأول والثاني ولنا فيهما مجال متسع لدراسة كلمة الله والبحث فيها لخير نفوسنا وشبعها.

رأينا الإصحاح الأول يتكون من قسمين. أولهما يحدثنا عن فيض محبة الآب في الابن المتجسد، نابعاً من النعمة الإلهية بلا أي مسبب خارجي – إلا خطايانا! فالمحبة هي نشاط طبيعته. ويحدثنا ثانيهما عن طهارة طبيعته معبراً عنها بالكلمة الرمزية الدقيقة التعبير "نور". وأية كلمة كان يمكن أن تتفق مع غرضه أحسن من هذه؟ وهكذا كتب لأجل تعليمنا ولكي يكون الأمر في متناول إدراكنا بمعونة الروح القدس فإنه لا يوجد عنصر يرفض الفساد ويأباه أكثر من النور كما أنه في ذاته طاهراً طهارة مطلقة. وعلى أية حال فإن نور طبيعة الله هو هكذا، ونصيبنا في نعمة الله أننا حصلنا على طبيعة من طبيعة كمسيحيين، وهذا ما يخبرهم به الرسول بإرشاد الروح القدس يوم أن كانت الكنيسة بحسب الظاهر تكاد تصبح حطيماً. وها نحن نرى أن الحالة كانت كذلك يومئذ كما يستدل من هذه الرسالة ذاتها، فإن شر أنواع الضلال التي يمكن تصورها في العالم المسيحي هو ما يسمى "ضد المسيح" وقد كان في ذلك الوقت "أضداد للمسيح كثيرون" والآن هم أكثر. وقد شاء الله في حكمته وعنايته أن يجعل جرثومة أشر الضلالات تظهر جلية قبل أن يكتب آخر الرسل كتاباته حتى يبلغنا بواسطة الحكم الإلهي على تلك الضلالة وشرها وخطرها. فلم يتركها لفطنة التمييز الروحي وحده مع أن هذا لازم جداً للإفادة من كلمة الله ولكنه أعطانا في كلمته سلطانه الإلهي للحكم على هذه الضلالة وأمثالها. فليس على أساس الاستنتاج أو حجج الناس أو خلاصة اختبار القديسين، بل كل ما من شأنه أن يؤثر بسلطان الله على ضمير وقلب كل ولد من أولاده. ولذلك فقد رأى في فائق حكمته، طالما أن هذه الشرور كلها كان مآلها للظهور، أن يسمح بظهور أردأها في ذلك الحين لكي يحدده ويدينه أمام قديسيه.

ومن هنا كان لهذه الرسالة طابعها الفريد الخاص. فهي ليست كالرسالة الثانية إلى التسالونيكيين التي تتطلع إلى فترة أخرى من الزمن ليست موجودة الآن، فترة لم تكن قد جاءت بعد ولكنها ستجيء حتماً قبيل يوم الرب – وأعني بها فترة "الارتداد"آت لاشك فيه فإن أحد العوامل التي يمهد لظهوره هو هذا الشيء الغريب الذي يسمونه "النقد الأعلى"، أو بعبارة أخرى إعداد الناس وتهيئتهم لذلك النوع من عدم الإيمان الذي سيكون شاملاً وكاملاً وعلنياً. وأين يا ترى أمانة أولئك الموظفين من رجال الدين يجنون الجاه الأرضي والكسب المادي من ذات الشيء الذي يعملون على تقويضه، والذي كان ينبغي أن يعملوا – إن لم يكونوا يعلمون فعلاً – أنهم عاملون على تقويضه وهدمه؟ ولكن ذلك الارتداد مستقبل، بينما أضداد المسيح كانوا قد جاءوا فعلاً فقد كانت "الساعة الأخيرة" ومن علامات الساعة الأخيرة وجود "أضداد للمسيح كثيرين" وها هم أمام عيوننا فليس المقصود الشر المستقبل فقط أي ضد المسيح الأكبر، بل أضداد للمسيح كثيرون الذين هم طلائع ضد المسيح الآتي والممهدون لطريقه.

على أن العددين الذين أمامنا يتناولان شراً عاماً – شراً يجب أن يحسب حسابه كل مسيحي معترف. فالجسد عداوة لله، وهو خطر قريب ودائم، لأنه على استعداد أن يزود العدو بمادة للعمل ليس فقط في الذين ليس لهم سوى الجسد بل في أولئك الذين وإن كانوا هم أنفسهم في الروح إلا أن الجسد فيهم – الذين يقال عنهم بصراحة أنهم ليسوا في الجسد بمعنى أنهم بالإيمان قد عتقوا في المسيح من الجسد وقد حصلوا على طبيعة جديدة كل الجدة ولم يتركوا في الطبيعة القديمة بلا حول ولا قوة. ففي الروح القدس القوة الكافية لحفظ كل قديس لله من الخطأ.

نعلم بالاختبار أننا قد نخطئ وأننا جميعاً نعثر. لكن الذنب ذنباً.ولذلك فإن المؤمن هو الشخص الذي يجب أن يكون على استعداد – بل وبسرور – أن يبرر الله ويدين نفسه. طبيعي أن هذا أمر مذلل ولكن ألم نحصد بركة أيها الأخ العزيز بل وبركة عظيمة من ذات الشيء الذي يذلنا؟ فما من تجربة على الإطلاق، مهما كانت متعبة ومؤلمة وقاسية أحياناً، إلا وتحولت بنعمة الله إلى الخير طالما كنا قد قبلناها من يد الله، فإن "كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده". وحيث أننا نعلم أن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من عند أبي الأنوار فنحن بلا عذر إن كنا نسيء الظن فيه، لأننا أولاد وعلينا أن نحافظ على الصفة العائلية.

ولذلك ينبغي أن لا نسيء فهم ما يقصده الرسول حينما يرينا في الجزء الثاني من الإصحاح الأول نقطة الابتداء للمؤمن. لأن العدد السابع الذي طالما أسيء فهمه يشير في الحقيقة إلى مقام المؤمن. وكثيراً ما يرينا بعض الناس يأخذون هذا العدد على أنه يشير إلى أخلاق المؤمن وتصرفاته التي قد يخالطها النقص، في حين أن الإشارة منصرفة إلى نوع مسلكنا من حيث المبدأ لأن لنا حياة أبدية، ولأن هذه الحياة الأبدية لها حراسة قوية وأساس راسخ للتعزية في ذبيحة المسيح. فالقول "إن سلكنا في النور" هو تقرير حقيقة مجردة تنطبق على كل مسيحي بالحق. وهذا يكفي لتبيان وجه الخطأ والانحراف في تفسيره ذلك التفسير المقلوب. فلا علاقة هنا بأي زمن أو تصرف معين في مسلك المؤمن بل الإشارة إلى طابع سلوكه العام بحسب الله.

وهذا بالضبط ما قصده رسولنا أن يعلنه بسرور ويطبقه علينا باستمرار. فالقول "إن سلكنا في النور" معناه في الواقع إن كنا مسيحيين، إن كنا قد رأينا نور الحياة، إن كنا تابعين للمسيح. والرب القائل "من يتبعني لا يمشي في الظلمة" فهل يقصد بذلك جانباً من القديسين دون غيرهم، إنه له المجد يؤكد هذه الحقيقة المبهجة لكل من يتبعه "لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" ومع ما لهذا الامتياز من عظمة فهو من فضل النعمة الخالصة وليس بحال من الأحوال غاية نصل إليها بفضل أمانتنا الشخصية، بل أنه من ثمرة صلاح الله الذي لا عديل له أنه صار لنا من الآن كمؤمنين أن نتعامل مباشرة مع الله كما هو. وأين يعرف الله كما هو؟ طبعاً ليس في الظلمة بل في النور. فنحن ليس لنا فقط حياة أبدية بل لنا مع الحياة الأبدية امتياز السلوك في النور عوض أن نسلك في الظلمة كما يفعل عابد الوثن. إن الإنسان الساقط يسلك بالضرورة في الظلمة لأنه لا يعرف الله. أما المؤمن فإنه يسلك في النور لأنه يعرف الله إذ قد رأى المسيح نور الحياة. ونور الحياة هذا ليس مجرد شعاع صغير سرعان ما يتلاشى، بل هو نور كامل دائم. فالنور الحقيقي الآن يضيء ولكن أين يضيء؟ يضيء على المسيحي وفي ذات قلبه. إن الرسول بولس يذهب إلى أبعد من هذا فيتكلم عن "نور المجد" لأنه مشغول بالمسيح في الأعالي، ولكن الكلام هنا هو عن نور الحياة في المسيح، نور الطبيعة الإلهية الحقيقي. فنحن حينما نتجدد ونستريح على أساس الفداء، إلى أين يؤتى بنا؟ ليس بعد إلى السماء، بل "إلى الله" (1 بط 3: 18) وهل الله ظلمة؟ حاشا "الله نور وليس فيه ظلمة البتة". وهناك نحن نسلك.

يخلط الناس بين السلوك في النور والسلوك بحسب النور من أن الأمر الثاني شيء آخر على الإطلاق. فالقول "نسلك بحسب النور" معناه السلوك العملي ولكن الرسول يقول "نسلك في النور" وهذا معناه السلوك في الدائرة التي أتى بنا إليها ربنا يسوع المسيح، أي إلى الله، وهي الدائرة التي نسلك فيها من تلك اللحظة إلى أن نصل ونكون معه حيث لا يوجد ما يعطل ذلك النور على الإطلاق. فهنا نحن محاطون بكل أنواع المعطلات والعراقيل والمخاطر من الجسد والعالم وإبليس ومع ذلك فإننا من الآن نسلك بالإيمان في نور محضر الله.

إن قلب العدو حقداً شخصياً ضد الابن، الرب يسوع، بصفة خاصة. وكذلك نعلم أن الشيطان منذ البدء يحقد على الإنسان بينما الله يعطف عليه ويحنو. ولا عجب في ذلك حيث أن قصد اللاهوت الأزلي أن يصير الابن إنساناً فضلاً عن أن الإنسان في حد ذاته كان موضع اهتمام الله. لقد كان الإنسان مجرد حفنة من تراب إلى أن نفخ الله في أنفه نسمة الحياة – في الإنسان وحده دون أية خليقة أخرى على الأرض. فليس سوى الرأس الأرضي نال بهذه الطريقة المباشرة نسمة الله. أما سائر المخلوقات الأخرى فبدأت حياتها بغير هذه الوسيلة ولذلك فإنها تبيد وتهلك بالموت. ولكن ليس هكذا الإنسان. صحيح إنه إذ يموت يعود إلى التراب، ولكن ما هو مصير نسمة الله؟ هنا أساس خلود النفس. إننا لا نتكلم الآن عن حياة المؤمنين الجديدة بل عن أنفس الناس. إن كان هناك من ينكر خلود النفس أفلا يكون بهذا الإنكار وحده كافراً ملحداً لأنه يسوى من هذه الناحية بين نفس الإنسان ونفس الكلب؟ وهل يمكن أن يكون هناك تبجحاً أعظم من هذا وعدم إيمان حتى في مواجهة ما عمله الله للإنسان ولأجل الإنسان؟ فما من حيوان آخر جعل على صورة الله أو شبهه. ومما يزيد في شناعة عدم إيمان الإنسان وجحوده غير الشاكر أنه يزدري بالله وبكلمته – الله الذي أظهر مثل هذا اللطف والصلاح من نحوه الذي أضفى مثل هذه الكرامة العجيبة الممتازة على الجنس كله ممثلاً في رأسه، إذ جعله سيداً على كل شيء. إن مركزاً كهذا لم يسمح به الله حتى لملاك من الملائكة لأنهم جميعاً خدام. وما من ملاك سيلبس تاجاً أو يجلس على عرش يوم من الأيام مهما كانت أحلام الشعراء أو اللاهوتيين. أما المؤمنون فبكل يقين ستكلل تيجان المجد هامتهم وسيجلسون على عروش ويملكون مع المسيح.

فها أنت ترى أن هناك شيئاً خطيراً ذا مغزى هام حتى في طريقة خلق الإنسان. ولكن الشيطان عدو الإنسان يحاول جاهداً أن يجعل منه مجرد مخلوق للأمور الحاضرة، مغلقاً عينيه عن كل ما هو آت، ومنكراً بذلك كلمة الله والدينونة العتيدة. لا شك أن درجات الإلحاد منوعة وكثيرة وبخاصة في يومنا الحاضر، ولكننا نعتقد أن أول درجات الإلحاد هي نكران الكتاب بوصفه كلمة الله إن لم يكن رفض شهادته للمسيح في الإنجيل المكروز. ثم يضاف إلى ذلك الحط من قدر نفسه الخالدة والنزول بها إلى مستوى البهائم متجاهلاً جهنم والسماء. وهكذا قل عن باقي درجات الإلحاد وغيومها المتكاثفة وظلماتها المتزايدة. ولكن هنا يوجد أيضاً خطر الادعاء والكبرياء لأن الجسد ميال دائماً لأن يفسد كل شيء وأي شيء، وهو يحاول أن يسيء استعمال النعمة ويروقه أن يفعل ذلك ما لم تحصل النفس على طبيعة جديدة. وحتى مع وجود هذه الطبيعة لا سبيل لحفظ المؤمن مستقيماً إلا بالاعتماد على الله في الإيمان بعمل المسيح.

ومن جهة أخرى هناك عمل الله الدائم. فإذا كان النور هو طبيعة الله الأدبية فإن المحبة هي نشاط طبيعته العاملة دائماً بكل ما فيه من صلاح وعطف ورعاية. والواقع أن المسألة كلها مصدرها المحبة. لا ريب أنه يسير على الإنسان أن يسيء استخدام المحبة، وهو لا يقف عند حد الإساءة إليها في فترات متقطعة بل قد يتقدم من رديء إلى أردأ لولا أن الله في المسيح ليس فقط حياة ونوراً بل محبة. أجل، وبالمحبة مات المخلص لأجلنا وسفك دمه لكي يجعلنا أبيض من الثلج في نظر الله، كما هو شفيعنا عند الآب القدوس البار.

قد يلاحظ القارئ أن الرسول لا يتكلم الآن عن طبيعة الله كما في الجزء الأخير من الصحاح الأول. بل يعود بنا إلى صفته كالآب (كما في الجزء الأول من ذلك الإصحاح) ذلك الاسم الكريم الذي يعبر عما للمسيحي من شركة مع الله. ولا عجب فإن النعمة التي أظهرت للمسيحي هي أسمة نعمة أظهرها الله أو سيظهرها. وبذلك قد تمت كلمة الله، فلم يوجد بعد عند الله أي إعلان آخر يعلنه وليس للإنسان أن يظفر من الله بأي إعلان أكثر من ذلك. لقد أخرج الله الحلة الأولى ولم يبق بعد ما هو أفخر منها. فالله لم يعطنا فقط آخر وأعمق كلمة في المسيح ابنه، بل أعطانا أيضاً الروح القدس الذي هو معنا الآن ليزودنا بما نحتاجه من قوة. فلسنا في حاجة إلى أن نذهب إلى أورشليم أو السامرة أو روما أو كنتربري أو غيرها لكي نعرف كلمة الله ومرادها. فكما أن الكتاب هو دستور الحق الوحيد، كذلك الروح القدس ساكن في كل مسيحي لهذا الغرض بالذات – ليرشده إلى كل الحق.

غير أن هذا أيضاً يفترض وجود النفس في حالة لائقة. فالحالة السامية المباركة التي تأملنا فيها في مطلع الإصحاح الأول هي الشركة. والشركة المسيحية معناها مشاركة الآب في فكره وعواطفه وعمله ومقاصده مهما يكن مداها ومهما تكن حدودها وآفاقها كما هي مركزة في غرض الإيمان الموضوع أمامنا وهي جميعاً موجودة في شخص الكلمة الحي المتجسد وفي الكلمة الحية المكتوبة، وهي هناك لتأملنا وفهمنا وإدراكنا. وبهذه الكيفية ندرك ونفهم أن ما صنعه الله لأجلنا في المسيح هو عين ما كان في قلبه قبل أن يعمل أي شيء آخر، وذلك كما هو معلن في ابنه وكما هو محقق فينا بعمل الروح القدس وحده. لقد حصلنا على أفضل ما كان ممكناً لله أن يمنحه لنا وهو اشتراكنا معه في مسرته الأزلية بابنه، وهي المسرة التي يوصلها إلينا الآن الروح القدس. فعندما قال الآب "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" ألم يكن هذا القول (كما لاحظ آخر) أعجب بكثير مما لو قال "الذي به ينبغي أن تسروا"؟ وحتى لو قال هذا لكان فضلاً عظيماً من الآب، ولكنه أراد بالقول "الذي به سررت" أن يشركنا معه في بهجة قلبه الأعظم، فإن سرور الله كله يتركز في الرب يسوع، وبالأكثر لأن الابن رضى بأن يولد من امرأة، ولأنه تنازل ليصير إنساناً – الأمر الذي كان لازماً لبركتنا كلزوم كونه الله منذ الأزل. فما كان ممكنا أن تكون هناك أية حلقة تربط الله بالإنسان لولا تجسد الله الابن. وكم كان هذا التجسد لازم أيضاً لمجد الله.

إن الرب يسوع لم يأت فقط ليموت. لاشك أن خذا ما فتح لنا الباب وشق لنا الحجاب وأدخلنا إلى محضر الله متحررين من جميع نقائض خطايانا ونتائج طبيعتنا الساقطة. ولكن الأهم من هذا كله تمتعنا بالله كما هو وشركتنا مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح وهو بالأسف ما ينساه ويتغاضى عنه المسيحيون العصريون. لكن أليس هو افخر جزء في نصيب المسيحي بالحق؟ وأليس هو بالأسف ما يقصر دونه المؤمنون في الوقت الحاضر؟ أهم يظنون أنه يكفيهم أن يكونوا مخلصين أو أن يكون لهم على الأقل رجاء متواضع أن يكونوا كذلك في آخر حياتهم. وهنا تبدو أنانية المبادئ الكلفينية وقسوتها. فالناس فيها يقولون "إذا كنت قد خلصت فهذا هو المهم، وأن أكون مختاراً أو غير مختار هو أولى المسائل التي يجب الاهتمام بها والبث فيها". مشغولية تدور كلها حول الذات. أما السؤال الأول عند الله فهو أن أؤمن بالرب يسوع وعندئذ ينطلق القلب يملأ الحرية متجهاً بالطبيعة إلى الآب والابن في قوة الروح، وليس فقط إلى جميع القديسين بل لجميع الخطاة لكي يؤمنوا هم أيضاً ويخلصوا.

أي نعم يا أخي. ليست المسألة الأولى مسألة سلامتي. فو إن كان خلاصي أمراً مباركاً، فإن سلامتي جزء صغير في كيان المسيحية الحقيقية وجزء أصغر في المجد الإلهي. لا شك أنه أمر جوهري أن يبدأ المؤمن بيقين الخلاص حينما يقبل المسيح. وهذه البداية برهان كاف على عدم استحقاقه في ذاته لأية بركة لأن الله يمنحها له كاملة ومجاناً. غير أن التمتع بمحبته ومسرته بابن محبته شيء آخر يفوق كثيراً مجرد الخلاص وينشئ فرحاً أكمل وأسمى بكثير مما يمكن أن ينشئه أي شيء آخر. وأي شيء في السماء أعظم من ذلك؟ هناك سيغيب كل شر ولا يكون سوى المجد، ولكن ليس في السماء ما يسمو على الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. والأمر العجيب أن تتاح لنا هذه الشركة مع الآب والابن ونحن هنا على الأرض، وأنه لمن أفضال الله ومراحمه العظمى حقاً أنه يؤهلنا من الآن للتمتع بهذه الشركة في الروح.

ولكن مهما تكن الشركة مع الآب والابن مباركة فإنها تتعطل بسهولة. فكر واحد غبي أو كلمة واحدة غبية تكفي لتعطيلها، إذ كيف يمكن أن يكون للآب والابن شركة مع الخطية؟ وهنا نحتاج لرد النفس ومن ثم كان لنا القول الكريم "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا" وليس معنى هذا أن الرسول كان يخشى عليهم أن يهلكوا. ومن هذا الوجه نرى المبدأ الكلفيني رغم صرامته وضيقه صحيحاً غاية الصحة. فالحياة الأبدية معناها الحياة الأبدية ولا شيء أقل من ذلك، ولو أنها تعني أيضاً شيئاً أكثر مما يستخلصه الكثيرون من هاتين الكلمتين الموضوعتين هكذا معاً. ولعل أول ما نفهمه منهما سطحياً أن الأمر ليس قاصراً على مجرد الخلاص والسلامة. وحتى من هذه الناحية البسيطة هناك من المسيحيين من يظنون أ "الحياة الأبدية" تعني أقل من السلامة! ونحن لا يسعنا إلا أن نحزن من أجلهم كثيراً. ولكن إن كانت هناك أشياء غبية أخرى مخالفة لكلمة الله يحتمل أن يلهو البعض بها بين المسيحيين فإنه لا يجوز لأحد قط أن يلهو بهذا الحق الأساسي الذي يرتبط بشخص المسيح نفسه. وشكراً لله لأنه يراقب قلوب أولاده وأفكارهم وألسنتهم من جهة هذا الأمر الخطير فلا يسيئون استخدام نعمته التي لا مثيل لها ولا يستهينون بشخص ربنا المعبود الذي هو حياتنا الأبدية.

فالشركة مع الآب ومع ابنه القائمة على الحياة الأبدية في المسيح تؤهلنا للنور وتجعلنا أكفاء للسلوك في النور، والله في صلاحه لا يزودنا فقط بالفطنة والفهم الروحي بل يملأنا أيضاً بالسلام والفرح. وهل تظن أيها القارئ العزيز أن معظم أولاد الله يؤمنون فعلاً بأن هذا هو نصيبهم الآن، وإن هذا هو فكر أبيهم من جهتهم؟ وهل مسيحيتهم العملية تبلغ إطلاقاً إلى هذا المستوى مستوى "الفرح الكامل"؟ إن رسالة يوحنا الأولى ليست وحدها هي التي تكلمنا عن فرح المسيحي الكامل بل هناك أيضاً بولس الرسول واختياره وشهادته في هذا الشأن.

انظر إلى تلك الرسالة الاختبارية المكتوبة للفيلبيين، فمع أنها رسالة آلام واختبار لكن لا يوجد بين رسائل بولس ما يعدلها في فيض الفرح من كل جانب. فالرسول كان له هذا الفرح في قلبه وكان يرجوه ويتطلع إليه في قلوب أولئك القديسين الذين كان يحبهم كما أحبوه. صحيح أنه بدأ خدمته في فيلبي في سجن في نصف الليل، حيث أحاطت به كل أنواع القسوة والإساءة من الناس ووقع عليه وعلى زميله "سيلا" كثير من الآلام والعار ولكن لا نقرأ عن مكان آخر نظير فيلبي بدأت في خدمة الإنجيل بأغاني النصرة وأناشيد التسبيح والحمد لله وسط الحزن والآلام والأوجاع. أناشيد سمعها الله وليس فقط المسجونون، وقد أجابهم عليها بزلزلة عظيمة يمكن أن يقال عن يقين أنه لم يحدث نظيرها في أي مكان منذ ابتداء العالم بدليل الآثار التي تخلفت عنها والتي لم يسبق لها مثيل على الإطلاق، فقد حلت قيود جميع المسجونين ومع ذلك لم يهرب منهم سجين واحد ولم يمت أحد أو يجرح أحد.

وقد استيقظ السجان ليس فقط لكي يعلم أن جميع من كانوا بعهدته موجودون وسالمون بل لكي يعرف ما هو أفضل من ذلك بكثير – لكي يعرف المخلص العجيب وليتأكد خلاص نفسه بالنعمة السامية المطلقة. واضح أنه كان رجلاً قاسياً فظاً عديم المبالاة كسائر السجانين ولاسيما في تلك الأيام. ولكن ها هو بين غمضة عين وانتباهتها يصبح نصباً تذكارياً هائلاً لعمل الرحمة الإلهية وشهادة خالدة لإجابة الله ليس فقط على سوء استخدام السلطان بل على صبر إيمان عبديه اللذين كانا يسبحانه ويترنمان بحمده في أعماق السجن، ومن هناك وقعت في سمعه موقع الرضاء والقبول وأناشيد فرحهم التي زادت أنغامها عذوبة وحلوة تلك الضربات الكثيرة الغاشمة التي وقعت عليهما. حقاً أنه أولى بنا في الظروف العادية وفي وسط كل تمتعاتنا الهادئة بالنعمة والحق الإلهيين أن تنطلق ألسنتنا وتمتلئ أفواهنا بأغاني التسابيح القلبية لحمد إلهنا في كل حين. ليس المقصود أن يكون كل مسيحي دائماً مرتلاً بل المقصود هو أن يتصاعد الحمد والتسبيح من قلوب المسيحيين في جميع الظروف والأحوال. ولا شك أن يكون الحال كذلك لو عرف القديسين المسيحية الصحيحة كما سلمت مرة لإيمانهم ولو تمتعوا بها منفصلين عن كعطلات عدم الإيمان المظلمة.

يبدأ العددان اللذان أمامنا بالنداء المؤثر لثقة محبة الذين يدعوهم الرسول أخيراً "يا أولادي". لقد امتنع حتى الآن عن استعمال أي تعبير حبي من هذا القبيل، أما الآن فيستعمله. "أكتب إليكم هذا" – وهنا أيضاً لا يستخدم ضمير الجمع الدال على الشهادة المشتركة التي كانت لازمة ومناسبة في مكانها حينما قال "نكتب إليكم هذا" (عدد 4) بل هو الآن يوجه إليهم خطاباً شخصياً. لقد كان يكتب لكل واحد وللجميع مسوقاً من الله ولكن من أعماق نفسه الشخصية لا شك أنه كان ملهماً حين قال "نكتب" في الإصحاح الأول كان خاصاً بقرار شهود مختارين وشهدوا بالنعمة الإلهية عن أمور قصد أن يتمتع بها جميع القديسين تمتعاً كاملاً. فإذا كانوا قد استطاعوا أن يتحدثوا إليه بأناشيد الحمد والتسبيح في نصف الليل فبكل يقين كان لهم أن ينشدوا ترانيمهم الروحية في نور نصف النهار أيضاً.

أما هنا فإنه يوجه إليهم إنذاراً خطيراً "أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا". من منا يعجب لأن يجيء هذا نداء شخصياً وبداعي الحاجة. لماذا؟ إن الخطية تكسر القلب وتمسه في الصميم وبخاصة إذا وقعت من أحد قديسي الله الذين دعي عليهم اسمه. إذاً كنا قد عرفنا الإنجيل فإننا نؤمن حقاً أن الحياة الأبدية تستمر إلى حيث لا يكون زمان، والمسيحي له هذه الحياة الأبدية أي حياة المسيح المعطاة له من الآن، كما أن له فداء المسيح الأبدي (عب 9: 12) ليس فداء وقتياً زمنياً كالفداء الذي جاء بواسطة موسى في الخروج من مصر، بل فداء أبدياً كسائر امتيازاتنا المسيحية. ففي العدد الأول من هذا الإصحاح لا نشتم أثراً للخوف من الهلاك نظير الإسرائيلي، ولكن كل ما هنالك أننا كأحياء بحياة المسيح وصفاته قد صرنا بالنعمة نشعر ونتأثر بكل ما يحط من قدر اسم المسيح ويحزن روح الله القدوس الذي به ختمنا ليوم فداء المقتنى وأكثر من ذلك أن لنا "الآب" كما يحرص الوحي على أن يذكرنا هنا، فلسنا فقط شركاء الطبيعة الإلهية بل لنا شركة الأولاد مع الآب.

لو تخيلت ولداً يتيماً مسكيناً لم يعرف أباه أو أمه ولكنه أخذ في يوم من الأيام يستشعر بألم فقدانه هذه الرابطة التي تربط الآخرين معاً، فعندئذ تستطيع أن تدرك معنى الفراغ العظيم الذي يحس به الإنسان في هذه الحالة. أما نحن فقد جنبتنا النعمة كل إحساس من هذا القبل. فلم نحصل فقط على طبيعة إلهية أعطيت لنا بالنعمة لتدوم فينا على الزمن ورغم كل تصاريفه وصعبان، بل قد أصبح لنا كمن قبلنا المسيح سلطان أن نصير أولاد أبيه وأبينا، وهذه نسبة وعلاقة لا تتغير قط. وما هي الخطية في نظر الآب؟ ليست شيئاً أقل من طعنة مباشرة ضد طبيعة الله. وعلاقتنا الوثيقة بالله ونسبتنا إليه كأولاد إنما تتضاعف من الإهانة التي نلحقها بالله. فالخطية معناها فعل الإنسان لمشيئة الذاتية ضد مشيئة الله. هذه هي صفتها الحقيقية وليست كسر الناموس أو التعدي عليه كما قد يتبادر إلى الذهن من الترجمة الرسمية[4] ليوحنا الأولى 3: 4. هكذا ظن بعض اللاهوتيين فترجمتها كذلك لأن الطبيعة البشرية ميالة دائماً للتفكير بالروح الناموسية. أما ما كتبه الرسول في ذلك العدد فهو أن الخطية هي التمرد (Lawlessness) أي صنع الإرادة الذاتية وعدم التقيد بأي ناموس وهذا المعنى أوسع وأعمق من مجرد مخالفة الناموس. فإن مخالفة الناموس قد تقع من يهودي تحت تأثير الإهمال أو الاستفزاز دون أن ينتبه ويفطن إلى سلطان الله فيه. بينما التمرد أو عدم التقيد بأي ناموس شيء خطير للغاية ومن هنا كانت وصمة الأمم الذين لا يعرفون الناموس وذنبهم الخاص حتى أن الرسول يستخدم عبارة "بلا ناموس" (Lawless) وصفاً لهم. وهذا هو تعريف الخطية المعلن للمسيحي – "الخطية هي التمرد". صحيح أن تعدي الناموس خطية، لكن ليس صحيحاً أن الخطية هي تعدي الناموس لأن الخطية لها معنى أوسع – هي التمرد أو الإرادة الذاتية الجامحة غير المروضة.

ولذلك وبعد أن شرح الرسول الشركة الإلهية والطبيعة الإلهية، بدأ يكتب مناشداً أولاده الأحباء لكي لا يخطئوا. فإذا كنت أخطئ متجاوزاً ممارسة الحياة الأبدية التي لي في المسيح فإني بذلك أهين إهانة عظيمة محبة الآب والابن، بل إني أخدش طبيعة الله نفسه – طبيعته الأدبية. لأن خطية المسيحي ليست مجرد نقض للناموس الذي أعطاه موسى لإسرائيل مع خطورة هذا في حد ذاته ومع قيمته العظيمة لكل من عرفه إذ الوصية مقدسة وعادلة وصالحة، ولكننا نحن المسيحيين، حتى وإن كنا يهوداً مسيحيين، قد متنا مع المسيح للناموس ودخلنا في نسبة جديدة ومقام آخر يختلف كل الاختلاف عن مقام اليهود، لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة. هذا هو مركز المؤمن منذ مات سيدنا وقام. ولذلك، ولأن الشيطان على استعداد دائم أن يوقع المسيحي في مصيدة الخطية لإهانة سيده، نقرأ القول "اكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا". كلمات قليلة لكن ما اخطر ما تنطوي عليه! ومما يزيد في وزنها ويعظم في قدرها تلك البساطة المحسوسة والعاطفة الرقيقة التي بها يقدمها إلينا الرسول. "وإن أخطأ أحد" – وهنا لا يقول إن أخطأ "إنسان" فليس المقصود أي إنسان على الإطلاق بل إن أخطأ أحد من المؤمنين. إن أخطأ أحد ممن لهم هذه العلاقة المقدسة وهذه الطبيعة الإلهية....

مفروض أن هذه الخطية وقعت من قديس وليست خطية مستمرة إذ لا يمكن أن يقال أن المسيحي يعيش في الخطية عامداً، والكتاب لا يقدم سبباً أو عذراً لمثل هذا التساهل أو التراخي. قد تكون لدى بعض الناس نظرية خاطئة فاسدة تقوم على نكران وجود الخطية فينا، ولكننا قد رأينا حكم الكتاب على أمثال هؤلاء على أنهم يضلون أنفسهم وليس الحق فيهم. أما نكران وقوع الخطأ منا، أي الادعاء بأننا لم نخطئ أعمق غوراً وأكثر خطراً لأنه يدل على ضمير موسوم متحجر وعلى تجرد كلي من ذلك النور الإلهي الذي يكشف دقائق حياتنا الذاتية بأجمعها. والواقع أنه لا توجد نظرية تعارض كلمة الله من نحونا أكثر من هذه. فلنسمع ماذا يقول الكتاب "إن أخطأ أحد فلنا شفيع". أليس القول "فلنا شفيع" تعبيراً غاية في الجمال يكشف عن حقيقة مشجعة؟ فالرسول لا يقول "إن أخطأ أحد فله شفيع" بل يقول "فلنا شفيع" ذلك لأنه مهما يكن سمو هذه الهبة فليس معناها الترخيص لنا بقصر شفاعة المسيح على علاج الوقوع في الخطأ وعلى إلغاء حزن وخجل المؤمن بسبب خطيته.

إن كلمة "شفيع" أوسع أفقاً وأوسع قدراً من مجرد مواجهة أو علاج خطية معينة ولو أن هذه هي القضية التي يناقشها الرسول هنا. وباعتبار هذه الخطية صادرة من مسيحي فإنها تجلب إهانة عظمى لله وهذا مما يزيد في مهمة الشفيع وخطورتها، وما الذي لم يتكلفه المسيح في حمل الخطية والخطايا؟ فإنه حينما "جعل خطية" نزل إلى أعمق الأعماق محتملاً دينونتها من يد الله لكي يعفينا نحن من احتمالها. إن أخطأ أحد فلنا (أي المجموعة المسيحية كلها، جميع الذين هم موضوع النعمة الإلهية) شفيع". وهو هناك في الأعالي لمواجهة هذه الحاجة فكما هو هناك دائماً لأجلنا وبكل كمالاته هكذا هو أيضاً لنا. كما لنا الفداء بدمه، وغفران الخطايا، وكما لنا الحياة الأبدية فيه، هكذا تماماً هو لنا كشفيع عند الآب. يا له من تدبير عجيب هيأته لنا النعمة. ثم أن كلمة "معزين" الواردة في (أيوب 16: 2) فإن كلمة "شفيع" الواردة في الإنجيل والرسالة، وما تحمله من معنى خاص في تطبيقها الكتابي، تعني شخصاً يتبرع لأجلنا ويدافع عنا وفي استطاعته أن يؤدي لنا بصورة كاملة ما نعجز عن القيام به. وهذا وحده يدل على أنه من الخطأ تضييق خدمة شفيعنا وقصرها على مواجهة الخطية فقط، فهو أيضاً معزينا الذي يهتم بسداد كل حاجة من حاجاتنا.

على أن التعزية، ولو أنها النتيجة النهائية التي نحصل عليها بالنعمة، ولا يمكن بطبيعة الحال أن تكون الطريقة الصحيحة لمواجهة خطية المسيحي وعلاجها. قد تسمع عن هذا الأسلوب البشري المبتكر، وهي طريقة يرتضيها الجسد ويرتاح لها، حيث يقال "قلل في الكلام ما أمكن عن الخطية. لا تجرح الأخ كثيراً في الكلام عنها، وأشفق على عواطف أخينا المسكين العاثر الذي لم يكن له حيلة في الأمر" هذا أسلوب مغلوط وليس بحسب الحق، فإن الشخص المستقيم يود بالعكس أن يتغلغل مبضع الجراح في الدمل، ويرجو غربلة خطيته حتى الأعماق، وهكذا يحكم على ذاته قدام الله لأنه انزلق في خطأ لا يليق بالآب والابن ويحزن الروح القدس: على أنه قبل الاستسلام للخطية، ولتحويل هذا العارض السيء المحزن إلى أحسن النتائج، لنا شفيع عند "الآب" يسوع المسيح البار. نعم هو شفيعنا عند الآب في صفته هذه وليس في صفته كالله. كان يجوز أن يقال عند "الله" لو أننا قد فقدنا مركزنا كمسيحيين، ولكن وإن كانت الخطية سيئة ومحزنها فإنها لا تفقد علاقة النعمة، فلا يزال من حقنا التمسك بها باعتبارها ملكاً لنا. والواقع أنه لا يوجد وقت يعوزنا فيه أن نتذكر مركزنا كمسيحيين أكثر من الوقت الذي فيه تدهمنا الخطية فنسقط فيها بسبب غباوتنا وإلا فكيف يتسنى لنا أن نخجل من أنفسنا خجلاً عميقاً دون أن يتسرب إلينا اليأس؟ فما أبلغ الحزن الذي يغمرنا. وإننا وقد حصلنا على رحمة الله وبركته، نعود فنبعث بالإثم متجاهلين محبة أبينا وطبيعته القدوسة، وناسين الخطية التي انغمسنا فيها – الإنسان العتيق!

أليست الخطية الساكنة فينا كوحش بري جاثم في الداخل ينبغي تقييده وحبسه بقفل وسلسلة حتى لا ينطلق ثائراً؟ حقاً إنها عدو قتال ومع ذلك فمن حقنا وسلطاننا أن نبقيه تحت الموت – الموت الوحيد الفعال – موت المسيح وموتنا معه. فالذي يعرضنا للسقوط إذن ليس فقط عدم سهرنا على أنفسنا، لأن موته لم يكن فقط لإزالة الخطايا بل أيضاً لإدانة الخطية في الجسد – في ذاك الذي كان جسده مقدساً قداسة مطلقة. هناك دان الله الخطية، وهذا هو مصيرها بالنعمة بالنسبة لنا، أن تدان لا أن تغفر. إن الخطايا تحتاج إلى غفران أما الخطية فقد دانها الله في المسيح الذي جعله خطية لأجلنا. لقد تنفذ الحكم على الخطية في المسيح مصلوباً لكي نتبرأ نحن فيه ونصير أحراراً. هذا ما كنا نحتاجه وقد نلناه بالنعمة (رو 3: 8) لذلك وجب علينا أن نكون دائماً على حذر وفي حالة اليقظة والسهر المستمر لطلب القوة لإدانة الجسد كلما حاول الظهور أو مجرد العمل في دائرة الشعور حتى ولو لم يظهر للآخرين.

ولكن القضية هنا قضية مؤمن وقع في الخطأ. قديس، أحد أولاد الله، قد أكون أنا وأنت أو أي شخص آخر من المؤمنين – قد أخطأ. فماذا بعد ذلك؟ من طبيعة الخطية أنها تتطور من ردئ إلى أردأ وتقود إلى شر أعظم. وهي لا بد فاعلة ذلك لو لم يكن لنا شفيع كهذا. غير أن الشفيع يعمل، ونتيجة عمله أننا نشعر بالخطية وندينها بالتذلل أمام إلهنا وأبينا. قد يراه الكثيرون أمراً عجيباً أن يقال "إن أخطأ أحد فلنا شفيع". لا شك أن الوضع الأخير هو ما ترسمه الأقلام الناموسية التي لا تؤمن بالنعمة. أفليس صحيحاً في شرعتها أن يقال "إن تاب أحد فلنا شفيع"؟ غير أن كلمة الله تقول "إن أخطأ أحد". يقيناً أن الله يبغض الخطية بغضاً لا حد له لكنه يحب القديس. كآب يحب أولاده بمحبة تسمو فوق كل صعوبة. وفضلاً عن ذلك أن غرضه هو أن يدخل ذلك القديس في أفكاره وفي بغضه لتلك الخطية عينها. ولذلك لنا شفيع ليس فقد عند "الله" كما لو كنا سنبدأ من جديد وقد فقدنا كل شيء بتلك الخطية. كلا. ولكني أدينها وأحكم على ذاتي بمقدار ما سببت من إهانة وعار. ومن ذا الذي يوصلني إلى هذه النتيجة الطيبة الرحيمة؟ هو الشفيع في الأعالي. وهو يعمل فينا أيضاً بشفيع آخر على الأرض هو الروح القدس.

ومن هنا يتضح للقارئ السبب في تشديدنا على التمسك بكلمة "شفيع" فيما يختص بأقنوم الروح القدس في إنجيل يوحنا لأن خدمة سيدنا عند الآب في الأعالي وعمل الروح القدس فينا على الأرض هي خدمة الشفاعة التي تعني القيام بكل ما نعجز عن عمله بأنفسنا حتى في الحالة القصوى، يوم كانت الدولة الرومانية لا تزال تحمل بعض شعور العطف الأدبي في أخريات أيامها ولم تنغمس بعد في الأنانية ومظاهر الأبهة والفساد كما حدث في أخريات أيامها. فكان لكل قبيلة رئيس أو "نصير" (Patron) وكان من حق كل فرد في القبيلة أن يلجأ إلى النصير الذي كان عليه بحكم مركزه كرئيس للقبيلة وحاميها أن يهتم اهتماماً شخصياً بتقديم المعونة التي يطلبها كل فرد من أفاد العشيرة التابع له. على كل حال هذه كانت النظرية التي قامت عليها وظيفة الباترون يومئذ، ومن المحقق أننا لا نتوقع الكمال من ذلك الرئيس أو النصير لأن القول والعمل شيئان مختلفان في الإنسان في هذا العالم. ولكن الشفاعة كانت الفكرة المقصودة على كل حال. أما الكمال المنشود، وما كان مجرد فكرة فاشلة بين الناس، فيجده المسيحي الآن في الرب يسوع.

ولسنا نجده فقط في الشفيع عند الآب بل كذلك في الروح القدس الذي جاء من الآب ومن الابن ليكون الشفيع فينا. فمن ضمن عمله أنه يشفع في القديسين بحسب مشيئة الله. وشفاعته ليست من نفس النوع بالضبط ولكنها على كل حال شفاعة مستمرة كما تقرأ في رو 8: 26 و 27 نظير شفاعة المسيح في الأعالي تماماً في عدد 24 من نفس الإصحاح. وهاتان الشفاعتان الإلهيتان، أو بالحري هذه الشفاعة الإلهية المزدوجة تضمن تسديد كل أعوازنا تسديداً فعالاً. فحيثما واجهتنا صعوبة أو تجربة أو حزن فإنه الروح القدس لا يتخلى عنا بل هو هناك لمعونتنا وحيثما شعرنا بالضعف أو الجهل يتقدم الروح لإغاثتنا والأخذ بيدنا، عاملاً بكيفية أو أخرى، ليس دائماً بطريقة مباشرة في نفوسنا بل بواسطة بعضنا البعض. وأليست هذه طريقة مباركة ومغبوطة؟ نعم فإنه حاشا لنا أن يستقل أحدنا عن الآخر. فكما أننا أعضاء جسد المسيح الواحد هكذا قد جعلنا الآن بقوة الروح أعضاء بعضنا لبعض أيضاً. ومشيئة الله هي أننا ننفذ هذا عملياً في حياتنا هنا على الأرض. فماذا نحن فاعلون؟ هنا نشعر بخزي الوجوه، ولكننا نعلم على الأقل أن شفيعنا في الأعالي لا يفشل قط، كما لن يفشل قط شفيعنا الذي على الأرض. وهكذا لنا في نعمة الله العجيبة التعضيد المزدوج والغاية المضاعفة لكي نكون أمناء مهما كنا ضعفاء. وهاتان الخدمتان نجد إحداهما في إنجيل يوحنا والأخرى في رسالته هذه. حقاً إننا دينون يدناً مضاعفاً لله من أجل هذه المعونة المزدوجة التي زودنا بها في طريق غربتنا.

إن الرسول بولس لم يزودنا بكل شيء من هذه الناحية مع أنه لم يوجد أعظم منه وكيلاً لسرائر الله، ولم يقم من بين جميع الذين عملوا وعاشوا وتألموا من أجل اسم ربنا يسوع من هو أقوى منه عاملاً مقتدراً في الإنجيل وفي الكنيسة غير أن الرسول يوحنا كان له مركزاً لم يستطع أن يملأه سواه بإرشاد الروح القدس. ولا غرابة فإنه لم يتكئ في حضن الرب عبثاً. لقد كانت هنالك أسباب ودواعي لانفراد بمثل هذا الامتياز المبارك، وها نحن أولاء نحصد البركة عن طريق التلميذ الذي كان يسوع يحبه، والذي صاغته النعمة الإلهية هكذا وهيأته للعمل الذي أعطي لعمله بعد ذلك الوقت. وما هو الحال الآن؟ ألم تتضاعف هذه الظروف قسوة وعنفاً وعلواً وعمقاً وتمدداً بعد ذلك التاريخ؟ على أن شفيعنا في الأعالي باق وشفيعنا الآخر على الأرض ماكث فينا ومعنا، فهل نؤمن بكليهما إيماناً بسيطاً حقيقياً كاملاً؟

ومن المهم أن نعرف الفرق بين شفاعة الرب وكهنوته. إننا لا نقرأ ليوحنا قط أية إشارة لسيدنا باعتباره كاهناً – للمسيحيين في الوقت الحاضر على الأقل. وإنما هو يشير إلى شخصه العزيز كالشفيع. والشفيع له من صفة القرب والمودة والعلاقة الوثيقة ما يزيد عن الكاهن بمراحل. إن للكاهن مكانه الضروري للغاية، وقد كشفه الوحي بصورة خاصة حيث كان يجب أن يكشف وحيث كانت الحاجة القصوى تدعو إليه، أي للمسيحيين العبرانيين الذين كان معظمهم يحنون إلى الكهنوت القديم والطقوس القديمة. ومن الأمور التي لها مغزاها وجمالها أن الرسول بولس هو الذي علمهم هذا الحق الذي كان ينقصهم مع أنه لم يكن رسولهم، ولذلك فإن رسالته للعبرانيين وقلوبهم. فهو يمحو نفسه غافلاً اسمه مستعيناً العون كله بفصول العهد القديم منتقاة بمهارة لا مثيل لها. وهي مهارة قد منحه إياها الروح القدس لهذا الغرض العظيم، ولا شك أنه هو أيضاً كان الإناء المناسب للكلام عن خدمة يسوع هذه كالكاهن العظيم في الأعالي، كما كان يوحنا الإناء المناسب للكلام عن المهمة الأخرى التي نحن بصددها – أي مهمة الشفاعة.

ونستطيع أن نجد ما يعيننا على إدراك الفارق بين رسالة العبرانيين ورسالة يوحنا التي أمامنا، لأن هذا الفرق لا ينحصر في نقطة واحدة بل يتخلل كلتا الرسالتين. فرسالة العبرانيين تتناول موضوع اقترابنا إلى الله ودخولنا إلى مقدسه، وهذا شيء غير علاقتنا بالآب،. صحيح أنه توجد في ص 12 إشارة إلى الله مخاطباً القديسين كبنين، وإلى التأديب الأبوي الذي يحتفظ به أبو الأرواح للبنين الحقيقيين ولكن طابع الرسالة هو الكلام عن "الله" وعلاقته بالقديسين. ولذلك فالموضوع الذي عني به بولس بإبرازه هو كيف يتسنى لنا، ونحن ما نحن، أن نقترب إلى الله في الأقداس. ومن هنا قد أفاض الرسول في الكلام عن ذبيحة المسيح وعمله الكفاري الكامل، وهي تمتاز بخاصية فريدة تميزها عن ذبائح العهد القديم وتجعلها في تباين مستديم معها وهي بكونها "ذبيحة واحدة" قد تمت مرة واحدة وإلى الأبد. والحق أننا نلاحظ أن الوحي يحرص بتجديد تطبيق الدم. ولماذا هذا؟ لأن دم المسيح له خاصية ليست لأي دم آخر وما كان ممكناً أن تكون لأي دم آخر، وهي أنه يعمل عمله كاملاً ولذلك يعمله مرة وإلى الأبد. ولكن مما يؤسف له أن هذا الحق بالذات هو ما يصعب الآن أن تجد من يؤمن به إيماناً كاملاً مطلقاً بلا شرط أو قيد.

فهما اختلفت أشكال النظم الكنسية وتباين العقائد، فإن معظمها حتى بين الإنجيليين – يتمسك بقاعدة تطبيق دم المسيح من جديد. ومسلك كهذا يشبه في جوهره مسلك اليهودي وهو في حقيقته إحياء لليهودية واستعادة لها بعد أن طردت طرداً وبخاصة بجهود الرسول بولس، بحيث لا يظهر لها أقل أثر حينما كتب للتسالونيكيين أو الكورنثيين أو الرومان أو الغلاطيين أو الفسسيين أو الكولوسيين أو الفلبيين. أما للمؤمنين اليهود، العبرانيين، فهو يستبعد استبعاداً حازماً كل فكر كهذا. وكما يقول في (ص 9: 26)، أنه كان يجب في هذه الحالة أن يتألم مراراً كثيرة. ولكنه قدم مرة وليس مراراً وهنا تتكشف ليس فقط ضلالة بل غباوة "القداس" الروماني فهو باعترافهم ذبيحة بغير دم – ذبيحة تتكرر يومياً لغفران الخطايا،. بل هو "سر مقدس" يعلن بصوت صارخ أن دم المسيح قد فشل ولا بد من تقديم القداس لنوال الغفران! ولكنه مجرد صورة خادعة، وادعاء جريء من الكاهن الأرضي وإهانة عظمى للرب يسوع هنا وفي السماء. ولكن حتى بين البروتستانت الغيورين، أليسوا واقعين تحت غشاوة الالتجاء المتكرر للدم وتجديد تطبيقه من وقت لآخر؟.

وهل أدلك على منشأ هذه الضلالة وبأي شيء ترتبط نظامياً؟ منشأها إغفال غسل الماء بالكلمة يم لا يرون في هذا الحق إلا كونه يشير إلى المعمودية! ولكن الكتاب يقصد بغسل الماء بالكلمة شيئاً آخر يختلف عن هذا كل الاختلاف. يقصد تسديد حاجة القديس المستمر بعد أن استراحت نفسه بالإيمان على دم المسيح. والغسل بالماء له صورتان في الكتاب المقدس الصورة الأولى غسل التجديد وهذا نناله في ذات اللحظة التي نرتاح فيها على دم المسيح وهو أيضاً يتم مرة واحدة لا يتكرر أبداً فلا يوجد في الكلمة شيء اسمه إعادة التجديد. فكما أن ذبيحة المسيح لا تتكرر هكذا التجديد لا يتكرر. كلاهما مرة واحدة ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. وهكذا دم المسيح يبقى دائماً أبداً في كامل فاعليته لدى الله ولأجلنا. والواقع أنه لو لم يكن الأمر كذلك لكانت النتيجة هلاكنا لا محالة، فالمسيح لا يمكن أن يموت مرة ثانية لأجلنا. غير أننا بعد أن نرتاح على موت المسيح لأجلنا يزعم البعض أن فاعلية هذا الموت تتعطل بالخطية ولذلك فالأمر عندهم أننا نحتاج إلى إعادة تطبيق الدم من جديد لتطهيرنا. ولو كان الأمر كذلك، فأين كنا نذهب أيها الأخ؟ ولكن شكراً لله لقد مات المسيح مرة واحدة وقيمة موته باقية إلى الأبد، وفاعليته دائمة بغير توقف ولا انقطاع كما هو عنى الكلمة حرفياً.

ولكن هناك الصورة الثانية وهي غسل الماء بالكلمة وهذا الغسل يتكرر باستمرار كلما دعت الحاجة وقد رسم لنا الروح القدس هذه الصورة وضرورة تطهيرنا المستديم بغسل الماء بكيفية مؤثرة للغاية، ليس في رسالة العبرانيين ولا في الأناجيل بصفة عامة بل في إنجيل يوحنا وحده، حيث أخذ الرب مغسلاً وماء ومنشفة وغسل أرجل تلاميذه مبيناً بهذا الرمز ما يعمله الآن في السماء كلما تدنست أقدامنا ونحن نسير على الأرض، وهي الخدمة التي قال لتلاميذه أنهم سيفهمون معناها فيما بعد، والغرض منها مواجهة دنس السلوك في الشخص المسيحي، وهذه خدمة الشفيع كما هو واضح وقد أعطى الرب صورتها بانحنائه لا لكي يموت من أجل تلاميذه بل لكي يغسل أرجلهم المتسخة الأمر الذي أدهش بطرس كما أدهش الباقين بلا شك، وإنما بطرس هو الذي كشف عن جهالتهم المشتركة إذ وثق بأفكاره الخاصة للمحافظة على كرامة سيده ناسياً أن كرامة سيدنا الأدبية العظمى إنما تتمثل في ذلك الاتضاع الذي قبله في محبته إرضاء لمحبة الآب إلى أقصى حد وإسعاد لقلوب القديسين إسعاداً دائماً كاملاً وهكذا نجد أن عملية غسل الأرجل في يوحنا 13 تتجاوب مع كلمات يوحنا هنا "لنا شفيع عند الآب". وهي ليست خدمة الدم بل خدمة الماء. وقد جاء في نفس الرسالة "هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح لا بالماء فقط بل بالماء والدم". هكذا يكتب رسولنا في (ص 5: 6) مشيراً بلا شك إلى ص 19 من إنجيله (العددين 34 و35) فإن موت المسيح يكفر عن موت المؤمن كما يطهره أدبياً. يكفر عنه بالدم مرة واحدة وإلى الأبد، ويطهره بالماء (الذي يشار به إلى الكلمة في يو 15: 3) ليس فقط في بدء الطريق بل إلى نهايتها هنا على الأرض، أي أن الكلمة تطبق موت المسيح لتطهيرنا بالإيمان.

إن رسالة العبرانيين تحدثنا كما سبقت الإشارة عن ضمان اقتراب المؤمن إلى الله بواسطة الذبيحة الكاملة "دم الصليب" وبواسطة دخول الرب يسوع إلى الأقدس كرئيس الكهنة العظيم على بيت الله وكمن دخل كسابق لنا لكي ندخل نحن بثقة في أثره المبارك، ولكن الغاية من كهنوته هي إعانة المجربين والرثاء لضعفاتنا لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه. فهو في السماء يظهر أمام وجه الله لأجلنا، وبذلك يعزينا ويقوينا ضد تجارب البرية، ويشددنا في ضعفنا وتعرضنا لمخاطر الطريق وصعابها المختلفة. ولكننا لا نجد في الكلمة أية إشارة إلى علاقة خدمته الكهنوتية بخطايانا هنا تأتي شفاعته له المجد بصريح العبارة. إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، وهذا الشفيع هو نفس الشخص، الرب يسوع ذاته، ولكن في خدمة مختلفة وذلك لوصل ما انقطع مع الآب من الشركة بسبب الخطأ من جانبنا، أو بعبارة أخرى لرد الشركة التي عطلتها الخطية.

على أن هناك أمراً آخر يوجه إليه الروح القدس أنظارنا. فالشفيع هنا هو يسوع المسيح البار. وهذه هي نقطة هامة جداً. وأكثر من ذلك "وهو كفارة" لاحظ هنا الأساس المزدوج. فأولاً تقوم الشفاعة على أساس كونه البار. ونحن لم يكن لنا أي بر. أما هو فهو البار، وقد صار لنا من الله ليس فقط حكمة بل براً وثانياً هو كفارة لخطايانا وقد أرسله الله الآب لهذه الغاية بالذات. وقد حمل كل ما كان ضرورياً للتكفير عن خطايانا إذ احتمل الدينونة الإلهية مرة إلى الأبد. ولكنه كالشفيع يعالج الآن خطية المسيحي التي تعطل تمتعه بالشركة مع الآب والابن. وهذا العمل لا دخل له إطلاقاً بتألمه مرة تحت ثقل الدينونة الإلهية (لأن هذا كله انتهى إلى الأبد على الصليب) ولكنه خاص برد الشركة مع الآب والابن كلما تعطلت، وما أكثر ما تتعطل بسهولة مع الأسف.أي نعم أيها الأخ الحبيب، إنه لأمر محزن أن نستخف بهذه الشركة فلا نشعر بانقطاعاتها التي تعرضنا لها كلمة طائشة أو فعلة غبية قد تندفع إليها في عدم يقظتنا! لكن شكراً لله إذ "لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار".

إن المسيح هو الآن في الأعالي في كامل نعمته. وبره باق في كامل استحقاقه وكذلك كفارته بالدم باقية بكامل فاعليتها. وإنه لما يملأ قلب المسيحي بالفرح والفخار إن شيئاً على الإطلاق لا يمكن أن يمس المسيح المقام أو يؤثر على فاعلية عمله على الصليب لأجلنا. وإن تعامت الأرض أو تصامت فإن السماء لا يمكن أن تنسى ما لهذين الأمرين (- بر المسيح وكفارته) من قيمته لمجد الله وتطهير المؤمنين. لكن لنلاحظ هنا نقطة أخرى. يقول الرسول أن كفارة المسيح ليست لخطايانا فقط بل "لكل العالم". ونعرف من كلمة الله أن الكفارة عن خطايا هي للمؤمنين فقط، لمؤمني العهد القديم ومؤمني العهد الجديد، أولاد الله في الوقت الحاضر. فالمسيح هو كفارة بصفة عامة لكل العالم ولكن فقط "لخطايانا" نحن المؤمنين. ولن تجد غير هذا في كلمة الله، ولذلك يحرص الرسول على تبيان الفارق عندما يشير إلى كل العالم. لأنه إذا كان الرب كفارة لخطايا كل العالم فإن كل العالم يحصل على النتيجة حتماً ويذهب إلى السماء. فإن كان الرب حمل خطاياهم كما حمل خطايانا تماماً فماذا يكون لله ضدهم؟ لكن الحق الذي يقرره الكتاب هو أنه كفارة لخطايانا، تلك الخطايا التي أبطلها إلى الأبد ماحياً إياها بدمه. ولو كان الأمر كذلك مع العالم لبرئت ساحته بلا نزاع.

إذن ما هو دخل العالم هنا، وما هي علاقة الكفارة به؟ الجواب على ذلك كما يقول لنا الكتاب هو أن الكفارة ليست متعلقة فقط بقضية أولاد الله. إن الله نفسه كان يجب أن يتمجد من جهة الخطية بغض النظر عن خلاصنا، وإن طبيعته كمحبة كان يجب أن تتبرر بالنسبة لأردأ أعدائه. ونستطيع أن نجد التعليم الوافي عن هذين الحقين أو عن هاتين الوجهتين من ذبيحة المسيح الكفارية في ما قد سجله لنا الوحي عن يوم الكفارة العظيم في سفر اللاويين (ص 16). ففي ذلك اليوم كان يقد تيسان عن شعب إسرائيل: أحدهما كان من قرعة الرب وثانيهما من قرعة الشعب. ولكن على رأس تيس الشعب وحده كانت تستقر اعترافاتهم بخطاياهم، الأمر الذي لم يحصل مع التيس الأول الذي كان يذبح فأنت ترى من هذا فارقاً ملحوظاً بين الاثنين. أما عن التيس الأول. قرعة الرب، فقد كان لمجد الله الذي شوهته الخطية في هذا العالم، حتى يتسنى بموته بالنعمة إشباع مطاليب طبيعته. فقد كان لزاماً أن يتمجد الله من جهة الخطية. ولكن هذا لم ينـزع بعد عبء الخاطئ بصفة نهائية، لأن غفران خطاياه كان يقتضي الاعتراف بها بصفة واضحة وبصورة قاطعة. وهذا عين ما فعله هارون إذ وضع يديه كلتيهما على رأس التيس الحي أو التيس الثاني، قرعة الشعب. أما التيس الأول فقد ذبح وجيء بدمه إلى القدس بل وإلى كل مكان في الداخل وفي الخارج. وهذه هي الكفارة بصورة رمزية، ومن هذه الناحية وإلى هذا القدر هي للعالم كله لكي يتسنى الكرازة ببشارة الإنجيل لكل خاطئ.

وهذا هو تعليم الكتاب هنا وفي كل مكان. وهو حق خطير جداً ككل الحقائق المتعلقة بشخص سيدنا له المجد حتى أن الله لن يكتف بمجرد تعليمه لنا نظرياً، بل سبق فوضحه لنا بطريقة رمزية عملية وعجيبة للغاية. فإن ذلك الرمز المعروف المشهور يوضح لنا الفارق بين وجهتي الكفارة فنجد من الوجه الأول أن ذبيحة المسيح قد مجدت طبيعة الله تمجيداً كاملاً حتى يستطيع الله أن يقف متسامياً ويرسل بشارته المفرحة إلى كل الخليقة . ولكن من الوجه الثاني هناك شيء آخر لابد منه للخطاة لكي يخلصوا وذلك هو المتضمن في قول الرسول "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة". هذا لا يقال مطلقاً عن العالم، والوحي دائماً حريص في تعبيراته. ولكن بما أن الله تمجد بالتمام من جهة الخطية في ذبيحة المسيح، فإنه يستطيع بوساطة خدامه أن يطلب إلى أعدائه بل أكثر من ذلك – ويا لغنى النعمة - أن يستعطفهم قائلاً: تصالحوا مع الله. ومحبة الله هي مصدر الإنجيل وموت المسيح هو وسيلته وأساسه على أنه ليس من المحتم أن الإنجيل يخلص كل إنسان (مع أنه كفء لذلك) ولكنه يذيع أ، الله قد تمجد في المسيح. وحتى لو لم تخلص نفس واحدة فإن الله يتمجد في رائحة موت المسيح الذكية.

ولكن يحسن بنا أن نعرف أن الفارق عظيم بين الحقيقتين فلو أن الله ترك كل شيء للإنسان، لما تسنى أن يخلص إنسان واحد. فإنا بالنعمة مخلصون. والمختارين يعطي الله الإيمان، وهنا تأتي الكفارة عن خطايانا. ولست أظن أن واحداً به خوف الله يزعم أن كل العالم سيخلص، أو ينكر أن النعمة وحدها هي لتي تجعل الفارق بين المؤمن وغير المؤمن. ففي يوم الكفارة شهادة على أن أول شيء كان لازماً هو تمجيد طبيعة الله بغض النظر عن محو خطايا شعبه. وقد كان لزاماً وأهم من ذلك بكثير أن يتبرر الله من جهة حقه وقداسته وبره ومحبته وجلاله في صليب المسيح. ففي الصليب دون سواه قامت المعركة الحاسمة بين الخير والشر، وذلك لدينونة وهزيمة الشر ونصرة الخير ومصالحة ليس فقط جميع المؤمنين بل كل شيء (وليس كل شخص) مع الله ووضع الأساس الإلهي للسماوات الجديدة والأرض الجديدة لطول الأبدية. وأساس هذا كله نراه فيما كان التيس المذبوح (قرعة الرب) يرمز إليه. ولكن لتخليص الشعب من خطاياهم أراد الرب أن يريهم عظم رحمته، وهكذا في المكان الثاني يأتي دورهم جلياً واضحاً فتوضع خطاياهم على التيس الحي الذي حملها إلى أرض النسيان لكي لا تعود تذكر فيما بعد. هذا هو الفارق بين الكفارة والنيابة.

وهنا نقرأ أن ربنا وسيدنا هو الكفارة لخطايانا وليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضاً. وفي هذه العبارة نرى حرص الوحي على عدم الخلط بين أولاد الله والعالم. ومع ذلك فإن كلمة الله تعلن الرحمة الإلهية إلى كل العالم. في هذا وحده تتبرر طبيعة الله ومحبته فكالمخلص يظهر الله لجميع الناس، باعثاً برسالة الخليقة لكل النعمة لكل الخليقة وداعياً جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا. ولكن لكي يخلص الخاطئ ينبغي أولاً أن تتجه إليه الدعوة الفعالة بحسب المشورة الإلهية، ثم يلي ذلك عمل الروح القدس في القلب لقبول المسيح. وليس الأمر هكذا مع "كل العالم". ومن العبث أن ننكر الحقائق الواقعة. ولنا هنا المكتوب الذي يفسر القضية تفسيراً جلياً.

فحينما نؤمن بربنا يسوع المسيح نستطيع نحن أيضاً أن نقول مع المكتوب أنه حمل خطايانا ولكن ليس من حقنا أن نقول هذا لغير المؤمن ولا "لكل العالم". الإيمان وحده هو الذي له أن يتكلم هكذا.

والواقع أن الرمز الذي أشرنا إليه إنما هو شهادة خاصة لهذا المبدأ الكتابي العظيم، الذي يفسره العهد الجديد تعليماً بأوضح لغة. خذ مثلاً الفارق بين "الفداء" (أف 1: 7) وبين "الشراء" (2 بط 2: 1) وهو المفتاح الحقيقي لهذا الموضوع الخطير. فالرب بموته قد "اشترى" كل الخليقة ومن ضمنها كل إنسان بطبيعة الحال بما في ذلك "المعلمون الكذبة" وغيرهم. وإنه لهلاكهم ودمارهم الأبدي أنهم ينكرون حقوقه ويثورون ضد سيدهم العظيم الذي اشتراهم. ولكنه لا "يفتدي" سوى أولئك الذين لهم بالإيمان بدمه غفران خطاياهم . إن الرب بموته على الصليب قد أضاف إلى حقوقه كالخالق بأن جعل كل الخليقة ملكاً له بحق ذلك الشراء العظيم. فالجميع ملكه وليس ملك أنفسهم، ولو أن المؤمن وحده هو الذي يعترف بذلك اعترافاً كاملاً. ولكن الفداء هو الذي يعتق من الشيطان والخطايا. ولم ينال أحد هذا العتق إلا بالإيمان.

خذ أيضاً صورة أخرى لهذا الحق في (عب 2: 9 و 10) فيقال هناك أن المسيح ذاق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد أو لأجل كل شيء بما في ذلك كل إنسان طبعاً (قارن عدد 7 و 8). فالكل قد شملهم الشراء وهو قد اشترى الجميع، لكن اللغة تتغير تغيراً كاملاً ابتداء من عدد 10 حيث نسمع عن الله آتياً "بأبناء كثيرين" إلى المجد ومكملاً رئيس خلاصهم بالآلام. إذن فالتفكير عن "خطايانا" شيء والتفكير عن "كل العالم" شيء آخر. والخلط بين هذين الحقين المتميزين يفقدنا الدقة في التعبير بل أن الحق نفسه يضار بسبب ضيق القلب الذي ينتج عن عدم معرفة الشراء العام أو بسبب الغموض الذي ينتج من عدم معرفة تخصيص الفداء.

يا ليت الله يبارك الحق الذي تأملنا فيه من أجل خاطر الرب يسوع.

  • عدد الزيارات: 3219