Skip to main content

الرسالة الأولى: الخطاب الأول

1 يو 1: 1 – 4

"الذي كان من البدء الذي سمعناه. الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً".

هذه براعة استهلال قد بلغت الذروة في الروعة والسمو والجلال. وهي افتتاحية لا مثيل لها في كل الرسائل ولو أن افتتاحية العبرانيين قد تدانيها في روعتها وعظمتها وإن اختلفت الافتتاحيتان في أسلوبهما عن باقي الرسائل لأسباب وجيهة معروفة. فالرسالتان، في غير ما مقدمة أو تمهيد، يقدمان لنا على الفور ابن الله المتجسد، الكلمة الذي صار جسداً. وهل في الوجود موضوع يأخذ بمجامع القلوب والألباب أكثر من هذا الموضوع. فالرسالة الأولى، أي رسالة العبرانيين، تأخذ بأبصار اليهود الذين اعترفوا بأن يسوع هو المسيح وتثبت عيون إيمانهم في شخصه المرتفع الممجد وفي وظيفته الآن في السماء المؤسسة على عمله الكامل في الفداء. والثانية، وهي التي نحن بصددها، تحرس المؤمنين في كل مكان وتحصنهم ضد كل اختراع أو تجديد أو ابتداع في التعليم أو السلوك بتذكيرهم وتوجيه أنظارهم إلى "الذي كان من البدء" في كامل نعمته غير المتغيرة وفي مجد شخصه المبارك كما أعلن ذاته هنا على الأرض وكما هو بالحق والحقيقة الله وإنسان متحدين في شخصه الواحد العجيب إلى أبد الآبدين. فالإنسان مرتفع إلى السماء هو طابع الأولى. والله متنازل إلى الأرض في المسيح وواهب الحياة الأبدية للناس هو طابع الثانية. ولئن اختصت رسالة العبرانيين بالكلام عن عمله الكفاري واختصت رسالة يوحنا بالكلام عن شخصه المجيد فإن رسالة العبرانيين هي أيضاً غنية بإعلاناتها عن شخصه المبارك كما أن رسالة يوحنا تطلعنا في كل صفحة من صفحاتها بصورة كاملة عن عمله الكفاري العظيم.

يلاحظ أيضاً أن الرسالتين خاليتان من اسم الكاتب وأسماء الأشخاص المخاطبين، والسبب في ذلك هو لكي يقف المسيح وحده عالياً مرتفعاً فريداً أمام عيونهم وقلوبهم،لا يزاحمه في المشهد، كما هي دائماً مشيئة الله الآب، موسى أو إيليا، بولس أو يوحنا. ذلك سبب من الأسباب ولو أن هناك أسباباً أخرى تشترك فيها الرسالتان. فلم يفت رسول الأمم العظيم، حتى وهو في دائرة خدمته المباشرة بين الأمم، أن يقول، وأن يعمل بما يقول، إن الإنجيل هو قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولاً ثم لليوناني. وهنا في رسالة العبرانيين، وهو على وشك الرحيل من هذا العالم، يبعث برسالته الأخيرة لمن آمن منهم في شيء كثير من الاختفاء والتواضع وإنكار الذات لأنه وهو يقدم الرب كرسول الاعتراف المسيحي ورئيس كهنته (جامعاً بين موسى وهرون كرمزين وإن فاقهما بمراحل) لا يتكلم عن الاثني عشر أو عن نفسه بهذه الصفة الرسولية وإنما يكتب الرسالة كلها كما لو كان مجرد معلم مسيحي يشرح العهد القديم (ولو أن أحداً لا يستطيع أن يفعل ذلك ما لم يكن موحى له) وليس كمن يعلن حقائق وتعاليم جديدة بسلطانه كرسول أو نبي.

هناك أيضاً سبب آخر كان يدعو الرسول، ولو على الأقل في البداءة ومستهل الرسالة، أن يستبعد اسمه وينكر ذاته، وهو محبته لإخوته بحسب الجسد الذين يعرف تعصبهم ضد شخص يغير غيرة بولس ضد أي إخلال بحرية الأمم، بينما إشارته إلى تيموثاوس في ختام الرسالة فيها إشارة ضمنية إلى صديق تيموثاوس العظيم الذي كتبها، وهي إشارة تنم عن شخصه لا محالة ولكنها جاءت في مكانها المناسب بعد أن اطمأن قلبه وانتفى كل خوف من نفورهم أو تعصبهم لأن الرسالة قد مهدت الطريق وأعدت الأذهان وقد ملأ الحق قلوبهم بذلك الذي كلن يتكلم إليهم من السماء.

اعتبار آخر لا شك كان له تأثيره ونفوذه وهو وصية الرب (ليس للإثني عشر في لوقا 9 بل للسبعين في لوقا : 4) – "لا تسلموا على أحد في الطريق". تلك كانت بعثة ختامية ورسالة نهائية.وأوقات الخطر الداهم تدعو للعجلة والسرعة ولا بد لمجاملات السلام والتحيات في الطريق أن تفسح مجالاً لمثل هذه الرسالة الخطيرة التي تنذر بأوخم العواقب وأروع الويلات لمن يحتقرها أو يزدريها. هذا أيضاً كان أمراً له قيمته ووزنه عند ذينك الرسولين الكريمين وعبدي الله الأمينين، فإن أحدهما كان يبعث بصيحته الأخيرة لإخوته اليهود في وقت كان خراب المدينة والهيكل على قاب قوسين أو أدنى، لكي يرفع أبصارهم إلى القدس السماوي فيضعون عليه قلوبهم من الآن فصاعداً، ولكي يقودهم بيد المحبة والحنان إلى شخص الرب الممجد فيخرجون إليه خارج المحلة حاملين عاره قبل أن يرغمهم على ذلك وقوع الصاعقة وحلول الكارثة تنفيذاً لقضاء الله المحتوم. بينما الثاني كان يكتب لعائلة الله المحبوبة بنفس العجلة والإلحاح ليس في مواجهة طغيان الشر فحسب بل إزاء ما هو أروع وأرهب وهو مجيء "الساعة الأخيرة" للمسيحيين وظهور "أضداد للمسيح كثيرين" ممن خرجوا ينفثون سمومهم ويعلنون مقاوماتهم جهاراً، أولئك الذين كانوا مرة بينهم ولكنهم "لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا".

ومهما كان الأمر، وسواء كان هذا أو ذاك، فإن شيئاً واحداً مؤكد لدى كل مؤمن وهو أن الروح القدس كانت له أوجه الأسباب وأكملها لإرشاد كل من الكاتبين الفاضلين لسلوك هذا المسلك الغير العادي في عدم ذكر اسميهما في هاتين الرسالتين. والآن عنا نرجع إلى افتتاحية الرسالة موضوع تأملنا.

يدل العدد الأول على أن إنجيل يوحنا كان مكتوباً ومعروفاً لدى القراء وقت كتابة الرسالة. وإلا فكيف كان يمكن فهم كلمة الحياة؟ إن لغة كهذه ما كان ممكناً أن تكون مفهومة لو لم يكن لدينا الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا الذي يعلن لنا الشيء الكثير عن شخص الكلمة المبارك. ولكن إن كان الإنجيل وحده يمهد الطريق للكلمة الافتتاحية من الرسالة فنهاك أيضاً فارق ملحوظ بين الاثنين وهو فارق ليس من الأهمية بمكان فحسب ولكنه فارق له قيمته العظمى فيما يتعلق بالشهادة للحق.

ففي الإنجيل نقرأ "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". هذا الإعلان الفذ الفريد للنعمة والحق كان يليق دون سواه بذاك الذي لم يسبق لمجده أن أعلن بمثل هذه البساطة والجلال والعمق. والحق إنه ما من إنجيل له من المقدمة ما يضارع الثماني عشرة آية الأولى من إنجيل يوحنا. فإن لقب المسيح الأول فيها هو "الكلمة" بينما عبارة "في البدء" (في العددين 1 و 2) تعني ما قبل الخليقة. وهذا الارتباط بين الكلمة وما قبل الخليقة يؤيد بوضوح العدد الثالث الذي ينسب للكلمة إيجاد وخلق الكون بأسره. فهو الذي أعطى لكل شيء وجوده، وهذا بصفة مطلقة كاملة وبصورة جامعة مانعة بحيث أنه بغيره لم يكن شيء مما كان. ارجع بفكرك كما تشاء في أغوار الأزلية اللانهائية، وعلى قدر ما ترجع بفكرك وتصورك وخيالك، فهناك كان الكلمة عند الله، ولكنه كان عند الله بكيانه الشخصي الكامل كالله "وكان الكلمة الله" بالمباينة مع كل مخلوق. فليس هناك حقبة يمكنك أن تأخذها في الأزلية، أو نقطة يمكنك أن ترجع إليها بفكرك وخيالك قبل عمل الخليقة، إلا وكان هو هناك "في البدء". ابدأ حيث شئت، وارجع بفكرك حيث شئت وشاء خيالك، واعلم أنه هناك كان الكلمة. وهنا ملاحظة دقيقة وخطيرة يجب مراعاتها وتذكرها وهي أن الكلمة الأصلية اليونانية "في البدء"المستعملة في إنجيل يوحنا خالية من "ال" التعريف وخلوها هذا لم يكن اعتباطاً بل مقصوداً، وهي صيغة فذة وفريدة تحمل إلى ذهن القارئ حقاً لا تستطيع لغتنا التعبير عنه إلا إذا استطعنا أن نقول "في بدء". فلو أن "ال" التعريف وضعت في الأصل اليوناني لكان معناها توجيه الانتباه إلى نقطة معروفة معينة بينما الغرض الهام من حذفها هو استبعاد كل فكر كهذا، ولذلك فقد وصف الوحي كيان الكلمة الأزلي غير المخلوق بعبارة عجيبة قد انفرد بها دون سواه ومعناها الأزلية اللانهائية التي لا حد لها. فعبارة "في البدء خلق الله" في مستهل سفر التكوين تبدأ الزمن بينما "في البدء كان الكلمة" في الإنجيل تترك الباب مفتوحاً لما هو أزلي. ولهذا فقد أجاد من قال أن يوحنا 1: 1 سابق لتكوين 1: 1. ولكن إن كان يوحنا 1: 1يقول لنا أنه "في البدء كان الكلمة" أي في الأزل فإن عدد 14 من نفس الإصحاح يخبرنا أن "الكلمة صار جسداً" في عرض الزمن. والرسالة الأولى تبدأ بهذه الحقيقة الثانية، حقيقة التجسد، الحقيقة العجيبة من جهة الله والمليئة بالغنى والبركة من جهة القديسين، بل من جهة الخطاة الذين كنا كلنا منهم مرة. فليس الأمر قاصراً على أن الكلمة كانت في الأزل بل أن الكلمة صارت جسداً في الوقت المعين. ولهذا فإن الرسالة الأولى لا تحدثنا عما هو "في البدء" بل عما هو "من البدء".وهذا هو الفارق بين الرسالة الإنجيل، وهو بالحقيقة هو فارق عظيم، ملئ بالإرشاد والتعليم.

ويستخدم البشير لوقا بالوحي نفس العبارة "من البدء" أو منذ البدء وهي التي منها يستمد إنجيله طابعه الخاص في استعراض حياة الرب هنا على الأرض. فهو لا يبدأ كمرقس بخدمته المتصلة بالإنجيل إذ يقول "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" بل رجع إلى ما هو أبعد من ذلك كمن قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق، ولذلك فهو الذي يحدثنا أكثر من غيره عن حياة الرب في أيام تجسده الأولى. وهو الذي يحدثنا عن ناسوته المقدس وعن الحبل به من الروح القدس، وهو الذي يرينا الطفل العجيب في المذود ثم في الهيكل محاطا جلال وتعظيم وخضوع سمعان الشيخ وحنة النبية، شهادة لجميع الذين كانوا ينتظرون فداء في أورشليم. ثم ما أروعها إشارة إلى نموه في البيت قبل وبعد ذلك المشهد المؤثر الذي نراه فيه وهو بعد صبي جالساً في الهيكل وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم حتى أن جميع سامعيه بهتوا من فهمه وأجوبته. وهكذا بالاختصار يقدم لنا لوقا الرب "منذ البدء" أو من الأول كإنسان هنا على الأرض بكيفية أكمل مما فعل غيره.؟ حتى عند كلامه عن الآخرين الذين سلموا إلينا الأمور المتيقنة عندنا نراه يصفهم كمن كانوا "منذ البدء" معاينين وخدماً للكلمة.

كذلك نلاحظ بعد هذا تعبيراً آخر له معناه الفريد وهو "كلمة الحياة" صحيح أنه تعبير يتصل اتصالاً وثيقاً بموضوع الرسالة الرئيسي ولكنه إذ يذكر لأول مرة، وهذا هو وجه العجب، لا نجد له أقل تمهيد أو إعداد سوى ما جاء في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا. إذن فالرسالة تدخل بنا على الفور وفي غير استئذان أو إبطاء إلى الموضوع الإلهي الجليل الذي شاء الروح القدس أن يحبونا به ويعطينا إياه. وألسنا نستطيع أن نرى في هذا شهادة عظمى للرب، أن يبدأ الكلام هناك، في الإنجيل، بذكر الكلمة، الاسم الأزلي، ويبدأ هنا بالناسوت وقد اقترن بشخصه العزيز المبارك باعتباره الكلمة؟ إن جميع الأولاد، بل الرسول يوحنا نفسه، يجب أن يتواروا من المشهد ليخلو المكان لذاك الذي وحده موضوع إيمان البشرية. وهكذا كان. فها هو الكلمة، كلمة الحياة، يوضع على الفور أمام عين المؤمن. وهل من شيء كان يستطيع أكثر من ذلك أن يبين عظم الإجلال والاحترام الذي كان يملأ قلب الرسول وهو يكتب عن هذا الموضوع الجليل الخطير، وهل من موضوع يستحق أن يملأ قلوبنا نحن أيضاً ونحن نقرأ ونستمع بما كتب؟ ولكننا هنا نبدأ، ويا له من أمر عجيب، بكلمة حياة الإنسان، بل قل أكثر من ذلك، كشيء آخر له أهميته، كلمة حياة الإنسان ليس في السماء بل هنا على الأرض. إن الإنسان الممجد على عرش الله في الأعالي له أهميته العظمى عند الرسول بولس. أما هنا، من لجهة الأخرى، فإن الوحي يحرص غاية الحرص لأنه يرينا أولاً وقبل كل شيء الكلمة وهو سائر هنا على الأرض، ليس قبل أن يصير جسداً كما في العدد الثاني، ولا بعد أن مات وقام ثانية،كما في مكان آخر من الرسالة. هذه وتلك من حالات سيدنا له المجد تظهران في مكانهما الخاص. ولكن الموضوع هنا هو الحياة الأبدية ظاهرة ومستعلنة على الأرض بأدلتها وبراهينها الكاملة وبأهميتها الكلية لمنح الشركة مع الآب والابن، لفرح جميع الذين لهم نصيب فيها بنعمة الله فرحاً كاملاً. ومن أجل ذلك هو يقودنا على الفور لأن يسمع خبر كلمة الحياة كما رآه التلاميذ وسمعوه على الأرض.

"الذي كان من البدء" – هذا ما كان قبل أن يراه أحد. "الذي سمعناه" – هذه كانت الطريقة التي بها وصلت أخبار الرب يسوع إلى مسامعهم. لقد كان أوائل الرسل تلاميذ للمعمدان، وكان من امتياز يوحنا (ولو أن ذلك لا يذكر هنا صراحة) أنه كان من أوائل الرسل الذين تبعوا الرب يسوع، الذين – كآخرين غيرهم – سمعوا عنه من يوحنا المعمدان قبل أن يروا شخصا المجيد رؤى العميان. والواقع أن شهادة المعمدان للرب هي التي قادت اثنين من تلاميذه لأن يتركاه، فيما بعد على الأقل، ويتبع المسيح. أحدهما لم يكن سمعان بطرس بل اندراوس أخا سمعان. أما ثانيهما، التلميذ الآخر، فلعلنا لا نجد صعوبة في التعرف عليه – فهو بلا شك كاتب الإنجيل والرسائل الثلاث. وإنه لأمر ملذ حقاً وشيق للغاية أن نعرف أن يوحنا كان في الميدان هكذا مبكراً مع اندراوس. ولهذا، ولأسباب أخرى لا تقل عن هذا السبب وجاهة، كان يوحنا أليق الجميع لأن يحدثا عن كلمة الحياة. غير أن الروح القدس قاده لأن يشرك معه زملاءه الشهود المختارين إذ يقول بلسان الجميع "الذي رأيناه بعيوننا". وهو عين ما سبق أن سمعوه "هوذا حمل الله". لقد رنت هذه الشهادة النبيلة في آذانهما أولاً، ثم لم يلبثا أن رأيا بعيونهما ذلك الشخص المجيد المبارك إذ "تبعا يسوع..... ومكثا عنده ذلك اليوم". هكذا كانت بداية تلك العلاقة الإلهية بين الرب يسوع وتلاميذه. ولو أضفنا إلى هذا ما كان ليوحنا حتى من بين الاثني عشر من مكانة خاصة في عواطف السيد، فمن ذا الذي كان أكثر أهلية لأن يحدثنا عن هذه الأمور كلها في قوة الروح القدس كما يحدثنا يوحنا بأسلوبه الفذ العجيب؟

ومن عجب أن حديثه متأخراً. فقد كنا نظن أن أفضل وقت لتزويد القديسين بهذه الذكريات الشخصية العميقة هو يوم أن كانت في جدتها في قلبه وذاكرته. ولكن هكذا شاء الله في حكمته أن يبقى الحق، لا نقول مخبوءاً في قلبه، بل محجوزاً عن قلمه خمسين سنة على الأقل. ولاشك أن سبيل الله هو دائماً أحكم السبل وأنفعها ولو أن الإنسان في قصر نظره وذهنه الباطل قد يفضل طريقه هو. ولكن الروح القدس كان هنا، كما في كل زمان ومكان، يعطي الرسول المحبوب نوراً وصبراً وانتظاراً لله حتى تتم مشيئته تعالى في وقتها المعين. وقد قضت مشيئة الله ووقته المعين أن يبقى يوحنا الذي كان أول شهود العيان ليكون آخرهم. فقد كان من نصيبه أن يكتب إلى ملاك كنيسة أفسس (تلك الكنيسة التي كانت في لمعانها يوم أن كتب لها الرسول بولس مؤخراً في يومه) حاملاً غليه دعوة الرب لأن يتوب ويعمل الأعمال الأولى وإلا فإنه يزحزح منارته إن لم يتب. وكان من نصيبه أيضاً أن يحمل ملاك كنيسة اللاودكيين تهديد الرب بأن يتقيأه من فمه بدون شرط التوبة ولو أنه يدعوه إليها. ثم كان من نصيبه، قبل أن يرسل الرب رسائله إلى الكنائس السبع التي في آسيا، أن يكتب باعتباره آخر الرسل عن الشر القتال الذي كان آخذاً في الظهور يومئذ وعن "الساعة الأخيرة" الآتية بما من "أضداد للمسيح كثيرين".

وهذا ما يعطي لرسالة يوحنا موضوع تأملنا طابعها الخاص الذي يميزها عن رسائل بطرس أو يعقوب. صحيح أننا نجد في إحدى رسائل بولس الباكرة وصفاً لضد المسيح ولو أنه لا يشار إليه هناك بهذا اللقب بل كإنسان الخطية، ابن الهلاك والأثيم. أما الرسول يوحنا فهو الوحيد الذي يكتب عن "ضد المسيح" بهذا اللقب المحدد وعن أضداد للمسيح كثيرين كمن خرجوا كطلائع يمهدون الطريق لزعيمهم الأكبر الذي يبرز في  رؤ 13: 11 – 18 ...الخ كالوحش الطالع من الأرض وله قرنان شبه خروف، الذي هو النبي الكذاب. وما أجما أن نلاحظ أن الشخص الذي أعطي أن يقدم المسيح في جلاله الإلهي بمثل هذا الأسلوب الحي لرائع قد أعطي أيضاً أن يصور خصمه الإنساني مملوءاً ومقاداً بعدوه الروحي الشيطان، وتحت لقب ضد المسيح. ولا عجب، فإنه إن وجد على الأرض إنسان واحد كان يرتجف قلبه ويفزع ناهضاً لمقاومة أية ضربة توجه إلى الرب يسوع، فلذلك الإنسان هو رسولنا الذي تمتع بمحبة سيده أكثر من الآخرين والذي أحبه ربما أكثر من جميعهم. فالقاعدة العامة أنه بمقدار شعور الخاطئ لخطاياه، بهذا المقدار يكون حبه للمخلص كما اثبت سيدنا لذلك الشخص الفريسي الذي كان مجرداً من التقدير الصحيح لكلتا العاطفتين. فالذي غفر له كثيراً يحب كثيراً. ومن ذا الذي يرتاب البتة في أن التلميذ المحبوب كان يحس إحساساً لا مثيل له بمحبة سيده له شخصياً وأنه كان يحس أيضاً إحساساً مماثلاً بالخطية وشناعتها؟ إن الرسولين بطرس وبولس كانا يقدران محبة الرب ويشعران بها بكيفية أخرى ولكنها لم تكن، مع عمقها، نفس كيفية يوحنا. فلا عجب أن يقع الاختيار على يوحنا ليكتب لنا كلمات محبة حارة وحقائق كثيرة، كلمات نعمة وحق قصد بها أولاً وقبل كل سيء وقاية المؤمن من أقصى المخاطر التي يتعرض لها المسيحيون على الأرض أعني بها تلك الجهود، بل أخبث وأمكر الجهود، التي يبذرها العدو لتقويض ونكران اسم يسوع. وهذا وهو بالضبط ما نتأمل فيه في هذه الرسائل ولاسيما في الرسالة الأولى.

بهذه الصورة إذاً يقدم لنا شخص الرب يسوع، وذلك كما هو الآن في المجد بل كما كان على الأرض. لاشك أن الإنسان الممجد في الأعالي هو الموضوع العجيب الذي يرفع المؤمن فوق مجد هذا العالم الزائف، كما أن قوة قيامته كفيلة بأن تخلع قلوبنا من الأرضيات وتمنحنا ثباتاً ضد الادعاءات الأرضية في الدين. فهذا شاول الطرسوسي يتجدد برؤية المسيح في المجد بقوة الروح. وقد كان هذا المنظر المجيد موضوع خدمته البارز ليس فقط في الإنجيل بل في إعلان المسيح كرأس الكنيسة، ذلك الحق العظيم الذي نجده في رسائله أكثر مما نجده في أقوال أي كتاب آخر من كتاب الوحي. ولكن، ولسباب وجيهة وحكيمة لدى واهي كل عطية صالحة، كان من نصيب يوحنا أن يرجع إلى المسيح هنا على الأرض كإنسان حقيقي كما هو الإله الحق. فلم يكن غرضه إظهار المسيح بحسب مركزه الآن كالإنسان السماوي بقدر ما كان غرضه أن يثبت أنه وهو إنسان حقيقي هو أيضاً أقنوم إلهي. وهذه نقطة هامة وخطيرة. فنحن بفضل "الإنسان السماوي" قد حصلنا بنعمة الله على امتيازات مجيدة ولكن السماوي يجب على كل حال أن يعطي مكاناً للإلهي. إن الله يستخدم العلاقات السماوية لكي يخلص القديسين من الميل للتفكير في الأرضيات. ولكن الحياة الإلهية العاملة بالقوة لا تخلص من الاهتمامات الأرضية فقط بل تستأصل كبرياء الإنسان وشهواته وإرادته في رفع ذاته وبالتالي سقوطه تخت سيطرة الشيطان ضد الآب والابن. واهتمام الجسد ليس فقط يقاوم ربوبية المسيح أو سيادته بل هو يتعامى أيضاً عن مجد شخصه الأعمق المؤسس على حقه الخاص الأزلي الذي هو أسمى بكثير من مجده المكتسب. إن الرسول بولس يتكلم بأكثر إفاضة عن المجد الذي اكتسبه تبارك اسمه، أما يوحنا فإنه يتجه بصفة خاصة إلى المجد الذي له أزليا، ليس كالبكر من الأموات بل كالابن الوحيد. وفي هذا يتفرد وحده له المجد.كذلك يتكلم بولس عن وحدة أعضاء جسده بشخصه، بينما يتكلم يوحنا عن محبة الآب التي لأولئك الذين هم من الآن أولاد الله فلا عجب أن تكون الساعة الآن لترك الخدمة الأرضية وحتى ولو كانت في مقادس أورشليم، وكساجدين حقيقيين نسجد للآب بالروح والحق لأن الآب أيضاً طالب مثل هؤلاء الساجدين.

فلنجتهد إذاً لنكون أمناء للرب ولنحفظ كلمته ولا ننكر اسمه. فمما لا نزاع فيه أن الحق الذي تدور حوله هذه الرسالة قد قصد به نظراً لارتباطه بمجد الرب الشخصي، إبراز الناحية الايجابية من الحياة في الذين له في هذا العالم كما هي فيه. أو على حد تعبير في مكان آخر "لأنه كما هو في هذا العالم هكذا نحن أيضاً" ولست أعتقد أن أي شخص روحي له إلمام بالضلالة التي ظهرت في أيامنا الأخيرة (والتي تفرق بين الحياة في الابن والحياة في المؤمن) يفوته أن يلاحظ كيف أن الحق في إنجيل يوحنا ورسالته لا يترك أقل عذر لمثل هذه الضلالة بل يستبعدها بكل شدة وحزم. وأنه لمن المؤسف حقاً أن يقع في القرن التاسع عشر وفي فترة حياة البعض منا هجومان على شخص سيدنا المعبود أحدهما في الحلقة الرابعة من القرن المذكور وثانيهما في الحلقة التاسعة منه، في وقت نحن فيه ننتظر الرجاء المبارك وظهوره إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح.

وكما كان الحاجة ماسة قديماً هكذا هي ماسة الآن لأن يثبت أولاد الله في الرب بعزم القلب وأن يتعمقوا في شعورهم واختبارهم بالحياة الأبدية فيه حتى يتسنى لهم بقوة أعظم مساعدة أبسط المؤمنين لأن يعرفوا أن هذه الحياة هم لهم. وهكذا تتحول مكيدة الشيطان للخير للذين يحبونه الذين هم مدعوون حسب قصده. ولا يخدعك ما تراه أو تسمعه من البعض الذي يحاولون أن يقنعوا أنفسهم وآخرين معهم إن ما هو في الحقيقة واضح كل الوضوح قد أخطأته الإفهام فلم تدرك تماماً ماهيته أو معناه. فهذه هي دائماً صيحة الهرطقة وحجتها عندما ينفضح سترها وينكشف أمرها، فيحاول أصحابها أن يزينوا دعواهم ببريق خلاب أو يستروا شرهم ببرقع جذاب إن لم يستطيعوا إنكاره كلياً وبذلك يتجنبون اكتشاف أمرهم والابتعاد عنهم. ولو كانت هناك أمانة قلبية أمام الله لما كان الأمر كذلك. فلو أن قديساً صادق القلب انزلق إلى الخطأ وانخدع به لكان يسره كل السرور أن ينكشه له خطأه فيرفضه بحزن وتذلل.أما تغطية مثل هذه الضلالة الخطيرة والتصغير من شأنها والتماس المعاذير لها فأمر لا يليق بمن ارتضوا مرة أن يخسروا الكثير في هذا العالم من أجل خاطر الحق له والشهادة له، فضلاً عن أن تصرفهم هذا يعرضهم هم أنسهم لخطر الوقوع فيما يعبثون به أو لفقدان التمييز الروحي. وأليس هذا هو عمل روح الضلال؟

إن العدد الأول يصف ربنا يسوع وهو على الأرض كموضوع تأمل ومعاينة كل من يريد أن يدنو منه، مع أوثق الصلات وأقربها بتلاميذه. فقد كان سبيله أبعد ما يكون عن سبيل حكام الشرق بصفة خاصة الذين كانوا يرون العظمة والمجد في الابتعاد حتى عن أشرف بلادهم. فقد كان الموت كما نعلم نصيب كل من يجرؤ على أن يدنو من "الملك العظيم" دون أن يدعى، وعلى قضيب الذهب الذي كان يمده بيمينه كانت تتوقف الحياة. فمن لمسه عاش وإلا فنصيبه الموت المحقق. ولكن ها هو الأعلى فوق كل عال ينزل في اتضاع النعمة العجيب إلى أقل الناس وأدناهم، وما من خاطئ أقبل إليه ورفضه قط. لمس الأبرص وشفاه، وبكى على قبر من أقامه من مثواه. من مثله كان في متناول الجميع وعلى استعداد دائم أتن يقبل الجميع وعلى استعداد كامل أن يقبل الجميع؟ وما أكرمها من فرص تلك التي أتاحها لأولئك الذين اختارهم خصيصاً "ليكونوا معه" لأن يروه بعيونهم ويشاهدوه بل ويلمسوه بأيديهم! حقاً إنه لمحال أن يشك أحد في أن قدوس الله كان إنساناً حقيقياً.

وإنه لجميل مع ذلك أن نلاحظ القول "الذي رأيناه وسمعناه" في عدد 3. فإن "الذي سمعناه" في عدد 1 يسبق "الذي رأيناه" وهذا طبيعي لأن الحق يصل دائماً عن طريق الأذن أولاً وليس عن طريق العين. وهكذا هم "سمعوا" وآمنوا. فالإيمان لنفوسهم كان بالسمع وليس بالرؤية. ومع ذلك فقد كان من قرعتهم أن يروا المسيح بعيونهم وأن يتأملوه أيضاً ليكونوا شهوداً للآخرين، وذلك ليس مرة وبطريقة عابرة بل كما هو مكتوب "الذي شاهدناه ولمسته أيدينا". ويا له من حق عجيب أن خالق السماوات والأرض يصير إنساناً ويتنازل للتدليل على ناسوته إلى حد أن يسمح بأنه تلمسه أيديهم! ولقد فعل هذا أيضاً بعد قيامته من الأموات – ليس لمريم المجدلية لأسباب خاصة – بل لنساء الجليل ثم للرسول توما المرتاب "هات إصبعك إلى هنا... وهات يدك... إلخ". وهذا حدث يوم أن كان سيدنا هنا على الأرض لأنه عرف جيداً ورأى مقدماً الضلالة العتيدة فأعد لها العدة وأعطى البرهان القاطع لمواجهتها، تلك الضلالة الخبيثة التي تجرؤ على إنكار حقيقة طبيعته الناسوتية مع أنه في هذا كانت نعمته حتى إلى الموت من أجلنا.

ومن الجهة الأخرى يفند يوحنا الشكل المضاد الآخر من الضلالة، وهو يفعل ذلك بنفس الحزم والشدة مزوداً بقوة فريدة لا مثيل لها ولكنها تستبعد لاهوته. أما الحقيقة فهي أنه الله وإنسان في شخص واحد. لهذا هو يدعى هنا "كلمة الحياة". فالعبارات المختلفة المتتابعة في العدد الأول هي كلها "من جهة كلمة الحياة". فإن الحياة – وفي هذه الحالة الروحية الأسمى – هي ملك الله وحده. وهي متميزة عن القوة المبدعة الخالقة وأسمى منها، كما نتعلم من المقارنة في العددين الثالث والرابع من (يو 1). فإن لقبه له المجد هنا يجمع بين "الكلمة" و "الحياة" تحديداً لموضوع الرسالة. "فإن الحياة أظهرت" – هذه هي الحقيقة التي قصد الوحي أن يقررها هنا. وهو لا يقول لمن أظهرت، وإنما هو يقرر الحقيقة البسيطة العامة بدون أي تحديد. والواقع أنها أظهرت لكل ذي عينين، لكل من رأوا المسيح ربنا – ليس للمؤمنين فقط بل لغير المؤمنين أيضاً. هؤلاء رأوها فمروا بها مرورأ ولم تترك في حياهم أثراً فعالاً لأنهم لم يتعلموا من الله عن طريق شعورهم بالحاجة إليه. فلكي نتبارك يجب أن نأتي شاعرين بحقيقة خطايانا. ولكن أولئك قد استطاعوا مع ذلك أن يروا كم كان الرب عجيباً إن لم يكن في ذاته، ففي معاملته لكل رجل أو امرأة أو طفل اقترب إليه. ولكنه لعيونهم العمياء لم يكشف ذاته والله، كما كشف للمرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي، أو للسامرية، أو للص التائب فوق الصليب. فهؤلاء جميعاً لم يفتهم أن يروا فيه له المجد شيئاً أكثر من مجرد إنسان ولذلك أتيح لكل واحد منهم في فترة الحرج من حياته أن يسمع كلمة الحياة سمعاً فعالاً. وإذا قيل أن امرأة بيت سمعان كانت مؤمنة وتائبة من قبل وإنما تمتعت بالغفران والسلام في تلك اللحظة، فمما لا نزاع فيه أن كلمات المخلص هي التي جددت السامرية كما جددت اللص المصلوب الذي ميز نعمة الرب يسوع وعظمته التي لا حد لها في ساعة عاره واحتقاره الأعظم.

"فإن الحياة أظهرت" – ذلك هو مفتاح الرسالة. أظهرت هنا "وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا" (عدد 2). لا نقرأ شيئاً في هذا العدد عن "السمع" ومعنى ذلك أنهم كانوا قد أصبحوا في ألفة مع الرب ولذلك يقول "قد رأينا ونشهد". ليس كالأول سمع ورؤيا، بل الآن رؤيا وشهادة وتخبير للقديسين عن الحياة الأبدية التي كان لها صفة الوجود عند الآب (أي في الأزل) وأظهرت لنا في الزمان يوم عاش على أرضنا.

كثيرون منا يعرفون أمر تلك المحاولة الغريبة التي يقوم بها أناس مخدوعون للتفرقة حتى في العهد الجديد بين "الحياة" و "الحياة الأبدية" وأليست هذه المحاولة منقوضة هنا من أساسها؟ فبينما نقرأ "كلمة الحياة" في العدد الأول ونسمع عن "الحياة" ليس إلا في العدد الثاني سرعان ما نجد في نفس العدد "الحياة الأبدية". وما معنى هذا؟ معناه بكل يقين أن "الحياة" "والحياة الأبدية" هما شيء واحد منظور إليه من ناحيتين مختلفتين اختلافاً طفيفاً. وهذا الشيء الواحد المرتبط بشخص الكلمة وقد أظهر في الرب يسوع المسيح. هل يمكن أن يكون هناك ما هو أوضح من ذلك، ثم أن الجملة اعتراضية في العدد الثاني تخبرنا عن الحقيقة العظمى الأخرى وهي أن الحياة الأبدية كان عند الآب قبل ظهوره في الجسد على الأرض. فهو لم يكن الكلمة والابن الوحيد فقط بل "الحياة الأبدية" أيضاً. وهو كان الحياة الأبدية في الأزل بقدر ما كأنها بعد ذلك تماماً عندما تنازل، لمجد الله وفداء وبركة الإنسان، ليولد من امرأة وبذلك يظهر ما هو مزمع أن يمنحه للمؤمن.

ومما هو جدير بالملاحظة أن الحياة الأبدية هنا هي بصريح العبارة صفة الكلمة الأزلي، ابن الله، قبل أن يأتي إلى العالم. ولكنه لم يعرف أبداً أنها نصيب المؤمن إلا بعد ظهور المسيح. فعندما صعد إلى السماء لم يكن هذا ظهوراً بل بالعكس استتاراً في الله. أي نعم، إن الحياة الأبدية أظهرت هنا في عالم الخطية الحزن والشقاء. وهنا حيث سقط الإنسان الأول سقوطاً كاملاً حتى الموت، أظهر الإنسان الثاني الحياة الأبدية طائعاً لله طاعة كاملة حتى الموت، وبموته دحر الشيطان ووجد فداءاً أبدياً لكل من يؤمن. والذين يؤمنون لهم فيه حياة أبدية، لكي يحيوا الآن بحياته وليس بحياتهم الساقطة.

إن ظهور الحياة هي بالضبط في هذا العالم وليس في مكان آخر. فالسماء ليست هي مشهد ظهورها. كما لا يمكن أن يقال عنها أنها أظهرت عندما كانت عند الآب. ولكن المحقق فيما يتعلق بالناس. هو أن الظهور حدث عندما صار ابن الله إنساناً ورآه الناس وسمعوه كالشاهد الأمين الصادق الله الآب. فعندما صار ابن الله إنساناً عندئذ – عندئذ فقط – أظهرت الحياة الأبدية التي كانت إلى ذلك الوقت عند الآب. فالحياة كانت في شخصه المحسوس الظاهر هنا على الأرض، كما كانت فيه قبل ذلك وهو هناك في الأعالي. وقد أتيح لعدد مختار من التلاميذ الذين سمعوه أن يروا هذه الحياة فيه بكل وسائل التحقيق الممكنة وأن يخبروا الآخرين عن الله المتأنس مع حياة المسيح الأبدية ظاهرة بين الناس على الأرض في ملء كمالها وبهائها.

وكم هو مبارك لنا – حتى مع شعورنا العميق بالضعف – ولكن بالاعتماد على نعمة ربنا، أن نباشر المهمة الخطيرة، مهمة التأمل في موضوع هذه الرسالة العظيمة. إن حقنا في ذلك هو المسيح نفسه، وهو تبارك اسمه لنا الآن في ذات الحقوق وذات الكمال كما كان لأولئك الذين كتبت إليهم الرسالة. فالرسول هنا يكتب إلى "أولاده الأحباء" الذين هم عائلة الله الآن كما في ذلك الحين تماماً. أليست هذه العلاقة عينها باقية ما بقيت الساعة الأخيرة؟ فمهما يكون قصورنا اليوم فإننا بكل تواضع نقبل كلام الرسول ونؤمن بمحبة الآب ونعترف بنعمة ومجد ابنه، الرب يسوع، ونعتمد على سكنى روح الله فينا، لنحصد الآن فائدة مما أبلغه الرسول لأولاد الله يوم بدأت تلك الساعة. فنحن نقر ونعترف بحاجتنا العميقة وبصلاح ذاك الذي أرشدهم قديماً كما يرشدون الآن لنجد في المسيح ذخيرة الإيمان التي لا تنضب والإجابة الكاملة على كل حاجة. ولاد الله أ

"الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا". أليست هذه تركة ثمينة خلفتها لنا المحبة الإلهية وسط مثل هذا الانحطاط والخطر؟ وأليست شركة الرسل شركة مباركة يعتز بها في مثل هذه الظروف (قارن اع 2: 42)؟ "وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (عدد 3). لقد كانت اليد الرسولية الأخيرة وشيكة الانتهاء يومئذ. ولكن لو أن يوحنا بقي إلى الآن، فما الذي كان يمكن أن يكتبه أكثر تعزية وتطميناً من أن شركة الرسل الخمسينية باقة لنا بل وإن الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح باقية كذلك لنتمتع بها اليوم بالإيمان بفضل الحياة الأبدية في الابن، لهم ولنا على السواء؟ إذاً فالغرض البين من هذا الخبر الإلهي هو أن تكون لنا نفس الشركة التي كانت للرسل مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، والقصد الكريم من هذا هو لكي يكون فرحنا كاملاً. وإذا لم يكن لمثل هذه البركة أثرها فليس شيء آخر على الإطلاق يمكن أن يوصل إلى تلك النتيجة. أليس لنا في هذه الشركة مع الآب ومع ابنه ما يملأ قلوبنا بالفرح أكثر مما لا يقاس من أية هبة أخرى كان يمكن أن تعطى لنا؟ نعم ما أعظم هذا وما أسماه أن تكون لنا الحياة الأبدية التي أظهرت في ربنا يسوع كالطبيعة الجديدة الإلهية فينا نحن المؤمنين للشركة مع الآب ومع ابنه معطاة لنا خصيصاً لتملأ قلوبنا بفرح ينطق عن نفسه بأنه إلهي في مصدره ونوعه! فلنتأمل إذا – بالاهتمام اللائق – في النعمة والحق المعروضين أمامنا في المسيح في تلك الكلمات الافتتاحية من الرسالة. فهذا هو موضوعها وهدفها الرئيسي.

إن حق المسيحية مدون هنا بكل إيجاز واختصار، والغرض المقصود منه في أشد الساعات ظلاماً هو أن يملأ القديسين بفرح الله نفسه، في الوقت الذي كان فيه الشيطان يعمل جاهداً أكثر من أي وقت مضى محاولاً هدم تعليم المسيح. فهذه الأقوال ليست نداءاً لوقاية القديسين بشرح الهرطقات المختلفة وآثارها المؤذية. ولا هي توجيهاً لنشاط خدام الله للكرازة بالإنجيل لجميع الأمم. ولا هي إعلانا‌َ لويلات مزمعة أن تنصب على المسيحية الاسمية وعلى العالم أجمع كما جاء أخيراً في سفر الرؤيا في الأمجاد التي بعدها، أي ليس "ما هو كائن" بل الدينونات التالية. لقد كان لأنبياء العهد القديم أمور أخبروا بها كانوا قد علموا أنها ليست لأنفسهم بل لنا (1 بط 1: 12). وهكذا سيكون للقديسين الذين سيأتوا بعد الكنيسة روح النبوة كشهادة يسوع لهم، وهو تعبير عجيب يقصد به الروح ليس كقوة الشركة الحاضرة بل كروح "النبوة" الذي يدفع القديسين – كما كان الحال في العهد القديم – لأن يلقوا رجاءهم على المستقبل حين يأتي الرب يسوع بالقوة والمجد.

أما عمل الروح القدس الآن فيختلف عن ذلك تماماً. فالأمور التي أعلنت قد أعلنت لنا، لكي نعرف الله في الروح ونتمتع بالشركة مع الآب ومع الابن. وهذه الشركة هي لأولاد الله ليس فقط لكي يعرفوها أو يدخلوا إلى رحابها مجرد دخول بل لكي يتمتعوا بها كامل التمتع حتى في اليوم الشرير. إن كل شيء أعلن لنا قصد به أن يتهاطل بفيض مستديم من البركة على قلوبنا. فالولادة الثانية نوال الغفران بواسطة المسيح وعمله هي دون سواها الخطوة الأولى الصحيحة، لأننا في هذا نعرف الله بالروح موقظاً للضمير. ولكن وقوفنا عند هذه النقطة، مهما كان تكريسنا لنشر البشارة المفرحة، يقصر تماماً عن فكر الله من جهتنا. فليس هكذا يقودنا المسيح، عند امتلاكنا الحياة الأبدية، إلى رحاب الشركة التي يقال هنا عنها بغاية الوضوح أنها تملأنا بالفرح. فبحسب الطبيعة نحن لسنا إلا خلائق خاطئة تنحدر إلى الدينونة انحداراً أعمى، ولكن بقبولنا الرب يسوع نولد من الله وباعتمادنا على الفداء نقبل عطية الروح القدس، وهكذا نمسح ونختم. وبهذه الكيفية نصبح كفاة بتلك الحياة ومؤهلين بقوة الروح، كمعترفين بالابن، لأنه يكون لنا الآب أيضاً. أي نعم، إنه لمن امتيازنا المبهج أن تكن لنا هذه الشركة كملكنا مع اليقين لمطلق المفرح بأنه هذه هي مشيئة الله من جهتنا وطبقاً لكلمته.

فلا تصغين لأولئك الذين يحسبون هذه البركة أسمى من متناولك الآن وأنت على الأرض. إن صاحب الحلة الأولى التي كان مجهزاً إياها بالابن التائب الراجع، يريدك كأحد أولاده أن تتمتع بالشركة معه ومع ابنه. إنها فوق طبيعة الإنسان بالكلية ما في ذلك شك. وهي لشركاء الطبيعة الإلهية دون سواهم. ومصدرها محبة الآب والابن عامة بالروح القدس المرسل ليكون فينا ومعنا إلى الأبد كقوة هذه الشركة. فهي إذاً مصير المسيحي الخاص ولاسيما حين تمتلئ المسيحية الاسمية بروح البطل والشر. ولاشك أن من ينكر الآب والابن لا يعتبرها إلا أسطورة أو وهماً. ولكن لماذا، وأنت مسيحي، تقتصر عن إدراك نصيبك الخاص والتمتع به؟

إن هذه البركة – أي بركة الشركة – تضم جميع أفراد بيت الله حتى الأولاد منهم أو الأطفال فكل منهم بحسب مقياسه له نفس الحق الذي لأقواهم وأعظمهم بلوغاً. ومن هنا رأينا الأولاد أو الأطفال يدعون للدخول فيها والتمتع بها تمتعاً كاملاً وعلى أي أساس؟ على أساس الحياة الأبدية في المسيح. لاشك أن التبرير بالإيمان أمر ثمين وله قيمته، وكذلك اليقين القلبي بالخلاص وتسوية مسألة الخطايا والخطية مع الله إلى الأبد ولكن الجانب الإيجابي من الحياة الأبدية هو الحق المشدد عليه هنا. لقد شرح الرسول بولس أكثر من غيره ليس فقط تبرير كل مؤمن فردياً بل أيضا عضوية جسد المسيح الواحد أكثر وامتيازا ته السماوية. أما الرسول يوحنا فقد كان من نصيبه في أيام التدهور والانحطاط أن يشرح الحياة الأبدية بصورة أتم وأكمل حتى مما فعله رسول الغرلة العظيم.

فما هو مصدر الفرح الذي يوصي به لنا روح الله هنا؟ ما هو أساس وجوهر تلك الشركة مع الآب ومع ابنه التي نحن مدعون إليها؟ وما هو نبع هذه المتعة الإلهية؟ ما الذي يجعل المسيحي يبغض الشر ويحب الخير بحسب الله، وما الذي يجعله يطرد الشكوك والمخاوف إلى الأبد، يقترب إلى الآب بكامل الثقة ويفرح ويبتهج في الابن؟ لا يمكن أن يكون ذلك أو شيء منه بدون الإيمان في كفارة المخلص، ولكن القدرة لاقتباله والتمتع به كامنة في الحياة، الحياة الأبدية، حياة المسيح.

ومع ذلك فإننا لو تطلعنا إلى أولاد الله لوجدناهم مختلفي المقاييس. ولو أتيح لنا أن نقيس حالة جميع أولاد الله لوجدنا أن لكل منهم مقياساً مختلفاً. فنحن نختلف في إظهار حياتنا الروحية، فيما يتعلق بممارستها، كما نختلف في مظاهر الحياة الطبيعية. لا شك أن الحياة الجديدة هي في جميعنا، غير أن الحياة القديمة تتداخل (وكان ينبغي ألا تتداخل) فتنشئ هذه الاختلافات. ولهذا من المحال أن نجد حالة ترضينا في مشهد متقلب كهذا. قد نجد في أحد القديسين قدراً من مظاهر الحياة الجديدة أكثر نسبياً مما نجده في قديس آخر. ولكننا إذا شئنا أن نعرف الحياة في كامل حقيقتها فلنرجع إلى المسيح كالحياة الأبدية ذاتها بلا أدنى خلط أو غموض. هناك فقط نشاهد الحياة الأبدية في كل كمالها ونحن نتتبع الرب يسوع كما تقدمه لنا الأناجيل. ألسنا نجد هناك البر والنعمة، الجلال والخضوع، الهيبة واللطف، الغيرة المتقدمة ووداعة القلب، الطهارة في نفسه والعطف على الآخرين، المحبة لأبيه، والمحبة للقديسين، والمحبة للخطاة، وفي الوقت نفسه الإنسان المطيع حالة كونه الكلمة الإلهي والابن؟ هذا كله أضاء من خلال حجاب الجسد، في ذاك الذي هو الحياة الأبدية. ولن نجد في غيره هذه الحياة بكمالها.

وأي شيء ألزم وأهم - إذا كانت لنا الحياة في الابن - من أن نعرف بوضوح في مختلف الظروف ما هي حقيقة هذه الحياة؟ إنها حياتنا، ودستور حياتنا، وقد أخبرنا بها الروح القدس بتخصيص لا مثيل له في كل الكتاب المقدس. لقد كان سروره (ولازال) أن يعطينا في كلمة الله أعمق النظرات في موضوع مسرة الأب، لكي يكون لنا في الشركة فرح معرفة أنها حياتنا الجديدة وأنها أيضاً مقياسنا الدائم للحكم على الذات ومثالنا الأسمى للسلوك. بهذا يصير فرحنا كاملاً، ونصبح لا شيء في نظر أنفسنا من فرط شعورنا بتقصيرنا. هذا في الواقع ما يحتاجه المسيحي من الله، وهذا هو بذاته ما أعداه لنا أبونا في المسيح.

و يا له من درس خطير نتعلمه من احتفاظ سيدنا بصفة العبد! وكم كانت هذه الصفة مبعث رائحة زكية متصاعدة إلى الآب باستمرار لسروره ورضاه! وإذا كان في سيدنا شيء واحد لم يتعطل أبداً، فهذا الشيء هو الطاعة. طاعة بيه مهما كانت الكلفة. طاعة في كل كلمة وفي كل عمل، في أصغر الأشياء وأعظمها. "غيرة بيتك أكلتني". لقد اشترك آخرون في أمر القوة. ولكن من غيره لم يعمل أبداً إرادة نفسه بل إرادة الآب؟ وهكذا في الآلام، والهوان، والتعييرات، والشتم والافتراء وأمثالها من الأمور التي تمتحن القلب – في هذه كلها اتضع رب المجد الوديع إلى أقصى حدود الاتضاع. ومع أنه كان يشعر شعوراً عميقاً بهول الويلات التي يجلبها مثل عدم الإيمان هذا على أصحابه الكورزيين وأمثالهم المستكبرين فإنه في تلك الساعة عينها (ساعة احتقاره ورفضه) يتحول إلى أبيه بالشكر والخضوع المطلق. وإذا كان الشعب المحظوظ ولكنه المتكبر قد رفضه رفضاً أعمى، فإن النعمة تعلن للأطفال ما كان مخفياً عن الحكماء والفهماء في عيني أنفسهم. تلك هي أعمال وإعلانات الحياة الأبدية. لو أنها كتبت جميعاً واحدة فواحدة كما تستحق فإن العالم نفسه لا يسع الكتب المكتوبة كما يقول رسولنا في ختام إنجيله. فالكتاب المقدس إنما يضم بين دفتيه مختارات انتقاها روح الله. ومن هو كفء لهذه الأمور غيرة؟ فقد أعطانا في الكتاب طعام الله كطعامنا لأن لنا فيه الشركة ما للآب في الابن وما للابن في الآب. وهذا ليس نصيب الرسل فقط بل نصيب كل مسيحي بالحق، نصيب عائلة الله.

انظر إلى موسى الذي كانت له مكانته الفذة في علاقته بفداء إسرائيل والناموس والاشتراع.، باعتباره كاتب الأسفار الخمسة. ومع ذلك ما أقل ما نعرفه عن موسى شخصياً! لقد أخفى نفسه، أحلم جميع الناس، إلى أن جاء المسيح. ولكن من هو موسى بالمقارنة مع سيدنا؟

ثم انظر إلى بولس الذي يشغل حيزاً لا مثيل له بين الرسل وفي العهد الجديد. ومع ذلك فليس لدينا عنه سوى لمحات خاطفة، وكم ود الكثيرون لو كانت لديهم معلومات أكثر عنه.ولكن شخصيته القوية، وكذلك شخصية بطرس ويوحنا – بين المشهورين – تفصلهم بمراحل عن ذاك الذي كانت كل صفاته ومميزاته في انسجام تام. لقد برزت فيهم بعض الأشياء دون غيرها، بخلاف سيدنا الذي كان الإنسان الكامل لله والإله الكامل للإنسان فضلاً عن مركزه كالابن في دائرة أقانيم اللاهوت الذي لا يوصف.

فالحياة الأبدية إذن ليست هي مجرد المسيا في كمال الناسوت، بل هي الكلمة وابن الله في جسد تهيأ له ولو أنه ابن العذراء. إن اتحاد اللاهوت بناسوت ربنا يسوع هو سر العجب في شخصيته هنا على الأرض، وسر بركة ظهور الحياة الأبدية فيه. وهذه هي الحياة الجديدة للذين يؤمنون، لك ولي. فعندما تقرأ عن شخصه المحبوب في أسفار الحق، مكرمين إياه كما نكرم الآب، وواجدين فيه بواعث عجيبة على المحبة التي يحس بها كل مسيحي، هل يقول كل واحد منا، ونعمته وحقه يضيئان في قلوبنا – هذه هي حياتي، وهذه ي حياتك أيها الأخ؟ أليس لنا بها شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح؟ و أليست هذه البركة العديمة النظير تملأ قلوبنا بفرح لا ينطق به ومجيد؟

لقد صرنا جميعاً بالإيمان بالمسيح شركاء بفضل الحياة الأبدية. وأول نواحي البركة أن لنا شركة مع الآب. وكيف لنا هذه الشركة؟ لأن لنا ابنه يسوع المسيح؟. إن سرور الآب في الابن، وهكذا سرورك وسروري. فالآب وأولاده لهم سرورهم العميق، سرورهم الواحد المشترك، في الابن. الآب أرسل الابن وأعطاه لنا، ونحن لنا هذه الحياة العجيبة لأن لنا الابن، وهو بكل ما حوى من صفات ومشتهيات لا بد وأن يكون موضوع مسرة من لهم الحياة الأبدية. غير أن الآب وحده هو الذي عرف الابن معرفة كاملة. وهو لذلك يقدر الابن تقديره الصحيح الجدير به وهذا ما لا نجرؤ أن نقوله عن أنفسنا، ولو أننا نملك الابن ونحبه ونسر به – وهذا كله بروح الله وعلى قدر طاقتنا وقياسنا. وهذه هي الشركة مع الآب في الابن يسوع المسيح.

ولكن كيف لنا شركة مع ابنه؟ لنا شركة معه في الآب الذي هو أبوه وأبونا. لقد كان الابن في علاقة أزلية مع الآب. وقد شاءت مسرته بالاشتراك مع مشيئة أبيه ونعمته أن يعلنه لنا كأبينا (قارن يو 20: 17). فلم يكن كافياً أن يرينا الآب. هذا كان يكفي الرسول فيلبس، كما قال أرنا الآب وكفانا، ولكنه لم يكن المحبة الإلهية. لقد كان شوق الآب أن يكون لنا بمعنى الكلمة وأن نكون نحن أولاداً له. ولذلك فنحن الآن أولاد الله وبالتبعية لنا شركة مع الابن بالنعمة، كما أن الآب له الابن في حقوق اللاهوت.

وهكذا لنا شركة مع الآب لأن لنا الابن، ولنا شركة مع الابن لأن لنا الآب. وهل يمكن إلا أن يكون فرحنا كاملاً؟ إن السماء نفسها والمجد الأبدي يتضاءلان أمام هذه البركة العظمى، مع أن لنا كليهما أيضاً فلو كنا عرفنا عن هذه الشركة دون أن تكون لنا، هل كان يمكن أن يكون فرحنا كاملاً كما هو؟ إننا لا ننتظر لحين ما ننطلق ونكون مع المسيح لتكون لنا هذه الشركة، ولا حتى إلى أن تتغير أجسادنا على صورة جسد مجده عند مجيئه. فهي لنا من الآن وليس سوى عدم الإيمان هو الذي يحرم أي واحد من أولاد الله من التمتع بها الآن وعلى الأرض. وفضلاً عن ذلك فقد أعطينا الروح القدس شخصياً كالقوة الإلهية للاستمتاع بهذه الشركة. فالابن قد جاء هنا على الأرض ولولا مجيئه لما كان ممكناً لنا الحصول على هذه الشركة أو على شيء منها على الإطلاق. ولذلك فبحضوره على الأرض لتحقيق هذه الغاية (لكي يكون لكم أيضاً معنا) يبدأ الرسول تعليمه هنا واضعاً أساس الشركة الإلهية في الحياة الأبدية التي هي الوسيلة الوحيدة للتمتع بهذه الشركة كنصيبنا. فبدون الحياة الأبدية ما كان ممكناً أن تكون لنا شركة، لأنه لا يكون هناك إلا الجسد الذي لا يمكن أن تكون شركة معه. ولذلك رأينا الرب يعلن مراراً وتكراراً أن معرفة امتلاك الحياة الأبدية من الآن هي أمر جوهري للمسيحية ولهذه الشركة التي هي أغنى وأفخر هبات المسيحية وذلك بفضل الحياة الأبدية التي فيه – في ذلك الذي أوصلها إلينا.

  • عدد الزيارات: 6880