الرسالة الأولى: الإصحاح الرابع
أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالَمِ. بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ. (عدد 1، 2).
نقرأ في 2 بط 2: 1 "ولكن كان أيضاً في الشعب أنبياء كذبة كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة الذين يدسون بدع هلاك وإذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً".
هؤلاء الأنبياء الكذبة قد خرجوا إلى العالم. من أين خرجوا؟ كانوا وسط المؤمنين. لم يأتوا من الخارج. كل الذين أتوا بتعاليم كاذبة وهرطقات دينية مهينة لاسم المسيح خرجوا من بين المؤمنين. اقرأوا تاريخ الكنيسة.
آريوس وغيره كانت لهم مراكز في المسيحية. كما نقرأ في 1 يو 2: 19 "منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" – منا خرجوا، وهم موجودون الآن في العالم.
إذاً يوجد في العالم روح الله ساكنة في المؤمنين وأرواح ليست من الله.
رأينا في هذه الرسالة أسلوب يوحنا المميز (كيف تعرف؟) و (كيف نميز؟) فمثلاً: أنت تقول أن لك شركة معه. ما هو البرهان؟ أن تسلك في النور.
أنت تقول أنك ثابت فيه. ما هو البرهان؟ كما سلك ذاك تسلك أنت. وأنت تقول أنك انتقلت من الموت إلى الحياة. ما هو البرهان؟ أن تحب الأخوة. إن كنت لا تحب أخاك تبقى في الموت وفي الظلمة تسلك والظلمة أعمت عينيك. والرسول يذكر ثلاثة مصادر ظاهرة: - من الله – من إبليس – من العالم.
المصدر الأول – الله. الله نور، والله محبة والله حق. والمولود من الله يسلك في النور ويصنع البر (ص 2: 29)، ولا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله (مشترك في طبيعته) (ص 3: 9) كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه (ص 3: 6).
"من لا يفعل البر فليس من الله وكذا من لا يحب أخاه" (ص 3: 10).
"من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضي لأن الظلمة أعمت عينيه" (ص 2: 10، 11).
"من لا يحب أخاه يبقى في الموت" (ص 2: 14)، "من لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة" (ص 4: 8).
"لم أكتب أليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وأن كل كذب ليس من الحق" (ص 2: 21).
"ونعلم أن ابن الله قد جاء فأعطانا بصيرة لنعرف الحق ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح" (ص 5: 20).
المصدر الثاني: إبليس – "من يفعل الخطية فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ" (ص 3: 8).
"من لا يحب أخاه فهو من إبليس كما كان قايين من الشرير (إبليس) وذبح أخاه" (ص 3: 12). صفات إبليس ثلاث: ظلمة بغضة وقتل – كذب وضلال.
عكس صفات الله له المجد: الله نور – الله محبة – الله حق.
"الذي أنقذنا من سلطان الظلمة" (كو 1: 13).
إبليس هو الذي جعل قايين يقتل أخاه (ص 2: 12) "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 44).
المصدر الثالث: العالم – يقول الرسول يوحنا "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته" (ص 2: 15- 17).
ويقول أيضاً "نعلم أننا نحن من الله والعالم كله قد وضع في الشرير" (ص 5: 19). ويقول أيضاً "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه" (ص 2: 1).
"لا تتعجبوا يا أخوتي إن كان العالم يبغضكم" (ص 3: 12) والمسيح له المجد قال "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15: 18).
"كل من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم أيماننا. من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله" (ص 5: 4، 5).
ويقول المسيح له المجد "ليسوا من العالم كما أنسي أنا لست من العالم" (يو 17: 16). هذا هو مركزنا بالنسبة للعالم – لا نخالط العالم لأنه أية شركة للنور مع الظلمة؟
إزاء هذه المصادر المحددة ليمتحن كل واحد نفسه ليعرف هل هو من الله أم من إبليس أم من العالم فإن أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس.
وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهَذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ. (عدد 3)
هذا هو الموضوع الرئيسي في هذه الرسالة: - "روح ضد المسيح" وقد جاء الكلام عنه في 2 تس 2 – المسيح الكذاب إنسان الخطية ابن الهلاك "الأثيم الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة... لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب".
وفي رسالة يهوذا نقرأ "لأنه دخل خلسة أناس قد كتبوا منذ القديم لهذه الدينونة فجار يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة وينكرون السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح" (يه 4).
وفي (1 يو 2: 22، 23) يقول الرسول "من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن. كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً".
قالت المرأة السامرية للرب "أنا أعلم أن نسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء. قال لها يسوع أنا الذي أكلمكم هو" (يو 4: 25، 26) فالمسيح له المجد قد جاء ولكن غير المؤمن هو من روح ضد المسيح ويقول أن الذي جاء ليس هو المسيح! وينكر الآب والابن لأن الذي ينكر الابن ليس له الآب أيضاً. هذا هو ضد المسيح الذي عمله مهاجمة شخص الرب يسوع فقد هاجموا ناسوته وهاجموا لاهوته أيضاً!
التعبير الوارد في عددي 2، 3 في اللغة العربية وفي اللغة الإنجليزية أيضاً ليس معبراً بالضبط عن الفكر الذي في الأصل يوناني.
فالتعبير هنا هو "كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله" ولكن المقصود في الأصل ليس مجرد الاعتراف أنه جاء في الجسد لأن كثيرين يعترفون أن المسيح يسوع جاء في الجسد ولكن المقصود هو الإيمان بالشخص الذي جاء وليس مجرد الاعتراف بالمجيء. إن حقيقة الشخص الذي جاء في الجسد هو الله كما يقول الرسول بولس "بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1 تى 2: 16).
"جاء في الجسد" – هل يقال عن أي إنسان أنه جاء في الجسد؟ لا. كل إنسان جاء بطريق الولادة الطبيعية ولم يكن موجوداً قبل ذلك. لكن الذي جاء في الجسد هنا كان موجوداً بلاهوته في الأزل وفي الوقت المعين جاء في الجسد. من هو هذا؟ هو الله. ظهر في الجسد.
أَنْتُمْ مِنَ اللهِ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ. هُمْ مِنَ الْعَالَمِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ مِنَ الْعَالَمِ، وَالْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ. نَحْنُ مِنَ اللهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هَذَا نَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلاَلِ. (عدد 4-6)
في ع4 يقول الرسول "أنتم من الله" أي أن – المؤمنين هم من الله.
في ع6 "نحن من الله" أي الرسل أراني الوحي هم من الله. وفي ع5 "هم من العالم" من أجل ذلك يتكلمون من العالم والعالم يسمع لهم.
انظروا ما دخل في المسيحية لاسيما السلام الأجنبية: الروح العصرية والعلم المسيحي العقلي والإنجيل الاجتماعي. إن الذين يشغلون المنابر في المسيحية ينكرون مع الأسف لاهوت المسيح وينكرون ولادة المسيح من عذراء وينكرون الكفارة وأشياء تشيب لها الولدان. فقد أنكروا وحي كلمة الله ووضعوا أنفسهم في مركز النقاد وسموا أنفسهم أصحاب النقد العالي وأخذوا ينتقدون بولس كأنه كاتب من الكتاب وليس بإملاء الروح القدس ودخل المنطق والفلسفة والذكاء الإنساني في المسيحية. هؤلاء يتكلمون من العالم ويقولون أن هذه عادات قديمة ولا تناسب العصر الآن! والعالم يسمع لهم لأن كلامهم يوافق الجسد والذهن البشري السقيم.
في 2 تى 4: 3 نقرأ "لأنه سيكون وقت لايحتملون فيه التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم فيصرفون مسامعهم عن الحق".
شكراً للرب لأنه يقول "أنتم من الله" أيها الأولاد وقد غلبتم الشرير. ما هو سبب الغلبة؟ الذي فيكم أي الروح القدس أعظم من الذي في العالم. الروح القدس فينا يعلمنا ويرشدنا ولنا به الغلبة على كل ما في العالم.
ثم يقول "نحن من الله" (أي الرسل الذين تكلموا بكلام الله) "والذي يعرف الله يسمع لنا".
يقول الرسول بولس في 1 كو 3: 12، 13 "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قرنين الروحيات بالروحيات" – كل الكاتب هو موحى به من الله. الآن قد تم المكتوب وصار ثابتاً "ومن يعرف الله يسمع لنا ويعرف أن كلامنا من الله". أما الذي ليس من الله فلا يسمع لنا. ويقول أيضاً في 1 كو 14: 37 "إن كان أحد يحسب نفسه نبياً أو روحياً فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصايا الرب".
أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا. (عدد 7-10)
أمر عجيب أن ينتقل الرسول يوحنا من الموضوع الرئيسي: روح الحق وروح الضلال إلى موضوع المحبة لأنه هو الذي يقول من نفسه التلميذ الذي كان يسوع يحبه وهو الذي يسمونه في المسيحية رسول المحبة.
يتكلم الرسول عن محبتنا بضنا لبعض كثيراً جداً في الرسالة لأن المحبة من الله والله محبة وقد سكب محبته في قلوبنا بالروح القدس وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية وهذه الطبيعة هي نور ومحبة، كما أسلفنا.
يتكرر في هذا الإصحاح قول الرسول "أن الله أرسل ابنه" ثلاث مرات وهذه براهين على محبة الله.
البرهان الأول: - "الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به" (ع9).
البرهان الثاني: - "ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (ع10).
البرهان الثالث: - "ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم" (ع14).
لقد كنا أمواتاً فأرسل الله ابنه الوحيد[1] لكي نحيا به، كنا خطأة أرسل الله ابنه كفارة لخطايانا. وكنا هالكين فأرسل الله ابنه مخلصاً للعالم.
يا لها من محبة عجيبة! ليس أننا نحن أحببنا الله كما كان يطلب منا الناموس ولم نستطع، لكن هو أحبنا وبيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطأة أرسل ابنه الوحيد وكفر عن خطايانا "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة" (رو 3: 24، 25).
كنا مستحقين الدينونة لكن "لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليلين العالم بل ليخلص به العالم" (يو 3: 17).
لقد عالج الله بواسطة ابنه الحبيب كل أدوائنا.
"هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16) "لا يهلك" أي يخلص، "وتكون له الحياة الأبدية" أي يحيا.
يقول الرسول في ع9 "بهذا أظهرت محبة الله فينا (أي من جهتنا) أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به" في الوقت الذي كنا فيه أمواتاً بالذنوب والخطايا.
هل تريد برهاناً على محبة الله؟ لا تنظر إلى داخلك وما أعطاه الله لك. صحيح أن الله أعطانا عطايا عظيمة – أعطانا طبيعته وحياة أبدية... لكن انظر إلى ما فعله خارجاً عنك حيث أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. هذه براهين من الله وليست منا. إذا أتينا ببرهان من داخلنا يكون معرضاً للتغير لأننا متغيرون، لكن ما فعله الله ثابت وكامل.
الله تكفل بالقضية من أولها إلى آخرها. ليس كما يقول الناس: أنت تعمل يا عبدي وأنا أعينك! الله عمل كل شيء ولا يضاف إلى عمله شيء.
سأل اليهود المسيح "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟" أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله (يو 6: 28، 29).
أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً. اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ. إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً فَاللهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا. بِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ. وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ. (عدد 11-14)
يتكرر تحريض الرسول لنا، كما سبقت الإشارة، أن نحب بعضنا. فهل نقدر حقاً أن نحب بعضنا البعض؟ نعم. لأنه قد أحبنا هو وسكب محبته في قلوبنا بالروح القدس وأعطانا طبيعته المحبة وأعطانا حياته. فبهذه المحبة نقدر أن نحب.
لا يقول لنا الله "ينبغي" عن شيء صعب مستحيل لكن طالما يقول لنا "ينبغي" فذلك يكون ممكناً. الله يعطينا الإمكانيات أن يطلب منا.
يقول الرسول في ع12 "الله لم ينظره أحد قط". إن أحب بعضنا بعضاً فالله الذي لم ينظره أحد "يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا".
وفي يو 1: 18 نقرأ "الله لم يره أحد قط. (كيف نعرفه إذاً؟) الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب (أي موضوع محبة الآب الذي يعرف الآب تماماً) هو خبّر".
فالله الذي لم ينظره أحد قط. إن أحب بعضنا بعضاً، فالله الذي أعلنه الابن وخبّرنا به، يثبت فينا، ليس فقط نعرفه لكن الله نفسه يكون فينا ويثبت فينا. ومحبته قد تكملت فيننا.
"الله يثبت فينا" شيء مؤكد:
نقرأ في ع12 "إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا" وفي ع13 "بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه".
وفي ع15 "من اعتراف أن يسوع هو ابن الله فالله يثبت فيه وهو في الله".
وفي ع16 "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" – هل الله يثبت فينا أي يسكن فينا؟ نعم. "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). ونحن خطأة أحياناً الله وكفر عن خطايانا، ونحن مؤمنون نثبت فيه وهو فينا وقد تكملت محبته فينا حتى إلى يوم الدين (الدينونة) ومن جهة الدينونة لنا ثقة ولا نخاف.
في ص3: 24 قرأنا "من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا". وفي ص4: 13 "بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه". فالله يثبت فينا لأن روحه يسكن فينا سكنى دائمة. "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معك ويكون فيكم" (يو 14: 17). روحه القدوس لا ينزعه منا (كما قال داود) – بل يدوم معنا ويكون فينا. فنحن نعرف أنه يثبت فينا لأن روحه فينا.
ولكن كيف نعرف أننا نثبت فيه؟ لأنه أعطانا من روحه أي من عمل روحه. ما هو عمل روحه فينا؟ إننا نحب بعضنا بعضاً بنشاط المحبة الإلهية التي سكبها في قلوبنا.
"أعطانا من روحه" – أي من صفاته، من طبيعته طبيعة المحبة. فإن كنا نمارس المحبة ونحب بعضنا بعضاً نعرف أننا نثبت فيه.
إن كان الروح القدس ساكناً فينا نعرف أن الله يثبت فينا. ولكن يوجد فرق بين "أعطانا روحه" و"أعطانا من روحه" – أعطانا من روحه أي من نشاط وثمار طبيعته وأولها "المحبة" فنحب بعضنا بعضاً من عمل روحه فينا.
"ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم" – لما نادت المرأة السامرية قائلةً "هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت العلة المسيح" جاءوا إليه وسمعوا كلامه وآمنوا به وقالوا للمرأة نحن لسنا نؤمن فيما بعد بسبب كلامك لكن لأننا رأيناه وسمعناه ونشهد أنه مخلص العالم.
لم تكن هناك طريقة أخرى للخلاص أيها الأحباء سوى إرسال الله ابنه إلى العالم. ليس بأحد غيره الخلاص "لأنه ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص أن نخلص". "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (أع 10: 43) لا توجد طرق كثيرة للخلاص لكن طريق واحد واسم واحد وعمل واحد.
مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، فَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي اللهِ. وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي لِلَّهِ فِينَا. اللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ. بِهَذَا تَكَمَّلَتِ الْمَحَبَّةُ فِينَا: أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ الدِّينِ، لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هَذَا الْعَالَمِ هَكَذَا نَحْنُ أَيْضاً. (عدد 15-17)
في ص 3: 24 قرأنا "من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه". وهنا في ص4: 15 نقرأ "من اعترف أن يسوع هو ابن الله (هذا هو أساس الإيمان) – فالله يثبت فيه وهو في الله".
وفي ص4: 16 "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" فالمؤمن الحقيقي هو:
أولاً: الذي يعترف أن يسوع هو ابن الله.
ثانياً: يحفظ وصاياه.
ثالثاً: يثبت في المحبة. ولذلك فإن الله يثبت فيه وهو في الله – "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يو 14: 21).
"بهذا تكملت لمحبة فينا" – المحبة هي محبة الله وهي محبة كاملة تسير معنا كل لطريق من وقت أن عرفناه ونلنا الحياة به. وعندما ندرك محبة الله الكاملة يكون لنا ثقة في يوم الدين – لنا ثقة في كل ظروف حياتنا إلى يوم الدين لذي لنا ثقة من جهته ولا نخاف من الدينونة لأنه هو حمل دينونتنا.
"ذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع" (رو 8: 1). ويقول المسيح له المجد: "من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة..." (يو 5: 24) "وضع للناس (غير المؤمنين) أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة" (عب 9: 27).
لكن لا توجد دينونة في المستقبل على المؤمن لأنه كيف يكون الله ثابتاً فينا ثم يديننا؟ هل يناقض نفسه؟ غير ممكن. من هو الذي يدين؟ "الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22).
يسخر الناس غير المؤمنين من المؤمنين المتمسكين بالحق الكتابي قائلين أن لا دينونة عليهم وأن لهم ثقة، ويقولون (مفسرين خطأ الآية التي نحن بصددها) يوم أن تصير محبتكم كالملة يكون لكم الثقة!
لكن في الواقع أنه ليست محبتي أنا التي تعطيني ثقة لأن محبتي لن تكون كاملة هنا. ولو كانت محبتنا نحن هي التي تعطينا الثقة فلا يمكن أن تكون هناك ثقة عند أي واحد لكن محبته هي الكاملة – محبته التي تكتمل فينا – فيكون لنا ثقة في يوم الدين أي على أساس محبته الكاملة وليس على أساس محبتنا نحن. والكتاب يوضح السبب لماذا لنا ثقة فيقول:
"لأنه كما هو في هذا العالم هكذا نحن أيضاً" – في الأصل تجيء عبارة "في هذا العالم" في الآخر فتكون الآية هكذا "لأنه كما هو (في السماء) هكذا نحن أيضاً في هذا العالم" ياللعجب! ونحن في العالم الآن مقبولون أمام الله كقبوله هو. لماذا؟ لأن الله يرانا في المسيح.
عندما كان المسيح هنا في العالم هل كنا نحن كما هو؟ لا. لأن العمل لم يكن قد أكمل بعد. "إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها.. " كما هو في العالم وحيداً فريداً لم يكن أحد مثله لكن بعد أن مات وقام قال لمريم "اذهبي لاخوتي.... " فصار له أخوة "لا يستحي أن يدعوهم أخوة".
بعدما قام من الأموات، ما هو حق فيه صار حقاً فينا نحن أيضاً بعد أن أعطانا حياة القيامة.
يا له من أمر عجيب حقاً أن يكون كما هو هكذا نحن في هذا العالم. صحيح نحن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله. لكن الآن نحن مثله في القبول أمام الله سنكون مثله على صورة جسد مجده عندما يجيء ويغير أجسادنا. ماذا نقول لهذا؟ نهر سباحة لا يعبر!
دعنا نتأمل ونتعمق في التأمل في محبة الله ونعمته.
نلاحظ أن الرسول يوحنا تكلم بجرأة عجيبة. لماذا؟ أليس هو الذي يتكئ على صدر المسيح وهو التلميذ الذي كان يسوع يحبه وهو الذي عرف محبة المسيح وتمتع بها وامتلأ منها وأصبح رسول المحبة الذي تكلم كثيراً عن المحبة؟ - هذا هو السبب.
لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ. نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً. (عدد 18، 19)
إن محبة الله الكاملة تطرح الخوف إلى خارج ومستندي في الثقة وفي اليقين والسلام وعدم الخوف هو محبته الكاملة.
"وأما من خاف فلم يتكمل في المحبة" – لا خوف في المحبة وهذا ينطبق على كل ظروف الحياة فمن أي شيء نخاف؟. في يوم الدين لنا ثقة في ظروف الحياة تأتي آلام وتجارب لكن لا نخاف. يحاول الشيطان أن يزعزعنا لكن الله أبونا المحب هو الذي قدم لنا هذا فنقبلها من يده بشكر وبثقة في محبته.
إن الذي يدرك محبة الله الكاملة يمتلئ قلبه بالسلام. أحياناً يضعف إيماني ويعتريني خوف لكن هذا ليس وضعي الصحيح لأن لي مواعيد صادقة وأمينة "تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش 1: 9) "لا أهملك ولا أتركك حتى أننا نقول واثقين الرب معين فلا أخاف" (عب 13: 5، 6) "لا تخف لأني فديتك. دعوتك باسمك. أنت لي (الذي نحن له هو القدير)" (اش 43: 1) – ومن امتيازنا أن نقول مع داود "إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي" (مز 23: 4).
"لأن الخوف له عذاب" – صحيح أن الخائف يعذب نفسه ويكون في قلق مستمر وهذا عيب على المؤمن.
يوجد البعض يقولون أنهم مؤمنون ولكنهم خائفون بدليل قولهم: ليتك يا رب تعطيني القبول الأبدي هؤلاء مساكين ومعذبون بلا مبرر – لا سلام في قلبهم ولا راحة من جهة ظروف الحية ومن جهة الأبدية.
لكن لماذا هذا الخوف والرب أعطانا سلامه إذ قال: "سلاماً أترك لكم سلامي (الخصوص) أعطيكم" (يو 14: 27) "وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح" (في 4: 7).
"نحن نحبه" – ما هو السبب؟ هل لأنه أمرنا بالقول تحت الرب إلهك من كل قلبك؟.
عندما أمرنا بهذا في الناموس لم يستطع ولا واحد أن ينفذ هذا الأمر؟ لكننا نحن الآن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً. جاءت المحبة منه هو وهو وضع محبته في قلوبنا. فالآن نحن نحبه بعدما بين محبته لنا.
في اللغة الأصلية "نحن نحب" بدلاً من "نحن نحبه" أي عنصر المحبة دخل في قلوبنا عندما أحبنا هو أولاً فأصبح طابعنا المحبة.
"في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (ص4: 10). فكيف لا أحبه؟!
إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً. (عدد 20، 21)
نجد هنا شخصاً يقول أنه يحب الله لكنه يبغض أخاه فهو كاذب. لماذا؟ لأن هذين الأمرين متناقضان. ويذكر الرسول هنا برهاناً طبيعياً بسيطاً وهو إذا كان لا يحب أخاه الذي يبصره فكيف يحب الله الذي لم يبصره.
يقول شخص: إني أحب الله، فأقول له: إذا كان هذا صحيحاً فيجب عليك أن تحب أخاك الذي تنظره – تحبه في المسيح. قد تكون في نقائض وأشياء لا تحب لكن تحبه لأنه أخوك الذي مات المسيح لأجله.
قال يوحنا داربي: (أنا رجل إنجليزي من عائلة إنجليزية وتربيت مع أعضاء العائلة ولنا نفس العادات والطباع لكن عندما يجيء أخ من نيجيريا مثلاً أسود اللون ولم أره من قبل لكن أجد نفسي أحبه محبةً أكثر من محبتي لبني جنسي الذين نشأت معهم. لماذا؟ لأن نبع المحبة واحد. الذي أحب هذا أحبني أنا. أفكاره وأمياله وأغراضه هي نفسها التي لي. الطبيعة الجديدة التي أعطاها لي الله أعطاها له. لكن ابن عائلتي الذي ليس فيه طبيعة الله وليس مولوداً من الله لا يمكن أن أحبه بنفس المحبة التي أحب بها الذي ولد من الله مثلي الذي لي شركة معه في الفكر والتصرف والقول والعمل – البرهان على محبتي لله أني أحب أخي).
"ولنا هذه الوصية منه" – هل المحبة وصية ؟ نعم. ووصاياه ليست ثقيلة. وصايا الناموس كانت ثقيلة لأنها موجهة لأناس في الجسد لا يقدرون أن يعملوها. هل يقدر الإنسان الميت أن يتمم وصايا الله؟ غير ممكن.
لكن الآن بعد أن أخذنا حياة الله وسكن فينا الروح القدس أصبحت وصايا الله خفيفة محببة للنفس يقول كل منا: ماذا تريد يا رب؟ بماذا توصيني؟ ما هي رغبتك؟.
في رسالة غلاطية يقول الرسول بولس "الناموس من جبل سيناء الوالد للعبودية". والله لم يعطنا روح العبودية للخوف بل أعطانا الروح القدس روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. لكن يوجد ناموس آخر اسمه ناموس الحرية (يع 1: 25) ناموس الطبيعة الجديدة. هذا الناموس ليس عبارة عن وصايا أعملها وأنا تحت تهديد لكن وصايا الأب لأولاده. وأنا أستطيع أن أتممها لأني أحب أن أرضي الله.
ووصيته لنا: من يحب الله يحب أخاه أيضاً.
ويبدأ الرسول الإصحاح الخامس بالقول: "وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً" أي أخاه.
هذه الرسالة الجميلة يجب أن لا نكتفي بقراءتها مرة ولا مرتين لكنها تتطلب أن نجتر عليها دائما مثل الحيوانات الطاهرة.
"في مراع خضر يربضني" الخروف عندما يصل إلى المرعى يأكل بسرعة ويختزن الأكل ثم يربض ويستريح ويجتر ما أكله. يخرج الطعام الذي ابتلعه بسرعة ويجتر عليه فيهضمه.
الرب يعيننا لكي نلتقط الكثير من حقل كلمة الله ثم نجير عليه.
[1] لنتأمل في القول "ابنه الوحيد" موضوع مسرته أرسله إلى العالم لكي يموت نيابة عنا ويحيينا.
- عدد الزيارات: 6180