إلتماسه من فيلمون العفو عن أنسيمس ومدحه له (ع8-21)
(لذلك وإن كان لي بالمسيح ثقة كثيرة أن آمرك بما يليق) (ع8)
(1) صحيح أن لا يسكن فيَّ أي في جسدي شيء صالح ولكن مكتوب من الجهة الأخرى ((أحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا)) وهكذا هنا يعتمد الرسول على العلاج الساكن في فيلمون بالروح القدس لكي يظهر في وقته المناسب لمجد المسيح.
(لذلك) أي لما أظهرته من المحبة للأخوة والإحسان إليهم ((وإن كان لي بالمسيح ثقة كثيرة أن آمرك))
نظراً إلى كوني رسول المسيح ولي سلطان فيه (1تي7:2) ((بما يليق)) أي بما يوافق وينفع. ما أعظم هذا الأسلوب وما أجمله ألم يكن بولس رسولاً؟ لا شك أنه كذلك, وما كان ممكناً قط أن يتخلى عن السلطان المعطى له مهما قادته النعمة أن يفعل ما فعله سيده قبله لكي يأتي بالخطاة إلى الله ويقود القديسين إلى الطاعة في المحبة. فهو يقرر سلطانه بكل وضوح قائلاً (( وإن كان لي بالمسيح ثقة كثيرة أن آمرك بما يليق)) فبولس لم يجرؤ أن يتخلى عن سلطانه كرسول فقد كان مسؤولاً عن ممارسة هذا السلطان في خدمة الرب الذي ائتمنه وللضرورة كان يستخدم الشدة فعلاً, ولكن إن كان بولس في الكنيسة بالنسبة لفيلمون واضحاً محدداً إلا أن نفسه استراحت أكثر جداً في إستنادها على ما كان مشتركاً بينه وبين فيلمون أي المحبة وليس الاستناد على السلطان الرسولي. بهذه الصورة واضعاً نفسه كمثال أراد الرسول أن يعلم فيلمون أن العلاقة بين السيد والعبد لازالت قائمة في دائرة الحياة الاجتماعية ولكن ليس في الكنيسة والعلاقة في الكنيسة أبدية أما في الأمور الأرضية فهي وقتية.
كان فيلمون مسؤولاً كسيد أمام سيده الأعظم في السموات (كو1:4) لكن كان هناك باب مفتوح أمامه ليظهر شيئاً من النعمة التي تعامل بها الرسول معه أو بالحري نعمة الرب نفسه الذي مع أنه أتضع إلى أقصى درجات الاتضاع فلم يكن ممكناً أن يغير هذا ولو يسيراً مما كان عليه في جوهره, الله الظاهر في الجسد, ولكنه استطاع بهذا الاتضاع أن يفعل في النفس ما لم يكن (إن جاز التعبير) في استطاعته أن يفعله بغير هذا الاتضاع. مقدماً نفسه بالنعمة مثالاً عجيباً حياً كما قال ((أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض, لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً)) (يو13:13-15) فلقد كان سرور قلب الرب أن يضع نفسه في هذا الموضع الذي به يستطيع أن يؤهلنا لفرح الشركة معه.
إن المسيح بإعتباره ((رب الكل)) (أع26:10) يقف وحده فوق الكل ومركزه هذا لا يستطيع أن يتنازل عنه لأن هذا يكون معناه إنكار ذاته (وحاشا لسيدنا من ذلك) ولكن في الوقت الذي له كل السلطان أن يأمر كالسيد رضي كالمتضع أن يعطينا مثالاً لكي نتبع خطواته فهو يجد لذاته في النزول إلى مستوانا لكي يرفعنا إلى مجده. وهذا هو طريق النعمة.
وواضح أنه لو لم يكن الرب يسوع مساوياً لله لما كان هذا الأتضاع يعتبر نعمة منه. فالنعمة الحقة أنه وهو الله ((لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله (لكنه) أخلى نفسه آخذاً صورة عبد)) (في6,7:2) أما اسمى اللائق العاقلة فلا يخرج عن كونه عبداً فالنعمة هي قدرة الله مع الاحتفاظ بصفاته في الوقت الذي لا يطالبنا فيه بحقوقه دون التنازل عن هذه الحقوق. وهذه هي أعجوبة الفداء أنه في الوقت الذي يخلينا من جميع مطاليب الله ضدنا يرينا هذه المطاليب وإذا بها قد سدت جميعها تسديداً كاملاً لأنه ((إله بار ومخلص)) (أش21:45).
وهكذا الحال مع بولس أنه لا يستطيع التنازل عن سلطانه كرسول ولكنه كان له من الجهة الأخرى أن يتصرف بالنعمة فيقف مع فيلمون على أساس ماهو مشترك بينهما وبين الكنيسة كلها. ألا وهو أساس الأخوة في المسيح يسوع وهنا عوضاً عن أن يأمر بسلطان نراه يقول:
(من أجل المحبة أطلب بالحري إذ أنا إنسان هكذا نظير بولس الشيخ والآن أسير يسوع المسيح أيضاً) (ع9).
فهو بالمحبة الأخوية على سبيل المعروف ما لم يستحسن أن يأمر به وأراد بالمحبة التي يمتاز بها كل المؤمنين بالمسيح لا محبة فيلمون الخاصة, ومع إعترافه الكامل بما بين فيلمون وأنسيمس من علاقة السيد والعبد وهي علاقة ليس في وسع الرسول أن يلغيها ومع أنه كان من حقه أن يأمر ((بما يليق)) إلا أنه يترك لفيلمون فرصة أ، التصرف بالنعمة والوقوف تجاه أنسيمس موقف الأخوة والشركة حاسباً هذه العلاقة الجديدة فوق العلاقة القديمة ولو أن العلاقة القديمة لا تزال مستمرة وقائمة. وإنه لمن المهم للغاية ملاحظة كيف أن سيدنا المنعم يهيء لنا الفرص والمناسبات لإظهار النعمة, وممارستها فهو له المجد قلما يخاطبنا بصوت الأمر والنهي قائلاً أذهب أفعل هذا, بل يقول ((هذا هو فكري)) فأذهب ونفذه بقدر ما تستطيع. وكل من هو كامل يحاول أن يكون كسيده وعندما يصل الرسول إلى النقطة الخاصة بكتابته لفيلمون يقدم نفسه هكذا ((إذ أنا إنسان نظير بولس الشيخ والآن أسير يسوع المسيح أيضاً)) وماذا كان بولس الشيخ يتعلمه في حياته الطويلة الماضية؟ كان يتعلم نعمة الرب يسوع المسيح.
والطلب الذي يطلبه الآن من فيلمون ليس أساسه السلطان الذي كان يمكن أن يستعمله بل أساسه اختباره الطويل عن البركة في طرق النعمة في نفسه وكذلك ما كان يكابده من آلام لأجل الكرازة بإنجيل النعمة للجميع (قارن ذلك مع أف1:3).
ولكن كما أنه راضٍ وقانع بوجوده في القيود والأغلال لأنه أسير الرب. وهكذا كان مسروراً وفرحاً بالربط التي بها قد صار فيلمون واحداً معه إلى الأبد.
بهذه العبارة يرى فيلمون شيئين:
أولاً: أن بولس كان يعاني الآلام ولم يكن كشخص أحتفظ بمركزه في هذا العالم كمعترف بالمسيح الرب صاحب كل سلطان في السماء والأرض.
ثانياً: أن يتحمل متاعب السجن بكل صبر لأنه يرى أن الناس ليسوا إلا الآت في يد الرب. ولذلك هو راضي بالوجود هناك لأنه ليس أسير إنسان بل أسير الرب.
(أطلب إليك لأجل ابني أنسيمس الذي ولدته في قيودي) (ع10)
يطلب لأجل أنسيمس كابن روحي له, ولده في قيوده. وفي شيخوخة الرسول وفي سجنه كان عزاء له.
حقاً ماأعظم هذا الأسلوب وما أجمله. إن كل حجة يقدمها بولس لصالح أنسيمس كانت تقود نفس فيلمون إلى محضر الله وتجعله يستعرض من جديد تفصيلات نعمة الله من جهته. طريقة مباركة لتعلم الطاعة باستحضار كل محبة الله أمام النفس ((ابني أنسيمس)) كان أنسيمس عبداً شريراً خائناً يستحق السجن والعقاب ولكنه قد تحرر بنعمة الله. لقد خرج هارباً من بيت فيلمون سيده وذهب إلى روما وهناك وضعت نعمة الله يدها عليه وتعامل الله مع هذه النفس المسكينة فقادها إلى حيث يوجد بولس الرسول حيث تغير الحال معه كل التغير. وفي هذا نرى نعمة الله الغنية تفتقد الأثمة المذنبين وتخلص أشر الخطاة ((صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة)) (1تي15:1)
إن الله لا يسر بموت الشرير ولا يشاء أن يهلك إنسان بل أن يقبل الجميع إلى التوبة ويريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ((وإذا قد وجد الوسيط المصالح يقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة قد وجدت فدية)) (أي23:33) ومن ذا الذي يستطيع أن يقدر قيمة عمل المسيح على الصليب؟ تلك القيمة غير المحدودة التي على أساسها يقبل الله الخاطىء ويجعله ابناً له.
((الذي ولدته في قيودي)) وكأن هذه العبارة لسان حال الرب نفسه وهو على الصليب. وفي الواقع لا يمكن فصل الصليب عن كل البركات التي يتحصل عليها المؤمن. إبتداءً من هذه البركات العظيمة التي هي الولادة الجديدة لذلك يقول الرسول ((لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً)) (كو2:2)
( الذي كان قبلاً غير نافع لك ولكنه الآن نافع لك ولي) (ع11)
معنى اسم أنسيمس في اليونانية ((نافع)) وكأن الرسول يقول أن أنسيمس لم يكن كاسمه أي نافعاً لأنه أختلس من مال سيده وهرب ولكنه الآن بعدما صار مؤمناً بالمسيح تستفيد من خدمته بالأمانة والاجتهاد. نافع لك ولي فاستحق هذا الاسم الذي لم يكن يستحقه قبلاً.
أنسيمس بعد أن كان عبداً غير نافع صار نافعاً للرسول ولفيلمون أيضاً. فما أجمل عمل النعمة التي تصنع من الإنسان الشرير قديساً محبوباً. والرسول بولس في رسالته إلى كولوسي يقدم أنسيمس للكنيسة كلها كالأخ الأمين الحبيب (كو9:4) وماذا كان أنسيمس قبلاً لله؟ كان غبياً غير طائع مستعبد للشهوات واللذات المختلفة نظير غيره من البشر ولكن معرفته لمحبة الله في نفسه جعلت منه الآن خادماً أميناً للرب نافعاً لقديسيه. لاشك أن ميول النفس قد أصبحت تقوده لأن يرى ماهو لائق وأن خيره يجب أن يكون على سبيل الاختيار وليس على سبيل الأضطرار.
بركة عظمى للمؤمن أن تكون طاعته صادرة عن تقديره وعرفانه لكل ملء محبة الله.
إن الله يرينا أن كل ما نقدمه يكون بسماحة قلب (خر29:35) وبسرور لا عن إضطرار بل باختيار.
إنه تبارك اسمه يرينا طرقه وجميع الذين ينقادون بالروح يتبعونها. يجب أن يكون هناك إدراك أعمق وأوسع لنعمة الله لكي يكون هناك ثمر أكثر لله فالرسول يقول عن الإنجيل ((وهو مثمر كما فيكم أيضاً منذ يوم سمعتم وعرفتم نعمة الله بالحقيقة.)) (كو6:1) هذا ما يحتاج إليه القديسون في الوقت الحاضر إدراك نعمة الله بالحقيقة.
(الذي رددته. فاقبله الذي هو أحشائي) (ع12)
((الذي رددته)) كأن أنسيمس أمانة كانت عند بولس وردها إلى صاحبها. ولكن هل ردها كما قبلها؟ كلا إن الذي يرد الأمانة كما هي يعتبر أميناً ولكن في المثل الوارد في (متى14:25) يقول السيد للعبد الذي ربح وزنات فوق ما أخذ ((نعماً أيها العبد الصالح والأمين)) فلم يكن أميناً فقط بل صالح أيضاً, وهكذا كان بولس. لقد وصل إليه أنسيمس في صورة عبد مغتصب وظالم وسارق وهارب من سيده أما هو فكان في السجن لأجل البر ولأجل الإنجيل وهذا يأتي بنا إلى الرب يسوع المسيح معلقاً على الصليب وبجواره اللص القاتل الذي عمل فيه بنعمته للتوبة والإعتراف بأنه ينال بعد استحقاق ما فعل والإيمان بالرب البار الذي لم يفعل شيئاً ليس في محله وكالذي سيأتي في ملكوته ولقد سبق الرب اللص إلى الفردوس ثم أرسل ملائكته بحسب وعده ليحملوا روح اللص كما حملوا روح لعازر (لو22:16).
((الذي هو أحشائي)) أليس هذا إستعراضاً لمعاملات نعمة الله؟ ألا يوجد الآن شيء ينعش قلب الله في هذا العالم الذي رفضه بقتل ابنه الحبيب الوحيد؟ لاشك أن أحشاء رحمة إلهنا (لو78:1) هي التي أنعشتنا ولاشك أيضاً أن إستجابتنا نحن لهذه الأحشاء هي التي تنعشه. ((فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رافات)) فقبول أحد القديسين باسم المسيح هو قبول لشخصه وعندما نقبل أحد القديسين لمحبة المسيح المنعشة فعندئذ تكون لله رائحة المسيح الذكية. كم من المرات تقف قلوبنا الغبية حجر عثرة في سبيل مشاركة الله للقديسين في أفراحهم.
((أحشائي)) أي كنفسي وبذاك أظهر الرسول فرط ثقته بذلك العبد حتى وضع نفسه مكانه. وكان ما يخصه ويخص الرسول نفسه. وفي هذا أقول نجد ظلاً ضعيفاً لمحبة المسيح لخاصته كرئيس الكهنة العظيم الذي يحمل شعبه على صدره. فالمسيح هو الوسيط بين الله والإنسان الخاطىء. وهو أيضاً رئيس الكهنة العظيم الذي يرئي بمحبته وحنانه لضعفات المؤمن وهو أيضاً الشفيع الذي يقيم المؤمن من عثراته ويخلصه من سقطاته لأنه ضامن خلاصه أمام الله ضماناً إلهياً أبدياً فبقلبه يرثي وبقدرته يخلص إلى التمام فيستطيع المؤمن أن يقول ((لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقطت أقوم)) (في8:7) فخلاص المؤمن ثابت ومضمون بذاك الذي قال ((لا تخف أنا هو الأول والأخر والحي وكنت ميتاً وهاأنا حي إلى أبد الأبدين)) (رؤ18:1).
(الذي كنت أشاء أن أمسكه عندي لكي يخدمني عوضاً عنك في قيود الإنجيل) (ع13)
قال هذا تأكيداً لثقته بأنسيمس. وأنه مستحق ثقة فيلمون أيضاً. ويدل على أنه يسر بخدمته ويحتاج إليها ويرغب في استمرارها لولا حق فيلمون فيها.
إمتياز لكل مؤمن أن يخدم ((أسير يسوع المسيح)) لم يكن فيلمون يمانع أن يخدم بولس أو يمنع عبده أنسيمس لو طُلب منه ذلك لكن الرسول أراد أن يكون ذلك اختياراً وليس اضطراراً.
كان بولس مقيداً بالسلاسل ليلاً ونهاراً من أجل الإنجيل وهذه القيود جعلته في حاجة إلى خدمة الآخرين له. ولولا ذلك لكان في غنى عن أنسيمس ((كنت أشاء أن أمسكه عندي لكي يخدمني)) هذا هو فكر المسيح. لم تكن للتلاميذ شركة في الآلام التي تحملها بالنيابة عنا في كفارته الخالدة. والواقع أنه ما كان في استطاعته أحدٌ يقف معه في تلك الساعات الرهيبة ولكن ماذا كان بعد ذلك؟ وماذا كانت النتيجة من كل تلك الأهوال التي قاساها وحده؟ سوى أننا صرنا متحدين معه مرتبطين به بربط أبدية- والنتيجة الحاضرة من هذه الوحدة هي الخدمة الطائعة الأختيارية التي تقدم له في أشخاص قديسيه والأعتراف به في العالم الذي رفضه. وبولس يقف كالإناء المختار يحمل اسم سيده وهو يذكر هذا. بل ويفتخر به في معرض إمتداحه لأنيسيفورس وتبيان فضله إذ يقول عنه ((لم يخجل بسلسلتي)) (2تي16:1)).
يقول الرسول بولس لأخوه فليبي أن وثقه صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وباقي الأماكن أجمع (في12:1و13) أي أن قيوده أصبحت ظاهرة أنها ليست ذنب أرتكبه بل بسبب شهادته للمسيح ويسميها قيود الإنجيل وقد آل ذلك إلى تقدم الإنجيل, فإن كان الناس يقدرون آلام شاهد المسيح ويؤول ذلك لمجد المسيح فبالحري يكون تقدير المؤمنين لآلام الرسول ويزداد حبهم له. وإن حالته الراهنة أدعى لإظهار الطاعة له في غير توان أو تردد. ولكن من الناحية الأخرى كما كانت نفس بولس ممتلئة وشبعانة بروح المسيح الذي في حياته على الأرض أظهر الطاعة الاختيارية المستنيرة إذ يردف قائلاً:
(ولكن بدون رأيك لم أرد أن أفعل شيئاً لكي لا يكون خيرك كأنه على سبيل الإضطرار بل على سبيل الأختيار) (ع14)
إن الرب يحب المعطي المسرور ولذلك هو يفرح بطاعتنا الإختيارية والباعث لها هو المحبة التي تعلمناها من الرب والتي لا تطلب ما لنفسها بعكس تصورات العبد الشرير عن الرب أنه سيد قاس يريد أن يحصل من حيث لم يزرع.
إنه يرينا فكرة ويكشف لنا عن طرق النعمة.وينير أذهاننا وعقولنا حتى نرى صلاحية وجمال ما يريده. ثم هو بعد ذلك يعطينا الفرصة لنتصرف بالحرية المسيحية. إذاً النتيجة الحتمية هي أن السلوك بالروح يكون معناه السير مع الرب في الطريق التي يرسمها. ومع أن هذا لابد أن يكون معناه وضع الجسد في حكم الموت. وبالتبعية آلاماً مستديمة إلا أن إمتيازنا الجديد المستنير يستطيع وهو سائر في هذه الطريق, ومهما كانت الآلام أن يهتف قائلاً (( طرقها (الحكمة) طرق نعم وكل مسالكها سلام (أم17:3) )).
كم من المرات تتساءل قلوبنا المسكينة قائلة هل هذا محتم؟ هل لابد من عمله؟ ولكن الله لا يخاطبنا بهذا الأسلوب فهو وإن كان لا يمكن أن ينكر سيادته وربويته إلا أنه يرينا ((ما يليق)) معتمداً على ذهننا المتجدد لتمييز ذلك, يخبرنا بما هو مرضي أمامه فهو يضع الأمور أمام عواطفنا ومحبتنا وعندئذ يأتينا القول ((إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي)).
ما أعمق الشركة مع المسيح التي لابد كانت عليها تلك النفس التي إستطاعت أن تقول ((ليس على سبيل الإضطرار)), وما أقل إدراكنا لنعمة المسيح. عندما نضع طاعتنا على أساس الأمر والنهي أو نقيسها بمقياس الواجب بدلاً من إعتبارها ثمراً طبيعياً من أثمار الحياة الجديدة التي فينا, إذ أن الحياة المقترنة بالمسيح التي كان يعلم بولس بوجودها في فيلمون. هي التي كان يسعى لمخاطبتها والوصول إليها عندئذٍ تأتي الطاعة مختارة طبيعية وسهلة. ليس طبيعياً في الحياة المسيحية أن يكون السلوك مصدره الضرورة أو الإضطرار فهو يكون أشبه بخروج الإنسان عن طريقه بدلاً من السلوك المسيحي بالروح ولذلك فإن ما يحتاج إليه المسيحي الحقيقي هو الإتصال الشخصي بالرب نفسه حتى يعرف أفكاره ويتعلم طرقه وعندئذ تصبح الطاعة حتى وإن كان يتعلمها عن طريق الآلام طاعة إختيارية. غير أن هناك نقطة صغيرة أخرى جديرة بالملاحظة مرتبطة إرتباطاً كبيراً بالتلمذة للمسيح. فقد يكون هناك أشياء وما أكثرها لا يوحي بها الرب باعتباره رباً وسيداً ولكنه مع ذلك يعلمنا إياها باعتباره معلماً. ولاشك أن أغلب التناقضات في حياة الكثيرين يبررها أصحابه باعتبارها غي محرمة أو إنه لا يوجد في الكلمة نص صريح بخط سير معين ولكن هاهو الرسول يضع الأمر في نصابه عندما يقول ((لكي لا يكون خيرك كأنه على سبيل الإضطرار)) أمر هام أن نعلم أن الكثير جداً من الأمور التي يتزين بها الإنجيل ليست محتمة علينا بوصايا صريحة بل نتعلمها في مدرسة المسيح لأنه هو معلمنا الوحيد, وكل من صار كاملاً يكون مثل معلمه.
(لأنه ربما لأجل هذا إفترق عنك إلي ساعة لكي يكون لك إلى الأبد) (ع15)
((لأنه ربما)) لم يرد أن يؤكد هذا الأمر باعتبار كونه رسولاً ويكشف لفيلمون أسرار العناية الإلهية بل تكلم كصديق ينبىء صديقه بما يمكن أن يكون قصد الله بسماحة بأن يتركه أنسيمس لأجل هذا أي لكي يكون له إلى الأبد, أي أن الله سمح بأن يخسر فيلمون هذه الخسارة بهروب عبده لكي يحوله إلى منفعة أعظم من الأول بواسطة إيمانه بالمسيح ورجوعه إليه, كقول يوسف لأخوته ((والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم.. فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله)) (تك5:45_8) وأراد الرسول بقوله ((إلي ساعة)) أن يشير إلى المدة الوجيزة بالمقابلة مع العلاقة التي صارت بينهم إلى الأبد.
((لأنه ربما لأجل هذا إفترق عنك إلي ساعة لكي يكون لك إلى الأبد)) فهنا نجد تلميحات إلى الحقيقة الواقعة وهي أن أنسيمس قد أساء إلى سيده_ قد سرق أو أختلس_ وهل الله يبرر عدم الأمانة أو الأختلاس؟ حاشا ((لأن الظالمين لا يرثون ملكوت الله)) (1كو9) إن عدم أمانة أنسيمس قادته إلى روما حيث يختفي المجرمون لكن النعمة قادته إلى بولس رسول يسوع المسيح ومن ثم حدث التغيير وقادته إلى الإعتراف الصحيح بما فعل وبالتبعية إلى التذلل الصحيح. ومع ذلك فستظل لاصقة به مذكرة إياه على الدوام بحقيقة ذاته ومانعة إياه من أن يفتخر بشيء سوى بنعمة الله التي إزدادت جداً فوق جميع خطاياه ولذلك بينما هو يشعر بالإطمئنان الكلي والإيمان العامل في محبة الله يشعر بالمذلة الكاملة والإتضاع الكلي فيما يتعلق بنفسه فإن كمال نعمة الله المطلق وكمال تطهير دم المسيح لكل خطيئة يعطي الخاطىء عند التبرير أعمق الشعور بكره للخطيئة. ولكن مامن شخصٍ لم يتعود تتبع طرق الله في الفداء كان يجسر على إبداء فكر كالذي نراه هنا. فهذا الفكر الذي يتناول حالة خاصة يتضمن أيضاً صورة عامة وهي أن الإنسان الساقط الهارب من الله كمخلوق قد أصبح بالفداء بيسوع المسيح مقبولاً من الله إلى الأبد. نرى الابن الضال تاركاً بيت أبيه إلى حين. ولكننا نراه بعد ذلك وبعد إختبار مرارة تصرفاته راجعاً في محبة الآب ومقبولاً منه إلى الأبد. إن الإنسان كمخلوق قد يترك وقد ترك فعلاً مركز البركة بعلاقته بخالقه, والإنسان كعبد لم يكن مرتبطاً بالله برابطة غير قابلة للأنفصال ولكن بعكس ذلك المولود من الله فقد أرتبط بالله برابطة لا تنفصم عراها قد قبله الله إلى الأبد. هذا هو فرح قلب الآب ((أخاك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالماً (لو27:15) وعندما عاد أنسيمس إلى فيلمون هل تظن أنه فكر في إعداد برنامج جديد للعصيان؟ كلا. لأنه ولد ولادة ثانية وأصبح إنساناً جديداً وخدمته الآن ليست خدمة الخوف بل هي خدمة المحبة. وهكذا كل مؤمن سلك بحسب النعمة الغنية التي خلصته والتي تعلمه أن ينكر الفجور والشهوات العالمية ويعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر وينتظر مجيء الرب.
(لا كعبد فيما بعد بل أفضل من عبد أخاً محبوباً ولاسيما إلي, فكم بالحري إليك في الجسد والرب جميعاً) (ع16)
يالها من بركة كانت لفيلمون أن يشاطر فرح السماء بخاطىء تاب بقبول أنسيمس لا كعبد فيما بعد بل أفضل من عبد أخاً محبوباً. فإن علاقتهما الواحد بالآخر كسيد وعبد سريعة الإنحلال ومصيرها إلى الزوال إن طال الزمان أو قصر.
كما هو مكتوب أن العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد (يو35:8) أما شركتنا معاً في المسيح فهي أبدية. والواقع أنه لو لم يكن هذا هو الحق الذي كان يعيش فيه الرسول لما استطاع أن يعبر عنه بهذه الصورة. إن نفسه المغبوطة كانت ساكنة وثابتة في الله ولذلك استطاعت أن تعبر تعبيراً صحيحاً عن طرق الله وأفكاره ولذلك يقول الرسول لفيلمون أن أنسيمس يكون أفضل من عبد أخاً محبوباً ولا سيما إلي فكم بالحري إليك في الجسد والرب جميعاً.
هذه الآية تبين شدة العلاقة بين المؤمنين بالمسيح فإنهم باتحادهم معاً بشخصه المبارك صار العبد أخاً مساوياً لسيده في كل الأمتيازات الروحية. مع بقاء العلاقة الأجتماعية حيث كان أنسيمس عبد وفيلمون سيداً له, ومع ذلك محبة المؤمن لأخيه في المسيح أقوى من أية علاقة طبيعية جسدية. فالمؤمن له شركة مع أخيه في أفراحه وأحزانه واستعداداً لأن ينكر نفسه بغية خير أخيه وهذا لا يلزم فيلمون أن يعتق عبده بل يستلزم أن يحبه محبة الأخ المسيحي بقي عبداً أو لم يبق.
(فإن كنت تحسبني شريكاً فاقبله نظيري) (ع17)
فإن كنت تحسبني شريكاً في خدمة المسيح وخدمة الإنجيل ورجاء المجد فاقبله نظيري كما قال أنفاً (فاقبله الذي هو أحشائي) (ع12) أي اقبله كأنك تقبلني لا كأنك تقبل أنسيمس العبد الذي عرفته قبلاً. فنرى في كلام بولس هذا مثالاً من كلام سيدنا وهو ممثلنا أمام الله كذبيحة المحرقة مقبولين فيه كقبوله تماماً ومحبوبين نظيره (يو23:17).
كان الرسول يشتاق أن يقاسم فيلمون هذه الشركة الإلهية المباركة ((شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح)) لقد كان من حظ بولس أن جعله الرب شريكاً في أعمق أفكاره. وقد عرف فيلمون أنه كان شريكاً للرسول في أشياء كثيرة مجيدة كالخلاص المشترك وكل ملء المسيح ولكن بولس كان يشتاق أن يشاركه بشيء آخر ((فاقبله نظيري)) يا لها من كلمات عظيمة وغالية ترينا كيف أن المؤمن مقبول في المسيح قبولاً كاملاً أمام الله مثل المسيح تماماً ((لأن المسيح صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء)) وفي الحديث الذي وجهه المسيح إلى الآب في (يو17) نجد هذه العبارة العجيبة ((أحببتهم كما أحببتني)) ما أجمل هذا إن عرفنا أنه بهذا يكون للرب شركة معنا ونحن معه وذلك في شخص كل قديس إذ يجعل من كل خاطىء قد آمن حلقة إتصال تربطه بنا ونحن به فإن قبلنا أحباؤه باسمه نكون بذلك قبلناه هو وبهذا نقاسمه فرحه. هذه هي الشركة العملية. ولا شك أن فيلمون كان يعرف بإرشاد الروح القدس وحكمته (وبقلب فائض بالشكر والممنونية للرسول) كيف يحول كلام الرسول إلى من هو أعظم منه إلى الرب يسوع الذي عليه وحده ينطبق الكلام في اسمى معانيه. ولا شك أنه ما من أحدٍ كان يستطيع أن يكتب بثقة ما كتبه الرسول هنا مالم يكن عائشاً في ملء قوة الشركة مع الله.
(ثم إن كان قد ظلمك بشيء أو لك عليه دين فأحسب ذلك علي) (ع18)
أليست هذه هي عين نعمة المسيح ذاك الذي ((وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الأخوة (1يو16:3) إنه قد احتمل كل شيء لأجلنا لذلك فمن واجب العبد السالك في أثر خطوات سيده أن يضع نفسه تحت تصرف السيد. ((إن كان قد ظلمك بشيء أو لك عليه دين)) بتركه إياك أو باختلاس شيء من مالك. ولا ريب أن ما افترضه الرسول كان حقاً لأنه ما كان ممكناً للعبد أن يسافر من كولوسي إلى روما بوسائل السفر ما لم يكن قد سرق من مال سيده - فأحسب ذلك عليَّ _ أي سامح أنسيمس بالدين وأحسبه علي. هل ظلمني أخي بشيء؟ إذاً فلننظر إلى المسيح. هو قد احتمل الظلم آه لو تعلمنا هذا. كم من غيظٍ وكم من نزاع وخصام كنا نتفاداه إن الله قد قبل هذا الأخ حاسباً ذنبه على المسيح. يا لها من بركة عظمى لنفوسنا أن نرى نفس الظلم الذي وقع علينا قد احتمله سيدنا من قبلنا.
((أنا بولس كتبت بيدي. أنا أوفي. حتى لا أقول أنك مديون لي بنفسك أيضاً)) (ع19)
يالغنى نعمة سيدنا أن العبد لا يمكن أن يتعهد بأكثر مما فعله سيده. ولا شك أن بولس كان يقول هذا القول على أساس معرفته اليقينية بطرق سيده. إن كان لنا دين على أخ فياليتنا لا ننتزعه منه إنتزاعاً. إن سيدنا تبارك اسمه قد كتب بيده هو يوفي ((لماذا لا تظلمون بالحري لماذا لا تسلبون؟)) ولنتأكد أنه لن يكون خاسراً من يترك شيئاً من أجل خاطر الرب. ويا له من إلتزام مزدوج للنعمة قد صار فيلمون تحته فهو مديون لنعمة الرب ومديون لنعمة خادم الرب. لا شك أن هذا قاده إلى الموافقة بفرح. ولا شك أن بولس في تعهده كان معتمداً على ما في فيلمون من عنصر الخير حاسباً أن له فكر المسيح مشتاقاً أن يرى هذا الفكر بارزاً بصورة عملية. ونحن كذلك يجب أن ندرب أنفسنا على حسبان هذا الفكر في أحدنا الآخر مقدمين الفرصة لأخوتنا لإظهاره عملياً. إن أنسيمس لم يكن لذاته بل كان لسيده. وفيلمون لم يكن لذاته بل كان لبولس وللمسيح ولكن الرب وخادمه الذي يعرف طرقه لم يرد أن تجيء موافقة فيلمون على أساس هذا المبدأ. ويال ه من درس جديد يتعلمه فيلمون. فمع أن الرب له كل الحق أن يطلب منا ما يريده لأننا ((لسنا لذواتنا)) إلا أن فرحه وسرور قلبه أن يوقفنا موقف النعمة لكي يكون تصرفنا مرضياً له.
((كتبت بيدي)) لم يكن من عادة الرسول أن يكتب بيده بل كان يستخدم من يكتب عنه (رو22:16) ولا ريب في أنه قصد أن يؤكد لفيلمون بخط يده أنه كان مستعداً أن يرد له كل ما أختلسه أنسيمس من ماله إذا أراد ذلك ((مديون لي بنفسك)) ذكره بما له عليه من الدين الروحي العظيم لما فعله من إطلاقه من عبودية الخطيئة والشيطان وقيادته إياه إلى معرفة المخلص. وهذا دين يعجز عن إيفائه وفي ذلك تلميح إلى فيلمون يُّسر بهذه الفرصة للأقرار بالدين بإجابته لطلبته.
(نعم أيها الأخ لي فرح بك في الرب أرح أحشائي في الرب) (ع20)
هاهو بولس قد أوقف فيلمون موقف النعمة ثم بعد ذلك يقول له ((نعم أيها الأخ ليكن لي فرح بك في الرب)) وكيف نفرح بالرب ما لم يكن الرب شريك هذا الفرح؟ إن الرب له المجد يتلذذ برؤية ثمر نعمته لذلك هو لا يفرض علينا شيئاً. ولا يريد أبداً أن يأخذ شيئاً على سبيل الإضطرار كذلك بولس كان يشتاق أن يرى أحشاؤه أي عواطفه الداخلية العميقة مستريحة ((أرح أحشائي في الرب)) كما استراحت أحشاء القديسين (ع7) من قبل بإيمان ومحبة فيلمون. حقاً كم كان جميلاً لنفوسنا إذا تفكرنا أكثر في أحشاء ربنا يسوع أي في عمق عواطفه عندئذ كنا نعرف بسهولة ما هو مرضي أمامه. وما هو مسر لنفسه. إنه من الأمور العجيبة حقاً أن لا يوجد شيء في هذا العالم يستطيع أن يجد فيه مسرته. ولكن من هناك من قلوب قديسيه تتصاعد رائحة السرور ذبيحة مقبولة مرضية لله (في18:4) ليكن لي فرحٌ بك في الرب إذا فعلت ما طلبت إليك في شأن أنسيمس. لأن الرسول يحسب أن استجابة فيلمون لطلبته هي نعمة من الرب فوق أنها معروف منه. لأن نعمة الرب كانت الواسطة في عطف قلب فيلمون لقبول إلتماسه.
((أرح أحشائي في الرب)) أجعل قلبي يمتلىء بالفرح. وبهذا أظهر الرسول شدة محبته لأنسيمس وثقته في قلب فيلمون. وما أجمل أن يمتلىء قلب الرسول بالفرح وتستريح عواطفه في الرب في قبول فيلمون لأنسيمس.
(إذ أنا واثق بإطاعتك كتبت إليك عالماً أنك تفعل أيضاً أكثر مما أقول) (ع21)
في (ع9) طلب الرسول العفو عن أنسيمس ((من أجل المحبة)) متنازلاً عن كل ما يحق له على فيلمون, باعتبار كونه رسولاً. وأما هنا في (ع21) فقد أظهر تأكده من أن إعتبار فيلمون إياه رسولاً وأباً محبوباً له يحمله على الطاعة له في ذلك الأمر.
((إذ أنا واثق بإطاعتك كتبت إليك)) نعم إن الله يعرف ما في الإنسان وهو يعرف كذلك ما هي الطبيعة الجديدة التي أودعها في المؤمنين إنها طبيعته والله لا يتعامل إلا مع الطبيعة الجديدة المعطاة منه. إنه لا يثق في الجسد إطلاقاً, أي نعم إنه طرحه جانباً ودانه في الصليب. ولكنه ينتظر الطاعة من الطبيعة الجديدة التي تستطيع أن تطيع الله وترضيه. وهذا ما حسبه الرسول واعتمد عليه.
((عالماً أنك تفعل أيضاً أكثر مما أقول)) إن إلهنا إله كل نعمة قد فعل أكثر مما كنا نطلب أو نفتكر, وهو يضعنا في موضع النعمة لكي نظهرها ونتصرف بموجبها في الوقت الذي له كل الحق أن يطلب كل شيء كالسيد المطلق السلطان. إن طاعة المؤمن لا يمكن أن تكون بأوامر محددة كطاعة العبد لأن من ذا الذي يضع قيوداً للمحبة؟ إننا ((مقبولين في المحبوب)) ((مقدسون للطاعة)) والنعمة تقودنا دائماً إلى أبعد من مجرد تنفيذ الطلب المعين المفروض علينا. فالرسول قد أخبر فيلمون بما يليق ثم يعطيه الفرصة بعد ذلك لتدريب نفسه وضميره أمام الله لكي يذهب بطاعته إلى ما هو أبعد من مجرد تنفيذ الطلب المطلوب منه إلى إظهار نعمة الرب الحقيقية.
هذا هو طريق الرب إنه لا يعاملنا كعبيد بل يعطينا مجالاً لعمل النعمة. فلن تكون هناك إراحة لأحشائه برؤية مجرد طاعة جبرية لأمر واضح صريح. ولكنه يتلذذ حقاً برؤية ثمر وحدتنا معه ظاهر فينا. ونحن هنا على الأرض وكل يوم يهيء لنا الفرصة لإظهار النعمة على هذا الوجه.
في دائرة الكنيسة نتعلم دروس النعمة, إذ لا يستطيع عضواً في الجسد أن ينفرد بذاته ويدعي إستقلالاً بذاته, وهذا يتطلب إنكار الذات وتضحيتها لأجل الآخرين إن الدوافع مصدرها الرأس الذي هو في السماء وهو المعلم وهو الدرس الذي نتعلمه أيضاً (أف20,21:4).
يتضح من القول ((إنك تفعل أيضاً أكثر مما أقول)) أن بولس كان يمتدح فيلمون لسمو حياته وثقة الرسول فيه بأنه سيعمل إكراماً لأجله على إطلاق أنسيمس حراً أو إعادته إلى رومية ليخدم الرسول. وفي الواقع أنه لو لم يكن فيلمون قد قبل أنسيمس, ما كانت لهذه الرسالة هذه القيمة الثمينة وما كانت قد وصلت إلينا في كلمة الله الموحى به.
- عدد الزيارات: 6596