الإصحاح الثالث: نبع أفراح المؤمن
رأينا في الإصحاح الثاني أنه يستحضر أمامنا نعمة الحياة المسيحية التي تنسى الذات لأجل الآخرين, وتسير بحسب مثالنا الكامل وهو المسيح في تواضعه. وفي الإصحاح الثالث هنا نرى قوة الحياة المسيحية التي تغلب المخاطر التي تهاجمنا، إنها تنسى ما وراء، وتدفعنا إلى المسيح غرضنا في المجد.
إننا نحتاج إلى كل من النعمة والقوة كما أشار واحد بقوله"إذا توفرت النعمة في حلاوة الصفات فالحاجة إلى القوة الروحية لإظهارها، أما إذا توفرت القوة فتصبح الحاجة إلى قدر من المرونة بالنظر إلى اعتبارات الآخرين".
وفي سياق هذا الإصحاح نجد التحذير من مخاطر محددة يسعى العدو لكي يمنع المؤمنين من أن يضيئوا كأنوار في العالم وأن لا يتمسكوا بكلمة الحياة و بذلك يفسدون شهادتنا للمسيح ونحن نعبر عالم ظلمة أدبية تحت ظل الموت.
وفي عددي 2و3 نحذر من أعمال الشر التي يعملها هؤلاء الذين أفسدوا المسيحية بتعليم التهود. ومن أعداد 4-16 نحذّر ضد الثقة في الديانة الجسدية . وفي أعداد 17-21 نحذّر ضد أعداء صليب المسيح وهم داخل دائرة الاعتراف المسيحي ولهذا نحتاج إلى القوة التي تغلب هذه المخاطر إذ يضع المسيح في المجد لنا كمصدر لا يفشل.
(ع1) وقبل التحدث عن المخاطر الخاصة التي تواجهنا فإن بولس يضع الرب أمامنا كالشخص الذي نفرح به. كان الرسول في السجن لمدة أربع سنوات و كان على وشك أن يجرَب في حياته. ولكن كيفما كانت ظروفه وكيفما عظم الفشل بين شعب اللَه، وكيفما كان تحذيرنا من المخاطر، فإن تحريضه النهائي "افرحوا في الرب". فالرب في المجد هو الشهادة الأبدية لشبع اللَه الأبدي بعمله على الصليب، وهو الذي فيه كل البركة صارت مضمونة للمؤمنين ومستقرة أيضاً. فإذا كان هو في المجد فإننا سنكون في المجد بالرغم من كل ما نتعرض له في الطريق سواء من ظروف التجارب أو فشل القديسين أو قوة العدو. ولهذا قيل "افرحوا في الرب".
(ع2-3) ولأنه يوجه أنظارنا نحو يسوع المسيح كالرب الذي ستجثو له كل ركبة ، فإن الرسول يحذرنا من مخاطر خاصة تواجهنا، فيقول: " احذروا الكلاب، احذروا فعلة الشر، احذروا القطع". ويبدوا أن عناصر الشر الثلاثة هؤلاء تشير إلى معلمي التهود داخل الدائرة المسيحية الذين يسعون لخلط الناموس بالنعمة. وهذا يعني استبعاد الإنجيل الذي تعلنه النعمة وإعادة الجسد الذي استبعده الإنجيل. ونحن متيقنين من أن هذا الشر يقاوم كل أساس للبركة ولذلك فإن بولس كان شديداً في حكمه. والكلب هو الذي يعود إلى قيئه بلا خجل.
وفضلاً عن ذلك فهؤلاء المعلمون يعظمون أعمال شرهم بقناع ديني. وحذّر الرب تلاميذه من مثل هؤلاء عندما قال: " ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا". فربما يعترفون بأنهم الختان الذين يرفضون الجسد، ولكنهم في الحقيقة يسعون لخلط الناموس بالنعمة، وهم منغمسون في ديانة الجسد أكثر من قطع الجسد. لهؤلاء يتعرض الرسول لهم بكلمات الازدراء.
وبالمباينة مع نظام المعلمين المتهودين فإن بولس يضع أمامنا الصفات البارزة للمسيحية. ففي المسيحية نجد الذين يرفضون الجسد وهم يكوَنون الختان الروحي الحقيقي " نعبد اللَه بالروح" وليس بالطقوس الدينية. يفتخرون في المسيح يسوع وليس بالناس أو بأعمالهم. ليست لديهم ثقة في الجسد ولكنهم يضعون ثقتهم في الرب.
هناك بالطبع شهوات الجسد التي يجب أن نحكم عليها ولكن الرسول هنا يحذرنا من ديانة الجسد إنها فخ أكثر خطورة للمسيحيين لأن ديانة الجسد لها مظهر براق للإنسان الطبيعي. وقال واحد " للجسد ديانة وله أيضاً شهوات. ولكن ديانة الجسد لا تقوم على قتل الجسد".
وكلمات الرسول لها بالتأكيد تحذيرها لنا في هذه الأيام الأخيرة, فظهور مثل هؤلاء المعلمين المتهودين مثلما كانوا يشكلون خطراً في زمان الكنيسة الأولى ، فقد تطور هذا الاتجاه ليكون في الديانة المسيحية خليطاً رهيباً من اليهودية والمسيحية. والنتيجة هي اتساع دائرة المعترفين بالمسيحية الذين اتخذوا الأنظمة والطقوس بدلاً من العبادة بالروح, وجعلوا أعمال الناس بحسب الناموس بدلاً من عمل المسيح بحسب الإنجيل، والتي تتوافق مع الإنسان بحسب الجسد ولكنهم لا يتعرضون لمسألة الولادة الثانية أو الإيمان الشخصي بالمسيح. وبعدما جعلوها على الطراز اليهودي فإن المسيحية أصبحت تحاكي المحلة اليهودية، لها صورة التقوى ولكنها تنكر قوتها. وبسبب هذا التشويش يحذرنا الرسول في بقية رسائله من الرجوع للوراء، وأن نخرج إلى المسيح "خارج المحلة حاملين عاره"( 2 تى 3: 5، عب 13:13).
(ع4-6) ويستمر بولس في عرض الصفات الباطلة لديانة الجسد إذ يسترجع حياته الخاصة قبل تجديده. فإذا كانت هناك أي ميزة في ديانة الجسد فستصبح أساساً لبولس يمكنه أن يستند عليه أكثر من الآخرين، فقد كان بلا منازع وبإخلاص رجلاً دينياً بحسب الجسد. وفي حالته نجد الطقوس الدينية بحسب الناموس في تطبيقها فقد كان مختوناً في اليوم الثامن، ويهودياً نقي السلالة. وبحسب حياته الدينية فقد ارتبط بالشيعة المستقيمة إذ كان فريسياً. ولا أحد يمكن أن يثير نقطة إخلاصه وغيرته، وللحفاظ على ديانته فقد اضطهد الكنيسة. وأما بحسب البر المتضمن في حفظ الناموس حفظاً خارجياً فقد كان بلا لوم.
(ع7) هذه الأشياء جميعها كانت مكسباً له كإنسان طبيعي وأعطته مكاناً بارزاً بين الناس ولكن في اللحظة التي استحضر فيها ليرى المسيح في المجد عندئذ اكتشف أنه أول الخطاة بالرغم من كل امتيازاته الدينية وقد أعوزه مجد اللَه. وفضلاً عن ذلك فقد رأى أن كل بركة تعتمد على المسيح وعمله. وأن المكاسب التي تدعم مركزه كإنسان طبيعي إنما هي خسارة لأجل المسيح. كما أن ثقته في حقيقة كونه عبرانياً من العبرانيين وأنه بلا لوم من جهة البر الذي في الناموس، فهذا معناه استبعاد عمل المسيح بأعماله الذاتية وأنه يفرح بذاته عوضاً عن فرحه بالمسيح.
(ع8-9)وفضلاً عن ذلك فإنه لم يكن فقط يحسب أن أعماله بحسب الديانة الجسدية هي خسارة منذ وقت تجديده، بل أيضاً من خلال سيره في الطريق استمر يحسب ذلك خسارة، فهو عندما يتطلع إلى الماضي يقول"قد حسبته"، ويمكنه أن يقول في الحاضر أيضاً "إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة". وليس فحسب الأشياء التي تكلم عنها يحسبها خسارة بل "كل الأشياء" التي يفتخر بها الجسد والتي تعطيه مكاناً في هذا العالم. كان بولس رفيع الميلاد وله مركز اجتماعي مرموق، ومواطن طرسوسي (وطرسوس لا تعني فقط مدينة بل مواطنة)، وهو متعلم تعليماً عالياً ومتربياً عند رجلي غمالائيل. ومعروف جيداً لدى رؤساء اليهود، وقد عمل بطريقة رسمية تحت سلطانهم، أما معرفة المسيح يسوع الذي يتكلم عنه باعتباره "ربي" فهو الذي يجعله يطرح جميع هذه الأشياء في الظل. إن فضل المسيح وامتيازه إذا قورنت معه كل الأشياء التي يفتخر بها الجسد تحسب من الرسول وكأنها نفاية. و عندما نأتي إلى هذا التقدير للأشياء فلن تكون صعوبة أن ندعها تعبر، فمن منا يعترض أن نترك تلال النفايات خلف ظهورنا؟
وفي هذا النص الذي يفحصنا بعمق فإن الرسول يضع أمامنا اختباره الشخصي، ولكن نفعل حسناً أن نتحدى قلوبنا لنعرف إلى أي مدى نكون تابعين للرسول, لأنه إذ ندخل إلى فضل معرفة المسيح يسوع ربنا والذي عندما نقارن معه أي امتيازات عالمية لتعطينا مكاناً بين الناس فإننا نحسبها نفاية ونطرحها خلفنا. ومن الطبيعي فإننا نفتخر بأي شيء يميزنا عن جيراننا ويعطينا كرامة، سواء في المولد أو المركز الاجتماعي أو الثروة أو الذكاء. قال واحد مرة "أي شيء تزين به نفسك – ولو كانت معرفة الكتاب – فإنه تمجيد للجسد. وأي شيء ولو كان قليلاً فهو يكفي ليجعلنا نسَر بأنفسنا. وملاحظتنا لتقصيرات للآخرين كافية تماماً للشعور بأهميتنا" (يوحنا داربي). ومن خلال فضل معرفة المسيح نكتشف بطلان ديانة الجسد والأشياء التي نكتسبها لأنفسنا كأناس طبيعيين، وإذ المسيح في المجد كالغرض الوحيد فإن الرسول يعبَر بحرية عن رغبات قلبه إذ يربط كل شيء بالمسيح كما قال "لأربح المسيح وأوجد فيه" و"لأعرفه"، "لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع".
وعندما يقول الرسول "لأربح المسيح" فإنه يتطلع إلى نهاية الرحلة. إنه يجري في سباق ويرى أن الهدف يكون مع المسيح ومثل المسيح في المجد. والمسيح هنا هو المثال للحياة المسيحية. والمسيح في المجد هو غرضنا، ذاك الذي نسعى إليه.
في ذلك اليوم العظيم يمكن للرسول أن يقول "وأن نوجد فيه". وسيرى أن كل بركة مضمونة للمؤمن على أساس عمله على الصليب إنما ترى فيه في المجد، وسوف يعني هذا أن برنا فيه، إنه ليس البر الناتج من أعمالنا الخاصة بل البر الذي هو نتيجة ما عمله اللَه بالمسيح. لقد أسلم اللَه المسيح لأجل خطايانا وأقامه لأجل تبريرنا. والمؤمن يأتي إلى تلك البركة بالإيمان. إننا متبررون بالإيمان.
(ع10 و 11) وفي ذات الوقت بينما يصمم على الوصول إلى المسيح فإن رغبة الرسول تعبَر عنها تلك الكلمات "لأعرفه" ونحن نريد أن نعرفه في كل محبته كما نتبينها في نعمة تواضعه وطاعته حتى الموت. نريد أن نعرفه في قوته الفائقة التي لنا كما نتبينها في قيامته. نريد أن نعرفه في مجده كالذي سنصبح مثله وسنبقى معه إلى الأبد. ولكي نعرفه في نعمة اتضاعه كالمثال لنا فإنه يعلمنا كيف نحيا لأجله، ولكي نعرفه في قوة قيامته فإنه سيمنحنا القوة لمواجهة الموت، وإذا تشبهنا ببولس فإنه يدعونا لألم الموت لأجل اسمه، ولكي نعرفه في المجد فإنه سيحفظنا مستمرين رغم كل المقاومات. إن رغبة الرسول العظيمة أن يصل إلى المسيح في المجد، ولهذه الغاية فقد أعَد لمشابهة المسيح في موته – وأن يموت لأجل جميع الذين مات المسيح لأجلهم, حتى ولو كان يعني هذا بالنسبة له موته كشهيد لكي يصل إلى حالة البركة للقيامة من بين الأموات.
(ع12) لم يزل بولس في الجسد ولذلك لم يدَع ولم يمكنه الادعاء بأنه قد نال المكافأة بأن يكون مع المسيح في المجد، وبالرغم من هذا فهي الغاية التي يسعى إليها. وفي سيره في هذا الطريق فإنه يسعى لتنمو معرفته بهذه الغاية المجيدة التي صارت من نصيبه بنعمة اللَه.
(ع13،14) ومع أنه لم ينل الجائزة ولم يدَع بأنه أدرك كل كمال تلك البركات المختصة بالمكافأة ولكن أمكنه أن يقول : "أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعله دعوة اللَه العليا في المسيح يسوع". وجميل لنا أيضاً إن كانت لنا مثل تلك النظرة للمسيح في المجد ومعرفة حقيقة الأمور التي هي قدام الرسول، وأن ننقاد إلى نسيان الأشياء التي هي وراءنا. إن بولس لم يحسب هذه الأشياء خسارة فقط بل نسيها أيضاً. ولا نستطيع نحن أن نفتخر بأشياء قد نسيناها.ومع كل بركة أخرى فإن دعوتنا العليا موضوعة لنا في المسيح.
(ع15-17) وبعدما وضع أمامنا الطريق الذي يسير فيه في هذا العالم، والروح التي يرتاد بها هذا الطريق، والغاية المجيدة التي يقوده لها الروح، فإنه يحرَضنا الآن إذ أن البعض يتمتع بهذا الاختبار المسيحي الكامل ليكون لهم نفس الفكر. وربما القليلون الذين اجتازوا هذا الاختبار المسيحي الناضج، ولهذا فإن اللَه قادر أن يقودنا ويعلن لنا البركات لمن ينسى ما وراء ويمتد إلى المسيح في المجد. ومع أنه قد تكون هناك اختلافات لتحقيق هذا الغرض الروحي، فليس من سبب لا يجعلنا نسير في ذات الخطوات. ربما واحد يرى الطريق بوضوح أكثر من غيره ولكن هذا لا يمنع أن نسير في ذات الطريق ونتطلع إلى ذات الاتجاه.
إننا نحرَض بأن نتبع الرسول في ذات الطريق الذي سار فيه، ولسنا فقط نتبعه بل أيضاً نتبعه معاً، ولنا فكر واحد وغرض واحد وبفكر الاتضاع الذي ينسى الذات وعيوننا على المسيح في المجد فإننا نجتذب بغرض واحد.
وعلينا أن نحدد هؤلاء الذين يسيرون هكذا. إنه ليس مجرد الاعتراف فقط أو الكلمات الجميلة التي ننطق بها ولكن الطريق الذي يتحدث عن حياة نعيشها و التي لها التقدير في نظر اللَه. وأمكن لبولس أن يقول "لي الحياة هي المسيح".
(ع18، 19) وبعد ذلك نحذَر، لأنه حتى في الأيام الأولى كان هناك كثيرون من المعترفين بين شعب اللَه، وكان سلوكهم يبرهن أنهم أعداء صليب المسيح ونهايتهم تكون الهلاك. إنهم بعيدون عن فكر التواضع الذي ينسى ما وراء، وعن التطلع إلى المسيح في مجده، وهم منصرفون إلى المشغولية بالأمور الأرضية. وإذا كان الرسول يحذر من مثل هؤلاء فإنه يحذر بالدموع. كان قد حذرنا من المعلمين المتهودين الذين ينادون بالديانة الجسدية. والآن يحذرنا من هؤلاء الذين يسعون أن يحولوا المسيحية إلى نظام متمدين ليقيم عالماً أفضل ومشرقاً. وهذا هو التفكير في الأرضيات. وهكذا يأتينا التحذير من عنصرين للشر ومنتشرين في الأيام الأخيرة, إحداهما تطالب بأن تكون المسيحية ديانة جسدية والأخرى تستخدمها لتحسين الجسد. وكلاهما يستبعد المسيح وعمله كما يستبعد الصفة المسيحية السماوية.
(20، 21) وبالمباينة مع هؤلاء فإن الرسول أمكنه أن يقول عن المؤمنين أن روابطهم في السماء "التي منها ننتظر مخلصاً، الرب يسوع المسيح" فعند مجيئه ستتغير أجساد تواضعنا لتكون على صورة جسد مجده. هذا التغيير سيتم بالقوة حيث المسيح قادر "أن يخضع لنفسه كل شيء". إن كل قوة ضدنا سواء كانت الجسد الذي فينا أو الشرير الذي هو خارجنا أو العالم المحيط بنا أو حتى الموت- إنما المسيح قادر أن يخضع هذه القوى جميعاً. ولذلك فإنه في بداية الرحلة استحضرنا لإدراك شيئاً من فضل امتياز معرفة المسيح يسوع ربنا، وفي النهاية بدلاً من كل القوى المضادة فإننا سنكون معه في العلى و سنكون مثله لابسين أجساد المجد.
إنه بهذا الرجاء المجيد الذي أمامنا يمكننا أن نتحدى قلوبنا إذ نطرح هذا السؤال الذي قاله أحدهم "هل المسيح ببساطة شديدة هو الغرض الوحيد المتفرد لنفوسنا، وبالتالي يصبح هو القوة لاستبعاد كل ما يلصقنا بالماضي وكل ما يوقعنا في شباك الحاضر مما يجعلنا نهرب من آلام الصليب، ونخشى كل خطط وتوقعات ومخاوف المستقبل؟".
- عدد الزيارات: 3746