Skip to main content

الإصحاح الثاني: المسيح كالنموذج الكامل للمؤمن

في ختام الإصحاح الأول علينا أن نتذكر أنه ليس علينا أن نؤمن بالمسيح فحسب بل أيضاً أن "نتألم لأجل اسمه". فإذا كان المسيح قد واجه الخصم في طريق سيره في هذا العالم، فلنتحقق بأنه كلما كان المؤمنون أكثر إظهاراً للمسيح كلما تعاظمت مواجهة الخصم. فعلينا أن نعد للصراع مثل القديسين في فيلبي الذين تميزوا بالكثير من فضائل المسيح ونعمته وقد وجدوا أنفسهم لهذا السبب في مواجهة الخصوم.

ومن الإصحاح الثاني نتعلم أن العدو كان يسعى لإفساد شهادتهم للمسيح ليس فقط بجعلهم يواجهون الخصوم الذين من الخارج ولكن أيضاً بإثارة الخصام داخل الدائرة المسيحية. وفي العددين الأولين يستحضر الرسول أمامنا أولا هذا الخطر الرهيب، وثانياً نتعلم من العددين 3 و4 بأن الوحدة بين شعب الرب يمكن أن تًحفظ بأن يكون لكل واحد الفكر المتواضع. وثالثاً لكي يكون لنا هذا الفكر المتواضع فلتكن أعيننا موجهة للمسيح كالمثال لنعمة المسيح كما يتضح من العدد 5-11. ورابعاً فالنتيجة المباركة لأولئك الذين يعيشون بحسب نموذج تواضع المسيح أنهم يصيرون شهادة للمسيح كما يوصف في أعداد من 12-16. وفي نهاية يختم الإصحاح بأن يستحضر أمامنا ثلاثة أمثلة من القديسين الذين تميزت حياتهم بالتواضع وإنكار الذات عند التعامل مع الآخرين ع17-30.

(ع1-2): ويًقر الرسول بسرور أنه من خلال ما أظهره القديسون من تقوى ورحمة من نحوه في كل تجاربه فقد تذوق التعزية التي للمسيح وأيضاً لخاصته. لقد تشجع بمحبتهم والشركة التي انسابت من الروح لتربط قلوبهم بالمسيح ومسراته. إنه تحقق يقينا بعواطف المسيح التي ظهرت في القديسين عندما كان يعاني من التجارب والضيقات (ص4: 14). وكل هذه البراهين التي كانت تظهر تقواهم أعطته أني يفرح فرحا عظيما. إنه يرى على كل حال أن العدو يسعى أن يفسد وحدة شهادتهم للمسيح وذلك بإثارة المنازعات في وسطهم ولهذا يقول لهم "تمموا فرحي حتى تفتكروا فكراً واحدا ولكم محبة واحدة بنفس واحدة". وبشعور رقيق جداً يشير الرسول إلى نقص وحدانيتهم مما يكشف خطورة الأمر إذ لنا أربعة إشارات في بيان رسالته فهو يُحرض هؤلاء القديسين أنهم "يثبتون في روح واحد بنفس واحدة" (1: 27). وهنا يًحرضهم أن يكونوا بفكر واحد. وفي الإصحاح الثلث أمكنه أن يقول "ونفتكر ذلك عينه" (3: 16). وفي الإصحاح الرابع نرى التحريض لأختين أن تفتكرا فكرا واحدا في الرب" (4: 2).

(ع3 و4): ولاعتبارات رقيقة إزاء مشاعرهم التي اتسمت بالضعف فإن العلاج هو في أن يًظهر كل واحد روح التواضع. ولذلك يحذرنا أن نفعل شيئاً بروح النزاع أو العجب وهذان هما السببان الرئيسيان لفشل الوحدة بين شعب الرب. وليس معنى هذا أننا لا نبالي بالأخطاء التي تقوم بين شعب اللّه ولكننا نًحذّر من مواجهتها بروح غير مسيحية. ويا للأسف فغالبا ما تصبح المصاعب والمشاكل فرصة لإظهار أخطاء غير محكوم عليها إذ لم نأت بها إلى النور مثل الحسد والخبث والعُجب الكامنة في القلب. هذه التي تقود إلى النزاع والتي يقاوم بها أحدنا الآخر فنستخف بها بعضنا البعض، وكذلك العُجب الذي يسعى إلى تمجيد الذات. فكم نحتاج أن نحكم على قلوبنا. كما جاءت ملاحظة لواحد فقال "إن المسألة ليست في واحد منا بل في تركيز الاهتمام بالذات".

وللهروب من هذا الخطر كم نحتاج إلى التحريض "بتواضع (الفكر) حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم". ونستطيع أن نتمم هذا التحريض إذا تجاهلنا أنفسنا وخصالنا الحسنة لنتطلع إلى ما في الآخرين. وهذا النص لا يتكلم عن مواهب بل عن خصال أدبية تميز كل القديسين. وفضلاً عن ذلك فإنها تفترض قديسين يعيشون في حالة أدبية صحيحة. فإذا استمر أخ في طريق الشر فليس لي التحريض بان أحسبه أفضل كثيرا من نفسي إذا كنت سالكا في وضع صحيح. ولكن بين القديسين الذين يعيشون في الوضع الصحيح أي الحياة المسيحية المعتادة فإنه من السهل لكل نما أن يقدر الآخرين أكثر من نفسه إذا كنا في قرب من الرب، لنه في حضرته نكتشف شرور الجسد الخفية مهما كانت حياتنا في الخارج صحيحة أمام إخوتنا ونرى الكثير من عيوبنا وفشلنا، وكم نحن فقراء أمامه عندما نقارن أنفسنا مع شخصه المبارك. وعندما نتطلع إلى إخوتنا فإننا لا نرى بعد عيوبهم الخفية بل بالحري خصالهم الحسنة التي صارت لهم بفضل نعمة المسيح. وهذا بالتأكيد يحفظنا في التواضع ويجعل كل منا يُقدر الآخر أكثر من نفسه، وعلينا أن نتحرر من روح العُجب التي تقودنا إلى النزاع والتي تكسر وحدة القديسين. ومن الواضح أن الوحدة الحقيقية بين شعب الرب لا تحقق بالمساومة على الحق بل بأن يكون كل واحد منا في حالة أدبية صحيحة أمام الرب وبفكر متواضع.

(ع5-8): ولإيجاد هذا التواضع فإن الرسول يوجه نظرنا نحو المسيح كما يقول "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً". إنه يعطينا صورة جميلة للتواضع الذي في المسيح أيضاً إذ اتخذ طريقه من مجد اللاهوت إلى عار الصليب. ولهذا نرى المسيح أمامنا في كل نعمة تواضعه كمثالنا الكامل. فإذا كان القطيع يتبع الراعي، فإن عيون الخراف تتجه نحوه، وبهذا فقط عندما تثبت عين كل منا عليه يمكن أن يحتفظ القطيع بوحدته. وكلما اقتربنا أكثر للمسيح كلما اقتربنا من بعضنا البعض.

إننا في المسيح نرى السجايا الحلوة التي ظهرت فيه، في كماله الأدبي ظهر تواضعه عندما استعبد كل فكر ذاتي متخذاً طريق العبد طائعاً حتى الموت. وفي إتباع هذا الطريق فإن الرسول لا يرينا فقط كل خطوة قد نزلها ولكن يرينا أيضاً الفكر المتواضع الذي اتخذه المسيح في هذا الطريق- وليس في الإمكان أن نتبع كل خطواته لأننا لم نكن قبلا في الأعالي التي نزل منها ولم يُطلب منا أن ننزل كذلك إلى الأعماق التي ذهب إليها، بل إننا نُحرض بأن يكون لدينا فكره في تلك الخطوات التي اتخذها.

إن نظرنا يتجه أولاً للمسيح في أقصى عُلّو له إذ كان "في صورة اللّه"، فقد كان فكره أنه "لم يحسب خلسة". إنه لم يعبأ بنفسه ولأجل تتميم إرادة الآب وضمان بركة شعبه فقد أُعد اتخاذ مكان التذلل والإتضاع واستطاع أن يقول من جهة مجيئة إلى العالم "هأنذا أجئ.. لأفعل مشيئتك يا اللّه" (عب 10: 7).

وثانياً: فإنه بهذا الفكر اتخذ الرب صورة العبد. وعندما كان على الأرض أمكنه أن يقول لتلاميذه "أنا بينكم كالذي يخدم" (لو22: 27). قال واحد "إن المسيح لم يأخذ صورة العبد فحسب ولكنه لن يتخلى عنها.. في يوحنا 13 عندما كان ربنا المبارك ذاهبا إلى المجد فقد نقول أن الخدمة اقتربت من نهايتها ولكن الأمر ليس هكذا، إنه ينهض حيث كان جالساً بينهم كرفيق، ويقوم ويغسل أرجلهم وهذا ما يفعله الآن.. وفي لوقا 12 نتعلم أنه يستمر في خدمته في المجد"إنه يتمنطق ويتكئهم ويقوم فيخدمهم".. إنه لن يتخلى عن خدمته. إن الأنانية تجعلنا نحب أن نُخدم أما المحبة فتحب أن تخدم، هكذا المسيح لم يتخل عن الخدمة لأنه لم عن المحبة" (يوحنا داربي).

وثالثا: فإن الرب لم يأخذ فحسب "صورة العبد" وإنما "صائراً في شبه الناس" فقد كان بإمكانه أن يصير عبداً متخذاً هيئة الملائكة- إذ هم مرسلون للخدمة، ولكنه صار أقل من الملائكة "إذ وُجد في الهيئة كإنسان".

ورابعا: إذ كان الرب في صورة الناس فإنه رفض أن يستخدم هذا الوضع ليُعظم نفسه بين الناس. وفكره المتواضع قاده أن يتضع- إذ وُلد في إسطبل وأُضجع في مزود وعاش بين المُذلين في هذا العالم.

وخامسا: وإذا كان قد وضع نفسه لكي يسير مع المُذلين فمن حقه أن يأخذ مكان الحكم في العالم- وهو المكان الذي له بحسب سلطانه، ولكنه كان يتحرك بفكر الاتضاع فصار طائعاً وعند مجيئه إلى العالم قال: "إني أفعل كل حين ما يرضيه". وعند خروجه من العالم قال: لتكن لا إرادتي بل إرادتك.

سادسا: وبفكر الاتضاع هذا كان الرب لم يُطع فحسب ولكنه أطاع حتى الموت.

سابعا: وبفكر الاتضاع هذا لم يواجه الموت فحسب ولكنه خضع لأكثر صورة مشينة للموت يمكن أن يتعرض لها إنسان حتى الموت موت الصليب.

وإذ نتتبع هذا الطريق العجيب في نزوله المتوالي من أعلى نقطة في المجد إلى صليب العار، ليتنا لا نقنع فقط بهذا الجمال الأدبي الذي يمكنه أن يُبهر حتى الإنسان الطبيعي ولكننا نحتاج نعمة لا لكي نتعجب فحسب بل أن تترك فينا التأثير العملي في حياتنا بحسب التحريضات التي يدفعنا لها الرسول "ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً". ففي نور هذا التواضع الذي نراه في يسوع نستطيع أن نتحدى قلوبنا لنعرف كم تباعدنا وصار فينا المجد الباطل الذي يتفق وطبيعتنا، ونسعى بالاتضاع إلى نسيان ذواتنا لنخدم الآخرين بالمحبة ونُظهر شيئاً من نعمة التواضع التي للمسيح

نحن نتعجب في فكر تواضعك

وبسرور نرغب أن نكون مثلك

وكل راحتنا وسرورنا فيك

عندما يا رب نتعلمك

(ع9-11): فإذا كانت قلوبنا قد انجذبت للمسيح إذ نراه نعمة تواضعه ونزوله الشديد من المجد إلى الصليب، فإننا نراه أيضاً في أكثر النماذج كمالاً في الحق "كل من يضع نفسه يرتفع"(لوقا 14: 14). نعم "أخلى نفسه" ولكن اللّه "رفعه أيضاً" (أي مجّده حالياً). فإذا كان فكر الاتضاع ذهب به إلى أن يأخذ المكان الأدنى من الجميع فإن اللّه أعطاه "اسماً فوق كل اسم" ومكاناً ممجداً فوق الجميع. وفي الكتاب نجد أن "الاسم" يرينا شهرة الشخص. وهناك كثيرون صاروا مشهورين في تاريخ العالم وحتى بين قديسي اللّه، أما شهرة المسيح كإنسان فقد فاقت الجميع. وعلى جبل التجلي فإن التلاميذ في جهلهم أرادوا وضع موسى وإيليا في مستوى يسوع. ولكن هؤلاء رجال اللّه العظام اختفوا من المشهد وبقي "يسوع وحده" وصوت الرب سُمع قائلاً "هذا هو ابني الحبيب".

إن اسم يسوع يُعبر عن شهرة هذا الإنسان المتضع، وهو يعني كما نعرف المُخلص ومثل هذا هو الاسم الذي فوق كل اسم. أفلا نقول إنه الاسم الوحيد الذي اتخذه الرب لكي يُعبر عن نزوله من المجد إلى صليب العار- لكي يعطى الخلاص والأمان؟ وعلى الصليب كُتب "يسوع" والناس في استهزائهم قالوا "لينزل من على الصليب". ولكن هل فعل ذلك؟

وهذا معناه إنه كان عليه أن يتخلى عن اسم "يسوع". إنه لو يزل هو الخالق واللّه القدير ولكنه هل يتخلى عن اسم "يسوع" المُخلص؟ مبارك اسمه فاتضاعه قاده للطاعة حتى موت الصليب ونتيجة ذلك أن كل ركبة ستجثو لاسم يسوع وكل لسان سيعترف بأن يسوع المسيح رب لمجد اللّه الآب.

(ع12-13): كان الروح يقودنا لكي نحدق النظر في المسيح في كل نعمة اتضاعه. ويأتي التحريض لنا بطاعة تحريضات الرسول بأن نحكم على كل ميول الجسد فينا للمخاصمة والنزاع والمجد الباطل وأن نسعى للسير بروح التواضع الذي في المسيح مثالنا الكامل. ولهذا فعلينا أن نقاوم جهود العدو لزرع الخصومات بين القديسين وعندما كان الرسول حاضرا بين المؤمنين هناك فإنه كان يحفظهم من هجوم العدو وأما الآن فبالأكثر في غيابه يحتاجون للحذر ضد الخصوم خارج الدائرة المسيحية والصراعات الداخلية. والسلوك بروح المسيح المتضع يجعلهم حقاً يتممون خلاصهم من كل محاولات العدو لكسر وحدتهم وإفساد شهادتهم للمسيح، بل يتممون خلاصهم من العدو "بخوف ورعدة". وعندما نتحقق من إغراء العالم المحيط بنا وضعف الجسد فينا وقوة الشرير المضادة فإننا حقا نخاف ونرتعب. ولكن أليس الخوف والرعبة ترتبطان أيضاً بما يتبع ذلك؟ لهذا يضيف الرسول على الفور "لأن اللّه هو العامل فيكم". وبينما لا ننسى نحن القوة الجبارة المضادة لما فلنخف لئلا نستخف ونهمل قوة اللّه العظمى التي لنا والتي تعمل فينا, "أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة". إن اللّه لا يقودنا فحسب لكي نعمل بل أيضاً لكي نريد بحسب مسرته. وهذه حقاً هي الحرية. وبعيداً عن الإرادة يصبح العمل مجرد عبودية للقانون. ونحن بحسب الطبيعة نحب تتميم مسرته ولهذا فإن فكر المسيح المتضع مثالنا الذي أمكنه أن يقول "أفعل مشيئتك يا إلهي سررت" (مز40: 8).

(ع14-16)" وعندما تكون أعيننا على المسيح، وبقدر ما يكون لنا فكر اتضاعه، عندئذ سوف لا نخلص من إغراءات العالم وقوة العدو فحسب بل ستصبح بالتأكيد لمسرة اللّه والتي نجدها بكل وضوح في حياة المسيح، الذي أمكنه أن يقول "إني أفعل كل حين ما يرضيه" (يو8: 29). ولذلك فإن التحريضات التالية تستحضر لنا صورة جميلة للمسيح.

قيل لنا "افعلوا كل شيء بلا دمدمة (أو تذمر) ولا مجادلة". لقد تأوه الرب حقاً على أحزان الناس ولكن لم تُصدر شفتاه دمدمة أو تذمر مطلقاً. وصحيح ما قيل "يسمح اللّه بالأنين ولا يقبل التذمر". ومرة فعلينا أن نحذر "المجادلات" التي تجعلنا غير راضين على طريق اللّه معنا وكيفما كان الطريق صعباً أمام الرب ولكن لم يطرأ على ذهنه أي مجادلة تجاه طرق اللّه معه ولم تخرج من شفتيه كلمة تذمر. وعلى عكس ذلك عندما فشلت خدمة النعمة التي قدمها لكي تلمس قلوب الناس بل اتهموه بأنه يعمل هذه الأعمال بقوة إبليس, أمكنه أن يقول "نعم أيها الآب لأن هكذا قد صارت المسرة أمامك" (متى11-26). إنه حسن لنا عندما نواجه أي إهانة أو تجربة أن نتبع خطواته، ونخضع بلا مجادلة لما يسمح به اللّه بذات روح الاتضاع التي للرب. فإذا سلكنا في هذه الروح فسنصبح بلا لوم أمام اللّه وبلا عيب أمام الناس. إنه يُعبر مرة أخرى شيئاً عن كمال المسيح، إذ كان "بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة" (عب7: 26). وفي إتباع خطواته نصبح "أولاد اللّه بلا عيب". واستطاع الرب أن يقول "من أجلك احتملت العار" (مز 69: 7) ولكن لا نجد أي تعبير ضده بسبب طريق شرير سار فيه ، بل على العكس قال الناس عنه "إنه عمل كل شيء حسناً" (مر7: 37). ونحن أيضاً صار لنا الامتياز أن نحمل التعيير لأجل اسمه ولكن لنحذر من أي شيء في طرقنا وفي كلماتنا بما لا يليق كأولاد للّه مما يستدعي التعيير. إنه بالسلوك الحسن الذي لا يمكن أن يقاوم نظهر أننا أولاد اللّه في وسط جيل معوج وملتو ليست لديهم علاقة باللّه. وأمكن لموسى في يومه أن يقول: "إله أمانة (حق) لا جور فيه. صدّيق وعادل هو"، ثم يضيف للتو إذ يجد نفسه في وسط أناس قد افسدوا أنفس8هم وهم ليسوا أولاده "جيل أعوج وملتو" (تث 32: 4 و5). وبدلاً من نور المسيحية فالعالم لم يتغير. إنه لم يزل عالم رجاله "الفرحين بفعل السوء والمبتهجين بأكاذيب الشر، الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم" (أم2: 15). وقد تركنا في عالم كهذا لنضئ بينهم "كأنوار في العالم" ولنوجد "متمسكين بكلمة الحياة". ومرة أخرى نتبع طريق الرب الذي كان هو "نور العالم" والذي قال "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة". والنور يستحضر لنا الشخص أكثر من الكلام. والتمسك بكلمة الحياة تتحدث عن شهادة ترتبط بإعلان الحق المختص بكلمة اللّه. إن حياتنا تعكس شيئاً من كمال المسيح وكلماتنا تتكلم عن طريق الحياة.

فإذا كانت نتيجة خدمة الرسول أن القديسين يصير لهم فكر المسيح المتواضع وبذلك يكونون شاهدين للمسيح فإنه سيفرح حقاً بهم ويقول "إني لم أسع باطلاً ولا تعبت باطلاً". وهنا يميز الرسول بين "الحياة" و"الشهادة". أفليس سعيه يتحدث عن أسلوب حياته وتعبه يتحدث عن خدمته؟.

وفي التحريضات السبعة للرسول أفلا نرى صورة حلوة لحياة معاشة بحسب النموذج الكامل المرسوم في المسيح؟ حياة ليس فيها تذمر على نصيبنا، ولا مجادلة على ما يسمح اللّه به من تجربة في طريقنا، ولا لوم على أي شيء نقوله أو نفعله، ولا إساءة للآخرين على كلماتهم أو مسلكهم، ولا شيء في حياتنا يستدعي التوبيخ بما لا يتفق مع كوننا أولاداً للّه، لنضئ كأنوار في عالم مظلم، ومتمسكين بكلمة الحياة في عالم الموت. وهكذا يجب أن نعيش لمسرة اللّه ومجد المسيح ومعونة القديسين وبركة العالم لتكون لنا المكافأة في يوم يسوع المسيح. فلو كان كل القديسين عيونهم مثبتة على المسيح ويعيشون هذه الحياة الجميلة فلن يكون صراع في دائرة المسيحية، وسنصبح رعية واحدة تتبع راع واحد.

(ع17 و18): وفي الأعداد الباقية من الإصحاح تعبر أمامنا ثلاثة أمثلة في حياة المؤمنين الواقعية التي تُظهر بقياس كبير تواضع المسيح الذي ينسى الذات في خدمة الآخرين ويُظهر كأنوار في العالم ويتمسك بكلمة الحياة.

أولاً في الرسول نفسه وبالتأكيد فإن روح اللّه يريدنا أن نرى واحداً قد عاش بحسب نموذج المسيح. إن إيمان القديسين الفيلبيين في تسديد حاجاته صارت كذبيحة في خدمته. ولكن لو أنه يتألم لأجل المسيح. ولهذا السبب يدعو هؤلاء القديسين أن يفرحوا. ولذلك يُظهر التواضع في مراعاة الآخرين ونسيان وإتباع المسيح حتى الموت.

(ع19-24): وينتقل الرسول للحديث عن تيموثاوس، وهو نظير نفسه، وقد تميز بفكر الاتضاع الذي ينسى الذات للتفكير في خير الآخرين. يا للأسف! فقد صارت الحالة العامة للكنيسة في البداية حتى في أيام الرسول التي تدانت في سقوطها وتباعدت عن هذه الصفة المحببة التي تنكر الذات، فقال "لأن الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح". وقد وجد الرسول في تيموثاوس واحداً يعتني بالآخرين ويخدم معه متمسكاً بكلمة الحياة في الإنجيل. وإذ نرى تيموثاوس متميزاً بفكر الاتضاع الذي للمسيح فإن بولس استخدمه في العناية بالقديسين وآملاً أن يرسله إلى كنيسة فيلبي حالما يجد نهاية لتجربته؟

(ع25-30): وفي النهاية نجد في أبفرودتس مثالاً مؤثراً لمن له فكر المسيح المتضع الذي ينسى ذاته راغباً في خير الآخرين. فهو ليس فقط أخاً في المسيح ولكنه أيضاً رفيق في عمل الرب، وجندي عامل للدفاع عن الحق ورسول القديسين وخادم لتسديد احتياجات الرسل. لقد كان في محبته المضحية مشتاقاً إلى القديسين ومثقلاً جداً ومغموماً لئلا يسبب لهم الحزن بسبب مرضه. والحقيقة أنه قارب الموت ولكن اللّه في رحمته خلصه. أما بولس فلم يفكر في نفسه وكيف أنه سيفتقد رفيقاً له تقديره ويرسله هذا الخادم المحبوب إلى الفيلبين لفرحهم. وإن شخصاً كهذا عليهم أن يقبلوه في الرب بكل فرح وتكريم. ويضيف الرسول كلمة مباركة جداً ترينا نوع التكريم الذي له التقدير في نظر اللّه. لقد تميز أبفرودتس بالأمانة في عمل المسيح وبفكر الاتضاع على مثال المسيح، إذ واجه الموت في خدمته لأجل الآخرين.

ونلاحظ في الأيام كيف أن الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم، ولم يعد للقديسين ذات الفكر مع الرسول، عندئذ لن يصعب اندهاشنا أنه في الأيام الأخيرة نجد الانقسام والتشتت بين شعب اللّه. كما رذرفورد في يومه "هناك شك في أن يكون لنا قلب واحد حتى يتحقق لنا سماء واحدة". وعلى الرغم من هذا فإننا نتشجع بهذه النماذج المشرقة للقديسين من لهم سمة الفكر المتضع. وكم هو حسن أن نتطلع بعيداً عن كل خراب محيط بنا إلى المسيح مثالنا مجتهدين أن نسير بحسب فكره، وبهذا نصبح بقياس محدود وضئيل شهادة للمسيح. ونسير في هذا العالم بحسب مسرة اللّه وصلاحه

أيها الصابر الذي بلا عيب

قلوبنا تتدرب في وداعتك

لنحمل نيرك ونتعلم منك

فنستريح فيك

  • عدد الزيارات: 5107