تقديم الرسالة
"فيلبي" مدينة في شرق مكدونية والاسم القديم لها "كرنيدز". وتقع على بعد تسعة أميال من بحر إيجة. خلع عليها الملك فيليب أبو الإسكندر اسمه عليها. أما أُغسطس قيصر فجعل من هذه المدينة مقاطعة رومانية. زارها الرسول بولس رسول الأمم العظيم في رحلته التبشيرية الثانية, وزارها كأول مدينة في أوربا منادياً فيها بنور الإنجيل.
كان بولس وسيلا في حيرة إزاء الباب المغلق في خدمة الإنجيل في آسيا. ثم رأى بولس رؤيا رجل مكدوني يمد يديه غليه قائلا أُعبر إلينا وأعنا, ويتحقق بولس أن الرب يدعوه للتبشير هناك. وخارج المدينة عند نهر حيث جرت العادة أن تقام الصلاة هناك لبعض النساء فيذهب بولس وسيلا إلى ذلك المكان, إذ ليس في المدينة مجمع يهودي. وعند ذلك النهر كان للروح القدس عمل حقيقي واضح في قلب امرأة متعبدة للّه وهي ليديه بياعة أرجوان, فانفتح قلبها لتصغي إلى ما يقوله بولس ثم اعتمدت مع أهل بيتها, وظهر الثمر الحقيقي عندما فتحت بيتها وألزمتهما بالدخول والبقاء, ونعرف بعد ذلك أن الاخوة كانوا يجتمعون في بيتها.
وبينما كان بولس وسيلا ذاهبين إلى مكان الصلاة عند النهر اعترضتهما جارية بها روح عرافة "بيثون" وتبعتهما أياماً كثيرة مرددة القول "هؤلاء هم عبيد الله العلى الذين ينادون لكم بطريق الخلاص", فضجر بولس من الروح الشرير وطرده منها في الحال, مما أثار بلبلة شديدة حولهما, فامسكوهما ووضعوا عليها ضربات كثيرة بالعصى وألقوهما في السجن. وجاءت الأوامر من الولاة لحافظ السجن أن يتم التشديد على حراستهما وضبطهما, فطرحهما في السجن الداخلي واضعاً أرجلهما في المقطرة.
ونحو نصف الليل كانت أصداء الصلوات والتسبحات للّه تملأ ردهات السجن ويسمعها المسجونون. وما اعجب تلك الأواني التي يتصاعد منها بخور الصلوات والتسابيح, فهو لبان موضوع على جمرات الألم والشهادة فتنشر رائحة طيبة, إنها لم تختلط بالتذمرات والشكايات, ولا بالمرارة والضيق, بل بالحرى طرحا القضية برمتها للّه بالصلاة, وامتلأت أفواههم بالتسبحات الإلهية برهانا على قوة الرجاء بالظفر الكامل على كل شيء. ما أجملها شهادة لأولئك العبيد الذين اظهروا التصرف بنعمة اللّه بكل وداعة إزاء المقاومات والافتراءات, والتسليم للّه في مواجهة الاضطهادات مع الصلاة والتسبيح في أحلك ظلمات السجن.
أما إجابة اللّه إزاء كل هذا هو حدوث "زلزلة عظيمة" لزعزعة أساسات السجن وفتح الأبواب في الحال. ويا لها من رعبة تهز كيان الإنسان خاصة حافظ السجن الذي كان تحت التعاملات الإلهية. وكأن اللّه يعلن بشكل صريح رفضه لما عمله الأمم إذ وضعوا رسوله في السجن. وهذا معناه رفضهم للمسيح. وكما فعل اليهود بالأنبياء ورسله ثم بالمسيح إذ قتلوه معلقين إياه على خشبة, هكذا فعل الأمم برسل المسيح. لقد صلب العالم يسوع بين لصين, كذلك طُرح بولس وسيلا بين مجرمين, وهذا هو تقدير العالم للمسيح ورسله. والصحيح أنه لا يجب أن تكون السجون مكاناً للذين يبشرون بالمسيح وبإنجيل الخلاص. في بداية خدمة الرسل في أورشليم قام رئيس الكهنة والصدوقيون بوضع الرسل في الحبس ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن وأخرجهم وقال: "اذهبوا قفوا وكلموا الشعب بجميع كلام هذه الحياة" أع19:5. إن العالم لا يزال يرفض المسيح ويبغضه-حتى البلاد الغريبة التي تدّعى الاعتراف بالديانة المسيحية هكذا تفعل. لكن النعمة تتجه إلى حافظ السجن الذي فاجأته الأحداث الخطيرة, وإذ ظن أن المسجونين هربوا أراد الانتحار, ولكن بولس ناداه بصوت عظيم بألا يضر نفسه, فجميع المسجونين لم يغادروا أماكنهم. إن الزلزلة وفتح الأبواب السجن ليست للهروب ولكنه صوت احتجاج من السماء لما فعله ولاة فيلبي إرضاء للجموع التي أثارت البلبلة بسب استعلان قوة المسيح, ولكنها فضلّت إتباع العرافة والسحر وروح يبثون عن الإنجيل الذي هو قوة اللّه للخلاص.
وجاءت صرخة السجان "ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" مصحوبة بارتعاد عظيم وهو مطروح عند قدمي بولس وسيلا. وقبل أن يسمع شيئاً كان قد أخرجهما, وتأتيه البشارة "أمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك". ومحتوى هذه البشارة تطلّب التوضيح بكلمة الرب, ليس له فحسب بل لكل من في بيته أيضاً. وانقضت ساعات الليل الباقية في غسلهما من الجراحات التي أصابتهما من ضرب العصى وشد المقطرة لأرجلهما. ولكن الفرح كان أقوى من الجراح وآلام العظام, وأقوى من كل شعور بالذنب, فالنعمة المخلصة بموت المسيح والتي تمنح الغفران والخلاص الأبدي تمتد للآخرين بالمسامحة ورباط المحبة الأخوية. "ولما أصعدهما إلى بيته قدّم لهما مائدة وتهلل مع جميع بيته إذ كان قد آمن باللّه".
ثم يعلن الولاة مراجعتهم عن القرار الخاطئ الذي اتخذوه ضد أولئك المظلومين بالأمس, فأرسلوا الجلادين ومعهم قرار الإفراج من السجن. لكن بولس لم يقبل هذا الأسلوب اللاأخلاقي في محاولة منهم لإغفال حقهما والتغطية على خطأ اتخذه الولاة خضوعاً لمطالب جماهير ثائرة عمياء, وقال "ضربونا جهراً غير مقضى علينا", أي أن ضربهم العلني لهما ليس بسبب حكم صادر عن قضية واتهام ضدهما. ومما زاد في خطأ القرار قوله "ونحن رجلان رومانيان" لأن المواطن الروماني يحق له الدفاع عن نفسه بحسب القوانين الرومانية الوضعية في ذلك الوقت. "وألقونا في السجن" فلم يكتفي الولاة بالضرب جهراً بل طرحوهما في السجن دون اتهام وقضية. ويطلب بولس التعويض المعنوي, لا برفع الظلم سراً, بل بما يتناسب مع هذا الموقف بأن يأتي الولاة أنفسهم ويردوا اعتبار المظلمومين, قال "أفالآن يطردوننا سراً؟ كلا بل ليأتوا هم أنفسهم ويخرجوننا". وعندما بلغ الولاة هذا الكلام خافوا واختشوا مما فعلوا, خاصة عندما علموا أنهما رومانيان. "فجاءوا وتضرعوا إليهما أخرجوهما وسألوهما أن يخرجا من المدينة".
لم يكن بولس رافضاً لسلطان الحاكم عندما فعل ذلك, بل إنه سعى لتصحيح القرار ليكون متصفاً بالعدالة. وهذه نقطة جديرة بالتأمل والمراجعة في كل مجالات السلطان سواء بالنسبة للحاكم أو للأسرة أو لكنيسة اللّه.
وإذا قيل أن الكنيسة كثيراً ما يصيبها الفشل في اتخاذ قرارات الحكم لعدم كفاية روح النعمة في تطبيق الحق مع تدخل الجسد وأعماله في الحكم الكنسي, نقول يا حبذا لو أن الكنيسة تراجع ما تتخذه من أحكام في نور حضرة اللّه وبحسب كلمته, ومتى أدركت الكنيسة فشلها فلا غبار عليها أن تعترف بذلك وأن تصحح قرارها بكل شجاعة أدبية وتسعى لرد نفوس المطروحين تحت الحكم, لأن هذا هو الغرض الرئيسي من التأديب وهو وقف الشر ورد نفس المخطئ وعلاج الاخوة وربحهم بروح الإتضاع والنعمة, وليس التخلص منهم. وبذلك نُجنب القديسين الكثير من الانقسامات.
وليس صحيحاً القول بأن السلطان لا يتراجع أو يتعذر عن خطئه لئلا يفقد مهابته. ذلك لأن السلطان المفوض من اللّه لا يفترض العصمة فيمن يقومون به, وإن كان يتطلب منهم, خاصة في دائرة البيت والكنيسة المحلية تدريبا كافيا من الحكم على الذات ونضجاً في الممارسة العملية للحياة المسيحية ودراية كافية بطرق النعمة والحق. هكذا طلب بولس من الولاة أن يعتذروا لهما. أنه يحذر من إساءة استخدام السلطان_ قال للآباء "لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا", وللسادة "تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات عنده محاباة", "وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة" أف 6 :4و9, كو3 :21 و25.
"ثم خرجا من السجن ودخلا عند ليديه فأبصرا الاخوة وعزياهم (بالوعظ) ثم خرجا" أع 16 :40.
ثم نقرأ أن بولس بعد ذلك عاد إليها في رحلة قصيرة (أع 20 :6). وقد كتب بولس رسالته هذه لهؤلاء المجتمعين في مدينة فيلبي في 1 : 1,1 تس 2: 2.
والحفائر الأثرية التي قامت بها بعثة فرنسية ما بين عام 1934- 38 في خرائب هذه المدينة القديمة وجدوا أنها تعود إلى القرن الثاني الميلادي, ولم يجدوا إلا جزءاً منها وتسمى "KAVALA", كما وجد على بعد ميل من المدينة الطريق المؤدي إلى البوابة ثم تعبر نهراً صغيراً وهو المشار إليه في أع 16: 13 أنه كان مكان صلاة.
وتميزت كنيسة فيلبي بالسخاء في عطائها ومحبتها للرسول بولس (2 كو 8: 1-6 ,11: 9 في 4: 16). وقد أرسلت إليه مرتين عطايا له بينما كان في تسالونيكي (في 4: 15 و16), كما أرسلت إليه مرة عطية وهو في كورنثس (أع 18: 5, 2كو 11: 8 و9).
وليس غرض الرسالة تصحيح أخطاء تعليمية أو معالجة تشويش حادث بينهم بل تحريض للاستمرار في الحياة المسيحية. أما الهبة التي أرسلها الإخوة في فيلبي بواسطة أبفرودتس للرسول, جعلت قلبه يفيض بالشكر, ويرسل لهم تلك الرسالة ليعود بها أبفردوس إليهم. ونستشف من الرسالة أنه كان ينقص البعض منهم إتضاع الفكر فتحولوا إلى المجادلات فيما بينهم إذ ليس لهم الفكر الواحد, وهكذا كان على امرأتين اللتين جاهدتا معه في الإنجيل وهما "أفودية" و"سنتيخى" أن تفتكرا فكراً واحداً في الرب.
- عدد الزيارات: 10175