تعزيات التقي في زمن الخراب 1
إن روح الله مزمع أن يضع أمامنا خراب بيت الله والفشل المتزايد للمسيحية المعترفة خلال هذا التدبير مع وصول الشر إلى ذروته في الأيام الأخيرة. إنها صورة مرعبة لسقوط المسيحية والتي لا شفاء لها, هذه الصورة المرعبة حقاً للقلب - ولو كان صاحبها يمتلك أشجع قلب. ولهذا قبل أن يرسم أمامنا هذا الخراب فإن الرسول يسعى أن يرسخ نفوسنا ويثبت قلوبنا في الله حيث يضع أمامنا تلك المصادر الباقية في الله. وهو يستعرض أمامنا الحياة التي في المسيح يسوع (ع 1)، والأشياء التي أعطاها لنا الله (ع 6و7)، وشهادة ربنا (ع 8) وخلاص الله ودعوته (ع 9 و10)، ويوم المجد المشار إليه أنه "ذلك اليوم" (ع 12و18) وصورة الكلام الصحيح في الحق الذي لم يمسه أي خطأ (ع 13).
(ع 1): يفتتح بولس رسالته بأن يستحضر أوراق اعتماده وهو يكتب بكل سلطانه باعتباره "رسول يسوع المسيح". ومن المفيد لنا أن نقرأ الرسالة كمن تستحضر بياناً من يسوع المسيح لنا بواسطة مرسله. ولم تكن رسولية بولس برسامة ولا بمشيئة إنسان، بل "بمشيئة الله". هذا فضلاً عن إن بولس قد أرسل بيسوع المسيح ليخدم في هذا العالم عالم الموت، لتتميم وعد الحياة، الحياة التي ترى في كل كمالها في المسيح يسوع وهو في المجد. وبالنسبة للرسول بولس فغالباً ما كان يرى "الحياة" في كل ملئها ومجدها, وبهذا المعنى يمكن أن يشار إليها كوعد. ولا يمكن حتى لخراب الكنيسة أن يمس هذه الحياة التي في المسيح يسوع والتي ترتبط بكل مؤمن أيضاً.
(ع 2- 5): وأمكن للرسول أ يخاطب تيموثاوس باعتباره "الابن الحبيب"، فأي تعزية لنا في زمن الخراب أن نجد أولئك الذين نستطيع أن نعبر لهم عن عواطفنا بلا تحفظ، والذين بكل ثقة يمكننا أن نفضي لهم بما في قلوبنا. لقد كان في تيموثاوس صفتان بارزتان انتزعت ثقة ومحبة بولس، أولهما أنه كان يتذكر دموعه، وثانيهما أنه يتذكر إيمانه العديم الرياء.إن دموع تيموثاوس بينت أنه كان رجلاً ذا عمق روحي يشعر بالحالة الهابطة والمتردية للمسيحية المعترفة. أما إيمانه العديم الرياء فقد برهن على قدرته أن يتجاوز كل الشرور الحادثة بطاعته وثقته في الله.
وكان لتيموثاوس في الواقع طبيعة جبانة رعديدة، وبالتالي كان محاطاً بخطر أن يرتبك يبتلع بهذا الشر الذي يغزو الكنيسة. وهو إذ تميز بالدموع والإيمان فإن الرسول تشجع بأن يعلمه ويحرضه، عارفاً بما كانت له من صفات تمكنه من التجاوب مع دعوته، ويتضح لنا السبب هنا لماذا لا تجد تعاليم هذه الرسالة اليوم ولو تجاوباً قليلاً من المؤمنين. وكيف يكون التجاوب ما لم تتوافر الدموع التي تتحدث عن قلب رقيق، يمكنه أن يبكي ويحزن على أحوال شعب الله المسكين، وكذلك الإيمان الذي يمكنه أن يتخذ طريق الله بالانفصال من وسط هذا الخراب.
لقد سر بولس أن يتذكر في صلاته رجل الدموع ورجل الإيمان هذا. وأي سرور يملأ القديس الذي ينكس قلبه على شعب الله –عندما يعرف أن هناك قديسين أتقياء وأمناء وهو يتذكرهم في صلاته. فالأمانة في زمن الارتداء تربط القلوب معاً بروابط المحبة الإلهية.
(ع 6): وبعد أن عبر عن محبته لتيموثاوس وثقته فيه فإن بولس يحرضه ويشجعه ويعلمه. فهو أولاً يحرضه بأن يضرم "موهبة الله" التي أعطيت له لخدمة الرب. وفي حالة تيموثاوس بالذات كان قد منح هذه الموهبة بواسطة الرسول. أما عندما تكثر الصعوبات والمخاطر وعدم الأمانة وعندما تبدو نتائج قليلة من الخدمة، فهناك تتربص بنا خطورة التفكير بعدم جدوى ممارسة الموهبة، ولذلك فإننا نحتاج إلى التحذير من إهمال الموهبة أو تركها بلا استخدام، فعلينا أن نضرمها. وفي زمن الخراب يزداد الإلحاح على استخدام الموهبة. وأمكن للرسول أن يقول في حديث لاحق بالرسالة "أكرز بالكلمة، اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب" (4: 2).
(ع 7): وبعدما تحدث عن المواهب المختصة بالأفراد، فإن الرسول يذكر تيموثاوس بالموهبة المعطاة لكل المؤمنين. فقد أعطى الله للبعض موهبة خاصة لخدمة الكلمة، وأما لكل شعبه فقد أعطاهم روح القوة والمحبة والنصح[1]. ويبدو لنا من الصعوبة القول بأنه يشير هنا إلى الروح القدس مع أنها تتضمن عطية الروح. بل نقول بالحري أنه يتحدث عن الحالة وروح المؤمن، وهما نتاج عمل الروح القدس، وبالتالي الاشتراك في خصائص الروح، كما قال الرب: "المولود من الروح هو روح". إن تيموثاوس بحسب الطبيعة جبان وخجول وميال إلى التراجع، ولكن الروح القدس لا يولد فينا روح الجبن أو الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح (والنصح معناه الفكر الواعي الصحيح).قد نجد في الإنسان القوة بدون المحبة، أو المحبة التي تنكمش إلى مجرد عاطفة، أما مع المسيحي فبقيادة الروح القدس فإن القوة تمتزج مع المحبة، والمحبة تعبر عن نفسها بالنصح أو الحكمة المتبصرة.
ولذلك، كيفما كانت صعوبة الأيام فالمؤمن مجهز تماماً بالقوة لعمل إرادة الله، وللتعبير عن محبة الله، ولممارسة الحكم الهادىء والمتزن في وسط الخراب.
(ع 8): وإذ يذكرنا بروح المجاهرة المقدسة التي أعطيت لنا, أمكن للرسول أن يقول "فلا تخجل بشهادة ربنا, ولا بي أنا أسيره" إن شهادة ربنا هي الشهادة لمجد المسيح – المسيح الذي جلس كإنسان في قوة فائقة بعدما انتصر على قوة الشيطان. لم يكن بطرس قد خجل من شهادة ربنا إذ جاهز بتلك الشهادة وقال "فليعلم يقينا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أع 2: 36). وكما قال واحد "بعدما قاد إبليس الإنسان ليظهر قمة عداوته وشره بالمسيح، فإن يسوع الآن صار مكللاً بالمجد والكرامة بعد كل هذا. إنها يقينا نصرة".
كذلك أيضأن في زمان الرسول، عندما دب الخراب بين شعب الله، وأحرز الشيطان انتصاره بإدخال بولس السجن، وتركه القديسون، والشر قد ازداد، فإن الرسول مع شعوره العميق بعظم الفشل، لكنه كان مسنوداً ومؤازراً خلال كل هذا, وقد ارتفع فوق الظروف كلها متحققاً بأن الرب يسوع في قمة القوة الآن بعيداً عن تأثيرات إبليس كلها وكان مصدره الدائم هو الرب الممجد، لذلك قال "الرب وقف معي وقواني" "وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته السماوي" (4: 17 و18).
ونحن نتحدث كثيراً عن المسيح في طريقه على الأرض، أو عن المسيح وهو مصلوب، أو عن المسيح في مجيئه، وهذا كله صحيح في مكانه. ولكن قليلاً جداً ما نتكلم عن المسيح حيث يقيم الآن في مجد الله، وهذه هي شهادة ربنا – الشهادة العظمى التي نحتاجها الآن، والشهادة التي يأتينا الحذر لئلا نخجل منها.
وكيفما عظم الخراب، ومهما كان الفشل بين شعب الله، ومهما قابلنا من مصاعب. ومهما تخلى القديسون وانشقوا (1: 15) وكيفما كانت الإرادة الذاتية التي تقاوم وتعاند (2: 2 و26)، أو كان خبث أولئك الذين يعملون الشرور معنا (4: 14)، فإن مصادرنا الباقية نجدها في الرب يسوع وهو عن يمين الله. وإذ نتطلع إليه نصبح كالرسول فنرتفع فوق كل الفشل الذي في أنفسنا أو في الآخرين. ويا للأسف ففي المصاعب التي تواجهنا فإننا نفسد الأمور بمحاولتنا أن نصحح الأشياء بقوتنا الشخصية، بينما لو تطلعنا إلى الرب فسنجد مثل بولس، لأن الرب معنا يقوينا وينقذنا من كل عمل رديء.
وكم هو ضروري لنا أن نقدم شهادة صحيحة لمركز ربنا الحاضر وهو في تفوقه وقوته كإنسان في المجد، فهو بذلك أعظم مصدر لنا في الأيام المظلمة.
وليس هذا فحسب، بل لنتحذر من أن نخجل من أولئك الذين، في أيام الارتداد، لهم جسارة وهم يسعون لإعطاء الرب مكانه. وليكن عندنا الاستعداد أن نتحمل الألم. غذ لزم الأمر – في دفاعنا عن الإنجيل، عالمين أننا نعول على قوة الله التي تؤازرنا.
(ع 9 و 10) وإذ نحذر من أن نخجل من شهادة ربنا, ولا أن نخجل من الذي يشهد عن تفوق الرب ومجده محتملاً التعبير والألم بسبب هذه الشهادة، كما يشجعنا لكي نشارك في آلام الإنجيل أيضأن فإن الرسول يتقدم في أن يذكرنا بعظمة الإنجيل الذي هو قوة الله للذين خلصوا والذين دعوا (1كو 1: 18 و24). إن التحقق من مجد الرب وعظمة الإنجيل سيحفظنا من أن نخجل بالشهادة ويعدنا لاحتمال آلام الإنجيل.
يتضح من هذين العددين أن أعظم نقطتين يتحدث عنهما الإنجيل هما الخلاص والدعوة. فمن جهة يعلن الإنجيل طريق الخلاص، ومن الجهة الأخرى يستحضر غرض الله تجاه الذين خلصوا. ونحن نميل إلى تحديد الإنجيل بالسؤال الهام عن خلاصنا ونكتفي بهذا, وإذ نفعل ذلك نفقد أعظم بركة ترتبط بقصد الله الأزلي، وبذلك نفشل في الدخول إلى الدعوة السماوية. ومن الواضح أن أعظم وأول موضوع يطرحه الإنجيل هو خلاصنا, والله لا يريد من المؤمن أن يكون في شك من جهة أمر هذا الخلاص، وكما نقرأ في النص "الذي خلصنا". إن النتيجة المباركة لموت وقيامة ربنا يسوع المسيح أن تضع المؤمن بعيداً عن الدينونة التي استحقها بسبب خطاياه، وأن تنقذه وتحرره من طريق هذا العالم. لذلك نقرأ "الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير" (غل 1: 4) فمع كوننا الآن في هذا العالم، ولكنا قد تحررنا من قوته وتأثيره، وأننا لسنا أدبياً مثل العالم.
هذا هو الجزء الأول من الإنجيل، وعند هذه النقطة يقف جمهور عظيم من شعب الله ليكتفوا بذلك ومع هذا فإن الإنجيل يعلن بركات أعظم وهو يخبرنا عن دعوة الله. فلم يكتف الله بخلاصنا فقط إذ نقرأ: "الذي دعانا دعوة مقدسة" وفي هذا النص يشير إلى الدعوة بأنها "دعوة مقدسة". ويتحدث عنها في مكان آخر بأنها "دعوة سماوية" (عب 3: 1). و "دعوة عليا" (في 3: 14). إن الخلاص يحررنا من خطايانا ومن دينونة العالم الهالك، أما الدعوة فتربطنا بالسماء وبكل البركات الروحية التي قصدها في السموات في المسيح. ولهذا فإن بركات دعوة الله ليست بمقتضى أعمالنا ولا بحسب أفكارنا أو استحقاقنا, "بل بحسب القصد والنعمة" أو "بحسب قصده ونعمته".
إنه لم تسدد ديوننا فحسب، ولم نتحرر من تأثير وقوة مشهد الديون التي جلبناها على أنفسنا فقط، بل إننا نتعجب إذ نتعلم أنه بحسب مقاصد الله فهناك أشياء أعدت للذين يحبون، ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر (1كو 2: 9). ففي دعوة الله تعلن لنا أسرار قلبه التي تكشف لنا عن اتساع وعظم البركات السماوية، ويؤكد لنا أن كل هذه البركات قصدها لنا في المسيح من قبل تأسيس العالم. ولذلك نتعلم أنه قبل أن نخطىء منذ أمد طويل، وقبل أن نتعرض لأي مسألة واحدة فإن الله كان له غرض مستقر لأجل بركتنا الأبدية. فلا الشر الذي نفعله ولا فشل الكنيسة في مسئوليتها يمكن أن تبدل قصد الله، كما وأنه لا الخير الذي يمكن أن نفعله قادر أن يجلب لنا قصد الله.
هذا القصد الأزلي أصبح الآن معلناً بظهور خلاصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. لقد واجه المسيح بموته عن المؤمن حكم الموت الذي كان مسلطاً علينا وفتح لنا مشهداً جديداً للحياة والخلود. فلم يعد الموت يمنع المؤمن من الدخول إلى هذا المشهد من الحياة والبركة بحسب قصد الله. إن النفس لن تعبر من الموت إلى الحياة فحسب، بل إن الجسد سيلبس عدم فساد ولذلك فإنه بالإنجيل يستحضر إلى النور دائرة الحياة والخلود والتي لا يمكن أن يفسدها الموت أو الفناء.وبقوة الروح يمكننا أن نتمتع الآن بهذا المشهد الجديد.
(ع 11) وفضلاً عن ذلك، فهذا الإنجيل بكل ملئه صار معروفاً لنا بواسطة إناء خاص معين –إنه الشخص الذي أتى إلينا كرسول يسوع المسيح للأمم. وقد أتى الإنجيل بسلطته كافية من خلال رسول يتحدث بإعلان ووحي.
[1] في ترجمة داربي Wise discretion وتعني الحكمة والتبصير لفهم الأمور المحيطة بنا واتخاذ الموقف المناسب لذلك (المعرب).
- عدد الزيارات: 5131