كلمة الناشر
إنها آخر رسالة كتبها رسول الأمم العظيم من رسائله الأربعة عشر الموحى بها، وهي الرسالة الثانية التي بعثها إلى تيموثاوس تلميذه الأمين وابنه المحبوب في الإيمان وشريكه في أتعاب الإنجيل –ذي الصحة المعتلة والأسقام الكثيرة كتبها الرسول من زنزانة المعتقل في روما وكان هذا في سجنه الثاني والأخير، منتظراً النطق بالحكم من نيرون طاغية روما. كان يعرف اقتراب وقت انحلاله، وبعدها بقليل اقتطع رأسه بالسيف وخلصه الرب لملكوته السماوي.
كان الرسول في هذه الرسالة محاطاً بظروف اختلفت عن وقت سجنه الأول الذي كانت له فيه الحرية أن يستأجر بيتاً ليقيم فيه لمدة سنتين كاملتين "ويقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزاً بملكوت الله ومعلماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع" أع 28: 30 و31. أما في سجنه الأخير فقد تبدلت حالة الكنيسة ودخلتها تعاليم متنوعة وغريبة، ألم ير في البداية نشاط وقوة الروح القدس عاملاً في اجتذاب الأمم إلى نعمة الله؟ ألم يستخدمه الله في تأسيس وبنيان الكنائس في الأمم ورأى أثماراً عظيمة كان يشهد بها؟ أما الآن فيرى ارتداد المعترفين بالمسيحية، وليس ذلك فحسب ولكن حتى الذين يعملون معه مثل ديماس الذي تركه وترك أتعاب الإنجيل ومشقاته لأنه "أحب العالم الحاضر". (لم يرتد ديماس عن المسيح بل عن بولس واستثقل حمل الصليب لأن قلبه كان ممسوكاً بمحبة العالم). ونلاحظ أن الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس، كان يرسم أمامه الترتيب الصحيح في بيت الله، إذ أن المؤمنين معاً هم استمرار هذا الترتيب بل بالحري التشويش والخراب، فأمسي بيتاً كبيراً جامعاً لأموال الكرامة مع أواني الهوان. وهذا شيء يدعو حقاً للغرابة والتساؤل –كيف اندفعت الكنيسة بهذه السرعة نحو الانحدار في وقت قصير؟ وكيف ضمت داخلها أواني الهوان –مع أن الرسول بولس كان لا يزال حياً في ذلك الوقت؟ ألعل الخمير استمر في بيت الله بدلاً من أن يعزله القديسون فخمر العجين كله (مت 13: 33)؟ وكيف ارتخ المؤمن في تطبيق مبادئ قداسة اله داخل بيت الله؟
كان الرسول كبناء حكيم في هيكل الله وقد وضع أساساً صحيحاً ومتيناً هو يسوع المسيح. غير أن هناك قام ببناء فوق هذا البناء الصحيح،فمنهم من بنى ذهباً وفضة وحجارة كريمة وهي مواد قابلة للامتحان في النار فهؤلاء يثبت عملهم وينالون المكافئة، ومنهم من بنى خشباً وعشباً وقشاً وهي لا تقو على فحص النار فيضيع عملهم وهم يخلصون كما بنار لوجود الأساس الصحيح. كما أن هناك من يقومون بإفساد هيكل الله وهؤلاء يفسدهم الله (1كو 3). وهكذا سيحكم الرب على عمل كل واحد عندما يأتي.
لقد خدم الرسول سيده بكل اجتهاد وأمانة بلا كلل، إذ فاقت أتعابه الآخرين من الخدام والتي كانت كفيلة بأن تقضي عليه لكن نعمة الله حرضته ليتمم العمل ويحتمل المشقات حتى القيود كمذنب (انظر 2كو 11) واستطاع في النهاية أن يقول بالوحي "جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان".
لم تنقصه الغيرة المقدسة على قطيع الرب وكنيسته، إذ كان يريد أن يحضر الكنيسة في الأمم كعذراء عفيفة للمسيح وكان خائفاً عليهم من خداع الحية القديمة كما فعلت بحواء هكذا تفسد أذهانهم عن البساطة التي في المسيح (2 كو 11: 2،3).
كان شديد البأس في التمسك بالحق الذي استعمل له، فائضاً في محبته للقديسين مع طول الأناة والوداع والصبر الكثير. ألم يحذر قبلاً كنيسة كورنثوس بسبب الخمير الأدبي الذي تهاونوا في نزعه، فإذا لم ينقوا منهم الخميرة العتيقة سيضطر أن يستخدم عصاه أي سلطانه الرسولي (1كو 4: 21 و5: 7 - 8) فكم عانى من الحزن الكثير وكآبة القلب وسكب الدموع! وكم خشي أن يسمع بينهم خصومات ومحاسدات وسخطات وتحزبات ومذمات ونميمات وتكبرات وتشويشات! أن يذله إلهه فينوح على كثيرين ممن أخطأوا ولم يتوبوا عن النجاسة والزني والعهارة التي فعلوها من قبل (2كو 12: 20 - 21).
ألم يحذر الرسول قبلاً كنائس غلاطية من المعلمين الكذبة الذين سحروا القديسين وحولوهم عن إنجيل المسيح الذي تسلمه بولس من الرب شخصياً إلى إنجيل آخر مزجوا فيه الناموس بالنعمة؟!. ألم تكن خميرة التعليم هذه قد صدتهم عن المطاوعة للحق؟ (غل 5: 7 - 12).
ماذا عن بعض المعلمين في كولوسي الذين أدخلوا فرائض الناموس اليهودية من أعياد وأهلة وثبوت، فطوروها في مضمون فلسفي غنوسي لتصبح مزيجاً من هيكل تعليمي له شكل مسيحي "تفرض عليكم فرائض ولا تمسوا ولا تذاقوا ولا تجس. لها حكاية حكمة بعبادة نافلة وتواضع وقهر الجسد. ليس بقيمة ما من جهة إشباع البشرية" (كو 2: 16- 23).
وكم عانى الرسول من هؤلاء المعلمين الكذبة فيصفهم في فيلبي بالكلاب وفعلة الشر والقطع، الذين مزجوا التعاليم اليهودية بالمسيح في المجد . وهؤلاء هم أردأ فئة من المعترفين بالمسيحية –فكم ذكرهم وهم أعداء صليب المسيح الذي نهايتهم الهلاك الذي إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم! (في 3: 2 و17 - 19).
أليس هذا ما قاله لأساقفة أفسس في وداعه لهم قبيل سجن الأول أنه سيدخل بينه ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية، كما أنه سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية لكي يجتذبوا التلاميذ ورائهم (1 ع 2: 29، 30).
ونقرأ أنه يطلب في تيموثاوس في رسالته الأولى أن يمكث في أفسس لكي يوصي قوماً ألا يعلم تعليماً آخر. ونعرف من الرسالة أنها كانت مزيجاً من الفلسفات الوثنية والتعاليم اليهودية. وكان هناك هيمنايس والاسكندر الذين انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان - أي تحولوا عن التعليم الصحيح وذلك لأنهم افتقدوا الضمير الصالح ومن المعترفين بالمسيحية من ظن أن التقوى تجارة ومثل هؤلاء كان يجب تجنبهم ومنهم من أرادوا أن يكونوا أغنياء وفضلوا عن الإيمان.
ولم ينقض الوقت الطويل حتى تبين خراب البيت، إذ أن البرص أمسك بالكثير من الحجارة، ونظرة الكاهن الثاقبة التي تفحص البيت - وهو تقرير الرسول بالوحي - أن البيت يضم أواني للكرامة وأخرى للهوان. ثم يرينا مسلك الإنماء في هذه الحالة، الذي ليس عليهم أن يتركوا البيت، لأن البيت هو دائرة المسيحية أمام العام، ولكن "إن طهر أحدهم نفسه من هذه أي من أواني الهوان يكون إناء للكرامة". وهذا هو مبدأ الانفصال عن الشر الذي يحتضنه المعترفون بالمسيحية الذين يهنون الرب إنهم لا يكرمونه لا في عيشتهم وسلوكهم ولا في تعاليمهم التي لا تتفق مع المكتوب، فالشركة مع هؤلاء تجعل عدوى الهوان والشر تسري في الأمناء. ولذلك لزم الانفصال عنهم ليكون المرء "إناء للكرامة، مقدساً (أي مفرزاً له حسب متطلبات قداسته) ونافعاً للسيد (أولاً حتى يصير بعد ذلك نافعاً لاستخدامه حسب رغبة قلبه)، ومستعداً لكل عمل صالح".
إنها لمسألة عظيمة كانت ضاغطة على نفس الرسول، أن يجد الكنيسة التي تعب في تأسيسها بين الأمم، والتي كان له الامتياز الخاص من قبل الرب أن تستعلن له أسرارها المكتومة منذ الأزل فيعلنها بدوره للكنيسة (1ف3)، فرآها في ختام حياته وإذ يخبو نورها وتفسد شهادتها – الرسول الذي تعب "أكثر من جميع الرسل في خدمة الكنيسة، وكانت عواطفه حارة نحو كل عضو فيها ألم يكن مترفقا بينهم وله عواطف المرضعة نحو أولادها, فكم من حنو ومحبة للجميع، وكم تكلف من تعب وكد، وكم من عواطف الأبوة بما فيها من تحريضات وتشجيعات لكي يسلكوا كما يحق لله (1تس2). كانت آلامه تكميلاً لنقائص شدائد المسيح في جسمه لأجل الكنيسة (كو 1: 24). ولكنه وفي النهاية يرى الفساد وقد ضرب في صورة التعليم الصحيحة فشوهه، كما ضرب في القديسين فتحولوا عن الحق وعن التقوى. و ها قد تباعدت فرصة الإصلاح ولم يعد يجدي التحريض والإنذار . وليس أمام بيت الله الذي خرب غير أن ينتظر التطهير بالقضاء والدينونة في النهاية. وهنا نرى خدمة الرسول يوحنا بعد انتقال بولس ليرينا الرب في مجده القضائي وهو يفحص شهادة الكنيسة ويحكم عليها ويدينها قبل أن يدين العالم، فابتدأ القضاء من بيت الله (1بط4: 17).
وفي أيام الخراب يصبح الأمناء عملة نادرة، فأين الآلاف من المؤمنين الذين رجعوا للرب وتعلموا الحق بكرازة الرسول؟ أين هم من الرسول المأسور في روما؟ "جميع الذين في آسيا ارتدوا عني الذين منهم فيجلس وهرموجانس" (2تى 1: 15). حقاً في الأيام الأخيرة ليس غير أسماء قليلة جداً. إذ يتذكر الرسول تيموثاوس وانيسيفورس، فإيمان تيموثاوس الذي أخذه من جدته وأمه ولكنه مستقر فيه، كما لا ينسى دموعه عندما افترق عنه بولس ودخل السجن.ويا لها من دموع محفوظة ومحفورة في عواطف الرسول، إذ كيف لا يكون لها التقدير عنده وهي غالية لدى الرب. أما أنيسيفورس الذي سعي إليه في السجن باحثاً عنه بأوفر اجتهاد بين دهاليز سجون روما – ولا بد انه واجه صعاب كثيرة ولكنه لم يخجل بسلسلته بل رآها تكريماً فائقاً له – ويا لها من أتعاب حلوة أنعشت قلب الرسول الأمين بالمباينة مع تخلي القديسين عنه وارتدادهم عن تعليمه وبرودة المحبة بسبب تغلغل روح العالم فيهم. إن عواطف الرسول التي يبثها في أذني تيموثاوس تستحضر لنا تأوه داود وهو يقول "من يسقيني ماء من بئر بين لحم؟" فيشق ثلاثة من رجاله المخلصين له محلة الفلسطينيين ويأتون له بالماء ليشرب، فيرفض إلا بان يسكبه للرب لأنه دم هؤلاء الرجال (2 صم 23).
وصية الرسول لتيموثاوس: كان قد أوصاه في الرسالة الأولى أن يبقى في أفسس لكي يوصي قوماً أن لا يعلموا تعليماً آخر مخالفاً لإنجيل نعمة الله، وطلب منه أن يحارب المحاربة الحسنة لحفظ لتعليم الصحيح متمسكاً بالإيمان والضمير الصالح.
أما في الرسالة الثانية فيخبره بارتداد "جميع الذين في آسيا" عن الرسول! كانت أفسس تمثل آسيا ومع أننا في البداية نرى نشاط النعمة هناك في خدمة الرسول (أع 19) وكذلك رسالة أفسس التي تحلق في دائرة السماويات ومركز الكنيسة في ارتباطها الممجد كرأسها, غير أننا نسمع خطاب الرسول الوداعي لشيوخ أفسس فنحزن على ما كان سيصيب قطيع الرب فيها (أع 20) ونرى ذلك واضحاً في طلب الرسول من تيموثاوس في الرسالة الأولى، ثم نرى ارتداد غالبية المسيحيين عنهم. ألم يخاطب الرب كنيسة أفسس بعد ذلك بواسطة عبده يوحنا "تركت محبته الأولى" ويدعوها للتوبة (رؤ 2)؟.
ولعل تيموثاوس شعر بالإحباط الشديد لما حدث في أفسس. وربما ظن أنه قد فشل في المسئولية التي وضعها عليه الرسل. وما أثقله شعور يؤرق ضمير حساس وقلب رقيق وشخص أمين مثل تيموثاوس! غير أن الرسول يحول نظره إلى المصادر الإلهية التي يلزمه أن يستند عليها: (1) "وعد الحياة التي في يسوع المسيح" (1: 1) وهي الحياة في كل ملئها التي أظهرها الرب هنا ومعطاة كوعد منه مهما أصاب الكنيسة من ارتداد. (2) الله "لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح" (1: 7)لا يجب أن يتوقف عندما يري الفشل، بل عليه أن يخدم بكل اجتهاد وصبر أمام الذي يمنح المكافأة "في ذلك اليوم". (3) النعمة والرحمة والسلام من الله الآب والمسيح يسوع ربنا (1- 8) – فالنعمة المخلصة قد ظهرت أولاً, ثم تأتي النعمة مع الرحمة والسلام لتحيط بجو المؤمن مدة غربته على الأرض. وتبقى النعمة ينبوعاً للقوة إزاء مشقات الإنجيل وأتعاب الخدمة (2: 1). (4) الكلمة والتعليم الصحيح الذي تعلمه من الرسول ومن الكتب المقدسة.. فالتثبت والتيقن مما سمعه من الرسول وكذلك من قراءة الأسفار الأخرى الموحى بها, والتي هي نافعة للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر، إنما يجعل إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح (3: 14 - 16).
أما وصايا الرسول لتيموثاوس فهي:
+ أن يضرم موهبة اله التي فيه 1:6
+ لا يخجل بشهادة ربنا ولا بالرسول أسيره 1: 8
+ التمسك بصورة التعليم الصحيح حتى يمكنه أن يحفظ الوديعة الصالحة (أي التعليم الصحيح) بالروح القدس الساكن فيه 1: 13 و14
+ تسليم هذه الوديعة الصالحة للأمناء الذين تتوفر فيهم الكفاءات وقدرات المعلمين ليسلموه إلى آخرين أيضاً 2: 2
+ احتمال المشقات أمر يلتزم به الجندي الصالح ليسوع المسيح. وعند هذه النقطة يهرب الكثيرون. وكل من تجند للرب عليه أن يحتاط لئلا تأخذه مشغوليات الحياة بعيداً عن مطالب الإنجيل 2: 3 و4
+ المكافأة تعطي فقط لمن يجاهد قانونياً –أي بحسب تعليم المكتوب – مثل الحراث الذي يتعب فيكون له النصيب في الأثمار 2: 5 و6.
+ الصبر لأجل المختارين ليحصلوا على الخلاص والمجد الأبدي 2: 10
+ التحذير من مماحكات الكلام التي تهدم السامعين 2: 14. وتجنب الأقوال الباطلة الدنسة التي تنهش في جسم عموم المسيحيين كالغنغرينا 2: 7. وبالمباينة مع هذا "اجتهد أن تقيم نفسك لله مزكى عاملاً لا يخزى، مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة" 2: 15.
+ أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الخاتم أحد أوجهه "يعلم الرب الذين هم له"، والوجه الآخر "ليتجنب الإثم كل من يسمي اسم الرب"
+ الانفصال الكنسي عن أواني الهوان ليصبح مفرزاً له ونافعاً للسيد ومستعداً لكل عمل صالح 2: 20 و21.
+ كما يلزم أيضاً الانفصال الأدبي عن رغائب الشباب وإتباع طريق البر والإيمان والمحبة والسلام، ليس بمفرده، بل مع الذين يدعون الرب من قلب نقي 2: 22.
+ تجنب المباحثات الغبية والسخيفة لأنها تولد خصومات وعبد الرب لا يجب أن يخاصم بل يكن مترفقاً بالجميع، صالحاً للتعليم، صبوراً على المشقات، مؤدباً بالوداعة المقاومين الذين اقتنصهم إبليس بفخاخه، فإرادة الرب أن ييقظهم لمعرفة الحق الكامل 2: 23 - 26.
ليت تلك الوصايا تجد مكانها في قلوب الأتقياء والأمناء في هذه الأيام الصعبة التي قاربت على الانتهاء، فالرب قريب.
ثروت فؤاد
- عدد الزيارات: 3472