Skip to main content

الأصحاح 7: التعليم بواسطة الرموز

القسم الأخير من السفر ينطوي على مجموعة من خمس رؤى، تكشف بالأسلوب الرمزي عن الدينونة الإلهية، ويشمل الأصحاحات من 7-9 كما ألمحنا في المقدمة.

والأعداد التسعة الأولى من أصحاحنا تطالعنا بثلاث من الرؤى، بينما يطالعنا باقي الأصحاح بقطعة بديعة من التاريخ الشخصي.

في الرؤيا الأولى (ع1-3) أُعطي للنبي أن يرى ضربة من الجراد، ليس مجرد جراد يأكل الأخضر «في أول طلوع خِلف العشب (العشب المتأخر النمو)، وإذا خِلف عشب بعد جزاز الملك» ذلك أن في أرض فلسطين يحصدون على مدار العام الزراعي محصولين، وفي الظروف المواتية قد يكون «خِلف العشب بعد جزاز الملك» إشارة إلى المحصول الثاني الذي يعتمد الشعب عليه إلى حد كبير في تزويدهم بطعام الشتاء. غير أن النبي رأى الجراد المفترس يتلف كل غصن أخضر غض، الأمر الذي دفع النبي أن يصرخ بقلبه «أيها السيد الرب اصفح. كيف يقوم يعقوب فإنه صغير؟». والرب قد سمع لشفاعته وأجاب «لا يكون».

ولا ريب أن الجراد كرمز كان يشير إلى سوط مخرِّب كجيش كاسح، يجرف كل ما في طريقه، ولا يترك بقية. وفي أيام موسى حمي غضب الرب وأراد أنه يبيد الأمة، لكن الوسيط تدخل بشفاعته. والله يحب أن نرجوه، لأنه يُسرُّ بأن يجاوب حينما يسمع صراخ الذين يحملون على قلوبهم شعبه المحتاج.

وفي الرؤيا الثانية (ع4-6) رأى النبي ناراً آكلة، كانت من الحمُّو بحيث لحست في شدتها مياه الغمر العظيم «وأكلت الحقل (أي أكلت جزءاً منه)» وهذه أيضاً دينونة من أقسى نوع، لكنها لم تكن قاطعة نهائية. ومرة أخرى تنطلق من قلب رجل الله صرخة أليمة «أيها السيد الرب كُف. كيف يقوم يعقوب فإنه صغير؟». ومرة أخرى يستجيب الرب في النعمة «هو أيضاً لا يكون قال السيد الرب».

وهاتان الضربتان هما كناية عن الغضب المخيف الذي لا يميِّز، يصيب الكل على السواء. ولذلك فإنه في الرؤيا الثالثة يرى ما يؤكد له أن كل واحد سينال من القضاء بحسب إثمه.

وقف الرب على حائط وفي يده زيج ليختبر استقامة الحائط وسلامته. فصاح بعبده «ما أنت راءٍ يا عاموس؟». كان الجواب «زيجاً» فقال السيد «هأنذا واضع زيجاً في وسط شعبي إسرائيل، لا أعود أصفح له بعد. فتقفر مرتفعات إسحاق وتخرب مقادس إسرائيل، وأقوم على بيت يربعام بالسيف» (ع8،9). هذا تشبيه من اليسير إدراكه. واختبار الحائط بالزيج يكشف حقيقة حالته. فإذا لم يكن الحائط عمودياً موازياً للزيج فخطأ البنَّاء يكون واضحاً بلا جدل. وكلمة الله هي الزيج، وهي تمتحن وتختبر كل نفس، لتكشف كل انحراف، وتجلب الدينونة على كل ما يناقضها. لكن القوم في طول أرض إسرائيل وعرضها احتقروا تلك الكلمة، بينما استمرأ الشعب طرقهم ولم يطلبوا مشورة الرب. ولذلك فليس لأحد حق في أن يشكو عند معاقبته حسب طرقه. فقد كانت كل مرتفعات الأرض شهادة صامتة على عصيان الأمة. فعليهم جميعاً سيحل الخراب يوم يكون السيف على بيت يربعام.

ولما وصلت هذه الأقوال الخطيرة إلى مسامع أمصيا كاهن مرتفعات بيت إيل المرتد، نهض غاضباً ليعلن أن عاموس قد خان الملك. ذلك أنه بوصفه رأس النظام الطقسي المرتد، الذي أقامه وسانده ملوك إسرائيل العصاة، كان يريد - لو أمكن - أن يتخلص من هذا الكارز المزعج الذي نادى بالحق، لأن مهنة الكهانة كانت مهددة بالخطر حينئذ لو فُتح الباب في الأرض لأمثال عاموس. ومن ثم أرسل إلى يربعام قائلاً «قد فتن عليك عاموس في وسط بيت إسرائيل. لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله. لأنه هكذا قال عاموس: يموت يربعام بالسيف ويُسبى إسرائيل عن أرضه» (ع10،11). إن الحق الذي أعلنه عاموس كان فعلاً لا يطاق. غير أن أمصيا لم ينقل أقوال عاموس بأمانة، إما عن نقمة، أو لأن شعوره بالذنب قاده لسوء فهم تلك الأقوال. وليس لدينا من أقوال عاموس تاريخياً ما يثبت أنه أعلن أن يربعام نفسه يموت بالسيف، بل أن السيف سوف يسلط على بيته، الأمر الذي تم في الموت المباغت لابنه زكريا (2مل10:15).

ولسنا نقرأ أن الملك أجاب. وربما كان هذا الحاكم النشيط يعتبر هذا النبي الراعي ونبوءاته غير ذات موضوع، لا تلفت أنظاره، أو ربما كان يخشى أن يمَّس شخصاً كان واضحاً أنه مُرسل من قبل الله. وهكذا ترك الأمر للكاهن الزعيم لكي يتصرف بنفسه مع الكارز المقتحم الجسور. وإذا به يناقشه ويجادله، مذكراً إياه بأنه على أرض "أبروشية" لا تقع في دائرة اختصاصه. فيقول «أيها الرائي أذهب أهرب إلى أرض يهوذا وكُل هناك خبزاً، وهناك تنبأ. وأما بيت إيل فلا تعُد تتنبأ فيها بعد لأنها مقدس الملك وبيت الملك» (ع12،13). تلك شكوى معادة، يرددها كثيراً أولئك الكهنة والكارزين الذين صنعهم الناس، الذين يقولون إن رجال الله المرسلين من الروح لا يجب أن يصطادوا في مياههم الإقليمية، ولا يمسوا قطعانهم. وإذ هم ينظرون إلى ميراث الله كأنه نصيبهم المعيَّن لهم، لا يتسامحون مع الخادم الذي يأتي بكلمة الله الواضحة ولا يطلب كسباً مالياً أو مادياً، وإنما هو يعلن مشورة خالصة فحسب. وإذ كان أمصيا أجيراً، فإنه يعتبر عاموس واحداً من أولئك، فيحثه على الذهاب إلى أرض يهوذا، وهناك «يأكل خبزاً». فلم يكن في مقدوره أن يتصور واحداً يخرج ليعلن ويذيع كلمة الله ولا يتطلع إلى عيشة أفضل. إن قلبه الطماع قاده إلى اعتبار وظيفة رئيس الكهنة وسيلة مُثلى لكسب العيش، ويفترض أن عاموس هو الآخر - حسب تقديره - موظف، صاحب مهنة، نظيره بالتمام. وإلى هذا نراه يزعم لنفسه دعوى التسامي، فيدّعي أنه الخادم الأعظم والناصح الروحي للملك والشعب في بيت إيل، التي كانت - بلغه أيامنا الحاضرة - مدينة كاتدرائية، وأمصيا رأسها الكنسي الإكليريكي. وكأن لسان حالة يقول: ألا بُعداً لهذا الفضولي القادم من الجنوب!

لكن عاموس، وفي وداعة وأمانة، يجاوب هذا الكاهن المتنطع الحاقد «لست أنا نبياً ولا أنا ابن نبي» فلا هو راءٍ بالمهنة، ولا هو ممسوح بيد بشر ولا عن طريق الوارثة. «بل أنا راعٍ وجاني جميز. فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل» (ع14،15). هذه كانت مسوِّغات أو مؤهلات تعينيه، لكن لم يكن ليفهمها أمصيا ولا غيره من الآلاف بعده. فقد دخل عاموس إلى دائرة خدمته بدعوة مباشرة من الله. تماماً كرسول العهد الجديد «لا من الناس ولا بإنسان»؛ بل بتعيين إلهي. وما قرأنا في أي من العهدين عن إنسان يؤهل إنساناً غيره لكي يتكلم بكلمة الرب. قد يتسنى لإيليا - بأمر الله - أن يمسح أليشع، ولبولس أن يختار سيلا. لكن الله وحده هو الذي يمنح الموهبة ويأتمن خادمه عليها.

لكن ليستمع أمصيا لما هو أكثر. لقد حاول بوقاحة أن يسيطر على خدمة ممنوحة من الله، إذاً فليسمع قضاءه المحتوم «فالآن اسمع قول الرب: أنت تقول لا تتنبأ على إسرائيل ولا تتكلم على بيت إسحاق. لذلك هكذا قال الرب: امرأتك تزني في المدينة، وبنوك وبناتك يسقطون بالسيف، وأرضك تُقسم بالحبل، وأنت تموت في أرض نجسة، وإسرائيل يُسبى سبياً عن أرضه» (ع16،17).

كلمات واضحة هذه. وإن لم يكن لدينا من التاريخ المقدس ما يؤكد ويسجل إتمام هذه الأقوال، بيد أننا لا نشك في أنها قد تمت بحذافيرها. ولسنا نقرأ عن جواب من جانب أمصيا. فقد كان ضميره في صف النبي، وربما كان هذا هو الذي ختم شفتيه. وما أشد وقعها على نفسه حينما تستحضر هذه الأقوال لذهنه وهو - وقد تعرَّى وتجرد من كرامته وأبهته - يرفع عينيه، التي أعمتها الدموع، صوب السماء، في أرض الآشوريين!

  • عدد الزيارات: 3904