Skip to main content

الأصحاح 5: مرثاة على بيت إسرائيل

حزينة وخطيرة هي مرثاة النبي على الأمة العاثرة التي طالما أحبها. فقد تجلّت خيبتهم كشعب، من حيث وفائهم وولائهم لله، وما كان لهم على أساس المسؤولية أن يتوقعوا بركة ما. فإن عاد الله وأقامهم، ففي النعمة الخالصة فقط، وبغيرها لن يكون لهم نصيب سوى الدينونة.

وهكذا فشل كل ما عَهَدَ الله به للإنسان في كل العصور، ولا نستثني من ذلك حتى الشهادة التي سُلِّمت للكنيسة. لكن موارد الله في ذاته لا تفرغ، إنما يبرزها عند ظهور خيبة من هم موضوع نعمته. وهذا من شأنه أن يسعد ويسمو بروح الذين يتنهدون بسبب الانقسامات التاعسة والخراب الشامل الذي أصاب ما كان ينبغي أن يكون شهادة للمسيح ومجد الله في هذه الأيام الأخيرة. لكن لا داعي لليأس، فإنه يزعج النفس؛ فلنتوجه إلى الله من أجل شعبه. وإذا ما وجِدت الروح المنسحقة والتوبة، فهو - له المجد - قادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر.

لقد وصلت عذراء إسرائيل إلى درجة من الانحدار بحيث لم يعد في مقدورها أن تقوم، فلا هي كانت ترغب في ذلك، ولا كان من قادتها من يستطيع أن يقيمها. لكن الله لا يزال يصرخ في آذان من يريد أن يسمع «اطلبوني فتحيوا»، فليس من يُنجِّي سوى ذاك الذي انحرفوا عنه. أما السعي وراء بيت إيل والجلجال وبئر سبع، حيث المرتفعات التي تشهد للوثنية التي منبعها الإرادة الذاتية، فهو بلا جدوى كما قرأنا في ص4:4 بأسلوب التهكم. وإن كان هناك شيء من الروابط المقدسة التي تتصل بكل واحد من هذه المواضع، فذلك لا يمنع سبيها. فلم يعد بيت إيل بيتاً لله، ولا عاد الجلجال ليتحدث عن دحرجة العار. فإن بيت إيل، بالحري، أصبح معقلاً للشياطين، والجلجال صار هو نفسه عاراً (ع1-5).

فلا قيمة لما يُقال عنه “تسلمناه من الآباء” سواء في أوهام الخلافة الرسولية، أو الفكر الحديث الذي ساد في بعض الدوائر عن “أسس الكنيسة الأولى” أو “استمرارية مائدة الرب”. فما كان واضحاً أنه من الله أولاً، قد فسد بفعل الكبرياء والإرادة البشرية. على أنه يمكن رفض تلك الحالة والرجوع عنها - أمانة للرب - برغم كل الارتباطات والذكريات عن البركة الماضية. والقائد والمرشد الوحيد هو الكتاب المقدس، وليس القواعد البشرية وادعاء السلطان. إنما «الذي كان من البدء» هو القاعدة الأصلية وليس آخر.

هكذا التحريض لإسرائيل أن يطلبوا الرب ويحيوا. «لئلا يقتحم بيت يوسف كنار تحرق ولا يكون من يطفئها من بيت إيل» (ع6). لكنهم بالأسف أصمُّوا الآذان عن الإنذار، فبعد سنوات قليلة تحت الدينونة تجرد بيت يوسف من أرضهم، بحيث لم يعودوا يجتمعون حتى يوم المجد العتيد.

وفي الأعداد من 7-9 يحلِّق راعي الغنم التقوعي إلى أعلى ذروة في الشعر الملهم. ولا ريب في أن «الكواكب من حُبُكها (أي في مداراتها)» كانت أبداً موضوع تأملاته وهو يحرس قطعانه على التل في ظلمة الليل الساجي. وواضح أنه درس سفر أيوب لأن ع8 وثيق الصلة بأيوب 9:9، 31:38.

ها هو يصرخ «يا أيها الذين يحولون الحق أفسنتيناً ويلقون البر إلى الأرض. (لاحظوا) الذي صنع الثريا والجبار، ويحوِّل ظل الموت صُبحاً ويظلم النهار كالليل، الذي يدعو مياه البحر ويصبها على وجه الأرض. يهوه اسمه. الذي يفلح الخرب على القوي فيأتي الخرب على الحصن» (ع7-9). إن الثريا والجبار هما أهم المجموعات الكوكبية. وفي الشاهدين اللذين ذكرناهما آنفاً من سفر أيوب يترجمان “الكواكب السبعة”. وقد فهم العبرانيون أنهما يشيران إلى تلك المجموعات النجمية أو الكوكبية اللامعة التي تعلن عظمة الخالق ومجده. والنبي يدعو فاعلي الإثم أن يعتبروا ذاك الذي يهدي الأجرام السماوية، والذي أبرزها للوجود، الذي يجعل الشمس تشرق بمجدها، مبدداً الظلمة، والذي تستطيع يده أن تتحكم في تحركات الكواكب حتى تأتي بالليل، والذي يمنح الأرض الظامئة مطراً. مع هذا الخالق القادر أمر الناس، رغبوا أم لم يرغبوا. وعيناه تلاحظان طرق شعبه الشريرة، شعبه الذي دعي اسمه عليه.

وإذ رفضوا النور معاندين، فقد أظهروا بغضهم لمن يوبخونهم عند الباب، وتجنبوا المتكلم بالاستقامة والصدق (ع10). وخلفاؤهم ما أكثرهم! فمن المألوف أنك تجد الأشخاص السالكين بعدم مبالاة أو في خطأ واضح، يفيضون سخطاً ضد الذين تدفعهم الأمانة لتوبيخ طرقهم الدنسة. فتراهم يمتدحون الكارزين والمعلمين الذين يسايرون ويرضون جميع الناس، بينما هم يتجنبون ويحتقرون الأشخاص الأمناء الخائفين الله. على أن القديس الذي يريد أن يقف إلى جانب الله ينبغي أن يتوقع المقاومة والإشاعات المغرضة من الأشخاص ذوي التفكير العالمي وغير الروحيين.

ومع أن عاموس كان يعلم أنه لابد أن يُبغَض من أجل الإنذار والتوبيخ عند الباب، فقد واصل رسالته الخطيرة دون اعتذار أو تردد. فهو يعمِّق في ضمائرهم الخطايا التي كانت موشكة أن تجلب القضاء على الأمة المذنبة. لقد ظلموا المسكين، ولم يفكروا إلا في راحتهم هم، وأذلّوا البار، وأخذوا الرشوة، وأساءوا إلى البائسين في الباب الذي هو موضع الحكم. وإلى جانب هذا كانوا من الوقاحة بحيث كان من واجب العاقل الفطن أن يبتعد عن التعرض لإثمهم وشرِّهم، لأنه زمان رديء (ع11-13). لكن خادم الله الأمين لا يخفي شيئاً، ولا يتملق. بل يعلن رياءهم ثم يدعوهم لأن يطلبوا الخير لا الشر لكي يحيوا وليكون رب الجنود معهم. فإن أطاعوا الكلمة يتراءف الله على بقية يوسف (ع14،15).

والذين على شاكلة عاموس لن تكون لهم شعبية عند قومهم. وإنه لمن الأفضل كثيراً أن ننال مدح إلهنا عن مدح الكثيرين. ونظير بولس، كان عاموس يتكلم، ليس كمن يرضي الناس، بل الله الذي يختبر القلوب. ومع ذلك فقد خلا كلامه من الأسلوب الجارح والألفاظ اللاذعة، بل إنما كان يذكرهم، بروح الجد، بإثمهم، داعياً إياهم، دعوة المحبة إلى التوبة.

أما إذا أعرضوا عن هذه الدعوة، فإن النحيب لابد أن يحِّل محل أغانيهم الجوفاء، كما حدث سريعاً حين تكدَّرت الأفراح، وفي مباهج الكروم سُمعت مراثي الخراب (ع16،17).

وعجيب سقوط الأدنياء، ومع ذلك فما أقوى كلامهم في أسلوب من التدين والتقوى. فمع أن حالة إسرائيل كانت شريرة بائسة، فقد وُجد بينهم من يعترفون بأنهم يشتهون يوم الرب، أملاً منهم في الخلاص من عنائهم وويلاتهم التي هي ثمرة انحرافهم وضلالهم. وعلى مثل هؤلاء ينطق النبي بالويل. ما الذي يتوقعونه من نفع في يوم الرب؟ إنه سيكون كما لو هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه دب. يحاول أن ينجو من الخطر الثاني فيهرب إلى بيته، وإذ يسند يده إلى الحائط تلدغه حية سامة مختبئة في زاوية، فتصُب في كيانه سمها الزعاف. وهكذا لا يهرب من الدينونة. إن يوم الرب هو يوم الاستعلان، ولذلك فهو بالنسبة إلى الأشرار يوم ظلام لا نور، «قتام لا نور له» (ع18-20).

واتفاقا مع ادعائهم بتكريم يوم الرب، كانت أعيادهم واعتكافاتهم باطلة غير حقيقية. فبحسب الظاهر كان هناك الادعاء بتكريم الرب في أيام حكم يربعام الثاني، ولكن في الواقع كانوا يهينونه بممارساتهم الدنسة التي أمعنوا فيها. ولذلك أبغض أعيادهم ورفض تقدماتهم. لقد كان يريد منهم أن يجري البر كنهر جبار في الأرض، لا أن يبادروا بالصور الخارجية والفرائض والطقوس (ع21-24). على أن مسلكهم الراهن الزائف كان طابعهم المحيِّر منذ بداية تاريخهم. حتى في أيام البرية، أقاموا خيمة معبودهم الصنمي إلى جوار مقدس الرب، وكانوا يقدمون لمعبوداتهم الكاذبة تلك ذبائحهم وتقدماتهم خلال تلك السنوات الأربعين. «فأسبيكم إلى ما وراء دمشق، قال الرب إله الجنود اسمه» (ع25-27). هذا جميعه على غاية من الخطورة، وخليق بأن نعتبره. فالرب يعلن هنا أن السبي الآشوري كان ثمرة وثنيتهم الخاطئة منذ مبدئهم! وإذ لم يكن ذلك الارتداد قد دين وحُكم عليه حقيقة، فلابد أن يدانوا بسببه! ما أشدَّ ما تحمله هذه العبارة من توبيخ لأولئك الذين يرفضون أن يواجهوا هذه الحقيقة؛ وهي أن الشرَّ غير المقضي عليه لا يزال يعمل كالخمير، حتى يخمَّر العجين كله. ومرة أخرى يواجهنا الدرس عينه الذي ألمحنا إليه ونحن ندرس هوشع4:7-7. ألا حبذا القلوب التي تنحني أمام الحق الذي طالما يبرزه الكتاب، وهكذا تُحفظ من دنس الشر غير المقضي عليه وغير المدان.

  • عدد الزيارات: 3534