مقدمة
المعلومات التي لدينا عن عاموس أكثر مما اعتدناه مع أصحاب النبوءات الصغيرة. فهو بوحي من الله يقدِّم لنا لمحات تاريخية ذات أهمية قصوى، يجدر بنا أن نتناولها في إيجاز قبل أن نبدأ دراسة ما قدّمه من رسائل لإسرائيل وللأمم المجاورة.
لقد أُعطيت له هذه النبوءات في أيام عزيا ملك يهوذا ويربعام الثاني ملك إسرائيل. ويصف نفسه بأنه كان راعياً في “تقوع”، وهي قرية تربض على الجانب الجبلي من يهوذا، وتبعد عن أورشليم قرابة اثني عشر ميلاً. واسم هذه القرية يرد كثيراً في الكتاب. ومن بين مواطنيها كانت تلك المرأة الحكيمة التي أوفدها يوآب لإقناع داود بالسماح لابنه القاتل أن يعود إلى ميراثه، ضداً على خط مستقيم للشريعة الإلهية والإنسانية (2صم2:14).
وكذلك كان منهم “عيرا بن عقيش” واحد من أبطال داود (2صم26:23). ومما يستلفتنا في عديد من المناسبات، وحتى بعد الرجوع من بابل، تلك الغيرة التي اتسم بها رجال تقوع، ولو أن ملامة ألحقت بعظماهم في مناسبة بناء سور أورشليم (نح5:3،27). وإذ كانت القرية في البرية، تحوطها الوحشة والفراغ، لذلك كانت موضعاً مناسباً للرعاة، وهناك واصل عاموس عملة المتضع حتى أفرزه الرب نبياً.
وهو يخبرنا أنه لم يولد في بيئة الأنبياء الطيبة، ولا هو اختار بنفسه تلك الدعوة. ولكن حين كان راعياً وجاني جميز (وهو ثمرة التينة البرية)، قال له الرب «اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل» (ص14:7،15). وكان في هذا ما يكفي عاموس. فلم يكن معانداً للصوت الذي من السماء، بل وسرعان ما ترك وراء ظهره مراعي البرية؛ وأعطى ظهره لموطن مولده، حتى نراه يعلن كلمة الرب في قلب عاصمة المملكة الشمالية، الأمر الذي أثار حفيظة يربعام وكاهنه الزائف أمصيا. ولما قيل له أن يهرب إلى أرضه وهناك يتنبأ؛ أبرز لهم، في الحال، وفي شجاعة، ما لديه من وثائق التعيين الإلهي، وقدم لهم رسالة أشد من سابقاتها.
أما كم من السنوات استطالت خدمته، وما هي ظروف وزمان موته، فليس لدينا سجلات بشأنها. غير أن ما زودنا به الإعلان الإلهي حافل بأعظم الدروس أهمية لنا.
هي أبداً طريقة الله أن يعد خدامه سراً للعمل الذي سينفذونه في ما بعد جهراً. فهوذا موسى في ما وراء البرية، وجدعون على أرض البيدر، وداود مع غنيماته القليلة على التل، ودانيآل رافضاً أن يتدنس بأطايب الملك، ويوحنا المعمدان في البرية، وبطرس في سفينة صيده، وبولس في العربية، وعاموس يسير من خلف القطيع ويرعى ماشية في برية تقوع. كل أولئك يشهدون لهذه الحقيقة. ومهم أن نلاحظ أن الشخص الذي تعلم من الله في مدرسة الخفاء والاستتار هو فقط المؤهل لأن يضئ في الخدمة العلنية.
لم يكن لدى عاموس فكرة أن يصير نبياً، أو أن يُعترف به كنبي، كما يفعل الناس اليوم، الذين يختارون الخدمة كمهنة يحترفونها. قد كان في إمكانه - بلا ريب - أن يظل قانعاً بمواصلة عمله المتواضع كزارع صغير إلى مدى عمره، لو أن هذا كان فكر الله من نحوه. على أنه وهو يتتبع القطيع كان وكأنه يناجي الرب. وفيما هو يجني الجميز من أطراف البرية، كان يفكر في نتائج علاقة النفس بالله وأهمية السير في طرقه. وبينما هو يرعى قطعان الغنم كان يتلقى أعجب الدروس عن محبة الخالق الأمين وعنايته. وإذ جاء “ملء الزمان” بالنسبة له، أوقد الله الشعلة فالتهبت. وإذا بالراعي المتواضع بطلاً مغواراً، نبياً يدفعه روح الله، ليس لقومه فقط بل لإسرائيل جميعاً ومن يحيط بهم من أمم.
ولا نقرأ عن تردد عدم الإيمان، ولا معارضة لقول الله، ولا مساومة أو مناقشة بالنسبة لموارد المعيشة الزمنية، كلا، ولا نلمس قلق الجسد أو الرغبة في أخذ مكان الجبهة الأمامية لتلتفت إليه الأنظار كنبي أو حكيم. بل تاريخه، على مداه، هو تاريخ إنسان الله، بسيط متواضع، ينتظر أو يركض في الوقت الذي يراه سيده مناسباً. وكم في هذا جميعه من الدروس لنا اليوم! فما أكثر الخدام الذين صفوا أنفسهم خادمين، وحياتهم الداخلية على تناقض محزن مع دعوى الخدمة. وما أكثرهم أيضاً أولئك الذين يصرون على أن يشغلوا مكان الخادم لله، ممن لم يصرفوا قط زمناً في مدرسته يتعلمون طرقه كما عاموس. ومن هنا صارت أقوالهم خواء فاشلة إلى أقصى حدود الفشل، الأمر الذي نتوقعه صادراً من أناس لم يرسلهم الرب. ولكن الأمر على النقيض من هذا مع عاموس. وبقدر ما نتعلم عن هذا الرسول، بقدر ما نكون على استعداد لأن نصغي إلى رسالته.
إن سنوات الاختفاء تلك لم تمضِ عبثاً. لم تكن مجرد زمان أصغى فيه لصوت الله مكلماً إياه؛ بل كان في خلاله يحصل خبرة، ونظرة نافذة للناس وللأشياء مما كان له نفعه في خدمته. فنحن طالما نسمعه، بين وقت وأخر، يستخدم تشابيه وأمثلة نتبيّن منها مدى تفكيره وملاحظته لما كان يمر عليه ويراه في محيط حياة الباكرة، من حياة وجماد. وإنك لترى ذلك بوضوح من الفصول الآتية: 13:2؛ 12:3؛ 9:4؛ 8:5؛ 12:6؛ 1:7،2، وغيرها مما سنراه ونحن نتقدم.
موضوع السفر بصفة عامة، دينونة تقع على إسرائيل ويهوذا كما على الأمم المجاورة لهم.
في الأصحاحين الأولين نجد ثمانية إعلانات مستقلة موجهة بالتتابع إلى دمشق وغزة وصور وأدوم وعمون وموآب ويهوذا وإسرائيل.
والقسم الثاني من النبوءة يشمل الأصحاحات الأربعة التالية (ص3-6)؛ وفيه نرى كلمة الرب لإسرائيل، أي للمملكة الشمالية، مملكة العشرة الأسباط.
أما القسم الثالث فيشمل الثلاثة الأصحاحات الأخيرة (ص7-9)؛ وفيه نجد مجموعة من خمس رؤى، تقطعها فقرة اعتراضية كبيرة (ص10:7-17) خصصها الروح لتاريخ النبي شخصياً كما ألمحنا قبلاً. وتُختم الرؤى بإعلان البركة والرجوع الألفي كما نرى في هوشع ويوئيل، بل وفي النبوءات بصفة عامة. فإن كانت الدينونة هي الموضوع الرئيسي، غير أن الدينونة ليست إلا تمهيداً للطريق للمجد. ولن يسكت الرب حتى يثبت البر والبركة في كل الأرض.
- عدد الزيارات: 4301