أصحاح 3: وادي القضاء
يستطرد النبي ولا تزال أمام عينيه مناظر الأحداث التي سوف تلمع في يوم الرب، فيكشف بأكثر تفصيل الحقائق الخاصة بذلك الموسم الذي طال انتظاره، موسم قوة الرب.
ويجب أن نلاحظ أن عبارة «اليوم» أو «ذلك اليوم» التي ترد كثيراً بالارتباط بظهور الملكوت لا تشير إلى يوم حرفي، أي أربع وعشرين ساعة. فإن يوم الرب طبقاً لما هو مشار إليه في رسالة 2 بطرس 10:3، يشمل الفترة من الضيقة العظيمة حتى زوال السماء والأرض، والتي بعدها يأتي يوم الله أو يوم الأبدية.
والكتاب المقدس يذكر أربعة أيام تدبيرية. فيومنا هو «يوم بشر» (1كو3:4). والظهور أمام كرسي المسيح هو في « يوم المسيح» (في6:1،10). ويأتي بعد ذلك «يوم الرب» الذي هو كل الفترة التي في خلالها يأخذ الرب مكانه وحقوقه في الأرض، التي مرة كان فيها مرفوضاً. ثم «يوم الله» أي الحالة الأبدية، ويذكر مرة واحدة في 2بطرس12:3. فواضح إذاً أنه إلى هذا «اليوم» الثالث العظيم، يشير الأصحاح الذي أمامنا، والذي يتناوله العدد الأول منه.
«لأنه هوذا في تلك الأيام وفي ذلك الوقت، عندما أرد سبي يهوذا وأورشليم، أجمع كل الأمم وأنزلهم إلى وادي يهوشافاط، وأحاكمهم هناك على شعبي وميراثي إسرائيل الذين بدَّدوهم بين الأمم وقسموا أرضي» (ع1،2). إن المشهد الذي رسمه سيدنا بنفسه في متى 13:25-46 يتفق مع هذا المشهد. فقد وصف سيدنا بوضوح مجيء ابن الإنسان في مجده ليجلس على كرسي مجده، وهناك يدين الأمم الأحياء. ومن المعروف أن هذا المشهد القضائي يختلف كثيراً عن الدينونة الأخيرة أمام العرش العظيم الأبيض في رؤيا20. ففي سفر الرؤيا يُدان الأشرار الأموات ويطرحون في بحيرة النار، أما الأموات الأبرار فإنهم يكونون قد أقيموا بالمجد قبل هذا الوقت بألف سنة. أما دينونة الخراف والجداء فقد تُسمى، من الجهة الأخرى، محكمة تقف أمامها الأمم الأحياء على الأرض عندما ينزل المسيح ليأخذ المملكة. فهي إذاً سابقة للملك الألفي، على حين أن دينونة العرش العظيم الأبيض لاحقة له. وفي متى 25 يُجازى الخراف مجازة حسنة بسبب معاملتهم لإخوة المسيح، أي البقية اليهودية. أما الجداء فدينونتهم ترجع إلى عدم مبالاتهم بأولئك الإخوة، بل وقسوتهم أحياناً. وهذه الدينونة المميزة هي التي يضعها أمامنا الآن النبي يوئيل.
فابن الإنسان سيقيم عرشه في وادي يهوشافاط. أما أين يقع هذا الوادي فهذا ما يصعب تحديده، إذ أن هذه هي المرة الوحيدة التي يُذكر فيها. لكن الشيء الذي نعرفه جيداً أنه يوجد وادٍ عميق خارج أورشليم يحمل الآن هذه التسمية، وهو يفصل المدينة المقدسة عن جبل الزيتون. على أنه من المحتمل أن هذا الوادي قد تسمى بهذا الاسم رجوعاً إلى هذه النبوة، لكن ليس هذا معناه أنه كان يسمى بهذا الاسم يوم تكلم يوئيل، ولا حتى بعد ذلك بعده أجيال أو قرون، إذ أنه لم يكن قد تسمى هكذا حتى القرن الرابع الميلادي. أما إذا أخذنا اسم «يهوشافاط» على اعتبار أنه لفظ عبري غير مترجم حينئذ يتضح كل شيء. وإذ ذاك فلنا أن نقرأه هكذا “وادي قضاء يهوه”.
هناك سيجلس الرب ليدين الأمم الذين ضايقوا وبددوا شعبه وباعوهم للاستعباد وابتهجوا بعارهم. لا ريب في أن الله نفسه هو الذي سمح لهم أن يضطهدوا إسرائيل لتأديبهم، بيد أن هذا لا يقلل من جريمة مضطهديهم. من أجل ذلك فإن صور وصيدون، مع جميع الذين ساهموا في إذلال اليهود، سوف يجازون بحسب أعمالهم (ع8:3).
لا شك في أن الناحية الخاصة التي يقصد أن يبرزها متى 25 هي معاملة شهود البقية الهاربين من وجه اضطهاد ضد المسيح المرير. إذاً فخدمة أولئك الشهود، وتزويدهم بحاجات الحياة الضرورية، معناه عملياً الإقرار بحقوق المسيح الحقيقي، في حين أن عدم المبالاة بهم معناها الرضاء عن سيادة النبي الكذاب. ومن ثم فأولئك الخراف سيمضون إلى حياة أبدية، إذ كانت أعمالهم برهاناً على الولادة الجديدة. وهكذا نجد أمامنا في العهد الجديد تفصيلات لم يشأ الله أن يعلنها بفم يوئيل، على أن ارتباط المشهدين واضحاً.
يؤيد هذا، نداء الأعداد من 9-17. فليسمع أبطال الأمم صوت الهتاف، وليصعدوا على أرض عمانوئيل. وإذ يحوّلون أدوات السلم إلى أسلحة حربية، يصعدون في جيوش عارمة ليحاصروا أورشليم كما في زكريا14 ورؤيا19. ويومئذ سيكتسحون الأرض، وتزول كل معونة بشرية لبقية إسرائيل الذين يتمسكون بالرب. ومن هنا يصرخون في ساعة ضيقهم الشديد «إلى هناك أنزل يا رب أبطالك». فإذ يعلمون أن الساعة قد دقت ليأخذ القديسون المملكة، يتحولون إلى السماء في شدتهم، طالبين أن ينزل إلى هناك مسيحهم - الذي مرة رفضوه - مع ركبه المجيد. وجواب صلاتهم نجده في ذلك المحارب الراكب على الفرس الأبيض ومعه أجناد السماء كما هو مدون في رؤيا19، وذلك ليجري دينونة على جيوش الأمم المسلحة.
لكن هذا ليس الكل. فهناك محاكمة أخرى يدعى إليها جميع الأمم «تنهض وتصعد الأمم إلى وادي يهوشافاط لأني هناك أجلس لأحاكِم جميع الأمم من كل ناحية» (ع12). وهذا مرتبط مع «حصيد الأرض» في رؤيا14:14-16. «أرسلوا المنجل لأن الحصيد قد نضج». وليس الأمم فقط هم الذين سيدانون، وتفرز بينهم الحنطة عن التبن، بل إن الفريق المرتد من أمة إسرائيل والذي سيعترف بحقوق لضد المسيح المجدف، سوف يطرحون في معصرة غضب الله كعنب قد نضج (رؤ17:14-20). وهكذا نقرأ «هلموا دوسوا لأنه قد امتلأت المعصرة، فاضت الحياض لأن شرِّهم كثير» (ع13).
أما العدد الرابع عشر ففيه تصوير مؤثر لهذا المشهد الخطير. وهو عدد طالما أُسيء فهمه. «جماهير جماهير في وادي القضاء، لأن يوم الرب قريب في وادي القضاء». هو يوم حيثيات القاضي، يوم النطق بالحكم وليس اليوم الذي يُدعى فيه الناس ليقرروا موقفهم بالنسبة للمسيح. فإن وادي يهوشافاط سيكون كبيدر كبير يجلس فيه المذري الإلهي ليفرز من يشاركونه ملكوته عمن يمضون إلى العقاب الأبدي. ويومئذ يخبو كل نور مخلوق، ويعدُّ ظلاماً أمام مجد المصلوب (ع15)! ذاك الذي سيُستعلَن كرب الجنود ويزمجر من صهيون، ومن أورشليم يعطي صوته، مقلِّباً ومحطماً كل نظم الحضارة في الأرض، وكل السلطات السياسية، وكل ادعاء ديني. فإن الرب وحده سيكون ملجأ شعبه وقوة إسرائيل في ذلك اليوم (ع16).
هكذا يُفتتح ملكوت ابن الإنسان الذي طال انتظاره، ويعرف كل إسرائيل أن الرب إلههم يسكن في صهيون جبل قدسه. وحينئذ تنتهي فترة دوس الأمم لأورشليم بعد أن دامت زمناً طويلاً، ويكمل إثمها فتصبح من كل وجه «المدينة المقدسة» التي لن تُداس فيما بعد بأقدام الغرباء الأعاجم.
والأعداد الأربعة الأخيرة تصف ذلك العصر المجيد، غير أن خراب مصر الذي يتكلم عنه هنا ليس خراباً نهائياً كما نتعلم من فصول أخرى.
«ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيراً، والتلال تفيض لبناً، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء، ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط (وادي شطيم)» (ع18). هذا مشهد الوفرة والحياة، وإليه يضيف حزقيال تفصيلات أخرى في ص47 من نبوءته.
وعندئذ تُعلن الدينونة على مصر وأدوم من أجل معاملتهم الماضية لشعب يهوذا. أما أدوم فسوف تُمحى إلى الأبد كأمة، الأمر الذي يعلنه عوبديا النبي. أما مصر فإنها سترجع بعدما تُعاقَب عن خطاياها (إش18:19-25).
إن زمان ضيق يهوذا سيأتي بثمر نفيس، إذ يردهم الرب ردّاً كاملاً ويباركهم. وهكذا «يهوذا تُسكَن إلى الأبد وأورشليم إلى دور فدور»، إذ تكون قد اغتسلت من كل دنسها، وأصبحت طاهرة في عيني ذاك الذي يسكن بينهم في قلعته المختارة صهيون. «وأًبرئ (أغسل) دمهم الذي لم أُبرئه، والرب يسكن في صهيون» (ع21). ولعله لم يكن من الضروري أن نحاول تفسير هذا العدد بأكثر تفصيل لولا ما ذاع بيننا في هذه الأيام من تفسير مغلوط، يؤيده قوم من رجال الدين العصريين المدعين، الذين يضللون البسطاء ويفسدون أذهان السلماء مستندين إلى هذا العدد. والتعليم الخاطئ الذي نشير إليه يدّعي أن بقية منتقاة من هذا الدهر، سيُبرَّأ دمهم من كل النجاسات التي تُفضي إلى الموت الطبيعي، وإذ ذاك سيحصلون على الخلود في الجسد. مع أن القرينة الكتابية توضح جلياً أن أقوال هذا العدد تشير إلى تبرئة أو غسل يهوذا الحرفي من أدناس دم أعدائهم الذي تدنسوا به خلال أهوال الضيقة العظيمة. ومن ثم يصيرون قدساً الرب.
ولو عدنا إلى إشعياء4:4 لانجلى لنا الموضوع بوضوح أكثر. فالله يتكلم بلسان إشعياء عن نفس الزمان المجيد «إذا غسل السيد قذر بنات صهيون ونقّى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق». وفي مراثي14:4 يوصف الأنبياء والكهنة كمن تاهوا كعُمي في الشوارع، «وتلطخوا بالدم، حتى لم يستطع أحد أن يمس ملابسهم» وهكذا، إذ كان لهم دور في قتل البار، صار إسرائيل كله مُدَنساً، ولكن في ذلك اليوم سوف يُبرَّأ أو يُغسل ذلك الدم، وحينئذ يستطيع الله أن يسكن في وسطهم. وهناك فصول كتابية أخرى يمكن الاستشهاد بها، ولكن تكفي هذه لإيضاح حقيقة المقصود من هذا العدد.
بهذا ينتهي وحي يوئيل. لقد حمل سامعيه وقرائه إلى يوم استعلان مجد المسيا، وهو المجد الذي لا تستطيع النبوءة أن تتجاوزه، باعتبار ارتباط النبوءة بالأرض. ولكننا في أسرار العهد الجديد فقط نجد بعضاً من الأشياء التي أعدّها الله للذين يحبونه، الذين يشاركونه في راحته الأبدية، بعدما تنتهي دورات الزمن، عندما لا يكون زمان بعد.
آمين. تعال أيها الرب يسوع.
- عدد الزيارات: 5630