Skip to main content

أصحاح 2: وعد انسكاب الروح

ندخل بهذا الأصحاح الثاني في أحداث يوم الرب القادم الخطيرة المثيرة. وهو يوم لا يأتي إلا بعد اختطاف الكنيسة إلى السماء، إذ يعود الله ويتعامل مع إسرائيل كأمة، ويتمم جميع ما تكلم به الأنبياء.

وأنا أكتب لست أنسى أن الجزء الأخير من هذا الأصحاح هو الذي أقتبسه الرسول بطرس ليفسِّر إظهارات الروح العجيبة في يوم الخمسين. غير أننا سنرى ونحن نتقدم في دراستنا أن هذا الجزء من الأصحاح الذي أمامنا ينطبق بصورة أكبر على انسكاب عتيد قادم. صحيح أن انسكاب يوم الخمسين كان مثله في النوع، وهو على قياس ما إتماماً أوّلياً له، بحيث أمكن لبطرس أن يقول «هـذا ما قيل بيوئيل النبي». غير أن النبوءة لم تكن قد استنفذت أهدافها عندئذ كما نتبين من الدراسة الواعية لسفر يوئيل جملة.

وتشبيه البوق، الذي جاء ذكره مرتين (ع1،15)، يرتبط بما جاء في سفر العدد والأصحاح العاشر. فهناك نقرأ عن «بوقين من فضة» يُستعملان لهدف مزدوج: يضربون بهما هتافاً للتحذير والإنذار، ثم يضربون ولا يهتفون لاستدعاء الجماعة إلى حضرة الرب. أولهما للقتال، والآخر يستحضرهم لتعليمهم. ونفس الشيء هنا. ففي الأعداد من 1-14 نسمع هتاف بوق الإنذار لتحذير الشعب من الأحداث المخيفة العتيدة أن تقع في يوم الرب، الذي يقول النبي إنه قريب. أحداث من الخطورة حتى لم تكن ضربة الجراد التي عانوا منها إلا صورة باهتة لما هو مُختزَن للأرض ولشعب يهوذا إلى ذلك اليوم. وفي الأعداد من 15 وحتى نهاية الأصحاح، نسمع صوت البوق داعياً الشعب للاجتماع، وهنا نقرأ عن تعليم الشعب تفصيلاً فيما يتعلق بالبركة التي تعقب الأحكام المتنبأ عنها. في الجزء الأول يوصف يوم الرب بأنه «يوم ظلام وقتام، يوم غيم وضباب، مثل الفجر ممتداً على الجبال». وكما أن أقسى الساعات ظلمةً هي التي تسبق الفجر، هكذا تكون الحال قبل طلوع النهار الألفي، إذ يجتاز العالم عموماً، ويهوذا خاصة، أشد فترات الضيق ظلاماً.

والآلة الرئيسية للتأديب بالنسبة ليهوذا هي «شعب كثير وقوي» مشبَّه بجراد مخرِّب. ذلك هو أشوري الأيام الأخيرة، ملك الشمال المرعب الذي سوف يكتسح أرض فلسطين قبيل الظهور المجيد، ظهور شمس البر. فمثل نار آكلة سوف يكتسح الأرض، وبلا رحمة يُتلف. فما كان قدامه كجنة يتركه خلفه قفراً (ع2،3). كخيل قوية تركض إلى ساحة الوغى، ومثل مركبات على رؤوس الجبال، يثبون كما من جبل إلى جبل، ومن قمة إلى أخرى، في مذبحة لا تقاوَم، كلهيب آكل يلحس كل ما يعترض طريقه. وفي فزع الهروب «كل الوجوه تجمع سواداً» سعياً مجنوناً للإفلات من أخبار النقمة (ع4-6). وفي الأعداد من 7-9 يرسم النبي صورة ناطقة لتقدم الجيش المنظَم المتدرِّب، لا يعرفون إلا أوامر قوادهم، ولاشيء يحوّلهم عن طريقهم، فيدخلون إلى حيث تختبئ ضحاياهم، ويقهرون كل صعوبة في طريق تقدمهم بقوة نارية.

إن العدد العاشر له، بلا ريب، طابع رمزي في الرؤيا النبوية. فإن الصعود والهبوط والتحركات القتالية في يوم غضب الله هذا سوف تكون من العنف بحيث تشبه زلزلة الأرض ورجفة السماء؛ تظلم الشمس، وكذلك القمر. أما النجوم فتبدو وكأنها مُحيت من مكانها في الجو المعتم. تماماً كما نرى في رؤيا 6 في الاضطرابات التي تحدث تحت الختم السادس، حيث ينقلب رأساً على عقب كل ما يحسبه الناس ثابتاً. والمقصود هنا، ليس خراب العالم المادي، بل الأدبي والروحي، وسقوط السلطات السياسية.

ويترتب على هذا خطاب موجَّة لضمير يهوذا، حيث يدعوهم الرب للرجوع إليه بقلوبهم ومعهم الثمار التي تليق بالتوبة. فهو يطلب الحقيقة لا الرياء الظاهري الخارجي، ومن هنا يقول «مزقوا قلوبكم لا ثيابكم»، مؤكِّداً لهم عطفه الحاني ونعمته التي لا تفشل، إن هم تحولوا إليه بعزم القلب. فحتى وإن كان السيل قد قطر بالفعل قطراته الأولى، فمن يستطيع أن يجزم بأن الله لا يمكن أن يرجع عن غضبه ويأتي بالبركة. ولو كانت الساعة متأخرة، ولو بدا أن الوقت قد فات، فإن عطفه ورحمته لا يزالان نحوهم، حتى يعينهم ويرحمهم من مزيد من الأحزان، وأن يبقي بيته وخدمة بيته في وسطهم (ع12-14).

والنداء الآخر في ع15. فبدلاً من هتاف البوق يأتي الأمر «اضربوا بالبوق في صهيون. قدسوا صوماً. نادوا باعتكاف». فقد أراد الله أن يجمع شعبه في حضرته، ليعلّمهم طرقه ويهدي أقدامهم في طريق مستوية، لو أن لهم قلباً لصنع مشيئته. والدعوة صادرة لكل الطبقات، من الشيوخ إلى الأولاد. والكهنة وخدام الرب مدعوون لأن يبكوا بين الرواق والمذبح، صارخين لذاك الذي أمام بيته يقفون، ليشفق على شعبه ولا يسلِّم ميراثه للعار.

إن وقفة الكهنة بين رواق الهيكل ومذبح النحاس خارجاً لها دلالتها الواضحة، إذ تتحدث عن الاقتراب إلى الله على الأساس الذي يتحدث عنه المذبح، أي شخص الرب يسوع المسيح وعمله. فباسمه، وحسب عمله الكامل، وبفضله، يستطيع القديس العاثر أن يندم «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار». وعلى هذا الأساس يطلب من الكهنة أن يأخذوا مكانهم على جانب المذبح من ناحية الهيكل، ممثلين للشعب الذي، وإن كان في حالة الفشل، لكن لا يزال هو الشعب الذي افتداه الرب (ع16،17).

ولو كان فيهم قلب يتجاوب مع نداء الله للانسحاق وإدانة الذات، لرجع عنهم المنتقم، ولنهض الرب في قدرته كالمنقذ، وحوّل الدينونة واستبدل بها البركة والبهجة. ولا ننسَ أنه في الأيام الأخيرة سوف تأخذ تلك البقية، التي ستُحفظ للملكوت، ذلك المركز عينة. وحينئذ تتم كل المواعيد المترتبة على التوبة. إن الملك الشمالي سوف يهلك، وتفنى قوته التي سيُغِير عليهم بها، حينما يطرده الرب إلى أرض ناشفة ومقفرة، ويتحطم كل عدو، وتستعلن ذراع الرب (ع18-20).

وواضح أنه على ضوء هذه التوبة القومية، تترتب مواعيد التعزية التي تملأ بقية الأصحاح. فللأرض أن تبتهج بسبب العظائم التي يجريها الرب، حتى أقل الكائنات في الخليقة سوف تشارك في بركات تجديد الأرض. تلك هي فترة حرية مجد أولاد الله التي تنتظرها كل الخليقة التي تئن وتتمخض (رو8 ). إن الخليقة لا تشارك في حرية النعمة الحاضرة، لكن المجد سيشمل الكل. حينئذ الوحوش التي كانت يوماً ما ضارية مفترسة «لا يسوؤن ولا يفسدون» في كل جبل القدس، بل «يسكن الذئب مع الخروف .... وصبي صغير يسوقها». وكذلك تُرفع اللعنة عن المملكة النباتية، فمراعي البرية تتفتح عن جمال وخضرة، والتينة والكرمة - كناية عن الأشجار المثمرة - تعطيان بفيض (ع22).

ولكي تسترد أرض كنعان خصوبتها، بل وتزيد عما كانته قديماً، سوف يعطي الرب المطر المبكر والمتأخر، وبغزارة. إنها لَحقيقة معروفة جيداً أن إله إسرائيل سبق فأعطاهم قبساً من إتمام هذه النبوة حرفياً. ولكن لقرون طويلة منع المطر المتأخر عن فلسطين، وإذا بالأرض التي كانت يوماً جنة الشرق قد أصبحت جرداء عقيمة، بالكاد تكفي سكانها المشرذمين. ولكن في الآونة الأخيرة عاد المطر المتأخر على قياس محدود، فابتدأت تزدهر الزراعة وتثمر الكروم، وعادت أشجار الزيتون والتين تطرح سقاطها. وكأن الله يُحسن إلى العالم بوجه عام وإلى شعبه القديم - الذي بدأ بالفعل عودة محدودة إلى أرض آبائه - بوجه خاص، ليعطي الدليل على أن عينه على الأرض التي اختارها لنفسه، ووعد بها إبراهيم إلى الأبد، والتي سكن فيها ابنه الوحيد في أيام اتضاعه، بل والتي فيها صُلب، والتي ضمت بين جانبيها قبره، وهي أيضاً الأرض عينها التي سوف تمسَّها قدماه المجيدتان حين ينزل ليأخذ سلطانه وملكوته. وطوال ملك المسيح الألفي (رؤ6:20) سوف تكون تلك البلاد جنة المسكونة بأسرها، يباركها المطر في أوانه، وتكون من الخصب بحيث «تُملأ البيادر حنطة وتفيض حياض المعاصر خمراً وزيتاً» (ع23،24).

ويومئذ تُنسى أزمنة الضيق والخراب، لأنه قال «أعوِّض لكم عن السنين التي أكلها الجراد، الغوغاء والطيار والقمص، جيشي العظيم الذي أرسلته عليكم» (ع25). ما أعجبه تعبيراً: الجيش العظيم الذي أرسلته! أثناء الافتقاد المُشار إليه في ص1، كانوا عُرضة لأن يذكروا فقط ضربة الجراد وينسوا من أرسله. فيؤكد لهم أن هذا الجراد كان جيشه، الذي وجّهه ضد الأرض لتأديب شعبه. ولكن في يوم الرب القادم سوف يعوِّض عن خسائر الماضي تعويضاً سخياً. يومئذ سيأكلون بوفرة دون أن يختبروا أي نوع من العوز. وفي نفس الوقت سيكون شخص الذي فداهم منذ القديم غرض تسبيحهم وشكرهم التعبدي. وإذ يسكت في محبته، لن يخزوا بعد، لأنه سيكون في وسطهم، وله ولاء قلوبهم، فلا يعودون يستبدلون به أصنام الماضي (ع26،27).

ثم يقول «ويكون بعد ذلك (أي بعد أن يعود يهوذا إلى أرضه، وتدخل الأمة في مجموعها في البركة) أني أسكب روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى. وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام. وأُعطي عجائب في السماء والأرض، دماً وناراً وأعمدة دخان. تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم المخوف. ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو. لأنه في جبل صهيون وفي أورشليم تكون نجاة، كما قال الرب. وبين الباقين من يدعوه الرب (أي البقية التي يدعوها الرب)» (ع28-32). لقد أوردت هذا الفصل الهام كاملاً حتى يكون أمامنا بجملته، فلا تفوتنا كلمة أو عبارة فيه. ليس لأنه فصلاً أو فقرة معزولة عن بقية السفر، فالترتيب الإلهي كامل ومتقن، بحيث أن الفصل جاء في مكانه الصحيح في منظومة أحداث يوم الرب التي أعلنها النبي. وواضح أن هذا جميعه لا يتم قبل أن يسترد شعب إسرائيل مكانه في أرضهم، وحينئذ سيمد الله بركته إلى ما وراءهم، فيسكب روحه «على كل بشر»، فاتحاً الطريق لإدخال الشعوب الناجية في امتيازات الملكوت الألفي المجيدة. والشيوخ والشباب سوف يُمسحون بمسحة الروح، فيستنيرون ويحلمون أحلاماً ويرون رؤى ويتنبأون، ولن يكون هذا قاصراً على الذكور، فالبنات والإماء لهن نصيبهن سواء بسواء. لكن لاحظ أن عجائب العددين 30،31 سوف تحدث قبل أن يجيء يوم الرب. ثم يمتد الخلاص إلى جميع الأمم الذين لم يسمعوا الإنجيل مطلقاً في تدبير النعمة الحاضر. حينئذ يكون «كل من يدعو باسم الرب ينجو». ولماذا؟ «لأنه في جبل صهيون وفي أورشليم تكون نجاة»، أي أن إسرائيل الراجع سيكون مركز البركة للأرض كلها. وهذا يختلف عن الكرازة بإنجيل نعمة الله في يومنا الحاضر، إذ أن جبل صهيون وأورشليم ليسا الآن مستودع البركة للأمم، بل العكس صحيح. ولكن بعد اختطاف الكنيسة، جسد المسيح، لتكون مع الرب كل حين، وبعد أن يرجع الله ويجمع إليه اليهود، ويجعلهم وسيلة الخلاص للأمم الوثنية، سوف تتم نبوءة يوئيل بحذافيرها.

هذا هو المعنى الوحيد الواضح لكل قارئ واعٍ للفقرة التي أمامنا. ولكن هذا يثير تساؤلاً بشأن استخدام الرسول بطرس لهذه الأقوال في يوم الخمسين. فهل نظن أن بطرس أساء التطبيق؟ أم أن القارئين - بوجه عام - هم الذين أساءوا فهم استخدامه لتلك الأقوال؟ إنني على يقين من أن الاحتمال الأخير هو الصحيح.

لاحظ أن بطرس لا يقول “هذا هو إتمام النبوءة”؛ فكل ما في الأمر أنه وجد في أقوال يوئيل هذه تفسيراً أو تعليلاً لوقائع ذلك اليوم المعجزية، فيعلن «بل هذا ما». وبعبارة أخرى هو لم يدمج الحادثين معاً، ولو كان قد ربط بين القوة فيهما معاً. فإن ما حدث في يوم الخمسين هو نفس الشيء الذي يقول يوئيل إنه سيحدث عندما يجيء يوم الرب. أما أن اليوم الذي نتكلم عنه لم يأتِ بعد، فتلك نقطة يعرفها بطرس جيداً، وقد أعلنها بوضوح في موضع أخر(2بط10:3). بيد أن ذات القوة، قوة الروح القدس التي كانت عاملة في ذلك اليوم سوف تعمل في مستهل الملكوت فيما بعد. إذاً فلا تناقض على الإطلاق، ولا هناك سوء تطبيق. فإن يوم الخمسين هو عيِّنة لما تنبأ به يوئيل، والرسول بطرس يستخدمه كمثال فقط، وليس إعلاناً عن إتمامه في يوم الخمسين. وفي تصريحه الذي يسجله في رسالته الثانية 20:1 ما يحول بيننا وبين الافتراض الخاطئ بأن بطرس قصد أن يأخذ الأعداد الأخيرة من يوئيل2 من مناسبتها، ويطبقها قصراً على افتتاح التدبير المسيحي.

وإذ نأخذ عبارات يوئيل في مناسبتها الكاملة، نرى أنها تشير أصلاً إلى ابتداء الملكوت لا الكنيسة. غير أن القوة ذاتها التي ستعمل في اليوم القادم، ظهرت في يوم الخمسين، يوم كان يكرز بطرس كرازته الخالدة.

  • عدد الزيارات: 4435