أصحاح 11: رُبُط المحبة
مقارنة متى 15:2 مع ع1 «لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني»، يتضح أن الله كان ينظر، والنبي ينطق بهذه الأقوال، إلى ابنه العزيز ربنا يسوع المسيح. وواضح بما لا يقبل الشك أن اغتراب الطفل المقدس في أراض مصر كان «لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني». على أن النظرة المدقِّقة للأعداد الأولى من أصحاحنا تكشف بجلاء أن النبي نفسه لم يكن أمامه سوى إسرائيل قومياً وهو ينطق بهذه الأقوال. فقد كان يتناول خلاص إسرائيل قديماً من بيت العبودية، يوم أحبه يهوه ودعاه كابنه من أرض سيادة الفراعنة.
فهل بين الاعتبارين تناقض؟ حاشا. بل قُلّ إنه هناك توافقاً ومطابقة كاملة تفرزها عبارة أخرى من الكتاب. فنحن نتعلم من 2كورنثوس17:3، إذاً قرأناه فيما يتصل بالأصحاح برمته، أن الرب هو روح العهد القديم، وهو يُرى في كل أجزائه للعين الممسوحة. ومن هنا كانت كلمات متى في إنجيله بوحي إلهي حين قرّر أن أقوال هوشع تحدثت نبوياً عن خروج ابن الله من مصر. فكأنه - تبارك اسمه - شاء في نعمة عجيبة أن يبدأ اغترابه الأرضي بنفس بداية شعبه، ولذلك يطلب هيرودس نفسَه وهو بعد طفل، فيُحمل على مدى الطريق ذاتها التي سلكها يعقوب، حين دفعته المجاعة إلى مصر، ومن تلك الأرض التي منها نجا شعبه وهم تحت ثقل فرعون، يرجع إلى فلسطين فيما بعد. وهكذا شاء أن يندمج معهم في تيهانهم، لكي يفهموا كيف أن الروح القدس كان يعنيه بالقول «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم».
ومنذ دُعي من مصر، كان أبداً الشخص الذي به سُرّ الآب. وعلى النقيض تماماً مع إسرائيل! فإذ قد افتداهم يهوه بقوته من الطغيان المصري فابتعدوا عنه، مع أنه ناداهم بأرق محبة. وإذ تحولوا عنه ذبحوا للبعليم وعبدوا تماثيل من صنع الإنسان (ع2).
يومئذ درَّج أفرايم، علَّمه كيف يخطو خطواته الأولى، ممسكاً بذراعه، موجِّهاً طريقه. ولكنهم، كطفل جاحد، سرعان ما تناسوا ذاك الذي يدينون له بالكثير، ولم يعرفوا أنه كان يشفيهم. وفي لطف بالغ يعيد على أسماعهم قصة تلك السنوات الخوالي، حين كان يجذبهم بحبال البشر وبربط المحبة، رافعاً النير عنهم، مهيِّئاً لهم كل ما يلزم لإعالتهم وتمتعهم بالخير (ع3 4). وما من قديس إلا ويرى في هذه الأقوال الجميلة قصة خلاصه شخصياً من الخطية والشيطان، يوم جِيء به لأول مرة إلى معرفة المسيح. وإذ كنا مستعبدين طويلاً فيما هو أردأ من الاسترقاق المصري، فكم كان كريماً بما لا يقاس ذلك الإعلان الأول عن نعمة الله لنفوسنا، يوم اجتذبنا لذاته من شرنا وضلالنا بربط المحبة، تلك الربط التي كانت في الواقع حبال إنسان، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع! هيَّا بنا نتحدى قلوبنا: بماذا قابلنا محبة عميقة رقيقة بهذا القدر! وأي بعلٍ هذا الذي غرّر بالبعض منا، فابتعدنا عن ذاك الذي كان مرة كل شيء لقلوبنا، يوم كنا نخطو خطواتنا الأولى في البرية مع ذاك الذي نحن مدينون له بالكثير والكثير جداً؟ وكن على ثقة يا أخي المؤمن أنه إلى أن نحطم كل وثن، فإننا لن نستطيع أن نختبر مرة أخرى طلاوة وحلاوة تلك السنين الخاليات، إذا كنا نسمح لأرباب أُخر أن تسيطر علينا.
وإذ تحرر إسرائيل قومياً من مصر، لم يكن في مقدوره أن يرجع إليها. ولكن بسبب خطاياهم أُسلموا ليد الآشوري، كما ستكون الحال، وعلى نطاق أكثر رعباً، في الأيام الأخيرة حين يستقر عليهم السيف «من أجل آرائهم» (ع5،6).
تلك هي النتيجة المُرة لنسيانهم إلههم وسيرهم في طريقهم الأحمق الخاطئ. فمن البداية كانوا جانحين إلى الارتداد عنه، ومع أنه دعاهم للتوبة مرة أخرى، غير أنهم واصلوا حماقتهم، حتى لم يكن شفاء (ع7).
لكن قلبه الحاني يهتف في الداخل «كيف أجعلك (أي أتخلى عنك) يا أفرايم؟... قد انقلب عليَّ قلبي. اضطرمت مراحمي جميعاً» (ع8). عزَّ عليه أن يجعلهم كمدن الأمم التي انصبَّ عليها غضبه بلا رحمة. إن أدمة وصبويم كانتا من مدن السهل (تك8:14) التي مُحيت يوم هوت سدوم وعمورة تحت قضائه (تث23:29). ومن قضاء مثل هذا كان موسى قد حذَّر إسرائيل إن هم لم يحفظوا شريعة الله المقدسة. إذاً فبحق أوقع عليهم الحكم الرهيب. ولكن الله، مستنداً إلى سلطانه، يقرر «لا أجري حموَّ غضبي، لا أعود أخرب أفرايم لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط» (ع9).
وهذا شيء مبارك جداً أن نتحقق أن الله الذي أعطى كلمة بالنعمة لن يندم، أو يسمح بلعن لشعب باركه (كما أوضح لبلعام) ومع ذلك فإنه يحتفظ لنفسه بحق الرجوع عن حموِّ غضبه، مهما كان استحقاقهم، بل يظهر رحمته لشعب اختياره على أساس توبتهم. ولهذا ومع أنه كان يستطيع بحق أن يهلك أفرايم عن بكره أبيهم، فقد أبقى بقية بالنعمة، بقية تكون لمدح مجده في أرض آبائهم حين يمشون وراء الرب، في اليوم الذي فيه «كأسد يزمجر» يجعل شعبه يرتعد من كلامه، بعد أن كانوا مرة عمياناً، حين «يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماة ومن جزائر البحر» (إش11:11). وتلبية لندائه سيعودون، نائحين بسبب خطيتهم، فرحين في محبته «كعصفور من مصر وكحمامة من أرض أشور» ويسكنهم في بيوتهم بحيث لا يتزعزعون مرة أخرى كما تكلم الرب (ع11).
إن هذا العدد يستكمل جزءاً محدداً من النبوءة، يمتد من دعوتهم الأولى من مصر، إلى رجوعهم إلى الله في الأرض في أيام الملكوت الألفي.
أما العدد الأخير فإنه مقدمة موافقة لأصحاح 12 الذي يفتتح موضوعاً جديداً ينتهي بنهاية الأصحاح 13. لما كان هوشع يتنبأ، لم يكن شر يهوذا قد أُعلن وتجلى مثلما تجلى شر الأسباط العشرة، الذين أضلهم يربعام من البداية، وحوّلهم عن الرب، وأقام العجول الذهبية لعبادتها. فقد كانوا وثنين من البداية، وسار جميع ملوكهم في خطوات يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ. ولذلك فقد أُعلن الحكم عليهم مبكراً، لأن الله يقول «قد أحاط بي أفرايم بالكذب وبيت إسرائيل بالمكر»، ولم يستجيبوا للإنذارات والتوسلات الكثيرة التي أرسلها إليهم الرب. لكن الأمر يختلف كثيراً فيما يتعلق بيهوذا. فإن الانحلال كان بطيئاً بينهم. ومن هنا نقرأ «ولم يزل يهوذا سائراً مع الله وأميناً للعلي» (ع12). ففي زمان نبوءة هوشع كان لا يزال في يهوذا قدر معين من التكريس للرب. وإلى جانب ذلك فقد تتابعت النهضات، استجابة لنداءات التوبة بفم الأنبياء. ولكن لنلاحظ أنهم، بمرور السنين، صاروا هم أيضاً أقل تجاوباً مع صوت الله، حتى فقدوا كل اعتبار واهتمام بقداسته. لذلك ظهر الرياء بصورة خاصة في يهوذا «هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً». وهنا الخطر حيث يكون التعليم صحيحاً، والصورة الظاهرية حسنة، بينما القلب مبتعد عن الله. هذا هو خمير الفريسيين (لو12:1)، فليتحذر منه كل ابن لله.
- عدد الزيارات: 4060