Skip to main content

أصحاح 9: أيام العقاب

الشخص العالمي الفاجر، لهو - نسبياً - أسعد من القديس الذي يبتعد في قلبه عن الله الذي هو أبوه. وهذا ما يعززه العدد الافتتاحي لأصحاحنا.«لا تفرح يا إسرائيل طرباً كالشعوب لأنك قد زنيت عن إلهك». فالشعوب التي لم تعرف الله قد تواصل طريقها في شيء من البهجة، جهلاً وخرافة. أما إسرائيل فلن يكون له هكذا. فإنه وقد صار يوماً موضوع رحمة الله الذي أعلن لهم ذاته كالإله الحقيقي الحي، لا يمكن أن يسعد إذا عاد إلى خطيته.

بل إن ذكريات الأفراح الماضية، والساعات والأيام التي طالما ابتهجت فيها النفس بالله، ووجدت في كلمته طعاماً شهياً، تزيد من فراغ وكآبة تلك الاختبارات المؤلمة التي يجوزها المرتد بقلبه، وهو مملوء بابتكاراته.

وكم هي رحمة لنا! فإننا خليقون بأن نحمد الله الآب لأننا لا نقدر أن نتمتع بالسلام الحقيقي والسعادة الصحيحة بينما لا نكون في شركة مع ذاك الذي نحن مدينون له بكل خير في أيدينا. صحيح أن النفس البعيدة عنه قد تجد نوعاً معيناً من النشوة في حماقات الأرض، لكنها إنما هي «تمتع وقتي بالخطية» لا يمكن أن يُقارن بتلك الحقائق الكريمة التي كانت نصب عيني المرنم وهو ينشد «في يمينك نِعم (أي مباهج أو مسرات) إلى الأبد».

وهكذا نقرأ عن إسرائيل العاثر، فلا البيدر والمعصرة كفيلان بأن يشبعانهم، ولا المسطار بقادر. كما أنهم لن يبقوا في أرض الرب، بل يرجعون إلى مصر، ومن طعام أشور النجس يأكلون. وإذ هم احتقروا خدمة الرب، فلابد يُقطعون من هيكله ولا يأكلون من ذبائحه (ع1-4).

ثم يحاصرهم بهذا السؤال «ماذا تصنعون في يوم الموسم وفي يوم عيد الرب؟»، حين يتذكرون وهم متبددين بين الوثنين مواسم البركة الماضية، ويذكرون أنه قد عادت الدورة بموسم جديد، لكنهم منـزوعون عن امتيازاته، ماذا عساهم يصنعون، وكيف يتسنى لهم أن يُشبعوا نفوسهم؟

وإنه لعلى قدر كبير من الأهمية أن يتفكر شعب الله في هذه الأمور! فكم يا ترى مؤمنون غرّر بهم العالم، وشغلتهم حماسة الطموح والمطامع غير المقدسة، وتستثيرهم الكبرياء، فيسمحون لأنفسهم أن تتخلى عن البساطة التي في المسيح! أولئك الذين كانت لهم الأحاديث العذبة معاً وهم في طريقهم إلى الاجتماع، الذين كانت لهم محبة لمخلِّصهم وللحق الإلهي، ولكنهم تشتتوا! أولئك الذين مرة امتلئوا بالتأملات المعزّية وهم جالسون حول مائدة الرب، يتذكرون محبته لنا في آلامه حتى الموت، قد طواهم الظلام! وماذا عساهم تكون مشاعر أناس كهؤلاء، وهم في يوم الرب يستعيدون إلى أذهانهم من خلال مشاهد التدين العالمي، أو العالمية غير المتدنية، تلك المحافل والمناسبات الروحية التي كانوا يقضونها أمام الرب في بهجة مقدسة؟ فحتما يذكرون هذا، في الوقت الذي ينهمكون فيه بما لا يقرّه الرب، يتذكر أولئك القديسون الذين كانوا يوماً معروفين بين الأحباء الذين لهم شركة واحدة، الواحد مع أخيه، وجميعهم مع الرب نفسه، عند الموسم الذي رسمه قلبه المحب ليذكرنا بشخصه وقد غاب عن عيوننا. في مثل هذه الذكريات المؤثرة لابد أن تختلط مشاعر من الحزن والتبكيت، ليس من اليسير التغلب عليها.

هكذا لابد أن تكون - على قياسهم - طبيعة ذكريات إسرائيل عندما تحاصرهم مناسبات الفصح ويوم الكفارة العظيم أو عيد المظال البهيج، وهم قد تبددوا بين الغرباء وليس في مقدورهم أن يساهموا ويشاركوا في الامتيازات التي استخفّوا بها يوماً. لقد ذهبوا من أرضهم سلباً لمصر (رمز العالم الذي أُنقذ منه المؤمن مرة)، ومقدساتهم (نفائس فضتهم) أُخذت فريسة لأعدائهم، وهم أنفسهم يجرِّحهم العوسج بأحزان كثيرة (ع6). يا له خراباً! لكنها صورة حية لكل نفس مرتدة!

وفي هذا جميعه إنما يحصدون ما قد زرعوا. لقد قالوا «النبي أحمق، إنسان الروح (أي الإنسان الروحي) مجنون»!! وبمثل هذا القول كانوا يسكّتون ويهدّئون ضمائرهم بسبب كثرة آثامهم. ومتى جاء هذا كله سيعلمون أنه «جاءت أيام العقاب، جاءت أيام الجزاء» (ع7).

كان رقيب أفرايم - النبي الذي يريد إرجاعهم عن شرهم - مع الله، ولكنهم قالوا عنه «النبي فخ صياد على جميع طرقه». قالوا هذا بسبب حقدهم على بيت الله (ع8). من اليسير التشهير بالإنسان الذي يوبخ الخطية بأمانة، ويجاهد لوقف الانحلال في النفس. غير أن خمير شر جبعة، الذي نقرأ عنه في الأصحاحات الأخيرة من سفر القضاة، كان لا يزال يعمل بينهم، وبعد تلك الحقب الطوال. فالخطية لا تموت موتاً طبيعياً، بل ينبغي أن تدان تماماً. هي مثل الخميرة، توقفها النار، أي الدينونة، سواء دينونة القديس لنفسه أو دينونة الله. لأن الخطية تظل تعمل حتى تدان. وإذ ما سقط فيها الفرد، أو أدخلت إلى الجماعة، فإنها تظل تعمل إلى أن يحكم عليها الفرد نفسه، أو يحكم عليها شعب الله، أو الله نفسه. هذا هو الدرس الخطير الذي أمامنا. لا شك أن هؤلاء الذين كان يخاطبهم النبي قد نسوا كل ما يتصل بأيام جبعة، أو قد يحتجوا بأن حادثة جبعة وقعت قبل مولدهم بأجيال، ولذلك فمن العبث تحميلهم وزر ما مضى. لكن عين الله القدوس رأت ما هو أعمق، فقد رأى أن الفساد وإرادة الجسد اللذين ظهرا في جبعة لا يزالان سائدين عليهم، مما يتطلب تذللاً وحكماً على الذات قُدّام وجهه. وهذا ما تجاهلوه، ولذلك لابد أن يفتقدهم ويذكر خطاياهم (ع8،9).

هذا أمر خطير، ومن شأنه أن ينبّهنا إزاء حالة فشل الكنيسة وخرابها الذريع في الوقت الحاضر. أوَ لسنا بعضاً من بيت الله المقام على الأرض في المسؤولية؟ هل على قلوبنا الإحساس بما لحق الله من هوان في ذلك البيت، الذي نحن بعض منه؟ ليت الله يعطي نعمة للقارئ والكاتب، حتى يتغلغل الحق في القلب ويستثير الضمير، وهكذا يهدينا إلى أن نميز بتقوى ما يناقض القداسة التي تليق ببيته، وإلى الحكم على الذات بسبب الدور الذي أسهم به كل واحد منا في الإبقاء على ما ليس من الله. من اليسير أن نحكم على الآخرين، لكننا مطالبون أن نحكم على ذواتنا. بيد أن الحكم الصحيح يعود بنا إلى تعقب طريق الانحلال الذي سار فيه شعب الرب الذين ارتبط بهم واتحد معهم في البركة والمسؤولية. وهذا يقتضي ضميراً حياً، وهو على النقيض تماماً من الادعاء الإكليريكي والكبرياء الروحية.

في ع10 يستعيد الله، في حب عميق، ذكرى التاريخ الأول لشعبه، يوم وجد إسرائيل كعنب في البرية، ثمرة مشتهاة لذاته في أرض ناشفة بلا ماء. ولكن ما أسرع ما تلاشت بكل أسف تلك النضارة الباكرة! فبعد زمان ليس بطويل «جاءوا إلى بعل فغور ونذروا أنفسهم للخزي»، فلقد نفّذوا حرفياً مشورة بلعام اللعين الذي علَّم بالاق أن يلقي معثرة أمام الأمة المنفصلة المفترزة، ذلك أن بنات موآب أفلحن فيما خابت فيه كل رقى الأنبياء الكذبة «وصاروا رجساً كما أحبوا».

فمن البداية أثبت أفرايم أنه غير جدير بالثقة، لذلك فلتكن كرامته كطائر، وليثكلوا هم حتى لا يبقى أحد. أجل، يقول الله «ويل لهم أيضاً متى انصرفت عنهم» (ع11،12).

لنضع في بالنا أبدا أن روح التبني - الروح القدس الساكن فينا - الذي يختم جميع المؤمنين في تدبير النعمة الحاضر، لن ينصرف عمن ميّزهم الله كخاصته مهما يكن فشلهم، لكن هناك ما يناظر الحالة الموصوفة هنا، أي أن المؤمنين إذ يحزنون الروح القدس تنقطع شركتهم، ويكُفّ الرب عن الاعتراف بالقديس كشاهد له متى صار انحرافه سلوكاً مميزاً.

لقد كان أفرايم مرة مغروساً في مرعى، لكن سيحُرم البنين. إن أفرايم معناه "مثمر"، لكنهم سوف يكونون بلا ثمر، عقيمين، وحتى إن أعطوا بنين فإنهم يُعدُّون للموت (ع13،14). فالشركة مع الله، والثمر لله، يسيران معاً. فإذا انعدمت الأولى، انعدمت بالتالي الثانية.

إن الجلجال، الموضع الذي تدحرج فيه عار مصر، والشاهد على تكريسهم لقدوس إسرائيل، لم يكن الآن سوى شهادة على شرهم، وذلك بسبب تمردهم عليه. وحينما يقول «لا أعود أحبهم» فليس معنى هذا أن قلبه أو قصده قد تغيَّر، وإنما المقصود أنه سوف لا يتدخل علناً من أجلهم، يسلمهم لأعدائهم، وعلى قدر ما يرون يكون كمن لا يعود يحبهم (ع15).

وهكذا أساء أفرايم إلى معنى اسمه، فإذ يُضربون بالتأديب «لا يصنعون ثمراً» وإن صنعوا، فإن يد الرب ستكون عليهم للإبادة. وبهذا الأسلوب يبرِّر الله قداسته، فيطردهم من أمام عينيه ليكونوا تائهين بين الأمم (ع16،17). ومنذ البداية كان موسى قد حذّرهم من هذا، لكنهم لم يسمعوا ولم ينتبهوا إلى ما كان يجب أن يبقى أمامهم لو كانت لهم عيون ترى وآذان تسمع وقلب يفهم. ولهذا لابد أن يتعلموا بالتأديب لأنهم احتقروا كلمة الرب. وهل نحن، ولدينا نور أعظم، أحكم من أولئك؟ لنمتحن ذواتنا قدام ذاك الذي عيناه كلهيب نار، ونجيب على هذا التساؤل كما في حضرته المقدسة.

  • عدد الزيارات: 3991