أصحاح 7: خبز مَلـّة لم يُقلب
الدينونة هي فعل الله الغريب. وما كانت لديه رغبة قط في معاقبة الشعب الذي أدخله معه في علاقة عهد، مع أنهم من البداية نقضوا العهد. فكم عرض عليهم البركة والرجوع مشروطين بالتوبة، وكثيراً ما أراد أن يشفي إسرائيل، عندما بدرت بينهم بادرة للحكم على الذات. حينئذ كان لابد أن يعلن «إثم أفرايم وشرور السامرة. فإنهم قد صنعوا غشاً. السارق دخل. الغزاة نهبوا في الخارج» (ع1).
ولكن ما من أي انسحاق بسبب آثامهم استطاعت عين القدوس أن ترى؛ إنما الخطية والإثم الذي أصروا على ممارسته، برغم جميع التوسلات للإقلاع والكف عنهما. وفي طمأنينة جسدية لم يفكروا بقلوبهم أن آثامهم جميعاً مخزونة، حتى أحاطت بهم أفعالهم فصاروا مكشوفين أمامه. بينما رؤساؤهم مبتهجون في شرورهم التي انحدروا إليها، راضون بحالة الشر وعدم الأمانة التي سادت في الشعب.
والعدد الرابع يرسم أمامنا صورة واضحة لهذه الحالة «كلهم فاسقون كتنور محمّى من الخباز. يبطِّل الإيقاد من وقتما يعجن العجين إلى أن يختمر». كانت خميرة الشر تعمل في الأمة سراً منذ زمن بعيد، أما الآن فقد أوشكت أن تفسد العجين كله. إذاً فقد نجحت جهود الشيطان، لقد دخلت خميرة الوثنية بينهم مبكراً، وإذ لم يحكموا عليها فقد عملت بتأثيرها في الأمة كلها. ولا ريب في أن الرسول كان يوجّه أنظار وأفكار القديسين في كورنثوس إلى هذه الحقيقة وهو يقتبس من هذه الأقوال فيكتب إليهم «ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله؟». كذلك يشدد على ذات هذه الحقيقة في رسالته إلى الغلاطيين (1كو5: 6، غل5: 9). والخمير في الكتاب ما كان ليرمز إلى شيء حسن، هو دائماً دليل على أحد أشكال الشر. ونحن هنا نرى إسرائيل مختمراً بنظام الوثنية الدنس، وبتأثيراته الفاسدة، عاملاً عمله المميت جيلاً بعد جيل. وإذا ما وضعت الخميرة في العجين، فإن الخباز يعلم أنها لابد تعمل بحسب طبيعتها، فينام الليل. ولكن تنور الدينونة معدٌّ للصباح.
وفي المسيحية الاسمية نجد ذات هذا الأمر. فقد أخبرنا الرب يسوع عن امرأة أخذت خميرة صغيرة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع. ويجب أن نلاحظ أنه لا يوجد ما يسمونه "خميرة الإنجيل"، وإنما يحذرنا الكتاب من خمير الفريسيين والصدوقيين والهيرودسيين؛ ويبدو أن هؤلاء يشيرون إلى الرياء والتعليم الفاسد والروح العالمية على التوالي. وفي رسالة كورنثوس الأولى (ص5) نقرأ عن خميرة الشر والخبث. أما ما يسمونها "خميرة النعمة" فلا ذكر لها إطلاقاً في الكتاب المقدس. إذاً نفهم من هذا أن خميرة الوثنية دخلت إلى إسرائيل يوم صنعوا العجل في البرية، وإذ لم يحكموا عليها ويقضوا عليها تماماً فقد ظلت تعمل، حتى اختمرت الأمة كلها. هكذا استطاعت امرأة في بكور تاريخ الكنيسة، وهي الكنسية الزائفة، أن تدخل خميرة الضلال في خبز شعب الله، وهي الخميرة التي لم تنتزع إلى اليوم، بل هي تعمل بنشاط لتخمر العجين كله. فهي تشبه «سر الإثم» الذي يحذرنا منه الروح القدس في تسالونيكي الثانية، والذي سيكمل في بابل العظيمة وفى ضد المسيح.
والمؤمنون مطالبون بأن ينقوا منهم «الخميرة العتيقة» كلما ظهرت في اجتماعاتهم. على أنه متى كانت الغالبية قد أُفسدت حتى لم يعد هناك عمل الطاعة لكلمة الرب، فعلى من يريد أن يكون «إناءً للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح» أن يطهر نفسه من كل شركة غير مقدسة، وأن يسلك بالانفصال عن كل ما لا يتفق مع القداسة التي تليق ببيت الله، وأن ينشئ شركته مع الذين يتبعون البر والإيمان والمحبة والسلام، الذين يدعون الرب من قلب نقي (2تي2: 16-20).
وفيما يتعلق بإسرائيل، لم يكن هناك رجاء. فقد كانت الهيئة السياسية، ممثَّلة في الملك الذي على رأسها، الذي يمرض من سورة خمر افتخار الجسد، ويبسط يده مع المستهزئين. وكانت قلوبهم كتنور الخباز الذي ينام طوال الليل والخمير يفعل فعله، بينما التنور يُحمَّى لخبيز اليوم التالي. وهكذا هم يتممون دينونتهم إذ ليس بينهم من يدعو إلى الله (ع5-7).
«أفرايم يختلط بالشعوب، أفرايم صار خبز مَلّة لم يُقلَب. أكل الغرباء ثروته (أو قوته) وهو لا يعرف، وقد رُش عليه الشيب وهو لا يعرف. وقد أُذلَّت عظمة إسرائيل في وجهه وهم لا يرجعون إلى الرب إلههم ولا يطلبونه مع كل هذا» (ع8-10). هذا الجزء ينبِّر على حقيقة عدم إحساسهم بحالتهم الحقيقة. مثل خبز ملة (كعك) موضوع على جمرات النار، وقد نسيته ربة البيت حتى احترق من أحد جانبيه لأنها لم تقلِبه؛ هكذا الحال معهم، فقد كانوا غير مباليين بحقيقة أمرهم أمام الله، وإذ لم يستمع مجموع الشعب إلى تحذيرات النبي، فقد مضوا في طريقهم بلا اكتراث، معتقدين أن أمورهم على ما يرام، بينما كانت كلها خطأً في خطأ. إن هذا الارتداد اللا شعوري الواضح هو الخاصية المحزنة في كثيرين اليوم، فهم مبتعدون عن الرب، وإن كانوا يعترفون به. وإذ هم راضون عن حالتهم فإنهم كخبز ملة لم يُقلب، فنظرتهم هذه التي من زاوية واحدة لحالتهم هي التي تكشف لصاحب العين الممسوحة أن في الأمر خطأً جذرياً. وكم من قديسين ينظرون إلى الحق كمجرد تعليم، بينما يتساهلون في السلوك في ذلك الحق من يوم إلى يوم. إنهم خبز ملة لم يقلب، فاسودَّ أحد جانبيه، بينما الجانب الآخر عجين لم يستوِ. قد يكونون من الناحية التعليمية أصحاء، لكنهم من زاوية الاختبار العملي هم متساهلون، وغير مباليين.
وفى بعض الأحيان ينعكس الوضع، فيبلغ الاهتمام بناحية الاختبار مبلغاً كبيراً، بينما يكون قليلاً أو منعدماً من جهة ما يسمونه "التعليم الجاف". إن التمسك «بصورة الكلام الصحيح» له ذات الأهمية التي للعيشة بالتقوى. والواقع أن التعليم هو الأصل لكل ممارسة، وما نحصله من اختبارات قد يكون من النوع المغلوط إذا كانت هذه الاختبارات غير ناتجة عن معرفة فكر الله كما هو معلن في كلمته. فلا ننسَ قَط أن الحق والممارسة يسيران معاً، كما أن المركز والحالة لا ينفصلان عن أحدهما عن الآخر.
أن أول خطأ مروع سقط فيه أفرايم هو اختلاطه بالشعوب. فلقد دعا الله إسرائيل ليسكن وحده، وبين الشعوب لا يحسب. ولم ينتج من الاختلاط بأولئك الذين كانوا قد انفصلوا عنهم يوماً سوى الشر. ونحن نعلم أن "اللفيف" هو أول من جلب عليهم المشقة والعناء في البرية، بعد تذمرهم وحنينهم إلى المآكل المصرية بدلاً من الخبز النازل من السماء، رمز ربنا يسوع المسيح آتياً بالنعمة لمواجهة حاجة شعبه. ثم حين فشل بلعام في أن يلعن لأن الله قد بارك، فإنه علَّم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل بواسطة اختلاطهم ببنات موآب، الأمر الذي كانت ثمرته إيقاع الدينونة المرعبة، التي أوقعها رمح فينحاس. وهذا النوع من الاختلاط كان عِلة تحطيم شمشون النذير الجبار، الذي تخلى عن سرِّ قوته يوم نام على ركبتي دليله. ومنذ ذلك المثل كم من خادم لله جبار قد تخاذل - بكل أسف - وضعف كواحد من الناس بطريقة كهذه! وهكذا نستطيع أن نتعقب آثار السلوك في هذا الشر خلال تاريخ الأمة المختارة، حتى انتهى بها المطاف إلى أن يطرحها الرب تحت القضاء، لتختلط بالأمم حتى يشبعوا من الاختلاط بالغرباء الذين أكلوا ثروتهم (قوتهم) وخلفوهم للخراب.
والدرس خطير بالنسبة لنا، نحن الذين دُعينا دعوة عليا، لكي نسلك بالانفصال عن عالم شرير وكنيسة فسدت. ولا ننسَ أن عدم التمييز فيما يتعلق بالانفصال بين الطاهر والنجس كم كان له من الآثار المحزنة على شهادة الآلاف واختباراتهم. ومع ذلك فما أبطأنا في التعلُّم. ألا ليت لنا قلوباً بين جوانبنا، تتعلق بالرب وتسمع قوله «أخرجوا من وسطهم واعتزلوا»!
وإنه لمن العبث أن نرجو إصلاحاً أو علاجاً لما ليس من الله إذا امتزجنا واختلطنا به في شركة وعلاقة وثيقة، تماماً كما هو بلا جدوى أن نحاول تعليم العصفور المزقزق أن يقلد غناء العندليب، وذلك بوضعهما معاً في قفص واحد. فالنتيجة الوحيدة لهذا المزج غير الطبيعي أن يتوقف العندليب عن أنشودته، بينما يظل العصفور على حاله يزقزق بلا تأثر. وكم من قديس ضاعت منه أغانيه يوم اختلط بأهل العالم وكنيسة العالم! قد يفاخر مثل هذا القديس بروحه المتحررة وبسعة أفقه، لكنه مثل أفرايم لا يشعر بحقيقة الأمور؛ بينما الذين لهم الذهن الروحي يخفضون الرأس حزناً وهم يقولون «أكل الغرباء قوته وهو لا يعرف، وقد رُشّ عليه الشيب وهو لا يعرف».
والشيب هو مظهر القوة الذابلة الآخذة في الرحيل. وهو هنا يحدثنا عن أن صاحبه في طريق الانحدار، وأن الشيخوخة والتحلل في طريقهما إليه. لكن أفرايم، نظيره نظير غيره من المرتدين بالقلب، كان يجهل تماماً حقيقة الأمور. وفي هذه الحالة يرى الآخرون الشيب وقد رُشَّ عليه. فيرون الإهمال في ناحية، وعدم المبالاة في ناحية أخرى، يرون غراماً وحنيناً وراء الصداقات العالمية. فتتناقص الفرص التي تُقضى في الصلاة ودرس كلمة الله، مع شغف متزايد بما هو مبهج وطائش، واسم يسوع قلّما يكون على الشفاه، بينما هناك ميل متزايد للمباحثات غير النافعة، ولكن اقرأ تيموثاوس الأولى 15:4،16 لترى المباينة الكبيرة.
ويصاحب هذا بالضرورة ادعاء بالاستعلاء والتسامي «عظمة (أو كبرياء) إسرائيل تشهد على وجهه». ومع هذا فلا رجوع إلى الله ولا رغبة في معرفة فكره بشأن هذا جميعه، حتى يذلُّوا بالتأديب.
لكن أفرايم يشبه الحمامة الرعناء، لا قلب له من نحو ذاك الذي حملهم في حضنه، قد تحولوا إلى مصر ثم إلى أشور طلباً للعون في ساعة التجربة. غير أن محبة الرب لهم جعلته لا يدعهم يجدون استقراراً في أمور العالم ومظاهره وعظمته الجوفاء الخاوية. لذلك بسط عليهم شبكته كمن يصطاد عصفوراً بشراك. ولن يدع أولئك الذين هم في علاقة عهد معه أن يمضوا في طريقهم طويلاً (ع11،12).
لقد أذنبوا إليه مع أنه فداهم، هذا يذكِّرنا بقوم، في يوم تال، انحرفوا عن الله ونسوا تطهير خطاياهم السالفة. وفي عدم مبالاة بحقيقة حالهم يعودون باللوم على الله بسبب ما حدث لهم، كأنه لا يد لهم في الأمر، ومن هنا يتهمهم بأنهم تكلموا عليه بالكذب. ونذكر كلمة قالها الأخ الحبيب ويجرام "كم من مرة أفكر في أن الله كان قاسياً معي، ناسياً كم من مرة كنت أنا فيها قاسياً مع الله". وهذه هي دائماً حالة القلب الذي لا يتضع قدام الله في الحكم على الذات (ع13).
وهكذا ظلوا لسنوات، فلا هم يطلبونه وهم مختلون لأنفسهم أو على مضاجعهم في بيوتهم، ولا حين يجتمعون معاً في مناسبات كان يجب أن يكون محفلاً مقدساً، فصارت مواسمهم للانطلاق والمرح. «يولولون على مضاجعهم»، لكن ليس في توبة، وإنما في شكوى من تأديبه عوض أن تنصبَّ شكواهم على طرقهم الشريرة. كان الرب قد درَّبهم على الثقة فيه، وشدد أذرعهم ضد خصومهم، بيد أنهم كافئوه شراً، يرجعون إلى أية مناسبة دون الرجوع إلى الله. وهكذا ما أفسد قلب الإنسان، حتى القديس، عندما يتحول عن الله، ولذلك لابد من تركهم ليختبروا أعمق الحزن والمذلة نظير إنسان كورنثوس الأولى5، الذي سُلِّم للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب. فرؤساؤهم يسقطون، وهم أنفسهم يصيرون هزءاً وسخرية في أعين حلفائهم المصريين الذين اعتمدوا عليهم باطلاً (ع14-16).
إن طريق الإنسان بكل تأكيد ليست في ذاته. ليس لإنسان أن يهدى خطواته. ومن هنا الحاجة إلى انسحاق الروح والحكم على الذات قدام الله كي يهدينا في سبل البر من أجل اسمه.
- عدد الزيارات: 7232