Skip to main content

أصحاح 4: موثق بالأصنام

الأقوال التي كنا نتأملها في نهاية الأصحاح السابق عن إسرائيل، والأيام الكثيرة التي يقعدها بلا تمثال ولا ترافيم، تبدو أكثر عجباً إذ نتذكر الوثنية الثقيلة التي كانوا قد انحدروا إليها وقت أن دُعي هوشع من الله ليعلن فكر الرب من جهة حالتهم. كانت الوثنية آنذاك هي ما يميز حالتهم، ومنها كالأصل تفرعت الشرور الأخرى التي كان على النبي أن يوبخها.

ولأن الحق كان قد رحل، ورحلت معه الرحمة وكل معرفة عن لله، فقد كان للرب مخاصمة مع سكان الأرض، فإن عينه القدوسة لم تشهد سوى اللعن والكذب والقتل والسرقة والفسق، بدلاً من القداسة والأمانة له. فالعهد الذي دخلوا فيه عند جبل سيناء، قد نقضوه في جميع تفصيلاته. لم تبقَ كلمة واحدة من العشر إلا ونقضوها. فمن أجل ذلك جميعه كان لابد من أن يتحول ضدهم في سياسته البارة، كما أنذرهم بفم المشِّرع الأول (ع1-3).

وقد صاروا من هوان الانحطاط بحيث لم يعد من بينهم من يصلح لتوبيخ غيره. فالكل سواسية في الجريمة. فخميرة الوثنية، التي كانت قد أُدخلت علناً في البرية، ولو أنهم حملوها سراً من مصر، وربما من وراء الفرات** (يش2:24)؛ كانت تعمل عملها الدفين التحتاني، غير مقضي عليها، حتى انتهى بهم المطاف إلى الانحراف الكلي. حقاً «إن المعاشرات الردية تُفسِد الأخلاق الجيدة»، فقد صاروا «كمَنْ يخاصم كاهناً»؛ بمعنى أنهم أبوا في إصرار أن يخضعوا ذواتهم لله يوم أعلن لهم فكره.

والدرس فيما يتعلق بنا خطير. وحسناً قال واحد إن الشر لا يشيخ، ولا يموت مع الأيام. فالخطية غير المحكوم عليها بين شعب الله تصبح مثل برص متفشٍ، أو بؤرة سرطانية، تعمل وتزداد انتشاراً حتى تدنس كل الكيان (ع4).

وفيما يتصل بإسرائيل لم يكن الجهل هو الذي أدَّى إلى انحدارهم أولاً؛ ولو أن النور المرفوض ينقلب حتماً إلى ظلمة، فهم نظير من يعثر في النهار، وهكذا كان الحال مع أنبيائهم. ومن هنا كان لابد من قطعهم (ع5).

«قد هلك شعبي من عدم المعرفة»، تلك مرثاة الرب. غير أن عدم المعرفة هو النتيجة المحققة لرفض الاستماع. لقد عرض عليهم حقه، لكنهم أبوا أن يقبلوه. لذلك يضيف قوله «لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي. ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضاً بنيك» (ع6). إن النور المرفوض ينقلب إلى ظلمة أكثر عتامة من ذي قبل، وتُذهب بالجاني إلي محن قاسية، ورفضٍ من الله.

وكثيراً ما نجد في تاريخ الكنيسة حالات مشابهة للحالة التي نرى هنا وصفها، وكان لها نفس النتائج. فيوم أقام الله في القرن السادس عشر مارتن لوثر ليعلن بصوت واضح نداء الإصلاح: «البار بالإيمان يحيا»، لم يكن لغالبية الكنيسة المعترفة آذان لسماع الخبر، فغرقوا في خرافات وحماقات أشد عمقاً. وبعد ذلك أقام الوسليون وشركاؤهم لينفخوا في أنف الاعتراف المحتضر في يومهم داعين للتوبة، لكن الغالبية أبت أن تسمع، وأصبحت الكنائس النظامية أكثر نظامية، وفازت الكنائس التقليدية بحصاد وفير من النفوس الهالكة.

وفي مطلع القرن الماضي، حين استُعيدت حقائق وحدة جسد المسيح وحضور الروح القدس، سخروا برجال تلك الحقبة التاريخية، واعتبروا هذه الحقائق تعليماً جديداً. والنتيجة أن المسيحية تسارع الآن منحدرة إلى الارتداد، وصار حضور الروح القدس حقاً مجهولاً في أماكن كثيرة. والكتاب المقدس لم يعد مُعترَفاً بأنه إعلان الله، ووضع في مستوٍ واحد مع الكتابات البشرية، بينما صارت الكبرياء والإدعاء عُدة اليوم ونظامه. وهنا تتم أقوال سيدنا بصورة مرعبة «إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون (أو فما أقساه ظلاماً)!» (مت23:6).

هل القارئ واحد ممن جاء النور إليهم، ويخشى - أو يأبى - أن يطيعه؟ اذكر أنك حينما تتصرف بحسب فكر الله المعلن في حكمته، فإن سبيلك يشرق ويتزايد نوره إلى النهار الكامل. ومن الناحية الأخرى فإن تَعمُدك تجاهل الحق المعلن، أو رفضك إياه، يقسي ضميرك. ونحن نعرف أشخاصاً كانوا قد تعلموا من الكتاب جانباً من الحق، الذي لو كانوا قد تصرفوا بمقتضاه لخلّصهم من طريق العالم ومن الروابط الدينية العالمية، ولحررهم لكي يخرجوا إلى ذاك المرفوض حاملين عاره. لكنهم أحجموا خشية الخسارة المادية المحتملة، أو المشكلات العائلية. وإذ طلبوا سبلاً أيسر من التي رسمها الكتاب، اسكتوا ضمائرهم وأطفأوا روح الله. وكانت النتيجة المحزنة أن تلك الحقائق التي استمتعوا بها يوماً تجردت من القوة والفعالية الروحية، فقد أصبحت حروفاً ميتة صماء؛ وتصلبت ضمائرهم وانتهت شهادتهم لله. وعبثاً يتحدثون عن تضحيات يبذلونها بأسلوبهم، لكنها لا تجدي عند ذاك الذي قال «الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش».

حسناً أن يكون تاريخ إسرائيل الخطير إنذاراً لنا، وتحذيراً من النتائج الوخيمة لمقاومة ومناهضة الحق. «على حسبما كَثَروا هكذا أخطأوا إليَّ. فأُبدل كرامتهم بهوان» (ع7). فالبركات والخيرات، لم تحوِّل قلوبهم إلى الله، بل بالعكس. لذلك كان لابد أن يعاملهم طبقاً لما يستحقونه. لقد ابتهجوا بآثامهم وتجاهلوا كلمة الله، فلابد أن يسلمهم للهلاك، يستوي في ذلك الكاهن والشعب، كلاهما تحت ذات القضاء. وفي طريق أنانيتهم وإرضاء ذواتهم لابد أن يتعلموا وعلى حسابهم، أنه لا شيء يشبع القلب بعيداً عن السير معه. ولن تستطيع الطرق الدنسة إلا أن «تخلب القلب» فيعثرون ويسقطون «لأنهم قد تركوا عبادة الرب» (ع8-11).

كانوا على استعداد لأن يستشيروا أصنامهم، لكنهم تكبروا عن الرجوع إلى ذاك الذي يدينون له بكل بركة. ومن السهل أن نلاحظ أنه حينما كان الشعب يتحول عن الله كانوا يصبحون أكثر تمسكاً بالطقوس المفروضة والخرافات، بينما يحسبونها مشقة أن يطيعوا صوت الرب. وهذا يصدق أيضاً على الضمير والإيمان. فإن الشخص الذي يشقُّ عليه أن يثق بأقوال الكتب المقدسة البسيطة، يستطيع في يُسر كثير أن يتقبل فروضاً وقواعد، ونظريات غير المؤمنين. فلم يشق عليهم شيء مما كانت تطلبه أوثانهم؛ أما شريعة الرب فاستثـقلوها. لذلك «شعب لا يَعِقل يُصرع»، هكذا قال ذاك الذي اعتدوا عليه علناً (ع12-14). وهذه أيضاً مما «كُتب لإنذارنا». ألا ليت لنا مزيداً من النعمة لكي نتعلم ونعمل بحسب ما تعلمنا. وهذا ما حاول النبي أن يشدد به على يهوذا «إن كنت أنت زانياً يا إسرائيل فلا يأثم يهوذا» (ع15). لكننا بكل أسف نرى فيما بعد أن المملكة الجنوبية قد انحدرت إلى ذات ما ارتدت إليه المملكة الشمالية.

ولأن إسرائيل قد استسلم للارتداد «كبقرة جامحة»، فلا يسع الله إلا أن يمنحهم طريقهم. فيصبحون كخروف يرعى في مكان واسع، مطلق الحرية له أن يذهب في كل اتجاه، ولكن له دينونة آتية عليه لا محالة، ولو حسبوا أنهم سعداء بما هم عليه، فقد كانوا كخراف تسمن للذبح. وقد صاروا مثلاً! «أفرايم موثق بالأصنام؛ اتركوه (وحده)» (ع16،17).

«موثق بالأصنام: اتركوه (وحده)»! ما أخطرها حقيقة! لكأن الله قد استنفذ كل وسيلة لشفائهم، ماخلا وسيلة واحدة، وهي التخلي عنهم، لكي يتعلموا بالاختبار المرير ما أبوا أن يضعوه في قلوبهم بأية وسيلة أخرى. وهذا يقابله في العهد الجديد التسليم «للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع» (1كو5). فإذا بيَّن أحدنا أنه عنيد بالتمام وإلى النهاية، قد يقول الله عنه أحياناً كما قال عن إسرائيل «موثق بالأصنام». عندئذ فكل توبيخ أو محاولة تقويم من إخوته تكون عديمة القيمة. إذاً فليُترك وحده، حتى يتعلم في غربال الشيطان إلى أي مدى انحرف هو عن الله. ولكن الله لا يتعامل هكذا مع النفوس حتى تفشل كل الأساليب لاسترداد الضال. فلما نفذ صبره (نتكلم إنسانياً) تخلى عن أفرايم. لقد احتملهم من الأول، وخدمهم، وأدَّبهم، وتوسل إليهم، لكن بلا جدوى. لقد تعلقوا بطريقهم. وفي آخر المطاف، ولأنه كان يحبهم بهذا القدر، حتى أنه لا يتخلى عنهم إلى الأبد، قال «اتركوه (وحده)».

والآن هم في المكان الذي فيه يتعلمون، عن طريق الاختبار المحزن، نتائج الانحراف بالقلب عن الله. ليُتركوا لشهوات قلوبهم إلى أن يخجلوا من ذبائحهم (ع18،19).

ما أعمق المحبة التي تنم عنها كلمات هذا الفصل وهو يصف تلك الحالة البائسة، وما أرق النعمة التي أصرَّت للنهاية على السعي لاسترداد أولئك الذين لا يستحقون!

أما فيما يتصل بنا نحن، فكم هو أمر ثمين أن نعرف أن نعمته لا تتغير؛ فإن كنا قد خلصنا بدم المسيح الكريم، فنحن أبداً هدف تلك المحبة الأمينة الصابرة التي لا تتحول.

حقاً لن يكون لشيء تأثير فعال على طرقنا نظير هذه الحقيقة؛ وهي أن ضلالنا لم يستطع، ولن يستطيع، أن يطفئ لهيب محبته، كما أن أي تغيير يطرأ علينا لن يقابله تغيير في إلهنا. لذلك يأمرنا الوحي «لا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء». وهذا ليس - كما تصور البعض - تهديداً، بل هو تحريض المحبة الرقيقة لكل واحد من أولاد الله. وإنه لمن الوضاعة أن يستغل إنسان مثل هذه المحبة التي بلا قياس ليفعل إرادته، وهكذا يتصرف ضد روح النعمة.

  • عدد الزيارات: 3767