Skip to main content

أصحاح 2: وادي عخور

توافق عجيب تتلاقى طرق نعمة الله وحكومته، في مستهل خدمة النبي التي يسجلها هذا الأصحاح، الذي يلي الوعد المعطى في العددين الأخيرين من الأصحاح السابق. فبعد أن يؤكد على رجوعهم وبركتهم المستقبلية يهيب الرب بشعبه «قولوا لأخوتكم عمي ولأخواتكم رحامة». ذلك هو الإيمان متطلعاً متشوقاً للزمن الذي ترفع فيه “لو” أي “لستم”، ويعود يعترف بهم كشعبه الذي نال رحمة، الأمر الذي ينتظر التحقيق كاملاً في الملكوت الألفي، يوم «يخلص جميع إسرائيل».

ولكي يقود الرب إسرائيل إلى مركز إدانة الذات هذا، وإلى كراهية طرقهم الماضية، تأتَّى في حكمته المطلقة أن يرسم صورة فاحصة لخطيتهم المحزنة حينما تحولوا عنه، وذلك في الأعداد من 2-5. فبوصفها زانية شقية، وفاسقة تاعسة، أخلاها الرب. لأنها بعد كل ما أضفى عليها من محبة ونعمة، تحولت عنه إلى الأوثان، في زنا روحي. بسبب ذلك سيجعلها تأكل ثمار أفعالها.

وفي الأعداد من 6-8 يصوِّر بأسلوب مؤثِّر خطير، معاملاته معها في حكومته المقدسة البارة. وهذا في تمام الموافقة مع أقوال إرميا « يوبخك شرك وعصيانك يؤدبك. فاعلمي وانظري إن تركك الرب إلهك شرٌّ ومُرّ» (إر19:2). وبهذه الطريقة يجعل الخطية خادماً لأغراضه تعالى. فإن لم يحوِّل شعبه أرجلهم عن الشر، وأصروا على المضي في مسالكهم، وأبوا أن يطيعوا صوته، فلابد أن يتعلموا عن طريق خطيتهم الدرس الذي لم يشاءوا أن يتعلموه من أقواله التحذيرية الإنذارية. لقد ترك إسرائيل الرب إلى الأوثان، إذاً فليتركه زماناً، وليدعه للأوثان التي اختارها حتى يقوِّمه، وفي مشقته لن يجد من يجاوبه (ع7). وإذ ينكسر قلبه، ويتملكه الإعياء في آخر المطاف، مؤدَباً باختباراته، فإنه يصرخ قائلاً «أذهب وأرجع إلى رَجلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن». عجيبة تلك النعمة! فبعد هذا الهجران الجاف من ناحيتها، فإن الرب بتلك النعمة يفتح لها مرة أخرى ذراعيه، في يوم التوبة العجيب.

تلك هي المحبة عينها والنعمة ذاتها، اللتان يعرفهما كل خاطئ أعيا، وكل قديس تعثر، عندما يطلب وجه الله، معترفاً بخطيته نادماً وتائباً عن طريقه الشرير. فما من معصية يشقُّ على الله غفرانها، وما من سوءة تعظُم على رحمته، إذا ما توفر الانحناء والتذلل قدامه، وإذا ما برره المخطئ، وفي الوقت عينه يدين ذاته.

وبأسلوب فاحص يصوِّر الرب ما وصل إليه إسرائيل من الاستهتار بمصدر بركته الماضية. «وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت وكثّرت لها فضة وذهباً، جعلوه لبعل» (ع8). فالخير الذي أغدقه عليها بسخاء، سكبته على مذابح خزيها! لذلك لا يسعه إلا أن يمنع خيره حتى تتعلم الأمة أن أوثانها لم تصنع لها خيراً، بل إنما صنعت حزناً وفقراً وعوزاً. وواحدة فواحدة سوف تتعرى من كل القيم، إلى أن تتعلم أنه في الرب وحده - الذي أهانته وازدرت به - توجد كل بركة. فقد نسبت الأمة عطاياه وهباته إلى أوثانها قائلة «هما أجرتي التي أعطانيها محبيَّ» (ع12). لكنها إذ تُحرم من كل هذا، فإنها تتعلم أنها إنما كانت تخدع ذاتها وتهين الرب.

وإذ تعي الدرس في آخر المطاف، يُبرز الرب مقاصد نعمته المختزنة من أجلها، والتي ستستعلن كاملة عند توبتها. وهذا هو الموضوع الثمين الكريم الذي تدور حوله بقية الأصحاح «لكن هأنذا أتملقها، وأذهب بها إلى البرية، وألاطفها (أي أتكلم إلى قلبها)، وأعطيها كرومها من هناك، ووادي عخور (المشقة) باباً للرجاء. وهي تغني هناك كأيام صباها، وكيوم صعودها من أرض مصر» (ع14،15). وهكذا نرى أن الرب يعتزّ بذكرى أيام خطبتها الأولى، يوم سارت وراءه في البرية في أرض غير مزروعة، يوم كانت قدساً للرب وكان قلبها مثبتاً عليه وحده. ولابد أن أيامها السعيدة تلك - أيام محبتها الأولى - تتجدد، ومرة أخرى سوف يتملقها ويجتذبها بعيداً عن مشاهد سبيها وهوانها. وإذ تكون وحدها معه في برية الشعوب (أنظرحزقيال35:20) سوف يحاجها وجهاً لوجه. ويرد لها خمر أفراحها، ووادي عخور (وادي المشقة) سيكون مصدراً للرجاء. لقد كان في وادي عخور مشهد قضاء على عاخان، كما يسجل يشوع (يش24:7-26). وإذ تنجست الأمة بانحرافها الدنس عن إلهها ومطامعها في المحرّمات، فإن بركتها ستبدأ من حيث تُدان وتُنـزع تلك الخطية التي كانت سبباً في مشقتها. وإذ تعود إلى ذاك الذي ضلَّت عنه مدى طويلاً، فستغني (أو تتجاوب) كما في أيام خطبتها الأولى، كما في أيام صعودها من مصر.

وتطبيق هذا على الأفراد بسيط وطبيعي، فإن أولاد الله الذين تحولوا عنه، إذ يتعلمون حماقة الانحراف عن محب نفوسهم الأبدي، ويرجعون إليه، راجمين “عاخاناتهم” ونازعين المحرمات، لابد أن يعودوا ويتمتعوا بأفراح الأيام الأولى، والشركة المخزونة لهم.

في يوم رجوع إسرائيل سوف يُعترف به كامرأة يهوه. ومن المهم أن نلاحظ الفارق بين منـزلة الأمة الإسرائيلية ومنـزلة عروس الخروف في رؤيا19،21. فالأولى أرضية، والأخيرة سماوية. الأولى لا تُدعى عروساً لأنها امرأة راجعة، بعد أن طال ابتعادها عن رجلها. أما الثانية فإنها تُقدَّم كالعروس للمرة الأولى في عرس الخروف في السماء. وفي الملك الألفي سوف يملك الخروف وعروسه السماوية على الخليقة المفدية. وعلى الأرض، سيكون لامرأة الرب الراجعة موضعها في أرض فلسطين. وأورشليم الجديدة السماوية ستكون عاصمة المملكة السماوية، بينما تكون أورشليم الأرضية، المسكونة من جديد، عاصمة المملكة الأرضية. ويومئذ تتم الأقوال المكتوبة «ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعد بعلي (أي سيدي). وأنـزع أسماء البعليم من فمها فلا تُذكر أيضاً بأسمائها» (ع16،17). تلك أيام إشعياء 6:54 «لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رُذلت قال إلهك»، ويومئذ تصبح الأرض أرضاً بعولة، ويكون الشعب والأرض للرب.

وهذا الزمان السعيد يتناوله الأنبياء بقدر من الإفاضة، فهو يوم مجد الملكوت، إذ يتوَّج ربنا يسوع من العالم الذي رفضه مرة، كالمبارك العزيز الوحيد. سيكون هذا زماناً لانتشار النور الروحي والبركة.

وليس ذلك فقط، بل إن اللعنة سوف تُنـزع من الأرض، وتدخل الخليقة الأولى إلى حرية المجد التي طالما أنَّت من أجلها (رو22:8). «وأقطع لهم عهداً في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض، وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، وأجعلهم يضطجعون آمنين» (ع18). كل ذلك ثمرة تمجيد ابن الإنسان، الذي يتحدث عنه مزمور8، الذي سوف تنعم كل الخليقة تحت ملكه. ويصوِّر إشعياء11، بأسلوب جميل، بركات ذلك العهد الهادئ، العصر الذهبي بحق، الذي يفتتحه رجوع الرب يسوع من السماء، ذاك الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد (مز2، رؤ19).

ولن يعود إسرائيل إلى عدم الأمانة مرة أخرى. والتاريخ القديم الملطخ سوف يُنسى، وإن طاف بالذكرى فإنما لتأكيد النعمة التي تردهم «وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب» (ع19،20). ليس إلى الكنيسة تشير هذه الأقوال، بل إلى إسرائيل الحرفي، الذي بعد نهاية «أزمنة الأمم» سوف يُطعَّم ثانية في زيتونة الموعد، ويرجع إلى الله وإلى أرضه، ويرث المواعيد التي سبق وتثبتت للآباء. إن قراءة متأنية لبعض الفصول الكتابية مثل رومية11، إرميا31:30، حزقيال22:36-37؛38. من شأنها أن تجلو أمام القارئ العادي أن الله لم يطرح إلى الأبد شعبه القديم، وأنه عندما يعيدهم سيكون ذلك من خالص النعمة، وعلى قاعدة العهد الجديد المختوم بدم ابنه الكريم. ولن يكون هناك ما يفسد تلك الوحدة المقدسة، أو يفرق الخطيبة الأرضية عن الرب.

ثم يُختم الأصحاح بصورة ألفية جميلة «ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب يقول الرب أستجيب السماوات وهي تستجيب الأرض، والأرض تستجيب القمح والمسطار والزيت وهي تستجيب يزرعيل. وأزرعها لنفسي في الأرض وأرحم لورحامة وأقول للوعمي أنت شعبي وهو يقول أنت إلهي» (ع21-23). ففي يوم مجد المسيا العتيد سوف تتحد معاً السماوات والأرض في بركة «أزمنة رد كل شيء» التي تكلم عنها الأنبياء.

حينئذ ستتجاوب السماوات، حيث يسكن القديسون الممجدَون الذين أقيموا وتغيروا عند مجيء الرب، مع أفراح الأرض المفدية، تماماً كما سيتجاوب الله نفسه معهم. سيكون مشهداً مباركاً، مفرحاً لشركة مغبوطة هانئة لن يفسدها شيء، برغم محاولة الشيطان الأخيرة ليفسد ويخرب ما عمله الله (رؤ7:20-10).

والأرض، وقد تحررت من اللعنة القديمة، سوف لا تعود تنبت شوكاً وحسكاً، بل تتجاوب مع وفرة الحنطة وفيض المسطار والزيت. والبرية سوف تبتهج وتزهر. وليس بعرق الوجه سوف يأكل الإنسان خبزاً في مشقة وعياء، بل إن الأرض وكأنها شيء حي متحرك سوف تعطي مكنوزاتها ومدخراتها لمفديي الرب.

وكذلك سوف يتجاوب الكل، يستجيب الكل ليزرعيل. فإسرائيل سوف يكون مزروعاً كبذرة الله، في الأرض ذاتها التي اصطبغت مرة بدم البار، كما اصطبغت في مجازاة عادلة مخيفة بدمائهم هم. هناك سيتعمق جذرهم في الأرض، ويطلع فرعهم سامقاً شارقاً للعلاء، والشعب الذي دُعي مرة “لورحامة” يكون “رحامة”، بينما حكم “لوعمي” سوف يُنسّخ إلى الأبد وهم يُدعون “عمي”. وفي تجاوب سعيد سوف يرنون بعيونهم وقلوبهم إلى عرش الرب، وفي عميق التوقير والتجرد من الذات سوف يصيحون “إلهي”.

هذا هو المشهد البديع الختامي ليوم يزرعيل، فلا تعود الخطية والألم، والحرب والخراب لتغشي سهول «حقل الدم»، بل سيصير مشهداً لغبطة غير مشوبة، وبركة مسكوبة، يوم يتوج ربنا يسوع سيداً عظيماً في سلطة مهوبة.

  • عدد الزيارات: 7009