Skip to main content

إصحاح 2، آية 14

14-"يا حمامتي في محاجىء ( * ) الصخر في ستر المعاقل أريني وجهك أسمعيني صوتك لان صوتك لطيف ووجهك جميل".

"يا حمامتي" بهذا يخاطب العريس حبيبته لأنه يراها كذلك، فهي وان كانت في ذاتها لا تخلو من العيب واللوم وكثيرا ما تكون "كحمامة رعناء"(هو7: 11) ولكنه في نعمته الغنية ومحبته الفائقة يراها طاهرة كالحمامة، ولا عيب فيها "قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة"(أف1: 4) "بسطاء كالحمام" (مت10: 16) "بسطاء. . بلا عيب"(في2: 15) وتتميز الحمامة عن غيرها من الطيور بوداعتها ولطفها، وأنها لا تؤذي غيرها حتى ولو تعرضت هي أو فراخها الصغيرة لأذى. هكذا يرى الرب عروسه وهذا ما يجب ان تكون عليه في حياتها العملية. ثم أنها ليست لذاتها ولكنها ملكه "يا حمامتي" فقد "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. . . . لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب"(أف5) "لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن"(1كو6: 30) "وأما أنتم فللمسيح"(1كو3: 23).

فأنا لست لذاتي ليس لي شيء هنا

كل ما عندي لفادي الخلق وهاب المنى

إذ فداني إذ فداني ذاك بالدم الكريم

ما كان أكبر الفرق بين تصرف الغراب (الطائر النجس) الذي أرسله نوح من الفلك والذي خرج مترددا ولم يعد إليه مرة أخرى إذ وجده شعبه في الجيف النتنة التي كانت طافية على وجه المياه، وبين تصرف الحمامة التي أرسلها نوح من الفلك ولكنها عادت إليه فورا إذ لم تجد مقرا لرجلها، وإذ أرسلها ثانية عادت إليه بورقة زيتون خضراء في فمها. أليس في هذا تعليم لنا؟ هل يستطيع المسيحي الحقيقي ان يجد شبعا لنفسه في ملذات العالم وشهواته؟ أنه لن تجد فيه راحة ولا استقرارا لنفسه. ان الراحة والأمن والسلامة هي في ذاك الذي كان نوح والفلك يرمزان إليه _ فلك النجاة والأمن ربنا يسوع المسيح.

* * *

"يا حمامتي في محاجىء الصخر" مع ان الحمامة ضعيفة في ذاتها _ ضعيفة جدا، وليس في طوقها ان تحمي نفسها من أذى الكواسر أو الطيور الجارحة ولكنها وجدت خلاصها ونجاتها وأمنها في محاجىء الصخر _ في جراحات المسيح _ الصخر الثابت الذي لا يتزعزع. هناك تستقر النفس هادئة وهانئة في حمى ذلك الجنب المطعون، وهناك تجد مكانا أمينا في ذلك القلب الكبير _ قلب المحبة الإلهية بحيث لا يستطيع أجناد الظلمة وقوات الجحيم المرعبة ان تسقط شعرة واحدة من شعرها، لان واحدا من هؤلاء الأعداء لن يصل إلى محجأ الصخر حيث تختبئ حمامة المسيح. أنها في أعالي الصخر _ في المسيح الذي هو الآن فوق جميع السموات بحيث لا يستطيع رئيس سلطان الهواء وكل أجناد الشر الروحية ان تحلق لتصل إليها، فهي (أي الحمامة _ عروس الرب) تشبه طائفة الوبار التي هي "طائفة ضعيفة ولكنها تضع بيوتها في الصخر"(أم30: 26) ومع ان واجبها ان تستقر في كل حين في حمى ذلك الصخر ولكن أمنها ليس متوقفا على مبلغ قوتها واستمساكها بالرب صخرها، وإلا لهلكت لا محالة، وأنما على قوة المسيح الذي يحميها ويصونها ويرعاها، وهل يمكن للرب المبارك ان يسلم للوحش نفس يمامته؟ كلا فلقد قال مؤكدا "أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني أياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد ان يخطف من يد أبي"(يو10 : 28و 29) "ويكون كمخبأ من الريح وستارة من السيل كسواقي ماء في مكان يابس كظل صخرة في أرض معيبة"(أش32: 2) مبارك ومجيد اسم ربنا صخر الدهور.

يا صخر الدهور قد ضربت من أجلي

لتفتح الباب الذي يدخله مثلي

* * *

"في ستر المعاقل ( * )" لم تكن العروس في محاجىء الصخر _ مكان الحمى والأمن في ذلك الجنب المطعون فقط، ولكنها كانت أيضا في "ستر المعاقل" _ مكان الشركة السرية، إذ صار لها حق الاقتراب إلى الأقداس السماوية "لان به لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب"(أف2: 18) "فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع. لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان. . . "(عب10: 19-22) "وما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابك (أي في ستر المعاقل) وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك"(مت6: 6).

* * *

أما إذا اعتبرنا ان المقصود بستر المعاقل الدرج السري (كما في الحاشية السفلية بالصفحة السابقة) ربما كان في ذلك إشارة إلى الغرفات التي بناها سليمان الملك حول حيطان الهيكل، وكانت مكونة من ثلاث طباق، كانت كل طبقة منها أكثر اتساعا من الطبقة التي تحتها، وكان الصعود إلى الغرفات الوسطى والعليا بدرج معطف من الداخل (أي الدرج لم يكن يرى من الخارج. 1مل6: 5-8) ففي الشركة السرية ترتقي النفس إلى أدراك أعلى، واختبار أسمى لمحبة المسيح، وتتسع طاقتها الروحية سواه في التمتع به أو في السجود والخدمة له.

* * *

"أريني وجهك أسمعيني صوتك" حسن جدا ان يكون لنا مكان الأمن والحمى "في محاجي الصخر. في ستر المعاقل" وان قلوبنا لتفيض بالحمد والتعبد للرب من أجل بركة الفداء وغفران الخطايا، ولأجل السلام الذي ملأ به ضمائرنا وقلوبنا إذ "أبطل الخطية بذبيحة نفسه" لأننا إذ احتمينا في قيمة وفاعلية دمه الكريم صار مكروه "لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح". هذه حقائق سامية وجوهرية ولها قيمتها الغالية، ولكنها ليست كل ما هيأته لنا محبة المسيح، فهو يريدنا ان نكون في صحبته المقدسة حيث يطلعنا على مقاصد المحبة الإلهية والمشورات الأزلية التي ذخرت لنا في ، شخصه المجيد، وهو يريد ان يرى الفرح بهذه المشورات الحبية الغالية ينير وجوهنا، وان يسمع أصواتنا وهي تتعبد له مترنمة له ومتحدثة إليه بهذه المشورات التي قصدتها مسرة مشيئته. ان الحبيب يوجه التفات حبيبته _ في هذا الإصحاح _ إلى مناظر سماوية مجيدة وجذابة خارج الأماكن المغلقة التي هي فيها، ويدعوها لترى وتسمع ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه، ولكن الله أعلنه لنا بروحه. أنه يريد ان يوسع تخومنا الروحية يريدنا ان نمتد إلى ما هو قدام، وان نتقدم في مداركنا واختباراتنا الروحية "انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح".

* * *

"لان صوتك لطيف ووجهك جميل" يدعو الرب الحبيب عروسه بان تأتي إليه ليرى وجهها الجميل في عينيه وليسمع صوتها اللطيف، وهل هناك تعبير أعمق وأقوى من هذا عن محبة العريس المبارك لعروسه وإعجابه بجمالها وبصوتها العذب _ سواء أكانت العروس السماوية _ الكنيسة التي هي جسده، أم العروس الأرضية _ البقية التقية من يهوذا؟ ولكي يتسنى لنا فهم كلمة الله فهما صحيحا يجب ان نميز في نور هذه الكلمة بين ما هو أرضي وما هو سماوي، بين دعوة شعبه القديم الأرضية، ودعوة الكنيسة السماوية. ان هذه الكلمة ترينا بكل وضوح ان الرب سوف يعني بشعبه الأرضي، وان عروس الملك "المسيا" (أش54: 5 وهو2: 14-20) أورشليم الأرضية ستكون مركز المجد والبركة الأرضيين، كما ان الكنيسة _ أورشليم السماوية هي عروس الخروف (رؤ21: 2و 9-27) _ "حمل الله" الذي تألم مرة ليكفر عن خطايانا، أما الآن فهو المسيح الممجد السماوي إذا فأورشليم عروس، والكنيسة عروس، ويجب ان يراعى ان هذا اللقب "عروس" هو تعبير رمزي للدلالة على العاطفة والمحبة والوحدة، لان مركز العروس ومكانها هو دائما إلى جانب العريس، وعلى هذا ستأخذ العروس الأرضية _ البقية المعبر عنها بأورشليم مكانها بجواره في المجد الأرضي "جعلت الملكة عن يمينك"(مز45) كما ان الكنيسة _ العروس السماوية ستأخذ مكانها إلى جانبه في المجد السماوي، فأنها إذ اعترفت به ربا وسيدا أثناء رفضه لذلك ستكون أقرب إليه وأعز لقلبه في رفعته ومجده. من هذا يتبين ان مجد الملكوت العتيد له وجهان: سماوي وأرضي "لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك"(أف1: 10) أعني ان كل قوة وبركة ومجد في الدائرتين سوف تتركز في المسيح.

ان نصيب الشعب الأرضي هو بركات زمنية في أرض بهية وخصبة (عا9: 11-15). أما نحن فنصيبنا كل بركة روحية في السماويات(أف1). أورشليم الأرضية ستكون مركز المجد الأرضي والبركة الأرضية. ستكون المدينة الملكية، عاصمة الأرض كلها، وعن طريقها تتبارك أمم الأرض "لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب"(أش2: 3) أما أورشليم العليا _ العروس السماوية فستكون مركز المجد السماوي. مجد الله ينيرها والخروف سراجها (رؤ21: 23). القديسون السماويون يلبسون أجسادهم المجيدة إذ يتغيرون على صورة جسد مجد المسيح.

* * *

إلا ان الرب لا يرى عروسه جميلة في عينيه وصوتها عذبا لسمع أذنيه وهي إلى جانبه في المجد فقط بل قبل ذلك أيضا _ وهي هنا فوق الأرض في جسد الأتضاع والضعف، ذلك لأنه خلع عليها جماله هو. ان صوتها لطيف _ صوت تضرعاتها وصلواتها، وليس ذلك فقط بل حتى اعترافاتها وكلمات التذلل والبكاء والانسحاق التي ترفعها إليه لان "صلاة المستقيمين مرضاته"(أم15: 8) كما ان ذبائح السجود والتسابيح الروحية هي مقبولة عنده (1بط2: 5) "فلنتقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه"(عب13: 15) "أعني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجودا فيلذ له نشيدي"(مز104: 33) "مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب، شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح لله والأب"(أف5: 19و 20) نعم ان صلواتنا وسجودنا وتسبيحاتنا تتصاعد إلى حضرته كرائحة البخور العطرية لان الروح القدس الساكن فينا هو قوة سجودنا وتعبدنا. وان وجهها جميل، إذ أنه قد غسلها من أدرانها وخطاياها. وطهرها من ضمير شرير فلم تبق فيها عيبة أمامه، لذا يريد ان يرى وجهها الجميل "حينئذ تتلذذ بالقدير وترفع إلى الله وجهك. . . ترفع وجهك بلا عيب"(أي22: 26، 11: 15).

* * *

واضح ان عروس المسيا الأرضية، قبل ان يؤتى بها البركة إلى جانب العريس في ملكه الألفي المجيد، ستجوز في آلام وتدريبات مرة وقاسية _ في ذلك الضيق الذي لم يسبق له مثيل، وكلمات الرب الموجهة إليها في هذا العدد أنما لكي يملأ قلبها بالرجاء واليقين بان يوم خلاصها من ذلك الضيق أصبح قريبا. أنه يريدها ان تعرف أنها موضوع عنايته ورعايته. لا شك أنها ستكون في ذلك الوقت هدف مكر ضد المسيح ومحاولاته الخبيثة، لأنه سيعمل على هلاك البقية الأمينة، ولكنها إذ تسير في هداية الرب وفي نور الكلمة النبوية ستجد لنفسها مخبأ في البرية "حينئذ يهرب الذين في اليهودية إلى الجبال"(مت24: 16) وتبارك اسم الرب إلهنا وسيدنا فأنه يعرف ملجأها وهي هناك تكون تحت نظره وتبدو لعينيه وقلبه كحمامة متحصنة "في محاجي الصخر. في ستر المعاقل".

ثم ان صوتها سيكون لطيفا في سمع أذني حبيبها، ويلذ له ان تسمعه صوتها ولو أنه حينئذ يشبه صوت الحمامة الحزينة التي تجلس وحيدة تندب اليفها "وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له"(زك12: 10-14) كما ان وجهها سيكون جميلا في عينيه مهما فعل بها الاضطهاد وأحرقتها نيران التجارب "البلوى المحرقة" التي ستجوز فيها. أنه بالرغم من هذا كله فهو يريد ان يرى وجهها وان يستمع إلى صوتها "لان صوتك لطيف ووجهك جميل" هذه هي "محبة المسيح الفائقة المعرفة".

* * *


( * ) المحاجىء بمعنى الشقوق Clefts والمفرد محجأ. والمعاقل بمعنى الحصون

( * ) "في ستر المعاقل" In the secret places of the stairs أي أنها جاءت في بعض الترجمات بمعنى الدرج أو السلم السري.

  • عدد الزيارات: 4049