الأصحاح الثاني عشر
1. من يحب التأديب يحب المعرفة ومن يبغض التوبيخ فهو بليد.
إن الشخص الذي يحب التعليم للتعليم، يقدّر المعرفة الحقة مهما يكن مجرى توصيلها؛ لأن ما يطلبه ويتمناه هو الحق ذاته، وليس القدرة التي يُظهر بها تحصيله. أما المتحذلق المدّعي، فإنه يبغض التوبيخ، ومثل البهيمة لا يقدّر قيمة التقويم (أم17:10)، هو يفضِّل مشيئته الجامحة غير الملجّمة، مهما تكن أفكاره وطرقه مضادة للتعليم الصحيح. هذا هو الطابع الذي اتّسم به العالم قبل الطوفان (أى15:22،17). ولنا في يوشيا، ملك يهوذا الفتى التقي، مثل جميل على الجانب الآخر (2أى24).
2. الصالح ينال رضى من قبل الرب أما رجل المكايد فيحكم عليه 3. لا يثبت الإنسان بالشر أما أصل الصدّيقين فلا يتقلقل.
إن وجه الرب يضيء على الرجل الصالح، وذلك في طبيعة الأمور. نسله ثابت إلى الأبد. «يثبت لأن الله قادر أن يثبته». على أن الطبيعة الإلهية ذاتها، التي تجعله - تبارك اسمه - يُسرّ بالأبرار، هي عينها تتطلب دينونة رجل المكايد فإنه لا يثبت. «لا تقوم الأشرار في الدين ولا الخطاة في جماعة الأبرار». انظر حوشاي وأخيتوفل (2صم32:15،15:16-23،17 الخ).
4. المرأة الفاضلة تاج لبعلها أما المخزية فكنخر في عظامه.
من الخطأ الفاضح أن نقصر كلمة «فاضلة» على فكرة العفة والنـزاهة؛ فإن المرأة الفاضلة هي التي تلمع فيها كل الصفات النبيلة، كما نراها في آخر أصحاح من هذا السفر. امرأة بهذه الصفات والفضائل هي في الحق تاج لبعلها. أما تلك التي بحماقتها وكسلها تجعل زوجها يخجل ويخزى، فإنها مثل اقتراب الشيخوخة المبكرة. وازن بين سارة وامرأة أيوب (تك12:18،1بط1:3-6،أى 9:2،10).
5. أفكار الصدّيقين عدل، تدابير الأشرار غش. 6. كلام الأشرار كمون للدم أما فم المستقيمين فينجيهم. 7. تنقلب الأشرار ولا يكونون أما بيت الصديقين فيثبت.
إن الأفكار الصحيحة تنشئ أقوالاً وأفعالاً صحيحة، ويجازي عنها ذاك الذي مسرته بالاستقامة. على أن للأفكار الشريرة ثمارها كذلك، في أقوال وأفعال شريرة، وهي بدورها ستنال مجازاة عادلة؛ فإن دينونة الله هي بحسب الحق، الأمر الذي سوف تعترف به أخيراً نفس كل إنسان. قارن أبشالوم وداود (2صم15-19).
8. بحسب فطنته يُحمد الإنسان أما الملتوي القلب فيكون للهوان.
إن الفطنة (الحكمة)، حتى بين أهل العالم، موضع حمد وثناء، لكن روح الحماقة والبطل إنما تعرّض صاحبها للهوان. والعالم نفسه يستطيع أن يقدّر الوقار والفطنة الروحية، ولو أنه يرفضها في ذاتها، بل ويضطهدها. أما ادعاء الإنسان بالحصول على أيهما وهو محروم منه، إنما يدعو إلى الاشمئزاز والاحتقار. لاحظ اختلاف التقدير الذي قدّره لجدعون وأبيمالك رفاق كل منهما (قض7-9).
9. الحقير وله عبد خير من المتمجد (أو الذي يمجد ذاته) ويعوزه الخبز.
هنالك ترجمة تضع الشق الأول هكذا "الفقير الذي يعول نفسه.. ."، والفكرة بوضوح هي أن الشخص الذي ينظر إلى نفسه كوضيع وهو يسدد حاجاته بنفسه، أسعد حالاً وأكثر غبطة من الشخص الذي يسر بمظاهر العظمة والتعالي بينما تلسعه وخزات الجوع والضيق والفقر. انظر يعقوب وعيسو (تك27:25-34).
10. الصدّيق يراعي نفس بهيمته أما مراحم الأشرار فقاسية.
إن الصدّيق الحقيقي لا يستطيع أن يتصرف ضد طبيعته الجديدة، حتى فيما يتصل بالبهائم البكماء. بل إن اعتماد هذا الكائن الأبكم كلياً عليه، إنما يؤدي إلى إثارة مشاعره، بحيث أنه يعامله باللطف الخليق بالنفوس النبيلة. أما الشرير، أو الأثيم، فإنه يزداد قساوة كلما أحسّ وأدرك حقّه في أن يتحكم في الخلائق الدنيا. ذلك أن القسوة والإثم يسيران معاً. وازن بين يعقوب وبلعام (تك13:33،14،عد23:22-31).
11. من يشتغل بحقله يشبع خبزاً أما تابع البطّالين فهو عديم الفهم.
الزارع المجتهد يكافأ بفيض عن أتعابه وجهوده، بينما الشخص التافه الكسول رفيق المتأنق، إنما يكشف عن فقره في الفهم. ويالها من كلمة فاحصة للشبان المسيحيين. إن كلمة الله حقل جيد جدير بالعمل فيه. وأولئك الذين يطيعون النصيحة الرسولية «اجتهد أن تقيم نفسك لله مزكى عاملاً لا يخزى مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة» (2تي15:2)، لابد أن يكافَئوا على كل ساعة يخصصونها بشوق واهتمام واجتهاد في هذا الحقل الثمين. ولكن كثيرين بالأسف يضيّعون أوقاتاً طويلة في حماقة البطالة مصاحبين أصدقاء تافهين فارغين عالميين، مهملين كتبهم المقدسة، الأمر الذي لابد أن يتلف حياتهم الروحية. وكثيراً ما يدهش أمثال هؤلاء كيف أن زملاء مسيحيين آخرين استطاعوا أن يكتشفوا في الكتاب كثيراً من الحقائق الجديدة التي تبني النفس وليس ذلك لأنهم لا يجدون دروساً شيقة وآراءً نافعة؛ كلا، بل لأنهم غير جادّين في أن يعملوا الأرض أي يفلحوها ولو أنهم فعلوا ذلك لكانوا هم أيضاً يشبعون خبزاً.
والذين يتصرفون هكذا ويستسلمون للكسل، لابد أن يتحملوا خسارة لا تقدر، سواء زمنياً أو أبدياً. لأن إهمال الكتاب هو سبب الكثير من الفتور وجمود القلب والانحراف عن الله. ولكن حين يجعلها المؤمن عملية يومية، أن "ينقب" لنفسه في الكتاب، ثم يحاول بقوة الروح القدس أن يسير في الحق الذي تعلمه؛ عندئذ يتجلى فيه النمو في النعمة وفي معرفة أمور الله. وهوذا تيموثاوس مثلاً جيداً وقدوة حسنة في هذا التصرف لكل القديسين الشبان (2تي14:3-17)، بينما نرى في يهوياقيم، الشاب الفاجر، تحذيراً خطيراً لكل الذين في خطر من سلوك الجانب المضاد الذي كنا نتأمل فيه (إر22:36-32).
12. اشتهى الشرير صيد الأشرار وأصل الصديقين يجدي 13. في معصية الشفتين شرك الشرير أما الصديق فيخرج من الضيق.
إن الشرير يريد أن يحيط نفسه بالشر، وعبثاً يأمل في النجاة في يوم المجازاة، ولكن لابد أن يؤخذ بأقوال فمه، وما أفظع النكبات التي يتعرض لها! إنها أردأ وأسوأ مما لو حاول أن يتجنبها. انظر جيحزي (2مل 20:5-27). على أن الصديق يثق في الله ثقة مقدسة، ويثمر لمجده تعالى. وفي يوم ضيقه يجد عن يمينه مخلّصاً قوياً. انظر أليشع (2مل17:6).
14. الإنسان يشبع خيرا من ثمر فمه ومكافأة يدي الإنسان ترد له.
رأينا كثيراً فيما تقدّم من هذا السفر مبدأ الحكم الإلهي «ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً»؛ وهو مبدأ لا يقدر أن يحرفه إنسان. فلابد لكل إنسان من مجازاة حسب أعماله. والمسيحي ليس فوق قانون ملكوت الله هذا، بل بالحري يحني رأسه ويعترف بعدالة القانون. (انظر مت 24:18-35).
15. طريق الجاهل مستقيم في عينيه أما سامع المشورة فهو حكيم 16. غضب الجاهل يعرف في يومه. أما ساتر الهوان فهو ذكي.
نقرأ هنا عن طابعين يميّزان الجاهل، وهو الشخص الذي تعوزه الحكمة الإلهية. فهو من جهة متكبر واثق في ذاته، يأبى التقويم. ومن الجهة الأخرى لا يحتمل غلطات الآخرين، فيظهر غضبه سريعاً، مما يضاعف الجِرَاح، بدلاً من تضميدها. أما الحكيم الذكي فهو على الضد من كل وجه. إنه يقسو على نفسه، وبالتبعية يتقبل النصيحة، معترفاً برضى بأن الآخرين قد يكونون أحكم منه. ثم هو على استعداد أن يستر غلطة غيره، عوضاً عن أن ينشرها طولاً وعرضاً. انظر هذه المفارقة نفسها بين حام الذي لم يخجل من أن يقص حكاية تعرية أبيه نوح كأنه أسمى من ولي نعمته، بينما رجع سام ويافث إلى الوراء وسترا عورة أبيهما (تك9).
17. من يتفوه بالحق يظهر العدل والشاهد الكاذب يظهر غشاً. 18. يوجد من يهذر مثل طعن السيف. أما لسان الحكماء فشفاء. 19. شفة الصدق تثبت إلى الأبد ولسان الكذب إنما هو إلى طرفة العين 20. الغش في قلب الذين يفكرون في الشر أما المشيرون بالسلام فلهم فرح 21. لا يصيب الصديق شر. أما الأشرار فيمتلئون سوءا. 22. كراهة الرب شفتا كذب. أما العاملون بالصدق فرضاه.
هذه الأعداد الستة تعالج موضوعاً واحداً، هو الفرق بين شفتي الصدق، واللسان الكاذب. الأخير مكرهة ذاك الذي هو نفسه الحق، والأول يسرّ به لأنه يوافق طبيعته.
إن القول الحق ينبئ عن استقامة القلب، والكلام الباطل الزائف يكشف عن انعدام الحق في الباطن. والشخص الذي لا يتردد عن الكذب العمدي ينثر الألم والحزن على جانبيه، أقواله الحاقدة جارحة كالسيف، تطعن القلوب الحساسة والنفوس الرقيقة. على أن لسان الحكماء شفاء لهؤلاء وبناء. لكن يوم الحساب قادم، حينما تثبت إلى الأبد شفة الصديق، أما لسان الكذب فيمضي إلى النسيان.
ويحسن بنا أن نذكر أن الغش المقصود هنا هو الغش العامد. وأنه لأمر يؤلمنا كثيراً أن نسمع أناساً مخلصين يلقون على إنسان تهمة اللسان الكاذب، لأنه تفوه بأكذوبة بسلامة نية. فقد نسمع عبارات لا تتفق مع الواقع، وهي صادقة من حيث نية المتكلم. كما قد نسمع أقوالاً صحيحة بحسب الواقع أو كحقيقة، ولكن المتكلم تفوه بها بنية التضليل. نعم فالغش في القلب هو الذي يجعل الشفتان تكذبان. لذلك لا يصح أن نتهم إنساناً بالكذب إن لم يقم الدليل واضحاً على وجود نية المراوغة.
إن الصدِّيق يُحفظ من الشر على قدر ما سعى في طلب الخير لرفقائه. أما الشرير فله الدينونة بلا رحمة، لأن الله لن يسعه إلا إظهار كراهيته لكل باطل واستحسانه للحق والعدل. وازن بين نحميا وسنبلط (نح5:6-9).
23. الرجل الذكي يستر المعرفة. وقلب الجاهل ينادي بالحمق.
إن الرجل التافه الأقوال هو الذي يتكلم كثيراً. أما الذكي فلن يذيع معرفته. بينما الجاهل ينتهز كل فرصة ليعلن حماقته الخاوية. انظر الفرق بين إرميا وحنانيا (إر1:28-11).
24. يد المجتهدين تسود أما الرخوة فتكون تحت الجزية.
ليست الكفاية وحدها هي سبب النجاح وضمان التقدم. بل يستلزم الأمر أيضاً الجهد الدائب، وإلا فلا أثر ولا فائدة للموهبة والذكاء. فالشخص المتكاسل مهما يتوفر لديه امتياز في المواهب الطبيعية والذكاء، فإنه أدنى من الكادح الصبور. وهذا شيء ذو أهمية بالغة سواء في الميدان الطبيعى أو الروحي. وازن بين جدعون وباراق (قض11:6،12، 4:4-9).
25. الغم في قلب الرجل يحنيه والكلمة الطيبة تفرحه.
يقول أيوب "ما أشد" أو "ما أقوى" (فاعلية) الكلام المستقيم، لأنه مصدر تعزية وتشجيع لمحزوني النفس ومرّي الروح. انظر نحميا وأرتحشستا (نح2:2-8).
26. الصديق يهدي صاحبه أما طريق الأشرار فتضلهم.
إن الإنسان الطاهر طريقاً، والحر ضميراً، يستطيع أن يحث ويحرض قريبه بأسلوب التقوى لبنيانه ورد نفسه إلى الله، إذا كانت خطواته قد انـزلقت. «الروحي يحكم في كل شيء» (1كو15:2) أو "يميز كل شئ". أما الرجل المتمرد الأثيم فلا يهتم بخير أخيه بل بالحري يهدمه. ومن هنا تكون أقواله مضللة. إن ناثان مثل للشق الأول والمرأة التقوعية الحكيمة مثل للشق الثاني (2صم1:12-14؛ 1:14-20).
27. الرخاوة لا تمسك صيدا. أما ثروة الإنسان الكريمة فهي الاجتهاد.
بعض الناس يتحمسون فترة من الوقت، ولكن سرعان ما تستولي عليهم طبيعة الكسل والرخاوة التي اعتادوا عليها. وكثيرون أيضاً هم الذين يستمعون إلى خدمة الكلمة، ولكنهم يفشلون في التأمل فيها، وفي أن يخصصوا لأنفسهم ما يسمعون. هم مثل ذاك الذي يمضي إلى الحقل أو إلى الغابة متحمساً للصيد ولكنه لا يهتم بأن يستفيد بصيده. أما طريق المجتهدين فتختلف كل الاختلاف. فإن المجتهد يستخدم ما بين يديه فيفوز بأكثر، كما نقرأ في مثل الوزنات (مت28:25،29). إن راعوث التي كانت تلتقط كل يومها إلى المساء وكانت «تخبط ما تلتقطه» وهي في ذلك مثل صادق للحقيقة التي أمامنا (را17:2). كما أن العبد الذي أخفى وزنته في منديل يصور الروح المضادة (لو20:19-24).
28. في سبيل البر حياة، وفي طريق مسلكه لا موت.
إن سبيل البر هو سبيل الصديقين، سبيل نور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل. وإذ هو يجتاز مشهد الموت فإنه يستمر إلى الحياة. وتلك الحياة الأبدية، هي ملك، الآن، لكل الذين دخلوا إليها من الباب الضيق (مت 13:7،14). وما يدعوه الناس موتاً - وهو بالحق كذلك لجميع الذين يسلكون في طريق الخطية - هو للبار ليس إلا نهاية لطريق تتفتح على بهجة ومجد بيت الآب. «هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد، هو يهدينا حتى إلى الموت» (مز 14:48). وما أسعده نصيباً لجميع الذين يسلكون طريق القداسة، مجتازين عالم الخطية، قُدُماً إلى مدينة الله!
- عدد الزيارات: 3743