مقام الشريعة أمام التدبير الإلهي (3: 15- 29)
أخذ بولس الرسول يشرح للغلاطيين أن الخلاص وُعد أولاً بالنعمة للمؤمنين فالشريعة التي جاء بها موسى لا يمكن عدّها إلغاء لذلك الوعد بل تمهيداً لتكميله. قال بولس: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ" توضيحاً لهذه الحقيقة وهي "أن العهد"- حتى عهد البشر فكم بالحري عهد الله- "إذ قرر" رسمياً وختم "لا ينبذ" ليحل محله آخر "ولا يُزاد عَلَيْهِ" شروط جديدة. وهاك تطبيق المثل "وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ»" انظر تكوين 13: 15 و17: 18 والإشارة هي إلى نسل إبراهيم الحقيقي أي نسله مباشرة ولذلك استعمل لفظة نسل بصيغة المفرد حذراً من وقوع الالتباس بينها وبين "الأنسال" أي الجماهير الأخرى المتناسلة من إبراهيم. قال بولس "لاَ يَقُولُ" الله في كتابه "«وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ" أي أنه لم يستعمل صيغة الجمع مطلقاً لئلا يتوهم أن الإشارة هي إلى جميع المتسلسين من إبراهيم "بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ»" أي بصيغة المفرد للدلالة على من ينوب عن إبراهيم "الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ" وهو نسل المرأة الموعود به (تكوين 3: 15). هذا كان الوعد الأصلي. فهل نسخ أو أبطل؟ قال الرسول "إِنَّ عهداً سبق الله فقرره" بالوعود والمواثيق التي أعطاها إبراهيم ونسله كما رأينا "لا تلغيه شريعة جاءت بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً" وهي الشريعة الموسوية وبناء على ذلك نقول بالأولى إن وعد الله الذي تم بتجسد كلمته لا تلغيه أو تنسخه شريعة جاءت بعده بستمئة واثنين وثلاثين سنة. وسبب هذه الاستحالة عدم انطباق الحالة على عهد الله الأصلي "لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ" أي وراثة البركات والحياة الأبدية "مِنَ النَّامُوسِ" سواء كانت الشريعة الموسوية أم غيرها "فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ" لأن المبدأين مختلفان "وَلَكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ" لا بشريعة. لأن هبات الله المجانية لا تتوقف على استحقاق البشر بل على الإيمان والإيمان هو بمثابة الإقرار بعدم الاستحقاق مع قبول هبة الله بالشكر والتواضع والخشوع.
ورب معترض يقول ما فائدة الشريعة الموسوية إذاً التي جاءت بعد الموعد بأربعمئة وثلاثين سنة ولم تنسخ ذلك الموعد؟ وبكلمة أخرى "لِمَاذَا النَّامُوسُ؟" وما الغاية منه؟ فالجواب "قَدْ زِيدَ" كأنه ملحق للشيء الجوهري وذلك "بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ" فالوعد إذاً كان موقفاً إلى حين مجيء ذلك النسل ولذلك كان يوجد وقت كاف للاستعداد "مُرَتَّباً" ذلك الناموس "بِمَلاَئِكَةٍ" أي ليس من الله رأساً بل أولاً بواسطة ملائكة وثانياً "فِي يَدِ وَسِيطٍ" وهو موسى. كما جاءت الشريعة الإسلامية على زعم إخواننا المسلمين بواسطة "الملاك" جبرائيل على يد "وسيط" وهو نبيهم محمد ولا شك أن التنزيل بواسطة اثنين مما بحط من قيمة الشيء المنزل لأن "الْوَسِيطُ لاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ" أي أن الواسطة تقتضي وجود فريقين ووسيط "وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ" فهو العامل الوحيد في مسألة الوعد أي أن في عهده لا فريقين متعاهدين مقيدين بل فقط واهب وموهوب له فعلى الموهوب له فقط أن يقبل ما يمنحه الواهب. وهذا دليل عظيم- وإن يكن غير مباشر- على ألوهية المسيح لأن بولس أشار إلى وساطة المسيح في مواضع عديدة. فواضح مما يقوله هنا أن تلك الوساطة تختلف عن وساطة الأنبياء والملائكة وهي لا تناقض وحدته بالله بل إن وحدة الله تتناول وساطة المسيح. ويكون عما الله وعمل المسيح واحداً "لأن الله واحداً"!
وهنا مسألة عظيمة الأهمية. فالقديس بولس قد أظهر لنا حتى الآن مخالفة الناموس للنعمة كأنهما مبدآن متعاديان متناقضان. ولكن هل هما في الحقيقة كذلك؟ ألم يكن كلاهما من الله؟ "فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدَّ مَوَاعِيدِ اللهِ" بصدوره عن مصدر معاد لطبيعة الله؟ "حَاشَا!" فإن كليهما من مصدر واحد "لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ" روحيً أي في استطاعته أن يُنشئ في النفس قوة حقيقية تحملها على الولادة الجديدة "لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ" الموسوي ولم يكن ثمت حاجة إلى النعمة والوعد. ولكن هل فعل الناموس ذلك؟ هل استطاع أن يحيي؟ كلا. لذلك ظهر ضعفه العظيم. راجع رومية 8: 3 و4 وهو قوله "مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ، فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ، دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ، لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ". فالأمر والنهس لا ينتجان سوى الدينونة "لَكِنَّ الْكِتَابَ" أي أسفار العهد القديم "أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ" أي حكم على الجميع بأنهم خطاة وقد تعدوا على الناموس راجع مزامير 14: 2 و3 و134: 2 وتثنية 27: 26 إلا أن هذا الحكم العام وإن كان قاسياً في الظاهر كان ينطوي على غرض كله رحمة في الباطن وذلك "لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ" المضمون "مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" الذي تجسدت فيه نعمة الله "لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" الذين يبسطون أياديهم لقبول تلك الهبة. والقرينة تدل بالطبع على أن النعمة والإيمان يمنحان الحياة بخلاف الشريعة ويمكّنان النفس من الولادة الثانية هكذا يتمّمان الناموس.
"وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ" ذلك الإيمان الذي افتتح به المسيح عهد النعمة "كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا" بحبس كان لخيرنا "إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ" أي لعهد النعمة والإيمان بالمسيح. فهنا الجواب عن السؤال السابق وهو هل المبدآن المشار إليهما متناقضان؟ الجواب إنهما مختلفان وإن أحدها تمهيد للآخر "إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا" وكان المربون في ذلك الزمن عبيداً يوكل إليهم تربية أولاد العائلة والذهاب بهم إلى المدرسة "إِلَى الْمَسِيحِ" أي تهذبنا ثم تأتي بنا إلى المسيح "لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ" إذا تعلّمنا من الشريعة ضعف مساعينا. "وَلَكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ" إذ إننا لسنا عن ذلك المربي بعد أن تلقينا دروسه وبلغنا الدرجة التي خرجنا فيها من طور الوصاية "لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ" الابن المتحد مع الله جوهراً والذي باتحادنا معه نصبح أولاداً لله وهذه نتيجة صيرورة أي واحد مسيحياً "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ" أي اتحدتم معه بالمعمودية "قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" كما يلبس الإنسان ثوباً جديداً يليق به.
وبما أن هذه النتيجة ممكنة لكل إنسان فالمؤمنون يصبحون عائلة واحة غاضين الطرف عن الاختلافات العرضية مهما كانت أهميتها وعليه "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ" وهما ينوبان عن شعبي العالم المتخالفين يومئذ "لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ" وهما ينوبان عن طبقتي الناس في المجتمع يومئذ "لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى" وهما ينوبان عن الجنسين "لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" لأنه واسطة عقد الجميع بين أصناف البشر المختلفين. ومع أننا نعترف بأن المسيحيين كثيراً ما تناسوا الوحدة والوئام وفعلوا ما يدل على عدم اتحادهم وأن المسلمين كثيراً ما أظهروا الاتحاد معاً إلا أننا نؤكد لهم أن الاتحاد الروحي الكامل لا يمكن أن يتم إلا بقوة واحدة هي قوة يسوع المسيح لا غيره. والنتيجة المحتمة هي قول بولس "فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ" الذي جعل له الموعد وقد ذكر في العدد 18 أن هذا النسل واحد هو المسيح ولكن اتحادنا مع المسيح بالإيمان لا يؤثر في وحدة النسل هذه بل يجعلنا شركاء أي "حَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ" الذي وعدة إبراهيم (انظر رومية 8: 17).
- عدد الزيارات: 1998