تعليل هذه الاختبارات الأليمة
12: 1- 10 |
1لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، 2نَاظِرِينَ إلى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. 3فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ. 4لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ، 5وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. 6لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ». 7إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ 8وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. 9ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدّاً لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ 10لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ |
ويحسب الكاتب نفسه وزملاءه المسيحيين كأنهم في ساحة من ساحات الألعاب الكبيرة التي كانت تجرى فيها الألعاب العامة والمصارعات في العالم الروماني في ذلك العصر. وكانت الساحة بيضاوية الشكل، رصّت فيها المقاعد المتصاعدة صفاً وراء آخر فوق رءوس المصارعين والرياضيين. كذلك يقول الكاتب أننا في مصارعاتنا يرقبنا من فوق جمهور من النظّارة كما تخيم السحب فوق منبسط الصحراء "لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا" فرجال الإيمان هؤلاء الذين كافحوا في معركة الإيمان في ساحة الحياة هم الآن يرقبوننا من العلاء ويلمحون من كل جانب مصارعاتنا في هذا العصر. هذا ما قاله الكاتب لأصدقائه العبرانيين في القدم. وإذا كان قد استطاع أن يشير إلى أولئك "الشهود" "كسحابة" فما أعظم وأكبر السحابة التي تطلُّ علينا نحن في هذا العصر، لأن ألوفاً وألوفاً ماتوا في سبيل إيمانهم، أو كافحوا منتصرين في معركة الإيمان منذ ذلك اليوم حتى الآن. ومؤخراً تلقينا نبأ من تركستان الصينية عن شاب مسلم يدعى "هابيل" قتله جنود التتر في سبيل إيمانه بالمسيح. وكان يوم الخميس، فكان آخر قول نطق به لإخوانه وهو مسوق أمام الجند إلى ساحة الموت: "ألم يكن يوم الخميس هو الذي أخذوا فيه يسوع؟" وقد قضى ذلك الشهيد بعد أن عانى أقصى آلام اللكم والضرب. وعيناه محدقتان إلى فوق ووجهه يتلمع بالنور. وهو إذ قد مات في المسيح يُحسب أحد أفراد تلك "السحابة" أو جماعة الشهود الذين ينظرون مِن علِ إلى مصارعاتنا وجهادنا. وأمام هؤلاء الشهود الكثيرين يجدر بنا أن نلعب دورنا كرجال، إذن "لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة" ويرى الكاتب نفسه وأصدقائه كنفر من اللاعبين الرياضيين يقفزون إلى ساحة الألعاب. لذلك يخلعون عنهم كل الملابس الخارجية التي قد تعيقهم في الصراع.ويقول الكاتب: "لنخلع كل شيء استعداداً للسباق" وطبائع الناس تختلف وتتباين، لذلك تختلف الأثقال التي يحتم عليهم طرحها. فبين الناس من تجنح به طبيعته إلى الكسل والتراخي، وبينهم من تجنح به إلى الاعتداء بنفسه وبقوته، ثم هناك أثقال بعض الخطايا مثل الأنانية ومحبة الذات "المحيطة بنا" كرداء طويل نتعثر فيه ويعيقنا في العدْو والسباق. ولا مجال في الحياة المسيحية أن نطلب غفران الخطايا السالفة ما لم يكن هذا مقترناً في الوقت نفسه "بطرح" آثار الماضي العالقة بنا حتى لا تعود تطوينا مرة أخرى في لفائفها
فلنخلع عنا كل هذه "ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" والكلمة اليونانية المترجمة "موضوع" هي الفعل الذي كان يستعمل عادة لإعداد الطريق للسباق في الألعاب العامة والمصارعات الرياضية في العالمين اليوناني والروماني. فنحن محاطون بجمهرة من الشهود ولكن الذي يعطينا "الصبر" في "جهادنا" ونحن نعدو لاهثين، ليس النظر إلى جمهور النظارة المحيطين بنا، بل إلى عرش ملكنا (القائم مثل كرسي الإمبراطور في المسرح الروماني) الذي عانى الجهاد عينه الذي نعانيه نحن الآن "ناظرين" والكلمة في اليونانية تعني الانتباه الشديد "إلى رئيس الإيمان" والكلمة المترجمة "رئيس" هي بعينها في فصل 2 آية 10 (رئيس خلاصنا) وقد قلنا أنها تحمل معنى المقدام وممهد الطريق. فيسوع قد جاز أمامنا في كل مصارعة ضد الشر (من الداخل أو الخارج) في ميدان الحياة. وهو لم يجز أمامنا فقط، ولكنه احتمل كل شيء بكمال الإيمان، لذلك قيل عنه "ومكمله يسوع" الذي فيه قد اكتمل كل الإيمان، من بداية حياته الأرضية إلى نهايتها حتى عند ما أُقتيد إلى الصليب. وقد كان الإمبراطور الروماني يدعى وهو فوق عرشه في ساحة الألعاب الرياضية "رئيس" و "وقائد" و "وسيد" Tmperator" "Dux" "Divus" هذا هو معنى "مكمل الإيمان" في الآية، وهو لقب أكثر انطباقاً على يسوع الذي فعل بنا ما يجعله أهلاً لولائنا وخضوعنا "الذي من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب" ترى ما الفرح الذي يقدر أن يجعل هذه الآلام والعار من الأمور القيمّة؟ ليس الفرح الأناني المحب لذاته، فأن المحبة الباذلة المضحية لا تبذل ذاتها إلاّ لنفع الآخرين وخيرهم. والفرح الذي تسعى إليه هذه المحبة هو الفرح الناشئ عن رؤية الآخرين يحصدون ثمار هذا البذل. هذا هو الفرح الذي يشبع المحبة الباذلة المضحية. فالفرح الذي وضعه يسوع أمامه، والذي جعل الآلام والعار من الأشياء النافعة، هو افتداؤنا من موت الخطية. لذلك ثبت قدميه نحو الصليب "مستهيناً بالخزي" ويفكر كاتب الرسالة الآن فيما عانى ربه وسيده من عار وخزي، كانا في الواقع أشد وطأة على نفسه من الألم الجسماني. وكما أحسَّ كثيرون من المسيحيين منذ عصره، يحسُّ الكاتب الآن أن تضحية الشرف وحسن الأحدوثة بين الناس أقسى في الاحتمال من الألم الجسدي. ولذلك يقرر في روعة ومحبة أن مخلصه، الذي كان مرهف الحس، لم يحتمل الخزي فقط، بل تعالى فوقه "مستهيناً به"، ليس بروح عدم المبالاة والترفع، بل بروح المحبة المتعالية الكاملة. وبسبب هذا الخزي الذي عاناه بشعور المحبة اتخذ مقامه عن يمين عرش المحبة "فجلس في يمين عرش الله" ويدور في فكره في الآيتين التاليتين أن يسوع احتمل أقسى وأشد ما تحتملونه أنتم أيها العبرانيون "فتفكّروا" والكلمة اليونانية الأصلية لم تستعمل إلا في هذا المقام في الكتاب المقدس كله، وتعني "قارنوا باعتناء وتدقيق" وكأن الكاتب يقول: "فكّروا في يسوع، وأحصوا كل آلامه، وقارنوا بين المعاملة التي لقيها على أيدي الخطاة، وبين ما تعانونه أنتم" ومن الشيّق أن نلحظ هنا أن الكاتب يفترض أن العبرانيين المسيحيين قد عرفوا، سواء بالتعليم الكتابي أو الشفوي، كل تفاصيل قصة الآلام، ولذلك يقدرون أن يتتبعوها في أفكارهم مرحلة مرحلة "متفكرين" "في الذي احتمل" والفعل اليوناني المترجم "احتمل" والصيغة الزمنية الوارد بها، تعطى معنى الاحتمال الصابر الطويل الذي لا يكلُّ، ولعل الكاتب يفكّر هنا، لا في ساعات النزع الأخيرة فقط، بل احتمال يسوع الذي شمل الحياة كلها، لأن حياته لم تخلُ قط من المقاومة والعداء، ولكنه احتمل دائماً "من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه" ولدى دراسة الإنجيل يتبين لنا كيف تطورت تلك "المقاومة" من مشاعر الحسد والكبرياء، إلى التكلم ضده، ومن التكلم ضده، إلى الائتمار به لهدمه والتشنيع به، وأخيراً إلى قسوة المحاكمة في منتصف تلك الليلة، وصرخة الصباح الداوية "أصلبه!". ولم تقف المقاومة عند حدّ صلب فريستهم، بل قد تابعوها بعبارات التجديف والتعيير والهزء الموجهة إلى الإنسان الصامت المعرّى عن ثيابه، المتجرع غصات الموت البطيء الأليم، فتفكّروا في هذا كله، يقول الكاتب، "لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم" ولا يخشى الكاتب إنكاراً فجائياً وتحولاً طارئاً من جانب أصدقائه، ولكنه يخشى شيئاً آخر أكثر دهاء ومكراً، يخشى التحول الداخلي البطيء. والفعلان في اليونانية يدلاّن على الإعياء الداخلي والضعف التدريجي. وكأنه يتمثَّلهم في ساحات الألعاب يستسلمون شيئاً فشيئاً إلى خصمهم في المصارعة، أو يتباطئون خطوة خطوة في العدْو، لذلك يستحثهم بمثال ربّهم وسيدهم الذي احتمل حتى الموت، فيقول "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" وتعني العبارة "المقاومة حتى الدم" في اليونانية – "الجهاد حتى الموت". وقد عرف المسيحيون في تلك العصور أنه خير لهم وأبقى أن يسفكوا دماءهم فعلاً من أن ينكروا ولاءهم لمخلصهم. ولكن الكاتب لا يذكّرهم هنا أنهم قد يضطرون إلى الاستشهاد في ساحات الألعاب الرومانية، ولكنه يحدثهم عن مصارعتهم في ميدان الحياة وهم مراقبون "بسحابة من الشهود". وكأنه يقول لهم: "أن آلامكم في مصارعة الخطية في الداخل، والخطية في الخارج، كانت حادة ومريعة (أنظر فصل 10 آية 32 الخ) ولكنها ليست شيئاً إذا قيست بما عاناه الأقدمون الذين سبقوكم، من الأبطال الذين سرد أسمائهم في الفصل الحادي عشر، لا سيما إذا قيست بما عاناه يسوع. فهل تفشلون أمام الآلام الهينات التي تعانون؟
"ثم اذكروا أيها العبرانيون، أنه إذا دعاكم الله للمصارعة والجهاد، فأن هذا الطلب لا يأتيكم من حاكم غير مكترث لا يهمه من أمركم شيئاً، بل من الآب السماوي الذي يحصر على خيركم ومصالحكم السامية"
"وقد نسيتم الوعظ" والأرجح أن العبارة جاءت في اليونانية الأصلية في صيغة الاستفهام "أنسيتم الوعظ؟" والكلمة المترجمة "وعظ" في اليونانية تقترن بلقب الروح القدس المعروف في اللغة اليونانية "بارقليط". وهو الذي يعزّي ويقوّي. وبعض التعزيات الأرضية تضعف، أما التعزية الإلهية فتقوّي. ولذا كان معنى الكلمة "بارقليط" (وعظ) هنا، الحث الذي يعزّي ويقوي على الاحتمال والتشجيع. والوعظ الذي يقتبسه الكاتب الآن مأخوذ عن سفر الأمثال (فصل 11:3و12 من الترجمة اليونانية. وانظر أيضاً سفر أيوب 17:5)
"الذي يخاطبكم كبنين" وفي سفر الأمثال يخاطب الحكيم تلميذه قائلاً "يا أبني". ولم يكن ذلك الحكيم حبراً من أحبار اليهود بالمعنى الحرفي، بل كان نموذجاً للحكمة الإلهية تتكلم إلى نفس الإنسان. لذلك يجد الكاتب الرسالة إلى العبرانيين تشجيعاً حين يشعر أن الله الحكيم العزيز، الواحد الأحد، يتكلم إلى نفوسنا، كما يتكلم الأب إلى أبنه. وتشير الآية المقتبسة عن الترجمة اليونانية لسفر الأمثال على طريقين خاطئين للسلوك أبّان الترجمة والمحنة: "يا أبني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخر إذا وبخك" وطريق السلوك الخاطئ الأول المعّبر عنه بالفعل "تحتقر" هو العزم على جواز المحنة والتجربة متكلين على قوتنا، مدعين أن لا شيء لله في الأمر، كأن لا صلة بيننا وبينه. ويجنح إلى هذا الميل ذوو العزائم والطبائع القوية، ولذلك يفشلون في كل تجربة، ويفقدون الخير الذي قد ينجم عن التجربة لو أخذت كوسيلة من وسائل التدرب والتهذيب التي يستخدمها الآب السماوي، فنصمد لها ونغلبها بعونه. ولكنّا نرى من الناحية الأخرى الطبائع الضعيفة الهزيلة تتقلص وتنكمش، وهذا طريق خاطئ يعبر عنه بالفعل "تخُرْ". فهم قد يرون الله في التجربة، ولكنه يبدو لهم قاسياً، فيخورون في حالة يرثى لها، متسائلين: لِمَ يرسل لهم المعارف بكل شيء هذه المحن التي لا يقوون على احتمالهم؟ ثم يميلون إلى الريبة في اعتباره الآب السماوي المحب. هذا موقف خاطئ كما يقول "الوعظ" المأخوذ من اليونانية لسفر الأمثال "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" وهذا حق لم يدركه دائماً الشعب اليهودي في تاريخه القديم، كما يغرب عن بال أبناء هذا العصر. فهم قد مالوا إلى الظن أنه متى أحب لله إنساناً، لا بد يُنجحه في هذه الحياة. وبعض القديسين العبرانيين في القديم (كما يبدو في العبارة المقتبسة عن سفر الأمثال) قد ارتفعوا فوق هذه الفكرة، كما سما فوقها أيضاً نفر من متصوفة الإسلام، مما رأوا أن الأنفس التي يدعوها الله إلى محبته تعاني آلاماً أشد (كما تحظى بفرح أوفر) من الآخرين. ويريد كاتب الرسالة أن ينزع من الأفكار المسيحية، نزعاً لا عود بعده، الفكرة التي تزعم أن الذي يحبهم الله يحبوهم نجحاً عالمياً وهناءة رغيدة. وإن كانت في شك من ذلك فَعُدْ إلى مجموعة أبطاله المتألمين، الفائزين، في الفصل الحادي عشر، وإلى ذكره الآلام التي اكتسبت فرحاً في سبيل يسوع. لذلك يقول لأصدقائه: أن كنّا نخلوا من الآلام نعانيها في سبيل تدريب الله إيانا. فأن بنوتنا له تكون محل ريبة، بدليل قوله "أن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين، فأي ابن لا يؤدبه أبوه، ولكن أن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون" والكلمة "تأديب" التي هي لباب الآية كلها لا تعني بالضرورة العقاب، بل التدريب الأدبي والترويض النفسي. ويستمد الكاتب صورته من البنوة الحقيقية والبنوة الباطلة. فكل الابناء الحقيقيين قد روّضهم آباؤهم فصاروا شركاء في التأديب، وهذا اختبار قد عرفه كل الذين تأدبوا على أيدي آبائهم. أما النغول الذين ليست لهم صفة شرعية، ولا حق لهم في أن يرثوا اسم الآب وثروته، فهؤلاء يهملون بلا تدريب، ولا يكونون موضع اهتمام الآب وعنايته. ومن ثمَّ نرى الكاتب يستمد صورته من أحوال هذا العالم كأنه يقول لقرائه: "أتظنون أنه لو كان الله أباكم، تعفون من مشقات الحياة وويلاتها؟ بالعكس فأنه هذه تقوم دليلاً على حبه الحكيم وعطفه الودود"
12: 11- 20 |
11وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ. 12لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، 13وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً، لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ الأَعْرَجُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يُشْفَى. 14اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ. 15مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجاً، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ. 16لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِياً أَوْ مُسْتَبِيحاً كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ. 17فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضاً بَعْدَ ذَلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ الْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ. 18لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إلى جَبَلٍ مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِالنَّارِ، وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ، 19وَهُتَافِ بُوقٍ وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ، اسْتَعْفَى الَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ، 20لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ مَسَّتِ الْجَبَلَ بَهِيمَةٌ تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ |
وينتقل الكاتب الآن إلى المقارنة بين تأديب الآباء الأرضيين (آباء أجسادنا) وتأديب الآب السماوي (أبي الأرواح) فيقول "ثم قد كان لنا آباء أجسادنا" لهم بناء علاقة محدودة، فهم آباؤنا الجسديون تربطنا بهم العلاقات الجسدية بالانتماء إلى أسرة معينة، ولكن الله "أبا الأرواح" يجيء بنا إلى علاقة مع الأرواح الحية، في نظام أرقى من نظام الجسد. وأولئك أصحاب الأبوة المحدودة قد أدبونا وكنا نوقرهم إذا كانوا "مؤدبين وكنا نهابهم" فكم بالأولى نخضع لتلك الأبوة غير المحدودة "أفلا نخضع بالأولى جداً لأبي الأرواح فنحيا" لأن الحياة الحقة تكمل عن طريق الاستسلام والخضوع. ثم ينتقل الكاتب إلى مقارنة بين تأديب الآباء البشريين وتأديب الآب الإلهي، فالأول مؤقت "لأن أولئك أدبونا أياماً قليلة" بينما يد الله علينا إلى نهاية الحياة. ثم أن أولئك الآباء الأرضيين ربما يكونون قد فعلوا بنا هذا بوسيلة تحكمية أو باعث ذاتي، أو ربما يكونون قد أخطأوا في تأديبهم لأنه كان "حسب استحسانهم" وكثيراً ما يضطرب الأب الأرضي لئلا يكون قد اختار الوسيلة الخاطئة في تأديب ولده في ساعة معينة بلغ فيها الابن حداً من الرقي والاختبار.
وبعبارة مقارنة يأخذنا الكاتب إلى سر تأديبات الله للذين يكتملون في محبته، لأنه يقول عن تأديب هذا الآب "وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته" فتأديب الأب السماوي إنما ليجعلنا شركاء في حياته، وهو ترويض وتهذيب لأحكام الصلة بيننا وبين الله في أسمى ضروب المحبة وأقدسها وأبعدها عن الأنانية. فهو لا بد تأديب أليم ولكنه تأديب مفرح، فحتى عظائم الأمور الأرضية لا تخلوا من التأديب والترويض إذا كانت حقاً، ولا تكمل الغبطة فيها إذا لم تمتزج بالألم. وثمر التأديب لا يظهر لساعته، لذلك يقول "ولكن كل تأديب" تأديب الآب السماوي والأب الأرضي على السواء "في الحاضر" إذا نظرنا إلى الحاضر فقط "لا يُرى" أمام المشاعر والأحكام البشرية "أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيراً فيعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام" لأن التأديب ليس حجراً يطوح به في تعسف على الحياة البشرية، بل هو بزرة تغرس فيها، لذلك لا تثمر ثمرها إلا في حينه، ثمر الأخلاق والصفات التي تجالد وتبقى إلى ما وراء هذه الحياة، إلى الحياة الأخرى. وفي بادئ الأمر يكون القلق ويكون الألم، أما في النهاية فسوف لا يكون احتكاك بين النفس وبين الله، لذلك قيل عن الثمر "للسلام". وعلى هذا المثال عينه تعمل الأخلاق المروَّضة المؤدَّبة في سبيل السلام بين الإنسان وبين إخوانه
ومرة أخرى يعود الكاتب إلى نغمته الآمرة الناهية فيقول "لذلك" لأن التأديب ضروري وأليم ومثمر، قووا بكل وسيلة أنفسكم وإخوانكم المدعوين للمعاناة، لكيلا يخوروا ويسقطوا، بل يجالدوا ويستبسلوا. وصورة هذه التقوية مأخوذة من آيات شتى في العهد القديم، وتبين في جلاء أنه فرض على المسيحي أبان التجارب والأحزان ألا يتمسكن ويحني الرأس إحناء سلبياً، بل يتعاون مع الله الذي يحوّل الحزن والألم إلى قوة في الأخلاق
"قوموا الأيادي المسترخية" والأيدي تمثل قوانا في المصارعة ضد الخطية (أنظر آية 4 ثم مزمور 1:144) "والركب المخلّعة" وتمثّل الركب قوانا في الفوز والنجاح. ففي أوقات الاضطهاد ينبغي الأتقف الكنيسة أو الفرد في ساعة الشدة والمحنة موقف الاحتمال السلبي، بل تقدم إلى الأمام عاملة مستبسلة
وتتعلق الآيتان الأخيرتان (من اشعياء فصل 35 آية 3) بحياة المسيحي الشخصية، أو بأخوية المسيحيين. ويتابع الكاتب كلامه حاثاً إياهم أن تتعدى مجهوداتهم أنفسهم، حتى في ساعة الشدة والتجربة، ويحاولوا إصلاح العالم المحيط بهم. وللإفصاح عن هذا يقتبس أيضاً آية مشهورة من العهد القديم فيقول "واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة" أمثال 26:4 فأنه ليس كافياً أن يُقال، مع التسليم بصحة هذا القول، "أهدنا الصراط المستقيم" إنما علينا أيضاً أن نمهد هذا الصراط، ونعبدّه، لتسلك فيه أقدامنا وأقدام الآخرين نحو الله. قارن هذا القول برسالة يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) لأبناء جيله حينما يحثهم على الإصلاح الفردي والإصلاح القومي معاً تمهيداً لمجيء المسيح (مرقس فصل 1 آية 3) وتبين كلمات هذه الرسالة أنه لزام على الجماعة المسيحية ألاَّ تقنع بتقوية حياتها الروحية، بل تتعاون أيضاً في الكفاح لإصلاح الأحوال والأوساط المحيطة بها. فأن الكفاح ضد الخطيئة ونتائجها داخلية وخارجية على السواء. ولا بد من أن يستديم هذا الكفاح بشجاعة ورجاء "لكي لا يعتسف الإعراج بل بالحري يشفى" ويمكن ترجمة هذه العبارة حرفياً "لا تخلعوا رجل الإعراج، بل بالأولى عالجوه لكي يُشفى" والمسيحي يقدر أكثر من سواه قوة الشرّ المريعة التي ينبغي عليه أن يكافح ضدها، ولكنه مع ذلك خير من يكافح مملوءاً بالأمل الصادق في الفوز الأكيد، لأن له "رئيساً" في هذا الكفاح
وفي الآيات التالية نتخيل الكاتب الذي كان أشبه بنبيّ شاعر، يصير راعياً للنفوس وقد كان يحث القوم على الإستمساك بأهداب الإيمان الباسل، ولكنه يعلم أن هذا لن يكمل إلاَّ إذا صفت من الاكدار المجاري التي تصل الإنسان بالله والإنسان بأخيه الإنسان. لذلك يحذر أصدقاءه ضد المخاطر الأدبية التي قد تسلبهم النجاح في جهادهم الروحي. ويفكرّ قبل كل شيء في ضرورة الإتحاد، متخذاً كعادته عبارة من العهد القديم (مزمور 14:33) فيقول: "اتبعوا السلام مع الجميع" وعبارة "اتبعوا السلام" اقتبسها كتّاب آخرون في العهد الجديد (أنظر 1 بطرس 11:3 ورومية 18:12) ومعنا العبارة هنا في اليونانية أن يتفق المسيحيون كلهم في قضية مشتركة سعياً وراء السلام ليكونوا من صانعن السلام. وتلقي الكلمة نوراً على الحركة القائمة في هذا العصر لتوثيق عرى العمل المتحد والشركة بين المسيحيين من شعوب وكنائس مختلفة. والذي يسعون إليه متحدين ليس السلام السطحي، بل السلام بين الله والناس الذي لن يكون إلاَّ بالقداسة. لذلك يتابع عباراته، فيقول: اتبعوا السلام مع الجميع "والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" وهنا نستذكر عبارتين من تطويبات سيدنا وربنا هما "طوبى لصانعي السلام" و "طوبى لإنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله" ويحث كاتبنا المسيحيين ليكونوا جماعة واحدة مجاهدين بغيرة (والكلمة المترجمة "اتبعوا" تعني المطاردة والتعقب، كالصياد الذي يتعقب فريسته لا مجرد السير من وراء) نحو السلام والقداسة. والقداسة ضرورية لأن المسيحيين يومئذ، كما هم اليوم، يعيشون في عالم لا يعبأ شيئاً بالمثل العليا، فأن أنتفي هذا السعي الدائب نحو القداسة، تسللت إلى عقولهم أفكار العالم وهم لا يدرون
لذلك يجب أن يكونوا حريصين يقظين "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله" والفكرة المنطوية تحت الكلمة المترجمة "يخيب" هي التخلف إلى الوراء. فأنه بينما يجاهد الكل ساعين إلى الأمام نحو السلم والبرّ ينبغي ألاَّ يتسكع أحد أو يتخلف عن معشر المجاهدين السائرين. والمهم في الأمر هنا أن نلحظ أن تبعة الإسناد المتبادل في هذا السعي نحو القداسة لا تقع على الرعاة ورجال الدين فقط، بل على جميع المسيحيين الذين ينبغي أن يكونوا كلهم "ملاحظين" أولاً لئلا يتخلف إلى الوراء أحد من الإخوة، وثانياً "لئلا يطلع أصل مرارة ويضع انزعاجاً فيتنجس به كثيرون" ومرة أخرى يردد الكاتب في قوله "أصل مرارة" صدى فكرى من العهد القديم. ونفهم جيداً ماذا كان يدور بفكره، إذا عرفنا أن العبارة مقتبسة من تحذير قديم ضد عبادة الأوثان صدر إلى إسرائيل في القديم (أنظر تثنية 18:29) وكان بنو إسرائيل يُحذرون بلا انقطاع لئلا يحيد أحدهم إلى خدمة آلهة الأمم المحيطة بهم. كذلك طلب إلى جماعة المسيحيين أن "يلاحظوا" لئلا تتسرب إليهم وهم غافلون روح العالم غير المسيحي المحيط بهم، أي روح عبادة المال أو النفوذ أو الجاه أو أي اعوجاج أو محبة الذات. والتشبيه في اليونانية مأخوذ من جذر من جذور النبات ينبت خفياً في الأرض ولكنه يطلع بعدئذ في الأوراق والأزهار، فيقول الكاتب: لاحظوا، وانزعوا الجذر الخفي (أصل مرارة) لئلا يطلع وتمتد الأغصان فتفسد أزهار القداسة الجميلة (فيتنجس به كثيرون)
وليس هذا كل ما في الأمر، فأنه يحذّر أصدقاءه ليكونوا ملاحظين أيضاً "لئلا يكون أحد زانياً أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع يكور يته" ومرة أخرى يستمد الكاتب عظته من العهد القديم، من قصة ابن اسحق الأكبر (أنظر تكوين 21:25-34). وكان عيسو بين أحبار اليهود نموذج الإنسان المجرد عن التقوى، مع أنه نبت بين شعب الله الصالح، ولكنه لم يحذُ حذوهم. ويقال عنه هنا "زانياً" وربما كان مدلول اللفظة المجازي، في العهد القديم، خيانة الله. ويقال عنه أيضاً "مستبيحاً" وهذه اللفظة مترجمة عن كلمة يونانية غير مألوفة، كثيراً ما تستعمل للدلالة على الأخلاق التي لا تدرك شيئاً أسمى من الأرضيات، والتي لا تفهم للقداسة معنى، ولا تعطى لغير المنظور توقيراً ووعياً، وكان عيسو نموذجاً لهذه الأخلاق حين باع بكوريته،لا بثمن مادي فقط، بل بأنجس الأثمان، باكلة واحدة: ولم يكن الجوع فقط الباعث إلى ذلك (فقد كان لجوعه أن يشبع لو انتظر قليلاً حتى ينضج طعامه) بل تفكيره في نفسه وإشباع شهوة الجوع إشباعاً عاجلاً، والاستهانة بمكانته وكرامته كرئيس الأسرة التي قطع الله معها عهداً، حاسباً الشبع العاجل أعظم قدراً من تلك الكرامة. ولذلك يقول الكاتب: احذروا أبها الإخوة المسيحيون لئلا يكون فيكم عيسو، يرضى أن يستبدل إرثه السماوي بأشياء هذا العالم. ثم يبين لهم قيمة هذا الاختبار الخطيرة، مذكّراً إياهم مرة أخرى بهذه القصة المأثورة في سفر التكوين: "فأنكم تعلمون أنتم أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد مكاناً مع أنه طلبها بدموع"- أنظر سفر التكوين 33:37-37- لم يُعر عيسو التفاتاً إلى عمله، وأراد أن يتبوأ المكانة التي تخلى عنها طائعاً مختاراً. كان قد باع حقه في البكورية. ومع ذلك طالب أن يرث في البركة المقترنة بها. كأن هذا الذي أتاه أمر غير ذي بال. ولما رفضه اسحق مؤيداً بركة يعقوب، لم يكن الأب إلا ناطقاً بدينونة الله على موقف التهامل والتهاون الذي وقفه في الماضي. والعبارة "لم يجد للتوبة مكاناً" من المصطلحات المألوفة في القانون الروماني والكتابات اليهودية في ذلك العصر الذي كتبت فيه الرسالة، ومعناها "فرصة لتغيير عقله". ولا تنصرف العبارة إلى أن عيسو لم يستطع نيل التوبة الروحية وغفران الله، ولكن معناها أن عمله الطائش الشهواني في حق البكورية لم يكن في الإمكان ردّه أو نقضه. وتلك الدموع السخية التي سكبها عيسو، المحروم من امتيازه بيده، هي تحذير من الكاتب يوجهه إلى إخوانه المسيحيين لكيلا يضعوا أشياء هذا العالم في المرتبة الأولى ويؤثروها عما عداها
- عدد الزيارات: 1835