الشعر النثري عن الإيمان
وإذ يذكر الكاتب كلمة "الإيمان" يقف هنيهة ثم يقطع على نفسه حديثه (الذي يعود إليه مرة أخرى في الفصل الثاني عشر) لأنه يرى نفسه أمام كلمة أساسية جوهرية في كل دين، كلمة لا مناص من أن يتأمل قراؤه معناها في إمعان وروية في وقت تتحدى فيه الصعاب المربكة إيمانهم هذا (كما رأينا في مقدمة هذا التفسير). وربما مالت نفوسهم إلى القول، كما قال كل ذي تفكير رخيص في كل العصور، (ونحن منهم): لِمَ كل هذا النضال مع العقبات الشائكة؟ ولِمَ لم يجعل الله الأمر هيناً على الكل ليؤمنوا به؟ يقول المؤمنون أن آياته مبيّنة، فلِمَ لا تبدو واضحة صافية، في شكل لا يدع مجالاً للشك أو الضلال فيؤمن الكل به؟ وبهذا كان من المستطاع اجتناب المصارعات النفسية وحوادث الدمار الروحية، وكان البشر يسلكون الطريق السوي"
هذا ما يقوله البعض في عصرنا هذا، وأنّا لنوجه إليهم سؤالاً عن الأبطال الذين يعجبون بهم. والذي نراه أن كل إنسان جدير بلقب البطولة كان عليه أن يناضل ضد ظروف معاكسة، وأن تنطوي نفسه على عقيدة راسخة على الرغم من تلك الظروف. فأبطال العالم قد تألموا وهم يرون أمامهم أشياء غير منظورة. فصحابة محمد الأولين آمنوا برسالته قبل أن يروا جماعات الإسلام الكبرى الفائزة المنتصرة، وكان إيمانهم الباسل أفعل أثراً وأجدى خيراً على العالم الإسلامي، مما كان لتلك الشعوب التي دانت للإسلام بعد الفتح والغزو. وقد اشتهر أثناسيوس المصري العظيم في عالم الغرب بذلك الوصف اللاتيني المأثور عنه "أثناسيوس المعارض Athanasius contramundum " لأنه تجارى بأن يقف "ضد العالم" مؤمناً الإيمان كله بانتصار الحق. وكانت جان دارك، وغار يبالدي، وسعد زغلول، وغيرهم، أبطالاً لأنهم آمنوا رغم العقبات والصعاب بالاستقلال القومي قبل أن يروه. وقد لازمت هذه الصفة جميع المكتشفين في العالم الطبيعي أو التفكيري أو الروحي: فكولمبوس، ولفنجيتون، وإبرهيم بن أدهم، ومنصور الحلاج، والغزالي، وغاليليو، وباستور، وبسكال، وجوزفين بتلر- جميع هؤلاء ومن على شاكلتهم من ذوي النفوس الباسلة العظيمة قد جاهدوا جهاد الإيمان، وأملوا اكتشاف شيء كان مستوراً عن عيونهم. والإيمان متى كانت كل الأشياء بادية للنواظر، لا يعتبر إيماناً، بل تسليماً لا ينطوي على شيء من البطولة، أو كما يقول الشاعر الإنكليزي "الإيمان يضيع في العيان". وينبئنا الوحي المسيحي، في كل غرابته وجماله، أن الله يرغب في الناس لا الطاعة العمياء، طاعة العبيد الأذلاء أو التماثيل الإنسانية الصماء، بل عمل الإيمان الذي هو نتيجة الاختيار الحّر- هذا الإيمان الذي يقوم على البطولة والبسالة ويجعل الناس موضع الإعجاب والتكريم، ولكن لن يحيا مثل هذا الإيمان إلاَّ في التربة الوعرة القاسية، فتتخلف عنه صفات الصبر المثابر المستبسل، والاحتمال الصابر الجسور
لذلك نرى كاتبنا، حين يبلغ كلمة "الإيمان" في حديثه مع جماعة العبرانيين المسيحيين في نضالهم العنيف، يقطع سير حديثه ليذكرهم أن كثيرين قبل يومهم، من "الآباء" (فصل 1 آية 1 الذين كملهم الله قديماً) قد جازوا هذا النضال بعينه، وأن من مقتضيات الإيمان في كل العصور أن يناضل ويجالد صابراً محتملاً وهو يرى الإله غير المنظور. وتغدو عبارته قطعة خالدة من أدب الدين، وشعراً نثرياً في مدح أبطال الإيمان
11: 1- 10 |
1وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى. 2فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ. 3بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ. 4بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ! 5بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ. 6وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إلى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ. 7بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكاً لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثاً لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ. 8بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إلى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إلى أَيْنَ يَأْتِي. 9بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِناً فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. 10لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ |
- عدد الزيارات: 2002