مقدمة للفصل الخامس
في سياق هذه الرسالة إلى هنا أشار الكاتب في غير مرة إلى عمل رئيس كهنة اليهود ولا شك أن شيئاً ما خطر بأفكار قرائه عن هذه الخدمة، أما لأن زملاءهم اليهود قد شرعوا أن "يطردوهم من المجامع" بسبب اعتناقهم المسيحية وينكروا عليهم نصيبهم في الدين القديم بذبائحه وكهنوته مما اعتزوا به أيما اعتزاز، وأما لأنهم أحسوا بالأسى والألم مع سائر العبرانيين لما أصاب هيكل أورشليم من خراب واندثار تلك الطقوس القديمة التي كان فيها رئيس الكهنة أبرز الشخصيات- وقد ألمح مراراً كثيرة إلى فكرة رئيس الكهنة كأشارته إليه مثلاً في ص 17:2 وفي الآيات الختامية للفصل الذي قبله. وقد حان الوقت لإظهار تفوق المسيح على هارون الكاهن الأعلى
وكان هارون هذا أخا موسى، دعاه الله ليكون أول رئيس كهنة لشعبه، وهو لذلك رئيس على خلفائه إلى عصر كتابة رسالتنا
أما عن عمل الكهنة فإنّا نلاحظ أن الكلمة العربية "كاهن" والكلمة العبرية "كوهين" ولو أنهما يتفقان في اشتقاقهما من مصدر واحد، إلاَّ أنهما يختلفان في التاريخ. فالكاهن في العالم العربي القديم كان الشخص الذي له اتصال بالعالم غير المنظور، وفي وسعه أن يذيع رسائله في أسلوب شعري فطري. وكان أشبه بساحر القبيلة. وهذه الفكرة، الدائرة حول الشخص المتصل بالعالم غير المنظور والمستطيع أن ينقل عنه رسائله، قد انتقلت إلى العبرية حاملة بالأكثر وظيفة "النبي"، لأن الأنبياء كانوا مذيعين لإدارة الله ورسائله
أما "الكوهين" فلم يكن بالضرورة ممن يتكلمون أو يعظون. بل كانت وظيفته قيادة الشعب في عبادته وتقديم الذبائح بالنيابة عنه وكمندوب عنهم
وقد كانت أعظم وظيفة لرئيس الكهنة أن يقرب التقدمات في يوم الكفارة حين يكون الله وشعبه قد تصالحا. وكان عمله ينقسم إلى قسمين يتألف منهما عمل الكفارة
(1) قتل ذبيحة خارج الخيمة تكفيراً عن خطايا الشعب
(2) أخذ الدم إلى قدس الأقداس (رمزاً إلى حضور الله فعلاً) وسنرى فيما يلي كيف أثبت كاتب الرسالة أن يسوع المسيح تمم هذه الوظيفة بموته في هذا العالم وصعوده إلى ما وراء الحجاب إلى عرش الله الذي في قدس الأقداس
والآيات الآتية مسهبة جداً وتتناول ليس فقط إظهار فضل المسيح على رؤساء الكهنة الأقدمين بل أيضاً فضل تقدمته على تقدماتهم وهيكله على هياكلهم ونظامه على نظاماتهم
5: 1- 14 |
|
1لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ مِنَ النَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِي مَا لِلَّهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ عَنِ الْخَطَايَا، 2قَادِراً أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالْجُهَّالِ وَالضَّالِّينَ، إِذْ هُوَ أَيْضاً مُحَاطٌ بِالضُّعْفِ. 3وَلِهَذَا الضُّعْفِ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ كَمَا يُقَدِّمُ عَنِ الْخَطَايَا لأَجْلِ الشَّعْبِ هَكَذَا أَيْضاً لأَجْلِ نَفْسِهِ. 4وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هَذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمَدْعُوُّ مِنَ اللهِ، كَمَا هَارُونُ أَيْضاً. 5كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ». 6كَمَا يَقُولُ أَيْضاً فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إلى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ». 7الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ، 8مَعَ كَوْنِهِ ابْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ. 9وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ، 10مَدْعُّواً مِنَ اللهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ. 11اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ الْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ التَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ، إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي الْمَسَامِعِ. 12لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إلى اللَّبَنِ لاَ إلى طَعَامٍ قَوِيٍّ. 13لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ، 14وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. |
لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ وهو مَأْخُوذ مِن بين النَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِيمَا هو لِلَّهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ تقدمات وَذَبَائِحَ عَنِ الْخَطَايَا قَادِراً أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالْجُهَّالِ وَالضَّالِّينَ لأنه هُوَ أَيْضاً متلبس بالضعف ونظراً لهذا الضعف يجب عليه أن يقرب عن الخطايا لأجل نفسه كما يقرب لأجل الشعب وليس أحد يأخذ هذه الكرامة بنفسه إلا المدعو من الله كما كان هرون كذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة إنما مجده ذلك الذي قال له «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ». كما يقول أيضاً في موضع آخر: «أَنْتَ كَاهِنٌ إلى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ» هو الذي في أيام جسده قدم طلبات وتضرعات بصراخ شديد ودموع إلى القادر أن يخلصه من الموت واستجيب له من أجل تقواه فمع كونه ابناً تعلم الطاعة بما تألم به. وإذا أكمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي. وقد دعاه الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق هو الذي لنا بشأنه كلام كثير لنقوله وهو صعب التفسير لأنكم قد صرتم متثاقلي الأسماع. فإذ كان يجب أن تكونوا معلمين لتمادي الزمان تحتاجون أن يعلمكم أحد أركان بداءة أقوال الله. وقد صرتم محتاجين إلى اللبن دون الطعام القوي. لن كل من طعامه اللبن هو فاقد الخبرة في كلام البر لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين المتروضة حواسهم بالممارسة على التمييز بين الخير والشر. |
وهنا تحليل الآيات من 1-10
1- يجب أن يكون رئيس الكهنة كريماً رحوماً، كما ينبغي أن يكون إنساناً من البشر (آية 1-3)
2- يجب ألاَّ يعين رئيس الكهنة نفسه (آية 4) ويشرع الكاتب بعد ذلك في تطبيق هذين الشرطين على يسوع مبتدئاً بالشرط الثاني (آية 5 و6)
ثم ينتقل إلى تطبيق الشرط الأول على يسوع (آية 7-10)
قال الكاتب في ص 15:4 "إذ ليس رئيس كهنتنا ممن لا يستطيع أن يرثي لضعفاتنا بل قد جرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" ثم أعقب ذلك يقوله "لأن كل رئيس كهنة وهو مأخوذ من بين الناس" ينوب عنهم ويشاركهم في شعورهم إلا من كان وهو نفسه إنساناً وهو "يقام لأجل الناس" من بين الناس "فيما لله لكي يقدم تقدمات وذبائح عن الخطايا" أي ليقوم بالأمور التي تعلن أسرار الله وتقرب الناس منه تعالى
والإشارة هنا إلى يوم الكفارة العظيم الذي يدعو التلمود "اليوم". وفي صلوات ذلك اليوم وتقدماته تركزت كل الأفكار عن الذبائح والعبادة، كما تركّز في شخص الكاهن وهو يخدم تقدمات كل الشعب وعبادته
"قادراً أن يترفق" أي أن يستعمل اللين والشفقة "بالجهال الضالين" الذين لا يعلمون أنهم ضالون والذين لا يستطيعون الرجوع "لأنه هو أيضاً متلبس بالضعف" وهذا يشرح سبب ترفقه بهم. فهو إنسان ويعرف بالاختبار ضعف الإنسان. بل أنه يشعر بالضعف إلى حد يجعله هو وشعبه متساوين باعتبار التقدمات والذبائح "ونظراً لهذا الضعف" البشري الذي يشترك فيه مع جميع الناس "يجب عليه أن يقرب عن الخطايا لأجل نفسه كما يقرب لأجل الشعب" فأنه أدخل نفسه بين شعبه في أمر الكفارة
وقد قضت أحكام يوم الكفارة أن تكون ذبيحة الكاهن الأولى نيابة عن نفسه وأهل بيته (أنظر لاويين 6:16)
"وليس أحد يأخذ هذه الكرامة بنفسه" لأن رئيس الكهنة كما رأينا كان إنساناً من بني الناس، وهل يجرؤ الإنسان أن يأخذ على نفسه وظيفة كهذه. وكيف يجسر الخاطئ أن يتقدم إلى الله ليشفع عن خطايا الآخرين؟
ولم يكن كل رؤساء الكهنة في العصر الذي كتبت فيه الرسالة من الأسر التي امتازت بالدعوة الإلهية، وبدرت منهم كثير من التصرفات الشاذة. لذلك يرجع الكاتب إلى أيام الطهارة الأولى، ويقول أنه ولا هرون نفسه أخا موسى استطاع أن يأخذ هذه الوظيفة بدون دعوة من الله. فلا يقدر إذاً أحد أن يأخذها "إلاَّ المدعو من الله كما كان هرون". ويرى في أحد الأحاديث اليهودية أن موسى قال للعصاة الثائرين "إن كان هرون أخي قد أخذ الكهنوت من تلقاء نفسه، لكان من حقكم أن تثوروا ضده، ولكن الواقع أن الله نفسه هو الذي أعطاه إياه، الذي له العظمة والقوة والمجد". ويمكن الرجوع إلى دعوة هرون في سفر الخروج 1:28 وسفر العدد ص 16-18
وبعد ذلك يعود الكاتب إلى صفات المسيح ومزاياه من حيث كونه رئيس كهنة شعبه، ويبين أولاً أن هذه الوظيفة أعطيت له بتعيين إلهي
"لذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة" إذ أنتظر الدعوة الإلهية شأن الإنسان الكامل "إنما مجده ذلك" أي الله الإله الكامل "الذي قال له" في مزمور 7:2و 4:110 "أنت أبني أنا اليوم والدتك" كما يقول في موضع آخر "أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" وفي كلا الآيتين دعوة إلهية اختيارية. فالآية الأولى قد شرحت سابقاً. حيث فسر معنى قوله اليوم ولدتك وأما الآية الثانية فسيجيء شرحها فيما بعد (أنظر فصل 7) وخلاصتها أن المسيح شارك جميع رؤساء الكهنة في كونه دعي إلى الكهنوت كما دعوا هم أيضاً مع فارق واحد، وهو أنه كاهن "إلى الأبد"، وليس له خليفة، ولا حاجة به إلى خليفة، وكهنوته يمارس الآن في العالم الأزلي، وراء حدود الزمن، ولكنه بدأ هنا في تقدمة ذاته على الأرض. وقد كان العمل الذي دعي إليه شاقاً جهداً حتى أنه لم يأخذ تلك الكرامة بنفسه. والكلمات التالية تدل على مشقة الوظيفة الكهنوتية التي دعي إليها المسيح. وقبوله لهذه المشقة المريعة تبين كيف أن يسوع بصفته رئيس كهنة الله قد ارتضى أن يندمج مع إخوته ويكون واحداً منهم، مكملاً بذلك مطالب الآيات 1-3 "وهو الذي قدم طلبات وتضرعات" بصفة كونه رئيس كهنة "بصراخ شديد ودموع" كما في متى 38:27-44 ومرقس 34:7 ويوحنا 33:11-38 ولوقا 41:19 ففي جميع ذلك نجد أن المسيح تألم بغصات آلام مبرحة ناتجة عن شعوره بثقل المسؤولية التي ألقتها عليه تلك الدعوة. وقد كانت تلك الآلام ظاهرة من خلال الصلوات الصريحة والباطنة التي كان يرفعها "إلى القادر أن يخلصه من الموت" أي موت الخيبة والفشل "واستجيب له من أجل تقواه" لأن أناته لم تكن ناتجة عن جبن أو عن رفض احتمال الآلام أو الإحتجاج عليها "(كما زعم بعض الجهال) بل كانت طلبات استعان بها الله على إتمام إرادته تعالى. انظر متى 38:27 الخ. هذا هو كمال التقوى ولذلك استجيبت صلواته فقواه الله وشدده لإتمام ذلك العمل العظيم بالخطة التي كان قد رسمها له "فمع كونه ابناً" غير مطلوب منه معاناة تلك الآلام لولا مجرد حبه للآخرين "تعلم الطاعة بما تألم به" لأنه بصفة كونه ابناً أزلياً كان يعلم حق العلم ما هي إرادة أبيه الأزلية لأنها كانت صادرة عن الذات الأزلية. ومع ذلك رضي بطوعه واختياره أن يتجسد ثم تحمل أشد الآلام كإنسان. وتعلم الطاعة أيضاً في مدرسة الآلام الهائلة (أنظر متى 38:27)
ويقول أحد الكّتاب: "كان عليه أن ينزل إلى مستوى إخوته الذين تولّى هدايتهم إلى المجد، وأن يجعل نفسه واحداً معهم، في ممارسة الطاعة بالدعوة التي دُعي بها. وكان عليه أن يتعلم هذه الطاعة، لا لأن إرادته لم تكن كاملة في أي وقت من الأوقات... بل لأنها كانت طاعة متماسكة ذات نواح كثيرة تتكاثر مطاليبها يوماً فيوماً"
"وإذا أكمل" شرحنا معنى الكمال سابقاً وليس المقصود منه الكمال الأدبي لأن المسيح كان حاصلاً على ذلك الكمال منذ البدء بل المقصود منه كمال الاستعداد لرتبة الكهنوت ليكون أهلاً أن يقدم كفارة حتى أنه "صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي" لأن عمل المسيح يظل يفضي إلى الخلاص حتى الأبد "وقد دعاه الله" الجملة حالية وهي تشير إلى النبوة السابقة في مزمور 115 "رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق" وهذا الخطاب كان دعوة من الله للمسيح ليقوم بإتمام ذلك العمل العظيم- عمل الكفارة والشفاعة والكهنوت
ولا شك أن هذا الكلام يحتاج إلى إيضاح. قال الكاتب "هو" أي ملكي صادق "الذي لنا بشأنه كلام كثير لنقوله وهو صعب التفسير" وذلك الكلام يتناول الرسالة كلها وصعوبته راجعة إلى هذا السبب وهو قول الرسول "لأنكم قد صرتم متثاقلي الإسماع" فالرسول أستاء من حالة المسيحيين العبرانيين حتى أنه كاد ييأس منهم فقال "فإذ كان يجب أن تكونوا معلمين لتمادي الزمان" الأمر الذي نتعلم منه (1) أن المسيحيين الجدد لا يجب أن يكونوا هم المعلمين و (2) أن المسيحيين الحاصلين على خبرة هم المطلوب منهم أن يقوموا بوظيفة التعليم و (3) أن الحياة المسيحية حياة تقدم وارتقاء. فالإنسان لا يمتلك منها بمجرد معمودية وقبوله في عضوية الكنيسة، بل هناك حاجة إلى المجهود المستمر، ولن تستكشف الحقائق العميقة إلاَّ عن طريق ارتقاء الذين يتعلمونها وتدَّرجهم في التقدم. لأن هذه ليست حقائق العقل فقط يلتقطها النابه السريع الخاطر، بل هي حقائق روحية تمتلكها الشخصية كلها بالحياة والاختبار والنمو، روحاً وعقلاً
"تحتاجون أن يعلمكم أحد بداءة أقوال الله" أي مبادئ الإيمان المسيحي الملخص فيها أقوال الله. والكلمة اليونانية المترجمة "بداءة" تطلق على الحروف الأبجدية التي يتعلمها الأطفال فهي تعنى البداية في أي موضوع. فكأن الذين ينبغي أن يكونوا معلمين، ما زالوا أحداثاً في روضة الأطفال "وقد صرتم محتاجين إلى اللبن دون الطعام القوي" شبّه الرسول مبادئ الإيمان بطعام الأطفال الذي هو اللبن "لأن كل من طعامه اللبن هو فائق الخبرة في كلام البر" الذي هو أشبه بالطعام القوي "لأنه طفل" فاللبن إذاً يشبه التعاليم الأولية التي يتلقنها متعلمو الديانة عن التوبة والإيمان وهلم جراً. وقد ذكر الرسول أن القوم كانوا في حاجة إلى تناول ذلك الطعام البسيط مرة أخرى "وأما الطعام القوي فللبالغين" أو الكاملين كما يؤخذ من الأصل اليوناني. قابل قوله "إذ أكمل" ومعناه "إذ بلغ" من البلوغ وهو النضج أو الاستوآء "المتروضة حواسهم" الروحية "بالممارسة على التمييز بين الخير والشر" والممارسة هي القوة التي تمكن الإنسان من التقدم في الإيمان (راجع 1كو 15:2 و1:3 و2)
والكلمة المترجمة "ممارسة" تحمل في اليونانية فكرة الترويض والتدريب كما في الألعاب الرياضية، حيث تتقوى العضلات بالمران. ولا يشكو الرسول هنا من شر أدبي في المسيحيين العبرانيين، ولكن تقصيرهم الوحيد في نظره هو وقوفهم موقف الجمود، وهذا تقصير سلبي. فهم لا يتقدمون ولا يرتقون، ولا يتطورون في فهم الأشياء. والذين يعرفون الإنجيل يذكرون كيف أصرَّ المسيح في غير مرة على أن يستخدم تلاميذه عقولهم ويفكروا ويكتشفوا مناطق المعرفة الجديدة ويقبلوا التعليم الجديد الذي كان يلقنهم إياه. وكأنه يدعو، بواسطة رسوله، أولئك العبرانيين المسيحيين، كما يدعو كلَّ من يقرأ الرسالة، أن نستيقظ ونتنبه ونتعلم من غير انقطاع
6: 1- 10 |
|
1لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إلى الْكَمَالِ، غَيْرَ وَاضِعِينَ أَيْضاً أَسَاسَ التَّوْبَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ، 2تَعْلِيمَ الْمَعْمُودِيَّاتِ، وَوَضْعَ الأَيَادِي، قِيَامَةَ الأَمْوَاتِ، وَالدَّيْنُونَةَ الأَبَدِيَّةَ - 3وَهَذَا سَنَفْعَلُهُ إِنْ أَذِنَ اللهُ. 4لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، 5وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي، 6وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ، إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمُ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ. 7لأَنَّ أَرْضاً قَدْ شَرِبَتِ الْمَطَرَ الآتِيَ عَلَيْهَا مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَنْتَجَتْ عُشْباً صَالِحاً لِلَّذِينَ فُلِحَتْ مِنْ أَجْلِهِمْ، تَنَالُ بَرَكَةً مِنَ اللهِ. 8وَلَكِنْ إِنْ أَخْرَجَتْ شَوْكاً وَحَسَكاً، فَهِيَ مَرْفُوضَةٌ وَقَرِيبَةٌ مِنَ اللَّعْنَةِ، الَّتِي نِهَايَتُهَا لِلْحَرِيقِ. 9وَلَكِنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أُمُوراً أَفْضَلَ، وَمُخْتَصَّةً بِالْخَلاَصِ، وَإِنْ كُنَّا نَتَكَلَّمُ هَكَذَا. 10لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ. |
فلندع إذاً الكلام عن مبادئ المسيح ولنسعَ إلى الكمال غير واضعين مرة ثانية أساس التوبة من أعمال ميتة. والإيمان بالله. وتعليم معموديات ووضع الأيدي. وقيامة الأموات. والدينونة الأبدية . وهذا سنصنعه إن أذن الله: لأَنَّ الَّذِينَ قد أنيروا مَرَّةً، وَذَاقُوا من الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وجعلوا مشتركين في الروح القدس. وذاقوا كلمة الله الطيبة وقوات الدهر الآتي. ثم ارتدوا فلا يمكن تجديدهم ثانية للتوبة إذ هم يصلبون ابن الله ثانية لأنفسهم ويشهرونه لأن الأرض التي تشرب المطر النازل عليها مراراً فتنتج نباتاً صالحاً للذين حرثت من أجلهم تتقبل بركة من الله. لكنها إن أخرجت شوكاً وحسكاً فهي مرذولة وقريبة من اللعنة ولها حريق عاقبة. بيد أننا قد تيقنا في جهتكم أيها الأحباء ما هو أفضل وقريب إلى الخلاص وإن كنا نتكلم هكذا. لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أبديتموها لأجل اسمه إذ قد خدمتم ولا تزالون تخدمون القديسين. |
في مستهل هذا الفصل يقول الكاتب: "إن أردتم أحداً يلقنكم مرة ثانية المبادئ المسيحية الأولى، فأنا لست ذلك الإنسان. وأنا أقترح أن أعلو بكم إلى نظام من الدروس أرقى، تعالوا إذاً لنتقدم سوياً.
"فلندع إذن الكلام عن مبادئ المسيح" وليس المعنى لننبذ تلك المبادئ ونهجرها بل لنتركها كما يترك البنَّاء الأساس وهو يبني عليه الجدار فكلما ارتقى ابتعد عن ذلك الأساس مع أنه لا يستطيع الاستغناء عنه "ولنسعَ إلى الكمال" أي إلى النمو التام. وكانت الشكوى من العبرانيين أنهم راضون بحالتهم التي كانت تشبه حالة الأطفال في معرفة الأمور الدينية. أما لفظة "كمال" الواردة في الآية فهي في الأصل اليوناني تدل على الكمال الروحي لا الأدبي. وقد وردت بهذا المعنى في مواضع عديدة عن العهد الجديد "غير واضعين مرة أخرى أساس التوبة من أعمال ميتة" إذ أي بنَّاء عاقل يضع أساسات البناء ثم يقوضها ثم يعود فيضعها ثم يقودها وهكذا المرة بعد الأخرى؟ أما الأساسات المشار إليها فهي ستة (أولهما) التوبة من الأعمال الميتة وهي الخطوة الأولى في حياة الرجل المسيحي لأنه يحتاج إلى تنقية قلبه من جميع المعايب والشوائب لتحل فيه نعمة الله ومحبته تعالى. والأعمال الميتة هي الأعمال التي يأتيها الخوارج عن الحياة الحقة وعن خدمة الله. لأن هناك نبعاً واحداً للحياة، وكل ما لم يصدر عنه فهو "ميت" فالأعمال الميتة إذاً هي كل أعمال الحياة الذاتية الأنانية، التي يحياها الإنسان لنفسه لا لله
"والإيمان بالله" هو الأساس الثاني من الأساسات الستة المشار إليها. وكان الأساس الأول سلبياً، أما الأساس الثاني فهو إيجابي، كما هو الحال في الشهادة الإسلامية. واختبار النفس في هذا المقام: "أرجع عن الذات وأعود إلى الله" فأن النفس بعد أن تتوب من أعمالها الميتة ترى ذاتها بنعمة الله ورحمته ومحبته مدفوعة إلى الإيمان "وتعليم المعموديات" لأن المعمودية هي الخطوة الثالثة وهي تلي الإيمان. أما قوله "معموديات" بصيغة الجمع فليس المقصود منه تعداد المعمودية أو تكرارها بل أن كل مهتد كان يجب أن يلقن صفة المعمودية ونوعها والفرق بينها وبين معمودية يوحنا والمعموديات اليهودية وطقوس الغسل. أنظر مثلاً متى 11:3 و1 بطرس 21:3 "ووضع الأيادي" هذه هي الخطوة التالية للمعمودية وهي لأجل التثبيت كما حدث للرسل (أنظر أعمال 14:8- 17) أو لأجل الرسامة للخدمة في الكنيسة (أنظر أعمال 6:6 و3:13 و1تيموثاوس 14:4 و22:5 و2تيموثاوس 6:1) "وقيامة الأموات والدينونة الأبدية" أي التعليم بخصوص الأخرويات بعد ختام التعليم المختص ببدء الحياة المسيحية وخطتها. هذه هي المبادئ الستة التي كان كاتب الرسالة يأنف من العودة إليها. والذين يعنون بدراسة هذه المبادئ دراسة مقارنة مع تعاليم المسيحية الأولى على أيدي الرسل في سفر الأعمال، يجدون كيف يتفق هذا البيان مع أقوال سفر الأعمال عن تعاليم الإيمان الأولى
"وهذا" أي هجران تلك المبادئ والسعي إلى التعاليم الأسمى "سنصنعه إن أذن الله". يقول الكاتب: "تعالوا، لأنكم إذا لم تتقدموا تمسون في خطر الرجوع القهقرى، والرجوع إلى الوراء أمر شديد الخطورة. وقد استعمل لفظة "أن" للدلالة على الشك فيما إذا كان الله سيأذن بهجران تلك المبادئ. وذلك الشك هو الذي حداه إلى قول ما يأتي: "لأن الذين قد أنيروا مرة" عند ولادتهم الجديدة بالتوبة والإيمان والمعمودية. ولا يتكلم الكاتب هنا عن الذين سمعوا رسالة الإنجيل فقط وقبلوها وآمنوا بها، بل عن الذين "أنيروا" بأنوار المؤثرات الإلهية اللامعة في حياتهم الروحية. ومرة واحدة يدخل الناس إلى المسيحية بهذا المعنى العميق الكامل، فهو اختبار لن يتكرر أشبه بموتهم وموت يسوع. "وذاقوا من الموهبة السموية" أي من نعمة الله ذوقاً اختيارياً "وجعلوا مشتركين في الروح القدس" بفعل نعمة الله العاملة في القلوب "وذاقوا كلمة الله الطيبة" ليس بسماعهم إياها فقط بل باختبارهم لها وسيرهم بموجبها. أنظر كيف يشير كل فعل من هذه الأفعال إلى تخصيص شخصي واختبار داخلي- "أنيروا.... ذاقوا.... جعلوا.... مشتركين.... ذاقوا" ثم يسترسل الرسول بعد ذلك ويبين كيف انتقل هذه الإختبار على طور أعلى "وقوات الدهر الآتي" الكلام معطوف على قوله مشتركين في الروح القدس، تلك كانت الكرامات والاختبارات الروحية. وعد ثانية إلى فصل 2 آية 3 ترَ الاختبار الشيّق الذي تذوقه العبرانيون المسيحيون الذين أرسلت لهم هذه الرسالة، حينما خبروا عمل قوات ليست من هذا العالم- وهم الذين كانوا قد امتازوا بتلك الهبات "ثم ارتادوا" فأنكروا المسيح ليس عن خوف بل عن انطفاء نور الروح في داخلهم "فلا يمكن تجديدهم ثانية للتوبة" لأن القوى الروحية التي كانت كامنة فيهم قد اضمحلت ونفدت
ولم يُقل هنا شيء عن الألى ينكرون ربهم عن خوف بينما تعمر قلوبهم ببعض المحبة له. فأن اختبار العصور يدلنا على أنه منذ أيام بطرس الرسول الذي أنكر سيده عند محاكمته، كانت التوبة الحقة والإعتراف العلني والإستنابة الجريئة، مهيئة للغفران الكامل. أما المشار إليهم في هذه العبارة فحالتهم جدُّ محزنة أليمة، فأنهم، وهم المستنيرون، يدعون النور ظلاماً، لا خوفاً من العواقب، إنما لأنهم يحبون الظلمة بعد أن اختبروا ملء النور "إذ هم يصلبون إبن الله ثانية" بعد صلبه في المرة الأولى. على أنهم يصلبونه في هذه المرة "لأنفسهم" كأنهم هم وحدهم المجرمون الخطاة مع أنه في حادثة الصلب الأولى اشتركت الخليقة كلها في الانتفاع من ذلك الموت وإنما عن غير علم (لوقا 34:23) بخلاف هذه المرة فأنهم كانوا يعلمون بأنهم يصلبون المسيح عمداً وهم يبعدونه عن حياتهم، فيمسى ميتاً بالنسبة لهم، كما كان وهو معلق على الصليب "ويشهرونه" والتشهير هو الحط من كرامة الشخص علناً. فالمسيحي الذي يخون المسيح يكون كمن يشهّر مولاه وفي تشهيره بسيده يذيع على الملأ أنه يحسب يسوع عقيماً لا نفع منه، وأنه لا يعبأ شيئاً بخلاصه، وأن أفضل ما يفعل به إقصاؤه عن حياته. أليس هذا تشهيراً علنياً؟
وفي العصور الأولى كان يُطلب إلى المسيحيين إذا ما مثلوا أمام الوالي الروماني أن ينطقوا سوءأ في سيدهم أمام الناس أو يذوقوا الموت. وبعضهم خارت عزيمته في هذا الإمتحان. ولدينا رسالة من بليني الوالي الروماني يقول فيها أنهم حقّروا يسوع "وهو أمر (على حدّ قول الروماني الوثني) لا يفعله المسيحي الحقيقي". وليس معنى هذه العبارة إذاعة ألفاظ القذف والتحقير على لسان إنسان مُرغْم بائس قد غالبه الخوف، بل تنصرف إلى الخيانة العظمى، في الإرتداد الداخلي المقترن بالقذف الخارجي. ومثله مثل الأرض المروية كثيراً وهي لا تخرج ثمراً "لأن الأرض التي تشرب المطر النازل عليها مراراً فتنتج نباتاً صالحاً للذين حرثت من أجلهم تتقبل بركة من الله" هكذا تكون حالة المسيحي المخلَّص. أنظر متى 23:13 "لكنها إن أخرجت شوكاً وحسكاً فهي مرذولة" أنظر لوقا 7:13-9 وهو قوله "فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً؟ فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع زبلاً. فأن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها" راجع أيضاً المثل الوارد في أشعياء 1:5-7 ولا سيما الآية الرابعة. كذلك راجع كلام المسيح بخصوص الكرم الغير مثمر والأغصان التي لا تحمل ثمراً فأن تلك الأغصان مرذولة "وقريبة من اللعنة" كما لعنت شجرة التين. راجع مرقس 14:11 و20 واللعنة تقع على النفس التي تكون غير قابلة للأثمار "ولها الحريق عاقبة" راجع ما قاله المسيح عن الأغصان التي لا تعطي ثمراً (يوحنا 2:15)
أن الآيات السابقة تمثل لنا حالة أولئك الذين يرتدون عن الدين القويم ويضلون الطريق المستقيم على رغم ما تلقنوه عن المسيح. فالكاتب يحذر العبرانيين من التعرض لذلك الخطر العظيم إلا أن أمله لم يكن خاب كما يفهم من قوله الآتي: "بيد أننا قد تيقنا من جهتكم أيها الإخوة ما هو أفضل" من الحالة التي وصلتم إليها "وقريب إلى الخلاص" أي أنهم قد ينالون الخلاص بعد "وإن كنا نتكلم هكذا" بطريق التحذير غير قائلين أن الفرصة قد فاتت لأن الدلائل كانت تدل على أنه لا يزال فيهم بعض الحياة فقد كان فيهم بعض ثمار المسيحية وبعد أصولها وكانوا قد شرعوا يبنون على أسسها "لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم" إذ أنه لا يرتكب أغلاطاً كأولئك الذين يدفنون الجسد قبل أن تفيض الروح منه. فهو لا ينسى الأعمال الصالحة "وتعب المحبة التي أبديتموها لأجل اسمه" في تاريخ ماضيكم المجيد بل في قليل من سيرتكم الحالية "إذ قد خدمتم ولا تزالون تخدمون القديسين" وتلك الخدمة هي التي كانت تشفع ببقائكم وإعطائكم فرصة أخرى عملاً بقوله "أتركها هذه السنة أيضاً الخ" فحالة القوم هذه كانت أشبه بحالة كنيسة ساردس التي خاطبها السيد له المجد بقوله "واكتب إلى ملاك الكنيسة التي قي ساردس هذا يقوله الذي له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب. أنا عارف أعمالك أن لك إسماً أنك حي وأنت ميت. كن ساهراً وشدد ما بقي الذي هو عتيد أن يموت لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله" (رؤيا 1:3و2)
6: 11- 20 |
|
11وَلَكِنَّنَا نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هَذَا الاِجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ الرَّجَاءِ إلى النِّهَايَةِ، 12لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِالإِيمَانِ وَالأَنَاةِ يَرِثُونَ الْمَوَاعِيدَ. 13فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ، 14قَائِلاً: «إِنِّي لأُبَارِكَنَّكَ بَرَكَةً وَأُكَثِّرَنَّكَ تَكْثِيراً». 15وَهَكَذَا إِذْ تَأَنَّى نَالَ الْمَوْعِدَ. 16فَإِنَّ النَّاسَ يُقْسِمُونَ بِالأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ التَّثْبِيتِ هِيَ الْقَسَمُ. 17فَلِذَلِكَ إِذْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيراً لِوَرَثَةِ الْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ، 18حَتَّى بِأَمْرَيْنِ عَدِيمَيِ التَّغَيُّرِ، لاَ يُمْكِنُ أَنَّ اللهَ يَكْذِبُ فِيهِمَا، تَكُونُ لَنَا تَعْزِيَةٌ قَوِيَّةٌ، نَحْنُ الَّذِينَ الْتَجَأْنَا لِنُمْسِكَ بِالرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، 19الَّذِي هُوَ لَنَا كَمِرْسَاةٍ لِلنَّفْسِ مُؤْتَمَنَةٍ وَثَابِتَةٍ، تَدْخُلُ إلى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، 20حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا، صَائِراً عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ، رَئِيسَ كَهَنَةٍ إلى الأَبَدِ. |
وإنما نشتهي أن كل واحد منكم يبدي هذا الاجتهاد بعينه لتمام الرجاء حتى المنتهى لكي لا تكونوا متباطئين بل مقتدين بالذين يرثون المواعيد بالإيمان والصبر لأن الله عندما وعد إبراهيم حالة أنه لم يكن أن يقسم أعظم بنفسه. فقال لأباركنك بركة. وأكثرنّك تكثيراً وهكذا صبر فنال الموعد فإن الناس إنما يقسمون بالأعظم. وفي كل مشاجرة عندهم القسم فصل الخطاب للإثبات. فلذلك إذا أراد الله أن يزيد ورثة الموعد بياناً بعدم تغير قضائه توسط بالقسم حتى نحصل بأمرين لا يتحولان ولا يمكن أن يكذب الله فيهما على تعزية قوية نحن الذين التجأنا إلى التمسك بالرجاء الموضوع أمامنا الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة ثابتة داخلة إلى ما وراء الحجاب حيث دخل يسوع سابقاً لأجلنا فصار رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. |
وقد ردد الرسول صدى تلك الدعوة بقوله "وإنما نشتهي" والكلمة اليونانية المترجمة "نشتهي" تعبر عن أعمق مشاعر الحنو التي يحسُّ بها الوالد المحب "أن كل واحد منكم" لا المختارين فقط. وكما لحظنا من قبل يفكر كاتب الرسالة في كل واحد كفرد مفرد "يبدي هذا الاجتهاد بعينه" كما فعل أحسن رجالكم سابقاً وكما لا يزالون يفعلون الآن "لتمام الرجاء" أي لإتمام الأمور التي تتعلق بها آمالكم المسيحية. ويشير أحد الكتاب إلى ما يفعله الرجاء من دور خطير في الحياة المسيحية المرتقية. فهو يستجمع خطوات التقدم السابقة، لا بروح الكبرياء والإكتفاء بالذات، بل بأمل معاودة السير إلى الأمام، كما يفعل القائد العظيم حين يجمع شمل جنوده، بعد الفوز للإستيلاء على أرض جديدة. وعلى هذا المثال ينبغي أن يأمل المسيحي، واضعاً رجاءه إلى ما هو قدام، ما دام في الحياة بقية "حتى المنتهى" حينما يدعوكم الله من هنا إلى كمال القداسة في فردوس الله. وقد ختم كلامه بتبيان الغاية من ذلك وهي "لكي لا تكونوا متباطئين" كما نحن الآن "بل مقتدين بالذين يرثون المواعيد بالإيمان والصبر"- وهذه سيتولى وصفها تفصيلاً في فصل آت- وهم أفراد نوادر. وقد تمنى الرسول أن يصبح ذلك النادر أو الشاذ قاعدة يجري عليها لكي يقبل الجميع على المطالبة بإرثهم ولا يفقدوه بسبب عدم ثباتهم وقلة صبرهم
أن قول الرسول لأولئك المسيحيين المتباطئين "لكي لا تكونوا متباطئين بل مقتدين بالذين يرثون المواعد بالإيمان والصبر" يرجع بالقارئ إلى إبرهيم الذي كان رمزاً إلى المؤمنين والصبورين ونائلي المواعد
وفي صدد التحدث عن أخبار سلف العبرانيين المسيحيين العظيم، يضع الكاتب أهمية فائقة على المزايا والخواص البشرية في الإيمان والصبر، كما يشير إلى أهمية الأساس الروحي فيهما. ولو أن الصبر مجهود يبذل، إلاَّ أنه مجهود تسنده وتعضده كلمة الله
"لأن الله" وهذا التعليل هو لتأييد السبب الذي من أجله لا يجب أن يكونوا متباطئين "عند ما وعد إبرهيم" أن يباركه ويكثر نسله "حالة انه لم يكن أن يقسم بشيء أعظم" من نفسه تعالى "أقسم بنفسه" قائلاً بذاتي أقسمت الخ (أنظر تكوين 16:22)
ونقرأ غير مرة عن الموعد الذي أعطاه الله لإبرهيم (أنظر تكوين 3:12 و7 و14:13 و5:15) وعن تأييده بالقَسَم (أنظر 16:22). أما القسم فلو أن معناه أن إبرهيم شهد بداءة تكميل الموعد في أبنه إسحق الذي ولد له بعد انقطاع الرجاء (وقد تكرر الوعد مرة أخرى في تكوين ص 22) إلاَّ أنه سيكون هناك إبطاء في تكميل الموعد بتمامه، ولو كانت البركة الموعد بها تمَّت مباشرة، لما كان هناك داعٍ للقسَم. وكان قسم الله لإبرهيم أساس رجاء إسرائيل مدى أجيال طويلة إلى الزمن الذي كتبت فيه هذه الرسالة. وكان دعامة لكن إيمان ديني إيجابي في كلّ ما لم يُنظر بعد. ويقول حديث يهودي: "هكذا كلَّم موسى (عليه السلام) ربه: لو كنت قد أقسمت بالسماء والأرض، لقلت إن هذا الموعد سيذوب وينطوي بما أن الأرض والسماء سوف تزولان. أما وقد أقسمت باسمك العظيم، الذي يحيا ويبقى إلى أبد الدهور، فأن قَسمَك سيبقى أيضاً مدى الدهر"
"فقال لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيراً. وهكذا" وثق في موعد تأيد على هذا النحو و"صبر" إبرهيم "فنال الموعد" لأن الله باركه حقيقة وأكثر نسله بإسحق. فنال أخيراً جزاء صبره وإيمانه
ومع ذلك فأن الذي ناله في حياته على الأرض لم يكن إلاَّ جزءاً من ذلك الموعد العظيم الذي ظلَّ تكميله سائراً مدى التاريخ وما فتئ مستمراً حتى اليوم. لأن المسيح كان من نسل إبرهيم، وفيه قد تباركت شعوب لم يسمع إبرهيم بوجودها، ففي بلاد الصين، واليابان، والهند، وإفريقيا، وأمريكا، وأوربا، أناس ألفوا بركة في المسيح الذي هو من نسل إبرهيم، يرجعون بأنظارهم إلى الوراء، إلى إبرهيم كأبيهم الروحي، وأبي كل المؤمنين "فأن الناس إنما يقسمون بالأعظم" وإلا فلا تكون للقسم قيمة "وفي كل مشاجرة عندهم" أي عند أهل العالم "القسم فصل الخطاب للإثبات" كما يقولون أن القسم على المدعى عليه "فلذلك إذ أراد الله" بنعمته العظمى أن يجاري الناس على عقولهم و "أن يزيد ورثة الموعد" فلا يكون مقتصراً على إبرهيم وحده، ما دام الموعد في معناه الروحي منطبقاً على كل من له إيمان مثل إبرهيم. فكان له ولنسله، لأبي المؤمنين وكل الابناء المؤمنين. وقد شمل التطبيق المباشر الذي دار بخلد الكاتب جماعة المؤمنين الصغيرة التي وُجهت إليها الرسالة. ولإبرهيم ولهم ولنا "فلذلك إذ أراد الله أن يزيد بياناً بعدم تغير قضائه" وبأن وعده لا بد أن يتم مهما حدث "توسط بالقسم" أي عمد إلى القسم بنفسه إذ ليس هنالك كائن أعظم من نفسه يسوغ القسم به "حتى نحصل" نحن أيضاً إذ لنا حصة في الوعد الذي أعطي لإبرهيم (أنظر رومية فصل 4 ولا سيما آية 22- 25) "بأمرين لا يتحولان ولا يمكن أن يكذب الله فيهما" وهما الوعد والقسم "على تعزية قوية" ناتجة عن وثوق النفس بصحة ذينك الأمرين. والكلمة المترجمة "تعزية" ليست تنطوي فقط على تعزية سلبية بل على تشجيع إيجابي للتقوية في الظروف الصعبة. وهذه هي طبيعة تعزيات الله، فهي ليست أشبه بتعازي صديق في وقت الضيق التي تعبّر لنا عن عطفه ومشاركته لنا، بل هي أكثر من ذلك، هي مقوّيات مشجعة. "نحن الذين إلتجأنا" والمعنى الحقيقي للفعل اليوناني أننا (كإبرهيم) غرباء لاجئون. وليس لنا موطن أكيد إلاَّ في هذا الرجاء. وكل عون آخر قد أهمل، فكان على أولئك العبرانيين المسيحيين أن يهملوا ثقافتهم الدينية القديمة الغالية عليهم وعبادتهم التي اعتزوا بها، ولكن موعد إبرهيم بحلول البركة على كل ذوي الإيمان ظلَّ قائماً لهم. وكلُّ من يقف موقف الحزم لأجل المسيح عليه أن. يتناسى ما يحسبه العالم أقوى دعائمه. ولكننا لم نهرب فقط من هذه الأشياء بل قد إلتجأنا "إلى التمسك بالرجاء" أي الرجاء بتلك البركة الفريدة "الموضوع أمامنا" بصفة كوننا أولاداً لإبرهيم بالإيمان. ولا شك أن في الرجاء تعزية وسلاماً وأمناً إذ وثقت النفس بثبات الواعد. كما أن الإنسان يكون مستريح البال إذ أودع ماله في مصرف (بنك) إنكلترا. فكم بالحري الإنسان المسيحي الذي يودع رجائه في الموضع الأمين؟ ذلك الرجاء "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة" نظراً للصخرة المؤسسة عليها تلك المرساة. وهذه المرساة قد اتخذها المسيحيون منذ البداءة كعلامة رجائهم. ومما يقوله اكليمندس السكندري إن مسيحيي مصر كانوا يحفرون هذه العلاقة على خواتم أصابعهم. وفي أماكن الدفن السرية، حيث كان يودع المسيحيون الأولون أجساد موتاهم في الأقبية الرومانية، كانت تنقش علامة "المرساة" هذه على قبور الموتى
وأن مرساتنا الروحية "داخلة إلى ما وراء الحجاب" أي إلى العالم الروحي، ملكوت الحقائق الذي لا يعتريه تحول أو تبديل. تلك هي البيئة التي تسقط عليها مرساة المؤمن. واستعارة "الحجاب" مأخوذة عن عبادة اليهود، حيث كان يقام حجاب أمام قدس الأقداس مقر حضرة الله، مشاراً إليه بسحابة مستقرة فوق المقدس "حيث" اللفظة إشارة إلى العالم الذي وراء الحجاب "دخل يسوع سابقاً لأجلنا" ويدخل الرجاء حيثما دخل يسوع كممهّد الطريق، "كسابق"، للبشرية المفتداة. ويسوع، قاهر الموت بصعوده، دخل إلى الأقداس "سابقاً". والكلمة المترجمة هنا "سابق" كانت تطلق على الناس أو الجيوش التي كانت ترسل لاكتشاف الطريق قبل تقدم الجيوش. فهو قد سبق ليعدّ أفضل طريق "لأجلنا" وليكفّر عنا، بتقدمة ذاته ذبيحة كاملة، وليشفع فينا، بتقدمة صلواته كمن اختبر تجارب الحياة البشرية. وكل رجاء المسيحي مستقر في يسوع هذا الذي جاز إلى العالم الأبدي الخالد بدخوله بعد بذل نفسه "فصار رئيس كهنة إلى الأبد"
وهنا يعود بنا الكاتب مرة أخرى إلى فكره عن يسوع كرئيس كهنة. وكن قراؤه قد ألفوا الفكرة أن رئيس الكهنة اليهودي (وحده دون سائر البشر) هو الذي كان يدخل مرة واحدة في السنة وراء الحجاب إلى قدس الأقداس، في حضرة الله، ليكفّر عن خطايا الشعب. وكان رئيس الكهنة هذا يدخل إلى المكان المقدس وحده نيابة عن الشعب، ولكن الشعب لن يتبعه، أما يسوع رئيس كهنة شعبه فيدخل فيما وراء الحجاب، لا لأجلهم فقط، بل سابقاً لهم
ويبين الكاتب لقرائه أن يسوع رئيس كهنتهم دخل إلى حضرة الله السمائية، لا مرة واحدة في السنة، لأن ذلك العالم أبدي خالد لا يقاس بالسنين، بل في كهنوت خالد "إلى الأبد"
ثم يعلن لهم الآن أن كهنوت يسوع ليس مثل كهنوت هرون وأبنائه، بل كهنوت أرفع قدراً وأوفر غنى، يكون فيها الكاهن ملكاً، والملك كاهناً. فيقول أن يسوع كاهن "إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" كما جاء في المزمور 110- وقد ذكرت هذه العبارة الخطيرة مرتين من قبل في هذه الرسالة (ص 6:5 وص 10:5) والآن قد بلغ الكاتب النقطة التي شرع يفسر لنا فيها كلَّ ما تعلمه من تأمله في آية المزامير هذه
ولكي نفهم كيف مثَّل شكل ملكي صادق صورة كهنوت المسيح الأبدية في ذهن الكاتب، لابد لنا من الرجوع إلى الآيات الموجزة التي كان كاتبنا يتأملها
وهاك ما جاء في سفري التكوين والمزامير بخصوص ملكي صادق:-
"وملكي صادق ملكي ساليم أخرج خبزاً وخمراً. وكان كاهناً لله العلي وباركه وقال مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات والأرض. ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك. فأعطاه عشراً من كل شيء" (تكوين 18:14-20)
"أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مزمور 4:110)
7: 1- 10 |
|
1لأَنَّ مَلْكِي صَادِقَ هَذَا، مَلِكَ سَالِيمَ، كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ، الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعاً مِنْ كَسْرَةِ الْمُلُوكِ وَبَارَكَهُ، 2الَّذِي قَسَمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الْمُتَرْجَمَ أَوَّلاً «مَلِكَ الْبِرِّ» ثُمَّ أَيْضاً «مَلِكَ سَالِيمَ» أَيْ مَلِكَ السَّلاَمِ 3بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هَذَا يَبْقَى كَاهِناً إلى الأَبَدِ. 4ثُمَّ انْظُرُوا مَا أَعْظَمَ هَذَا الَّذِي أَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ رَئِيسُ الآبَاءِ عُشْراً أَيْضاً مِنْ رَأْسِ الْغَنَائِمِ. 5وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي لاَوِي، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْكَهَنُوتَ، فَلَهُمْ وَصِيَّةٌ أَنْ يُعَشِّرُوا الشَّعْبَ بِمُقْتَضَى النَّامُوسِ - أَيْ إِخْوَتَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ. 6وَلَكِنَّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مِنْهُمْ قَدْ عَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارَكَ الَّذِي لَهُ الْمَوَاعِيدُ! 7وَبِدُونِ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ: الأَصْغَرُ يُبَارِكُ من الأَكْبَرِ. 8وَهُنَا أُنَاسٌ مَائِتُونَ يَأْخُذُونَ عُشْراً، وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْمَشْهُودُ لَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ. 9حَتَّى أَقُولُ كَلِمَةً: إِنَّ لاَوِي أَيْضاً الآخِذَ الأَعْشَارَ قَدْ عُشِّرَ بِإِبْرَاهِيمَ! 10لأَنَّهُ كَانَ بَعْدُ فِي صُلْبِ أَبِيهِ حِينَ اسْتَقْبَلَهُ مَلْكِي صَادِقَ |
لأَنَّ مَلْكِي صَادِقَ هَذَا "مَلِكَ سَالِيمَ"، "كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ" الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ عند رجوعه مِنْ كَسْر الْمُلُوكِ "وَبَارَكَهُ" والَّذِي "قَسَمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" يبقى "كاهناً إلى الأبد" إذ أن تفسير اسمه أَوَّلاً «مَلِكَ الْبِرِّ» ثُمَّ «مَلِكَ سَالِيمَ» أَيْ مَلِكَ السَّلاَمِ. بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ. بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. يَبْقَى كَاهِناً إلى الأَبَدِ. وانْظُرُوا مَا أَعْظَمَ هَذَا الَّذِي أَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ رَئِيسُ الآبَاءِ عُشْراً مِنْ خيارِ الْغَنَائِمِ. أما الذين يقلدون الكهنون مِنْ بَنِي لاَوِي فقد فرض عليهم شرعاً أن يأخذوا العشور من الشعب أي من إخوتهم مع أنهم خرجوا من صلب إبراهيم. وأما الذي لا ينتسب إليهم فقد أخذ عشراً من إبراهيم وبارك صاحب المواعد. ولا جدال أن الأكبر يبارك الأصغر. والذين يأخذون العشور هنا أُنَاسٌ مَائِتُونَ وأما هناك فواحد مشهود له بأنه حي. ولا حرج في القول بأن لاوي الآخذ العشور قد أخذت منه العشور في إبراهيم لأنه كان بعد في صلب أبيه حين استقبله ملكي صادق |
وقد جمع كاتب الرسالة إلى العبرانيين جميع الأمور المهمة في هذه الآيات فقال "لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي الذي استقبل إبرهيم عند خروجه من كسر الملوك وباركه" وبإجراء البركة احتل ملكي صادق فوراً مكانة الرئاسة، واعترف إبرهيم من جانبه بدعوى ملكي صادق في رئاسته كما يتضح من الكلمات الآتية:
"والذي له إبرهيم عشراً من كل شيء" والآية تجمع صفات ملكي صادق وأعماله "يبقى كاهناً إلى الأبد" كما جاء في المزمور 110 مما يدل على أن الإشارة ليست إلى شخص ملكي صادق بل إلى رتبته الكهنوتية وإلى الشخص المرموز إليه بذلك الكهنوت. ثم ذكر الكاتب أموراً أخرى تتعلق بملكي صادق بعضها سلبي والبعض الآخر إيجابي وجميعها تشير إشارة واضحة إلى المسيح. قال "إذ أن تفسير إسمه أولاً ملك البر" ولفظة "صادق" في الأصل العبراني تعني "الصدق" بصيغة المصدر لا بصيغة الفاعل أو الصفة المشبهة "ثم ملك ساليم" وهي مدينة ومعنى اسمها السلام. فيكون ذلك الملك إذاً فضلاً عن كونه ملك البر "ملك السلام" وقد اقترن هذان المظهران في الفكر اليهودي بمجيء المسيا الذي سيحكم بالبر والسلام. وقد وجد كاتب هذه الرسالة وقراؤها في المسيح ملكاً للبر والسلام. "بلا أب" وأرث عنه الكهنوت و "بلا أم" وأرث عنها تلك الرتبة. وطبعاً لم يخطر ببال الكاتب ولا ببال أحد من قرائه (كما يزعم بعض المحافظين على حرفية النص في هذا العصر) إن الإنسان ملكي صادق خلق بدون أبوين أو أنه بالضرورة لم يخلّف نسلاً. لأن الكاتب يقتصر في كلامه على رسم صورة ملكي صادق في السفر المقدس (كما أسلفنا) ويلحظ كيف يشعُّ رسمه أمامنا بغتة دون ذكرٍ لأسلافه أو أخلافه من البشر. وهو يقف ماثلاً أمام الأجيال ككاهن الله العلي العظيم، حتى أن إبرهيم نفسه يجثوا ساجداً أمامه لنيل بركته. وإذ يقارن الكاتب هذه الأوصاف شيئاً فشيئاً يصرخ قائلاً: ما أشبه هذا بكهنوت المسيح!! "بلا نسب" تعزى إليه. فهو إذاً يشبه المسيح من هذه الوجهة لأن أبا المسيح (الأرضي) وأمه ونسبه لم تكن مصدر كهنوته
على أن هنالك أموراً قد سكت عنها الكاتب. فإن ذكر ملكي صادق يظهر ويختفي بغتة بخلاف الأسلوب المعروف عن العهد القديم. ترى من أين أتى وإلى أين ذهب؟ لا نعلم إذ "لا بداءة أيام له" معروفة "ولا نهاية حياة" مذكورة "وهو مشبه بإبن الله" بهذه الاعتبارات إذ لم تكن له بداءة في الأزل ولا نهاية له للأبد. نعم ليس المقصود من هذا القول معناه الحرفي ولكن سكوت الكتاب يدلنا على أن المقصود من الإشارة هو المرموز إليه فجميع هذه الاعتبارات تدل على أن رتبة ذلك الكهنوت هي رتبة من "يبقى كاهناً إلى الأبد"
وقد استاق الكاتب كلامه للمقارنة بين ذلك الشخص الغريب وإبرهيم نفسه وبالأحرى بينه وبين هارون. فقال "وانظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبرهيم رئيس الآباء" قوله رئيس الآباء دليل على سمو منزلة إبرهيم في التاريخ اليهودي فقد كان أول شعبه وأعظمهم ومع هذا أعطى "عشراً من خيار الغنائم" لملكي صادق
والآن نراه يلجأ إلى دليل خيالي شرقي ولكنه دليل واضح، مفاده أن كهنوت مَن كان أعظم من إبرهيم لابد أن يكون أعظم من أي كهنوت آخر مستمد من ذراري إبرهيم. "أفتندبون حظكم أيها العبرانيون المسيحيون لأنكم أُقتطعتم من كهنوت أبناء هرون الذين كانوا من نسل إبرهيم؟ أن لكاهنكم كهنوتاً أعظم من جميع هؤلاء"
"أما الذين يقلدون الكهنوت من بني لاوي" أي بني هارون "فقد فرض لهم شرعاً" أي بموجب شريعة الله التي نزلت على يد موسى "أن يأخذوا العشور من الشعب" الإسرائيلي "أي من إخوتهم" مع أن المنتظر أن يكون الإخوة متساوين. إلا أن أولاد لاوي امتازوا بأخذ العشور "مع أنهم" هم أيضاً "خرجوا من صلب إبرهيم" كسائر بني إسرائيل. وعلى رغم أهمية ذلك الفرق ليس ذلك شيئاً يذكر باعتبار ملكي صادق. إذ قال "وأما هذا الذي لا ينتسب إليهم" أي بني لاوي "فقد أخذ عشراً من إبرهيم" الذي كان أعظم من نسله بني لاوي "وبارك صاحب المواعد" نفسه أي إبرهيم "ولا جدال أن الأكبر يبارك الأصغر" فإبرهيم بسجوده لملكي صادق اعترف بأفضليته عليه. ثم أن هنالك أمراً آخر حرياً بالاعتبار وهو قوله "والذين يأخذون العشور هنا" بين اليهود مثلاً "أناس مائتون" يذهبون ويورثون امتيازهم لآخرين "وأما هنالك" أي في أمر العشور التي أداها إبرهيم "فواحد" يدعى ملكي صادق "مشهود له بأنه حي" إذ لم نسمع عن موته بل عن حياته- سلباً في سفر التكوين وإيجاباً في المزمور 110 فبينه وبين هرون فرق إذاً لأن موت هرون مذكور في الكتاب فبهذا الاعتبار أيضاً يشبه ملكي صادق المسيح الحي. ثم أنه إذا كان ملكي صادق أعظم من إبرهيم فهو إذاً أعظم من هرون أيضاً "ولا حرج في القول" الكلام دليل على أن الكاتب ينتظر شيئاً من الاستغراب عند السامع "بأن لاوي الآخذ العشور" شرعاً من إخوته بني إسرائيل "قد أخذت منه العشور" أي أعطيت لملكي صادق "في إبرهيم" أبيه ونائبه "لأنه كان بعد في صلب أبيه حين استقبله ملكي صادق" وهكذا أدى العشور. وبعبارة أخرى إن كهنوت هرون أدى واجب الاحترام لكهنوت ملكي صادق فاعترف بأفضليته عليه ونال منه البركة. والعبارة القائلة "كان بعد في صلب أبيه" تقوّى فكرة اتحاد نسل إبرهيم فيما يتعلق بأحوالهم الأرضية. وهذا ما فعله أيضاً كهنوت هرون، لأنه لكي يكون الإنسان كاهناً لا بد أن يكون متحدراً من سلالة نقية. ولكن هذا التعليم، إذا قورن بفكرة ملكي صادق، يبين لنا سراً من أسرار الحياة البشرية. فكلنا مولودون من سلالة متسلسلة، ولذا نشعر بإرتباطنا بالماضي أنى أدرنا الطرف. وكثيراً ما نشعر أيضاً أن المستقبل يتوقف علينا إلى حد ما. وليس هذا كل موقفنا، فمن ناحية واحدة نرى حياتنا الخارجية مقترنة بأسلافنا، ومن الناحية الأخرى نرانا، بالنسبة لأرواحنا، على صلة مباشرة بالله. فنحن وُلدنا، كأفراد في جنس ونلعب أدوارنا في تطور ذلك الجنس، ولكننا خلقنا أيضاً أرواحاً مسئولة أمام الله مسئولية مباشرة. فليس كافياً أن نكون من أبناء هارون، بل ينبغي أن نكون بالروح أبناء لمن هو أعظم، لملكي صادق المسيح الذي يقدر أن يجيء بنا إلى كمال البركة والطوبى، مهما كانت سلالتنا ومهما كان ماضينا
7: 11- 20 |
|
11فَلَوْ كَانَ بِالْكَهَنُوتِ اللاَّوِيِّ كَمَالٌ- إِذِ الشَّعْبُ أَخَذَ النَّامُوسَ عَلَيْهِ - مَاذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بَعْدُ إلى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ، وَلاَ يُقَالُ «عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ»؟ 12لأَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ الْكَهَنُوتُ فَبِالضَّرُورَةِ يَصِيرُ تَغَيُّرٌ لِلنَّامُوسِ أَيْضاً. 13لأَنَّ الَّذِي يُقَالُ عَنْهُ هَذَا كَانَ شَرِيكاً فِي سِبْطٍ آخَرَ لَمْ يُلاَزِمْ أَحَدٌ مِنْهُ الْمَذْبَحَ. 14فَإِنَّهُ وَاضِحٌ أَنَّ رَبَّنَا قَدْ طَلَعَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْهُ مُوسَى شَيْئاً مِنْ جِهَةِ الْكَهَنُوتِ. 15وَذَلِكَ أَكْثَرُ وُضُوحاً أَيْضاً إِنْ كَانَ عَلَى شِبْهِ مَلْكِي صَادِقَ يَقُومُ كَاهِنٌ آخَرُ، 16قَدْ صَارَ لَيْسَ بِحَسَبِ نَامُوسِ وَصِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، بَلْ بِحَسَبِ قُوَّةِ حَيَاةٍ لاَ تَزُولُ. 17لأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّكَ «كَاهِنٌ إلى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ». 18فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا، 19إِذِ النَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. وَلَكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ رَجَاءٍ أَفْضَلَ بِهِ نَقْتَرِبُ إلى اللهِ. 20وَعَلَى قَدْرِ مَا إِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ قَسَمٍ |
فَلَوْ كَانَ بِالْكَهَنُوتِ اللاَّوِيِّ كَمَالٌ (وبموجبه قد أخذ الشعب الشريعة) فأية حاجة بعد أن يقوم كاهن آخر "عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ"، وَلاَ يُقَالُ «عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ» لأنه إذا تحول الكهنوت فبالضرورة يحصل تحول في الشريعة أيضاً والحال إن الذي قيل فيه هذا الأمر كان ينتمي إلى سبط آخر لم يلازم أحد منه المذبح، فإنه واضح أن سيدنا طلع من يهوذا وهو سبط لم يشر موسى في كلامه عنه إلى الكهنوت. ومما يزيد الأمر وضوحاً للغاية أن كاهناً آخر يقوم على شبه ملكي صادق. لم يقم بمقتضى شريعة وصية جسد بل بمقتضى قوة حياة لا تفنى. لأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنّ أنت كَاهِنٌ "إِلَى الأَبَدِ" عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ. فمن الجهة الواحدة يقع الإلغاء في الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها (لأن الشريعة لم تكمل شيئاً) ومن الجهة الأخرى إيجاد رجاء أفضل نقترب به من الله. ثم بما أن ذلك لم يحصل بدون قسم، فعلى ذلك صار يسوع ضامناً لعهد أفضل |
قال الكاتب "فلو كان بالكهنوت اللاوي" أي كهنوت أبناء هرون من سبط لاوي "كمال" أي علاقة كاملة مع الله، لما كانت هناك حاجة (كما نرى) إلى نوع آخر من الكهنوت. فأن غرض الكهنوت أو الناموس الديني أن يجيء بالشعب إلى هذا "الكمال"، كمال الصلة مع الله "وبموجبه" أي بموجب الكهنوت اللاوي "قد أخذ الشعب الشريعة" لأن الشريعة بإجمعها كانت مؤسسة على الكهنوت اللاوي والطقوس الملازمة له حتى لقد يصح القول بأن الديانة اليهودية كانت مؤسسة على الكهنوت. لأن الشريعة الموسوية لا يمكن تنفيذها بدون كهنوت لقبول الذبائح وتقديمها كفّارة عن المعاصي الكثيرة
وخلاصة الآية أنه كان المنتظر أن يكون الكهنوت اللاوي كاملاً ختامياً. ولو كان كذلك "فأية حاجة أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكي صادق" كما قال داود في المزمور المئة والعاشر بعد موسى ببضعة قرون "ولا يقال على رتبة هرون" كما لو كان كهنوت هرون كاملاً ختامياً. فأنه إلى مثل ذلك الكهنوت يشير كاتب المزمور. فلماذا يعوض عنه بكهنوت آخر وهو يعلم أن ذلك يؤثر في الشريعة "لأنه إذا تحول الكهنوت فبالضرورة يحصل تحول في الشريعة أيضاً" وفي ذلك انقلاب عظيم الأهمية. وهنا ربما يفكّر كاتبنا في أفكار وأحاسيس العبرانيين المسيحيين الدائرة حول شريعة شعبهم القديمة التي ينفذها الكهنوت اللاوي. وربما كانوا، قبل أن يدخلوا في المسيحية، قد عانوا بعض الصعاب فيها، لأنهم كانوا أبناء الشريعة عائشين بعيداً عن أورشليم. وقد أعطيت الشريعة لقوم كان في وسعهم أن يلتفوا حول مركز للعبادة مشترك، ويقدموا تقدماتهم إلى خيمة الاجتماع أو إلى الهيكل حيثما وُجد كاهنهم. فأولئك اليهود الذين نزحوا للعيش في أقطار نائية لم يستطيعوا حفظ الشريعة كاملة، تلك الشريعة التي أعطيت في زمن كانت فيه أمتهم مجتمعة في صعيد واحد حول مركز واحد. ولا بد أن هذه الحالة قد أثارت عدّة من المشاكل في ضمائر كثيرة. وبعد ذلك يدخل أولئك العبرانيون في المسيحية، فما عسى أن تكون علاقتهم الآن بالشريعة القديمة النافذة على يدي الكهنوت القديم؟ وهنا نرى الكاتب يشرح لهم أن لهم في المسيح كهنوتاً أفضل، لا يرتبط ببقعة معينة من الأرض، بل كهنوتاً خالداً في السمائيات، تحت إمرة كل إنسان سواء أعاش في أورشليم أم في رومية أم في الإسكندرية. لذلك يحاول أن يُريهم كهنوت المسيح السمائي الروحي يقترن بالضرورة بشريعة روحية جديدة. "والحال أن الذي قيل فيه هذا الأمر" أي يسوع المسيح. والإشارة هي إلى النبوة القائلة أنت كاهن الخ "كان ينتمي" والفعل في اليونانية ينطوي على معنى أخذ المسيح الطبيعة البشرية اختياراً. فلم يقل أنه ولد في سبط، ولكنه ولد من تلقاء ذاته "إلى سبط آخر" هو يهوذا "لم يلازم أحد منه المذبح" إذ لم يقم أحد من ذلك السبط بخدمة المذبح في الزمن القديم "فأنه واضح أن سيدنا طلع" والفعل المترجم "طلع" يُشار به إلى شروق الشمس أو ظهور نجم. ومن الألقاب التي خُلعت على المسيا "شمس البر" (ملاخي 2:4) وقد يُشار بالفعل في اليونانية أيضاً إلى ظهور نبتة من بَزْرتها الكامنة. ومن الألقاب التي خُلعت على المسيا أيضاً "الغصن" (أرميا 5:23 وزكريا 12:6) "من يهوذا" لأن كلا مريم ويوسف من ذلك السبط. وهذه الآية، ومثلها آية أخرى في سفر الرؤيا (5:5) حيث يدعى "الأسد الخارج من سبط يهوذا" هما الموضعان في العهد الجديد (ما خلا قصة الميلاد في بشارة متى 6:2) اللذان يقترن فيهما اسم ربنا وسيدنا بسبط يهوذا، وذلك لأنه أطلق عليه في كل مرة "إبن داود" (وهو اللقب الرسمي للمسيا الملك الذي عزاه إلى المسيح كثيرون ممن رأوه)- والواقع أن شخصيته أنست الناس التفكير في أسرته أو سلالته، وحصروا أفكارهم في غرابة شخصه. ولقبه المختار "إبن الإنسان" أليق الألقاب به لأنه لقب جامع شامل. ولكن كاتبنا، ليزيد الأمر وضوحاً لقرائه، يذكّرهم أن المسيح ولد في سبط يهوذا "وهو سبط لم يشر موسى في كلامه عنه إلى الكهنوت" كما يظهر من مراجعة العهد القديم. فيسوع إذاً لم يكن ولم يكن أن يكون كاهناً من رتبة هرون. ففصل رتبة الكهنوت من نيل هرون إذاً أحدث بالفعل تغييراً في الشريعة كما أسلفنا. على أن مغزى النبوة لم ينته بعد "ومما يزيد الأمر وضوحاً" والأمر الذي يراد إيضاحه هو الصفة المؤقتة للكهنوت اللاوي ولشريعة الذبائح المقترنة به. وكان هذا تدبيراً مؤقتاً احتياطياً لتدريب شعب الله إلى أن يُعطى لهم شيء آخر أكثر كمالاً "للغاية إن كاهناً آخر يقوم على شعبه ملكي صادق" كما رأينا. والأمر المهم في الآية هو قوله أن هذا الكاهن "لم يقم بمقتضى شريعة وصية جسدية" كالكاهن اللاوي الذي كانت كفاءته قائمة بنسبه الجسدي وخلوه من العيوب الجسدية "بل بمقتضى قوة حياة لا تفنى" وفي هذه المقابلة أمران حريان بالاعتبار (الأول) أن كفاءة هذا الكاهن الحقيقي كانت شخصية حقيقية في قوته وحياته. حالة أن الكهنوت القديم كان قائماً على الشريعة الخارجية (والثاني) أن الكهنوت الجديد هو روحي لا يفنى ولا يتغير. وأما الكهنوت القديم فجسدي زمني قابل للفناء. وهذا أيضاً واضح من خلال آية المزمور المئة والعاشر "لأنه" أي الكتاب "يشهد" في مزمور 110 "أن أنت كاهن إلى الأبد" والأمر المهم هنا أبدية الكهنوت "على رتبة ملكي صادق" فشريعة المسيح ختامية أبدية
وقد لخص الكاتب بعد ذلك الثلاثة الأوجه التي تقوم بها أفضلية كهنوت المسيح فقال "فمن الجهة الواحدة يقع الإلغاء في الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها" أي أن كل وصية سابقة تكون بمثابة تمهيد للوصية اللاحقة ولكنها لا تفيد كثيراً إذا اعتبرناها نهائية. فالوصية التي أشار إليها الكاتب كانت حسنة باعتبار الرمز ولكنها ضعيفة باعتبار المرموز إليه. ولذلك كان لا بد من إلغائها. كان هذا كلاماً صريحاً. ومن الهين علينا أن نقر وجهة النظر هذه ونسلم بها. ولكن هذا القول كان في نظر أولئك المسيحيين الذين نشأوا تحت الشريعة القديمة بمثابة ثورة فكرية. ويجب ألاَّ يفوتنا طبعاً أن المبادئ الأدبية العظمة التي قامة عليها الشريعة القديمة بقية ثابتة. ولم يُشر هنا إلى الوصايا مثل "لا تقتل، لا تسرق" فأن المسيح نفسه قال أنه جاء ليكمل وصايا الشريعة الأدبية هذه، وأضاف كثيراً إلى عمق معناها. أما الشريعة المشار إليها هنا فهي المتعلقة بالذبائح والتقدمات التي لم تعد ضرورية بعد أن تمَّت الذبيحة الأزلية الكاملة. "لأن الشريعة لم تكمل شيئاً" شأن كل شيء تمهيدي "ومن الجهة الأخرى" يقع "إيجاد رجاء أفضل" في المسيح المخلص التام
7: 21- 28 |
|
21لأَنَّ أُولَئِكَ بِدُونِ قَسَمٍ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً، وَأَمَّا هَذَا فَبِقَسَمٍ مِنَ الْقَائِلِ لَهُ: «أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إلى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ». 22عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِناً لِعَهْدٍ أَفْضَلَ. 23وَأُولَئِكَ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ مِنْ أَجْلِ مَنَعَهُمْ بالْمَوْتِ عَنِ الْبَقَاءِ، 24وَأَمَّا هَذَا فَمِن أجلِ أَنَّهُ يَبْقَى إلى الأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ. 25فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إلى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إلى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ. 26لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ 27الَّذِي لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا الشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ. 28فَإِنَّ النَّامُوسَ يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضُعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ الْقَسَمِ الَّتِي بَعْدَ النَّامُوسِ فَتُقِيمُ ابْناً مُكَمَّلاً إلى الأَبَدِ |
لأن أولئك صاروا كهنة بدون قسم، وَأَمَّا هَذَا فَبِقَسَمٍ الذي قال لَهُ: «أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إلى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ» ثم إن أولئك قد صاروا كهنة عدة إذ كان الموت يحول دون بقائهم وأما هذا فلكونه يبقى "إلى الأبد" له كهنوت لا يحول فلذلك هو قادر أن يخلص للغاية الذين يقتربون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم هذا هو الكاهن الذي يلائمنا- قدوس. بريء. زكي. متنزه عن الخطأة. قد تعالى عن السماوات لا حاجة له أن يقرّب كل يوم مثل رؤساء الكهنة ذبائح عن خطاياه أولاً ثم عن خطايا الشعب لأنه تمم هذا مرة واحدة عندما قرب نفسه فإن الشريعة تقيم أناساً ذوي ضعف رؤساء كهنة. وأما كلمة القسم التي عقبت الشريعة فتتميم الابن مكملاً إلى الأبد. |
لاحظ كيف يستخدم الكاتب من الآن فصاعداً في رسالته تعابير مثل "أفضل" فهو يأخذ من المسيحيين العبرانيين بعض الأشياء القديمة التي اعتزوا بها في طفولتهم، ولكنه لم يغفل إعطاءهم شيئاً "أفضل" عوضاً عنها مثل هذا الرجاء الذي "نقترب به إلى الله" وذلك غاية كل دين. ففي الشريعة القديمة كان رئيس الكهنة هو وحده الذي "يقترب" إلى الله. أما الآن فكل المؤمنين يدخلون وراء الحجاب "ثم بما أن ذلك" أي إيجاد الرجاء الأفضل "لم يحصل بدون قسم" بل كان بيمين عظيمة نطق بها الله تعالى "فعلى ذلك صار يسوع ضامناً لعهد أفضل" إذ لم يكن النظام القديم مقيداً بقيد كهذا والضامن هو الذي يتعهد بحدوث شيء. فالمسيح الصاعد إلى السماء يشهد بأن هذا لا بد أن يكون. والتأكيد ليس مقتصراً على المستقبل بل عن شيء حادث الآن، حاضر ولكن غير منظور "لأن أولئك" الكهنة اللاويين "صاروا كهنة بدون قسم وأما هذا" المشار إليه في النبوة "فبقسم ذلك الذي قال له" بفم نبيه في المزمور "أقسم الله ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" وقد كرر في هذا الملخص الأمر المهم الذي زاد الأمر وضوحاً للغاية أي أبدية الكهنوت وكان الكهنوت اللاوي وظيفة مدى الحياة، ولكن الحياة تنتهي عند حدّ. انتقل الكهنوت من الآب إلى الابن، ولكن الأسر تنقرض. أما كهنوت المسيح وحده فكان "قوة حياة لا تزول" (أنظر آية 16)
فقال "ثم أن أولئك" أي بني لاوي "قد صاروا كهنة عدة" لتوارثهم الكهنوت جيلاً فجيلاً "إذ كان الموت يحول دون بقائهم" ويمنعهم من الامتياز بعضهم عن بعض ومن إتيان أمر خالد الأثر "وأما هذا" أي المسيح "فلكونه يبقى إلى الأبد" كما جاء في آية المزامير "له كهنوت لا يحول" والكلمة اليونانية المترجمة "لا يحول" كلمة خصيبة بالمعنى. وأحد معانيها "الذي لا يمكن غزوه". فالكهنوت الأرضي تغزوه هجمات الموت أو هجمات المرض أو هجمات العدو، كما فعل البابليون أو الرومان في تحطيم الهيكل وأسر الكهنة أو قتلهم. أما الكهنوت الخالد في السمائيات فهو بمأمن عن كل غزو أو تهجم مما يدل على أبدية شفاعة يسوع وأهمية وساطته وكونه وجيهاً في الدنيا والآخرة. ومما يجدر بالذكر هنا أن كون أولئك الكهنة عدة ليس دليلاً على القوة بل بالعكس يشير إلى قلة فائدتهم. وأما وحدة المسيح أو تفرده فقد كانت علة قوته ومعلولها كما يتضح من الآية التالية التي لخص بها الأوجه الثلاثة التي تقوم بها أفضلية كهنوت المسيح فقال "فلذلك" أي لكونه (أولاً) قد ألغى النظام القديم وجاء بالنظام الجديد (وثانياً) تعين بالقسم (وثالثاً) كهنوته أبدي "هو قادر" وله منتهى السلطة "أن يخلص" لأن نصرة ذلك القائد البطل قائمة بحفظه أنفس الغير من الهلاك لا بإهلاكها "للغاية" أي أن خلاصه كامل لا تشوبه نقيصة وهو يتناول جميع "الذين يقتربون به إلى الله" كما أن عجلات القاطرة الكهربائية لا تتحرك ما لم تقترب وتتصل بالمجرى الكهربائي "إذ هو حي في كل حين" أي أن حياته ليست فقط خالدة بل يستطيع أن يبلغها كل إنسان في كل زمان ومكان لأنه وعد قائلاً "ها أنا معكم كل الأيام" ولم يقل "حتى انقضاء العالم" (متى 20:28) فقط "ليشفع فينا" ليس بالكلام بل بالعمل باتخاذه الناسوت الكامل للنيابة عن البشر. فالذين يتبعونه بالإيمان ينالون كمال الناسوت. بهذه الكيفية يشفع المسيح فينا وعند ما كان يدخل رؤساء كهنة اليهود إلى قدس الأقداس، كانوا يحملون معهم أسماء أسباط أمتهم، كأنهم يمثلون الأمة كلها أمام الله، وقد جاء في سفر الخروج ص 28 آية 29: "يحمل هرون أسماء بني إسرائيل في صُدْرة القضاء على قلبه عند دخوله إلى القدس للتذكار أمام الرب دائماً". فكان يدخل عن أمته شفيعاً. وقد أخذ المسيح إلى القدس السمائي، لا اسباط إسرائيل الإثنى عشر، بل أخذ الإنسانية الكاملة، إنسانية مَن كان فعلاً "إبن الإنسان" وممثل الجنس البشري
"هذا" أي من هذا النوع "هو الكاهن الذي يلائمنا" نحن البشر الخطاة الذين نحتاج إلى قوة خارجية لتنهضنا. فنحن نحتاج إلى فاد "قدوس" ليهبنا القداسة. والكلمة اليونانية المترجمة هنا "قدوس" تنطوي على القداسة الناشئة، لا عن الانفصال عن الحياة الإنسانية، بل عن تكميل التقوى في الحياة الإنسانية، تكميل الأخلاق. فالكلمة إذن تصف رئيس كهنتنا نفسه. ثم هو "بريء" ليبررنا. والكلمة المترجمة "بريء" تصف سلوكه واستقامته ونزاهته في معاملاته مع الآخرين و "زكي" ليطهرنا، والكلمة اليونانية تنطوي على التنزه عن كل شائبة أو شية تضاد الطهارة. وكان على رئيس الكهنة أن يتخذ التحوطات الكافية ضد النجاسة والدنس (لاويين 10:21-15)، وأن يتجنب أي اختلاط مع البشر مدى سبعة أيام قبل الاحتفال بيوم الكفارة العظيم. ولكن رئيس كهنتنا بل عيب، بحيث إذا مسَّ أبرص، لا يتدنس بهذه اللمسة، ولكنه يطهر الأبرص ذاته. وهذه الطهارة المنقية المحرقة هي التي نفتقر إليها في نجاستنا. (متنزه عن الخطاة) "فهو قد تسامى فوق ظلال ليالينا، ولن يقدر أن ينال منه الحسد والكراهية والألم والافتراء، ولا التعذيب". "قد تعالى عن السموات" ليجتذبنا إليه من الأرض ومن السفليات "لا حاجة له أن يقرب كل يوم مثل رؤساء الكهنة ذبائح" لأن الكثرة كثيراً ما تكون دليل الضعف كما رأينا "عن خطاياه أولاً" فأن المسيح كان بدون خطية "ثم عن خطايا الشعب" مرة في السنة "لأنه تمم هذا" أي تقريب الذبيحة العمومية "مرة واحدة" ووحدة تلك المرة دليل نفعها وقوتها "عند ما قرَّب نفسه" هذا هو السر وهو أن الذبيحة لم تكن عديمة القيمة كخروف الذبيحة مثلاً بل كانت ذات قيمة لا تثمن لأنها كانت نفس المسيح وقد شرح الرسول قيمتها فيما يلي. هذا هو الشفيع القادر أن يخلصنا "فأن الشريعة تقيم إنساناً ذوي ضعف رؤساء كهنة" فأي نفع يرجى من أولئك الضعفاء؟ "وأما كلمة القسم التي عقبت الشريعة" في النظام الجديد- نظام النعمة والحق "فتقيم الابن" المقتدر إذاً "مكملاً إلى الأبد" فلا يحتاج إلى من يقوم مقامه أو يخلفه. وفي هذه العبارة "الابن مكملاً إلى الأبد" تجتمع الحقيقتان البارزتان في طبيعته: أولاهما كرامة الابن الإلهية، ثم الترويض البشري في التجسد الذي انطوت عليه الكلمة (مكملاً). قارن ص 5آية 8 فهنا نرى النتائج السمائية للآلام في ص 5آية 8
- عدد الزيارات: 2108