Skip to main content

مقارنة بين الإبن ورئيس كهنة اليهود

صوّر في خيالاتك الذين كتبت لهم هذه الرسالة حين يسمعون القارئ يقول "رئيس كهنة" وقد كان لهذه الكلمة شأن كبير في نفس كل ناشئ فيدين إسرائيل. فأنه بعد انقضاء عصر ملوك بيت داود، تركزت كل أفكار الأمة في هيكلها بأورشليم، وكان رئيس الكهنة في نظر الشعب ممثل الأمة- ومثلهم مثل الأرمن في هذا العصر الذين وهم بلا عرش ويعيشون مبعثرين تحت حكومات مختلفة، يشعرون أن الكنيسة الوطنية وبطريك "اتشميادزين" مركز حياة الشعب. وربما يكون قد سمع القراء الأولون لهذه الرسالة أن هيكلهم قد تحزب وأن رئيس كهنتهم قد ذبح. وإذا كانوا قد تلقوا الرسالة قبل خراب أورشليم، فربما كانوا يشعرون بالأسى لأن إتّباعهم المسيح قد قطع وشائج الإتصال بأبناء جلدتهم وإخوانهم الذين لم يعودوا يقبلونهم في عبادتهم التي تركزت في رئيس الكهنة رمزها القائم. ثم تقرأ عليهم الرسالة فتشرق عليهم بفكرة جديدة ويرون أن يسوع نفسه هو رئيس كهنتهم يصنع بهم ما يصنعه رؤساء الكهنة للشعب!

وكان رؤساء الكهنة ينوبون عن الله لدى الشعب وعن الشعب لدى الله وباعتبار هذه الوظيفة كان رئيس الكهنة يقدم الضحايا ويشفع في الناس "حتى يكفر خطايا الشعب" ليس بدم حيوان لا قيمة له بل بأثمن دم في الكائنات إلا وهو دم نفسه

وستعود الرسالة مرة أخرى إلى موضوع الكاهن وذبائحه، ولكن الكاتب يذكر هنا كلمة أخرى عن قوة المسيح في إنهاض إخوته وقد قلنا أنه أصبح شبيهاً بإخوته "لأنه إذ قد ابتلي فيما تألم منه"كانت آلامه ناشئة عن بلايا وتجارب مستمرة

تألم خصوصاً في التجارب التي داهمته موعزة إياه أن يستخدم قوته لاجتناب الآلام التي أدت إلى الصليب،التجارب التي تنشأ حينما تتعارض إرادة الله مع الميول الطبيعية لاجتناب الألم. ومثل هذه التجربة ليست خطية،ويؤثر عن احد العلماء قوله :"كان المسيح معرضا"للتجربة تقترن دائما بغريزة تكون في بادئ الأمر سائغة أديباً أو مسموحا" بها. فالدافع في حدّ ذاته سائغ لا غبار عليه،هو دافع الإبقاء على الذات, الذي حدا بالمسيح إلى أن يرغب في تجنب آلام الصليب. وكان هذا الموقف تجربة لأن الرغبة الطبيعية تعارضت مع واجبه في قبول الدعوة ليكون للبشرية مخلصا. لكن المسيح لن يرضخ لهذه التجربة، فأنكر غريزة حفظ الذات على نفسه وبذل حياته حتى الموت ونتعلم من مثال المسيح، ومن الذين ساروا على نهجه أن التجارب ليست خطراً فقط بل قد تكون مصدر قوة أيضاً إلا أنها مؤلمة في كل حال (فهو) أي هذا الذي ابتلي وجرب (يقدر أن يسعف المبتلين) أي نحن المصابين ببلايا وتجارب بعضها ناشئ عن أحوالنا وبعضها عن طبائعنا الساقطة

وفي وسعنا أن نلجئ إليه في ثقة مطمئنة لأنه قد تجرّب وانتصر . ومن رضخ للتجربة لا يعرف قوتها الكاملة ،والذي يسقط يخضع في أول صراع. أما ذاك الذي لم يسقط قد أحس قوة المجرب كاملة، ويستطيع أن يقدّر ما نحن معرضون له من صعاب .وقد كتبت هذه الأقوال لرجال ونساء كانت الحياة قاسية جهمة أمامهم، فتألموا كثيراً بسبب إيمانهم وكادت تنهكهم تلك الآلام (انظر ص 3:12). فيصرخ الكاتب قائلاً: "تشجعوا وثابروا! فيسوع يفهم ويعرف عناء تحمل الآلام دون الانحراف عن إرادة الله!" ومن ذلك اليوم حتى الآن ثبتت لنا قدرته على "إسعاف المبتلين"

(من ثم) أي بعد أن أثبتنا أفضلية المسيح المطلقة (أيها الإخوة القديسون) وهنا ينهج الكاتب نهج سيده (انظر ص 11:2 ) في تسمية ذلكم النفر من تلاميذه "إخوة" وبعد ذلك يدعو الفريق الصغير من الإخوة الذي يكتب لهم رسالته"مقدَّسين" ذلك لأنه على الرغم من صعابهم وتجاربهم يؤمن أنهم زمرة الذين يقدسون المقدس (انظر ص 21:2 مرة أخرى)

"الشركاء في الدعوة السموية" والدعوة المسيحية سماوية، لا لأنها دعوة من السماء للإنسان وحسب (ولو أن هذا حق لا شية فيه) ولكن لأنها أيضاً دعوة لحياة تكمل في السماء، وتبدأ هنا في ميدان الروح

3: 1- 10

 

1مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ، 2حَالَ كَوْنِهِ أَمِيناً لِلَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضاً فِي كُلِّ بَيْتِهِ. 3فَإِنَّ هَذَا قَدْ حُسِبَ أَهْلاً لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى، بِمِقْدَارِ مَا لِبَانِي الْبَيْتِ مِنْ كَرَامَةٍ أَكْثَرَ مِنَ الْبَيْتِ. 4لأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَبْنِيهِ إِنْسَانٌ مَا، وَلَكِنَّ بَانِيَ الْكُلِّ هُوَ اللهُ. 5وَمُوسَى كَانَ أَمِيناً فِي كُلِّ بَيْتِهِ كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. 6وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَابْنٍ عَلَى بَيْتِهِ. وَبَيْتُهُ نَحْنُ إِنْ تَمَسَّكْنَا بِثِقَةِ الرَّجَاءِ وَافْتِخَارِهِ ثَابِتَةً إلى النِّهَايَةِ. 7لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ 8فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ 9حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. اخْتَبَرُونِي وَأَبْصَرُوا أَعْمَالِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. 10لِذَلِكَ مَقَتُّ ذَلِكَ الْجِيلَ، وَقُلْتُ إِنَّهُمْ دَائِماً يَضِلُّونَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي

مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، الشُرَكَاء في الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ تأملوا من هو في اعترافنا الرسول ورئيس الكهنة- أي المسيح يسوع وهو أمين لمن أقامه كما كان موسى أيضاً في جميع بيته فإن هذا قد حسب أهلاً لمجد أكثر من مجد موسى بمقدار ما لباني البيت كرامة أكثر من البيت لأن كل بيت يبنيه بان. وباني الكل هو الله. وأما موسى فقد كان أميناً في جميع بيته كخادم شهادة لما كان سيقال. وأما المسيح فكان أميناً كابن على بيته ونحن بيته إن تمسكنا بالثقة وفخر الرجاء ثابتاً حتى المنتهى. لذلك كما يقول الروح القدس: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. اخْتَبَرُونِي وَأَبْصَرُوا أَعْمَالِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. لِذَلِكَ مَقَتُّ ذَلِكَ الْجِيلَ، وَقُلْتُ إِنَّهُمْ دَائِماً يَضِلُّونَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي

"تأملوا" وجهوا إلتفاتكم إلي "من هو في اعترافنا الرسول ورئيس الكهنة" اللام للدلالة على الامتياز والتفرد وقد جمع الكاتب بين وظيفتي النبي والكاهن (أي الرسالة والشفاعة) وأوضح أن المسيح متفوق في كلتيهما على من سواه "وهو أمين لمن أقامه" رسولاً ووسيطاً أي للآب السموي "كما كان موسى أيضاً" أميناً "في جميع بيته" والإشارة هنا إلى ما جاء في سفر العدد 7:12 حيث ورد قوله "وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل شيء" أي في كل ما عهدت به إليه. وعلى كل فأن الكاتب أوضح لنا السبب الذي من أجله طلب إلينا أن نوجه أنظارنا إلى المسيح وهو قوله: "فأن هذا" أي يسوع المسيح المشار إليه "قد حسب أهلاً لمجد أكثر من مجد موسى" الذي مدحه الله لأنه كان أميناً في كل بيته، وكثيراً ما تشبه الكنيسة أو الجماعة بالبيت

وكان لدى أحبار اليهود أفكار شتى لمدح الله لموسى، فقال أحدهم: "يدعو الله موسى: أميناً في كل بيته- ولذلك احتل مرتبة تعلو فوق مراتب الملائكة أنفسهم". وقال آخر أنه حين دعي موسى "أميناً" كان معنى هذا أنه استحق أن يكون مستودع أسرار الرب. فإذا كان العبرانيون المسيحيون قد أسفوا وتألموا لأن "خلفاء موسى والذين احتلوا مجلسه" (أي كتبة اليهود وهم أشبه برجال الفقه والشريعة في هذا العصر) قد وقفوا منهم موقف العداء وطردوهم من جماعة موسى، فها هو ذا الآن أمامهم من هو أعظم من موسى

"بمقدار ما لباني البيت" وهو المسيح كلمة الله المبدعة "كرامة أكثر من البيت" الذي هو موسى لأن موسى لم يكن سوى فرد خادم من أفراد بيت الله يخدم ويدير ما لم يخلقه أو يبنيه

"وبأني الكل هو الله" فالمسيح بأني البيت لم يكن مجرداً من الذات الإلهية. وقد كان هو نفسه الباني لأنه قال الله تعالى للعالم كن فكان. راجع الفصل الأول وهو يشهد أن الله صنع به العالمين. وهذا يبين لنا جواز نسبة الخلق إلى الله أو إلى كلمته المتجسدة لأن كليهما واحد. ويتضح لك الفرق بين أمانة موسى وأمانة المسيح مما يأتي. قال "أما موسى فقد كان أميناً في جميع بيته" أي بيت الله "كخادم" أي أن أمانة موسى كانت أمانة رجل خادم يخضع لأوامر رئيسه ولا نصيب له في الإدارة. ثم أن أمانته كانت "شهادة لما كان سيقال" من وقت إلى آخر على سبيل الأمر

دعيت خيمة الاجتماع التي عبد فيها موسى وشعبه في البرية "خيمة الشهادة" وقد شهد كل النظام الموسوي بمعنى عميق جداً إلى شخص عتيد أن يأتي، هو مسيح الله، الذي شوهد موسى في حادثة تجليه في مجد يتحدث عن موت المعصوم البار، الذي رمزت إليه الذبائح العديدة في الخيمة التي أقامها موسى في البرية (لوقا 29:9- 31)

وبعبارة أخرى كان موسى خادماً مستعداً لأداء شهادة حسنة عن نصائح سامية لم يكن هو معطيها "وأما المسيح فكان أميناً كإبن على بيته" أي بيت الله. أي أن أمانة المسيح لم تكن كأمانة خادم بل كأمانة مدير العمل وصاحب المشروع وهو الحكمة الإلهية أو الكلمة الأزلية كما جاء في أمثال 22:8- 30 "ونحن بيته" أي بيت الله "إن تمسكنا بالثقة" أي إذا بقينا ثابتين في ثقتنا وإيماننا "وفخر الرجاء" والكلام في الأصل من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ومعطوف على الثقة فكأنه قال إن تمسكنا بثقتنا ورجائنا المفتخر "ثابتاً حتى المنتهى"

وقد قيل في المقدمة )في مقالنا عن "أغراض الرسالة"( أن أولئك العبرانيين المسيحيين الذين كتبت إليهم الرسالة، كانوا عرضة للخطر في أن يفقدوا رجاءهم البهيج القوي الذي أسندهم في الإضطهادات. وقد يكون هذا حالنا نحن، لأن استطالة الزمن من أقوى مقوضات الرجاء. ولكن الكاتب بقوله (حتى المنتهى) يذكّر أصدقائه أنه ليس مفروضاً عليهم أن يأملوا إلى ما لا نهاية، فهناك نهاية للرجاء حين يتحول عياناً واكتمالاً. وقد قال المسيح "في بيت أبي منازل كثيرة... إن مضيت أعددت لكم مكاناً" (يوحنا 2:14)

يفكر كاتب الرسالة في المسيح وفي موسى بنسبة علاقتهما ببيت الله. والكلمة "بيت" في هذا المقام (كما هو شأنها في اللغتين العربية والإنكليزية) لا تعني البناء بل "آل البيت". وبعد أن أنذر أصحابه- الذين هم اليوم من "أهل البيت"- لكيلا يفقدوا شجاعتهم ورجائهم، يعود بطبيعة الحال إلى مسلك "أهل البيت" في عصر موسى الذين أضاعوا رجاءهم، فضاع معه ميراثهم. وهو يلخص قصة فشلهم بألفاظ أحد المزامير:

"لذلك كما يقول الروح القدس" في مز 8:95-11. والكلام هنا استعطاف للعبرانيين. ومن مزايا هذا الكتاب أنه ينظر إلى ما وراء الشاعر البشري الذي أبدع المزمور، إلى الملهم الإلهي وذلك لأن العالم غير المنظور أعظم الحقائق دائماً في نظر هذا الكاتب. والاقتباس هنا مقتطف عن النص اليوناني للشطر الثاني من المزمور، الذي يفتتح بالدعوة إلى العبادة، وكان يستعمل كل سبت في العبادة بالمجمع (كما يستعمل اليوم في عبادة الصباح في كنيسة الغرب) منذ العصور الأولى. لذلك كان المزمور معروفاً لدى قراء الرسالة الأولين منذ حداثتهم:

"اليوم إن سمعتم صوته" أي صوت الله الذي يدعو الناس في جميع الأمكنة والأزمنة وربما بلغ مسامعكم هذا اليوم "فلا تقسوا قلوبكم" وأهم ما في هذه الآية المقتبسة استعطافه إياهم أن لا يقسوا قلوبهم "كما حدث حين الإسخاط يوم التجربة في البرية" والإشارة هي إلى حادثتين وقعتا في تاريخ الإسرائيليين لعهد تيهانهم في البرية إذ اسخطوا الله بشراهتهم وجربوه بتمردهم وعصيانهم حتى دعي المكانان اللذان وقعت فيهما تانك الحادثتان "مريبة" "ومسة" ومعناهما في العبرانية الإسخاط والتجربة "حيث جربني أباؤكم واختبروني" متجاوزين قول الله "لا تجرب الرب إلهك" وخطية المؤمن أو الشعب المختار إلى إلهه هي بمثابة تجربة الله أي امتحان لمعرفة مقدار صبره "وشهدوا أعمالي أربعين سنة" أي على رغم كونهم قد رأوا وشهدوا أعمالي أربعين سنة فأنهم قسوا قلوبهم وأغمضوا عيونهم عن رؤية آياتي "لذلك مقت ذلك الجبل" العاصي التائه في البرية "فقلت أنهم دائماً يضلون في قلوبهم ولم يعرفوا سبلي" مع أنني قد بسطتها لهم مراراً "حتى أقسمت في غضبي أنهم لن يدخلوا في راحتي" أي الراحة التي قد أعدتها لشعبي الذين يؤمنون بي ويحبونني. وقد كانت الإشارة الأولى إلى أرض فلسطين بعد انتهاء مدة التيهان أما الإشارة الحقيقية المهمة فهي إلى الراحة الأبدية

وقد إنتهت هنا الآية المقتبسة من مزمور 95 وأخذ الكاتب يطبقها على العبرانيين فقال "انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم" لأن الروح الشرير في الواحد قد تسري عدواها إلى الجسد كله "قلب عصيان شرير يرتد عن الله الحي" والكلمة اليونانية المترجمة "بعصيان" تعني (1) عدم الإيمان (2) المعصية. وذلك لأن عدم الإيمان يسوق دائماً إلى عدم الأمانة. وينذر الكاتب إخوانه ضد ما هو مناقض تماماً لصفة "الأمانة" التي لحظها في موسى وفي المسيح

3: 11- 18

 

11حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي». 12اُنْظُرُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي أَحَدِكُمْ قَلْبٌ شِرِّيرٌ بِعَدَمِ إِيمَانٍ فِي الاِرْتِدَادِ عَنِ اللهِ الْحَيِّ، 13بَلْ عِظُوا أَنْفُسَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ، مَا دَامَ الْوَقْتُ يُدْعَى الْيَوْمَ، لِكَيْ لاَ يُقَسَّى أَحَدٌ مِنْكُمْ بِغُرُورِ الْخَطِيَّةِ. 14لأَنَّنَا قَدْ صِرْنَا شُرَكَاءَ الْمَسِيحِ، إِنْ تَمَسَّكْنَا بِبَدَاءَةِ الثِّقَةِ ثَابِتَةً إلى النِّهَايَةِ، 15إِذْ قِيلَ: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ». 16فَمَنْ هُمُ الَّذِينَ إِذْ سَمِعُوا أَسْخَطُوا؟ أَلَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ بِوَاسِطَةِ مُوسَى؟ 17وَمَنْ مَقَتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً؟ أَلَيْسَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا، الَّذِينَ جُثَثُهُمْ سَقَطَتْ فِي الْقَفْرِ؟ 18وَلِمَنْ أَقْسَمَ لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتَهُ، إِلاَّ لِلَّذِينَ لَمْ يُطِيعُوا؟ 19فَنَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا لِعَدَمِ الإِيمَانِ

حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي». اُنْظُرُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي أَحَدِكُمْ قَلْب عصيان شِرِّير يرتد عن الله الحي، بل عظوا أنفسكم في كل يوم ما دام الوقت يدعى "اليوم" لكي لا يقسى أحدكم بغرور الخطية. فإننا قد صرنا شركاء المسيح إِنْ تَمَسَّكْنَا بِبَدَاءَةِ ثبوتنا حتى النهاية ما دام يقال «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ» فَمَنْ هُمُ الَّذِينَ إِذْ سَمِعُوا أَسْخَطُوا؟ أَلَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ على يد مُوسَى؟ وَمَنْ مَقَتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً؟ أَلَيْسَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا، الَّذِينَ سَقَطَتْ جُثَثُهُمْ فِي البرية؟ وَلِمَنْ أَقْسَمَ لَنْ يَدْخُلُوا في رَاحَتَهُ، إِلاَّ لِلَّذِينَ عصوا؟ فَنَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يستطيعوا الدخول بسبب العصيان.

 

"بل عظوا أنفسكم" وكان هيناً على المسيحيين العبرانيين أن يكونوا راضين عن أنفسهم لأنهم تألموا كثيراً بسبب دينهم، كما هو هين على أية كنيسة أن تفخر لأنها بذلت في الماضي كثيرين من الشهداء أو المبشرين أو الرسل. ونصيحة الكاتب هنا لأولئك العبرانيين أن يتخذوا موقفاً ينقدون فيه نفوسهم، لا موقف الرضى عن الذات. فلا يركنون إلى الماضي، بل يعظون أنفسهم لبذل مجهود روحي جديد. وكانت هذه خطة بولس الرسول (فيلبي 13:3 و14) حين قال لصحبه "ناسين ما هو وراء وممتدين إلى ما هو قدام، نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع". ولزام أن يكون هذا المجهود يومياً بدليل قوله بعد ذلك:

"في كل يوم ما دام الوقت يدعى "اليوم" قوله "اليوم" إشارة إلى لفظة "اليوم" الواردة في قوله "اليوم إن سمعتم صوته الخ". وأن صوت الله يدعو الناس جميعهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. وما دام الإنسان يقول "اليوم" فأن صوت الله قد يرن في إذنه "لئلا يقسى" فالناس قد يقسون أنفسهم، أو يسمحون للإعتبارات الدنيئة أن تقسي قلوبهم ضد دعوة الله، ومتى قسينا قلوبنا طويلاً حل بنا ما حل بفرعون ويهوذا وغيرهما أي أنهم لم يعودوا قادرين على السماع "أحدكم" وهنا أيضاً نرى المعلم المسيحي ينحو نحو يسوع في التفكير في تلاميذه كأفراد، لا كسامعين أو جماعة "بغرور الخطية" وعدم مقدرتها على السماع كانت النتيجة الأخيرة لغرور الخطية. فلنحذر إذاً "فأننا قد صرنا شركاء المسيح إن تمسكنا ببداءة ثبوتنا" لأن الله يشترط على المؤمن المشارك للمسيح أن يقدم ولا يحجم إذاً أن نتمسك ببداءة ثبوتنا "حتى النهاية" لأن الجهاد لا ينقضي حتى النفس الأخير

والكلمة اليونانية المترجمة عنها "ثبوت" من الألفاظ الشيقة حقاً. وسنعود إلى شرحها في الفصل الحادي عشر ( ص 1:11) حيث ترجمت بلفظ الإيقان. وحسبنا القول هنا أن معناها الأصلي يقيد الشيء الساند أو المتركز فوقه. ثم جرى معناها ليفيد الشيء الذي يركن الإنسان إليه أو يقوم عليه، أي عقيدته الراسخة أو ثقته المكنية. هذا هو ما يجب أن نتمسك به. بل هو يستمر "ما دام يقال اليوم" أي دائماً. وأن الله يظل يقول لنا: اليوم "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما حدث حين الإسخاط" حاول الكاتب أن يبسط التعاليم التي تنطوي عليها هذه الآية بإيضاح أتم ويبين فشل الإسرائيليين. "فمن هم الذين إذ سمعوا اسخطوا؟ أليس جميع الذين خرجوا من مصر على يد موسى؟" (جاءت القصة في سفري الخروج والعدد) ولهذه القصة رسالة خاصة للذين شرعوا في انتهاج الطريق الروحي، ذلك لأن الذين فشلوا في بلوغ أرض الموعد كانوا ثبّتوا وجوههم مختارين لاقتفاء آثار موسى، وخبروا خلاصاً عجيباً من ربّهم بعد إذ عبروا البحر الأحمر الذي قطعهم عن حياتهم القديمة كعبيد في أرض مصر. وبعد كل هذا فشلوا في جهادهم كما يحتمل أن يفشل أولئك العبرانيون المسيحيون الذين أرسلت إليهم الرسالة، أو كما يحتمل أن يفشل كل واحد منا. فما أحرانا باليقظة والحذر! "ومن مقت أربعين سنة؟ أليس الذين أخطأوا" أي ألم تكن خطيتهم سبب مقت الله لهم- أولئك "الذين سقطت جثتهم في البرية" ولم يدخلوا أرض الموعد أي فلسطين. وذراريهم فقط هم الذين اكتحلت عيونهم برؤية أرض الموعد التي وعد الله بها ذرية إبرهيم

"ولمن اقسم أنهم لن يدخلوا في راحته إلا للذين عصوا فنرى أنهم لم يستطيعوا الدخول بسبب العصيان" أو عدم الإيمان كما قلنا قبلاً. وقد أراد الكاتب أن يبين للعبرانيين أنهم كانوا في خطر حرمان الدخول إلى راحة أشهى من راحة فلسطين- راحة الله الأزلية التي قد أعدها تعالى لجميع الذين يؤمنون به ويتمسكون ببداءة إيمانهم حتى النهاية. أصغوا "اليوم" إلى صوت تعالى القائل "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:11)

 

4: 1- 8

 

1فَلْنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِالدُّخُولِ إلى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ! 2لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً قَدْ بُشِّرْنَا كَمَا أُولَئِكَ، لَكِنْ لَمْ تَنْفَعْ كَلِمَةُ الْخَبَرِ أُولَئِكَ. إِذْ لَمْ تَكُنْ مُمْتَزِجَةً بِالإِيمَانِ فِي الَّذِينَ سَمِعُوا. 3لأَنَّنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ نَدْخُلُ الرَّاحَةَ، كَمَا قَالَ: «حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي!» مَعَ كَوْنِ الأَعْمَالِ قَدْ أُكْمِلَتْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. 4لأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ عَنِ السَّابِعِ هَكَذَا: «وَاسْتَرَاحَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ». 5وَفِي هَذَا أَيْضاً: «لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي». 6فَإِذْ بَقِيَ أَنَّ قَوْماً يَدْخُلُونَهَا، وَالَّذِينَ بُشِّرُوا أَوَّلاً لَمْ يَدْخُلُوا لِسَبَبِ الْعِصْيَانِ، 7يُعَيِّنُ أَيْضاً يَوْماً قَائِلاً فِي دَاوُدَ: «الْيَوْمَ» بَعْدَ زَمَانٍ هَذَا مِقْدَارُهُ، كَمَا قِيلَ: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ». 8لأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَشُوعُ قَدْ أَرَاحَهُمْ لَمَا تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَوْمٍ آخَرَ

فلنخشَ أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الوَعْد بِالدُّخُولِ إلى رَاحَتِهِ يرى أحدكم أنه قد خاب. لأننا نحن أيضاً قد بشرنا كأولئك. وأما هم فلم تنفعهم كلمة الخبر لأنها لم تكن ممتزجة بالإيمان عند الذين سمعوها. إذ أننا نحن الذين آمنا ندخلن الراحة كما قال «حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي!» مع أن الأعمال أكملت منذ إنشاء العالم لأنه قال في موضع عن اليوم السابع ما يأتي: «وَاسْتَرَاحَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ». وقال في موضع آخر: «أنهم لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي». فيما أنه قد بقي للبعض أن يدخلوها حالة إن الذين بشروا أولاً لم يدخلوها بسبب العصيان فقد عاد فحدد يوماً قائلاً في (مزامير) داود "اليوم" أي بعد زمان هذا مقداره- كما قيل سابقاً «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ». فإنه لو كان يشوع قد أراحهم ما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر.

"فلنخش" معتبرين بما وقع للإسرائيليين "أنه مع بقاء الوعد بالدخول إلى راحته" أي مع وجود تلك الدعوة حتى هذا اليوم. ويؤخذ من عبرة تاريخ إسرائيل أن موعد الله لشعبه لم يكمل تماماً بدخولهم أرض كنعان (فلسطين)، ولكن يقول الكاتب أن الموعد بالدخول إلى الراحة ما يزال قائماً. ومناطه الإيمان، والإيمان وحده. وبابه مفتوح لنا بشرط الإيمان هذا. فلنعتبر بخيبة أبائنا ونؤمن بالله. هذا هو مدار فكرة الكاتب في هذا المقام "يرى أحدكم" أي يظهر لله وللناس، ومرة أخرى يستعمل الكاتب كلمة "أحدكم" مما يدل على أن من واجب الراعي أو المعلم المسيحي أن يعنى بكل نفس على أفراد "أنه قد خاب" فحرم التمتع بذلك الوعد أو الدعوة كما خاب الذين استنقذوا من أرض مصر. وفي هذا المظهر الواحد كان الإسرائيليون في مصر والمسيحيون الذين كتبت لهم الرسالة في مكانة واحدة. فكلاهما تلقَّى رسالة مفرحة طيبة تنبئ أن الله يدعوهم ليتبعوا منقذاً ويثقوا فيه وينتقلوا من حياة العبودية إلى حياة الطاعة الحرة. ووضع أمام كليهما رجاء الراحة في أرض موعود بها. والمؤلف يبسط هذه المقارنة أمام قارئيه بقوله: "لأننا نحن أيضاً قد بشرنا" بالدعوة إلى الراحة "كأولئك" الإسرائيليين في زمن موسى "وأما هم فلم تنفعهم كلمة الخبر" أي دعوة الله إياهم إلى راحته وهم لم يكونوا كالوثنيين الذين لم يسمعوا دعوة الله. بل قد سمعوها، ولكن انتهى الأمر عند هذا الحد. اكتفوا بسماع ما قاله الله، ولكنهم لم يؤمنوا به، فلم تنفعهم الكلمة "لأنها لم تكن ممتزجة بالإيمان عند الذين سمعوها" مما يدل على أن شرط حصول الخلاص هو اجتماع نعمة الله المجانية مع إيمان الإنسان إيماناً بلا قيد

وقد توقع الكاتب هنا أن يعترض البعض عليه بقولهم "ما هذه الراحة وما علاقتها بنا أو بأي شعب آخر غير الإسرائيليين" فقال "إذ أننا نحن الذين قد آمنا" أي الذين امتزجت عندنا كلمة الخبر بالإيمان "ندخلن الراحة" أي لابد لنا من الدخول في الراحة السموية والواقع أننا من راحة اختبارية داخلونها الآن "كما قال" والبرهان الآتي هو من الوجهة السلبية وهو قوله "حتى أقسمت في غضبي أنهم لن يدخلوا راحتي" فنستنتج من هذا أنه كان يمكنهم أن يدخلوا لو شاءوا ولكنهم قصروا. ولأن الموعد لم يكمل ولم يسحب فأنه ما يزال قائماً لشعب الله وأن في وسع غيرهم أن يفوزوا بالدخول. ثم أن أولئك القوم لم يكونوا أول الناس الذين خابوا إذ لم يكن أحد قد دخل تلك الراحة "مع أن الأعمال" أي أعمال الخلق "اكتملت منذ إنشاء العالم" فكانت راحت السبت مرسومة منذ البدء أي قبل موسى بألوف من السنين وكان لكل جيل ذي إيمان أن يدخلها ويتمتع بها

ومن ثمَّ نعرف ما هية المعنى الداخلي للموعد القائل أن شعب الله يدخلون إلى الراحة. فهم يدخلون إلى راحته (كما يقول مزمور 95) وراحته هي رضاؤه المستمر في تكميل عمل خليقته. وعند ما أخرج الله الجيل الجاحد، من راحته، كان هو نفسه موجوداً في راحته، والذي حال بينهم وبين الدخول إنما جحودهم وعدم إيمانهم، وليس التقصير من جانب الله الذي أعدَّ الراحة

وقد أيد الكاتب هذه الحجة بآيتين إحداهما من سفر التكوين والأخرى من المزامير. فقال "لأنه قال في موضع" أي في تكوين 1:2 "عن اليوم السابع ما يأتي: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله" أي أنه تعالى فرغ من أعمال الخلق. وليس المقصود من الراحة هنا ضد التعب لأن الله لا يتعب ولا يحتاج إلى راحة أو نوم. قال أشعياء "أما عرفت أم لم تسمع إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا. ليس عن فهمه فحص" (أشعياء 28:40) وقال أيضاً "هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب. هوذا الجزائر يرفعها كدقة" (أشعياء 15:40) على أن بين حالتي الخلق والانقطاع عن الخلق فرقاً وهو المشار إليه بقوله "واستراح الله" فراحة الله هي حالة مطوبة. هذا هو مفاد الآية الأولى

"وقال في موضع آخر أنهم لن يدخلوا راحتي" مما يدل على أن في وسع الناس أن يدخلوا في تلك الراحة وأنه من الممكن أيضاً أن يخيبوا عنها. وهذه الآية تمهيد لقوله "فبما أنه قد بقي للبعض أن يدخلوها" والمقصود من لفظة البعض هنا كل من أراد أن يتمم شروط الإيمان- وهي شروط روحية لنيل فوائد روحية. لأن المقصود "بالراحة" في سياق الكلام كله وجود المؤمنين في حالة مطوبة في العالم الآخر

وقد كتب كاتب يهودي آخر معاصر لرسالتنا ما يقرب من فكر الرسول فقال: "لأن الفردوس مفتوح لكم، وشجرة الحياة مغروسة، والمستقبل معدُّ، والخير وفير، والمدينة مشيدة، والراحة مهيأة" (4 عزرا 52:8) ولكي نعود إلى الأسباب التي تحملنا على الإيمان بأن موعد الراحة ما زال قائماً، لا بد لنا من إلقاء نظرة أخرى على تاريخ شعب إسرائيل الذي بُشر بمنحة راحة الله

بما "أن الذين بُشروا أولاً لم يدخلوها بسبب العصيان" في عهد موسى "فقد عاد" في عهد داود النبي "فحدد يوماً" إتماماً للوعد بالقبول "قائلاً في مزامير داود "اليوم"- أي بعد زمان هذا مقداره" وهو الزمان الذي بين موسى وداود أي بضعة قرون "كما قيل سابقاً" في الآية التي أوردناها مراراً "اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم"

ورب معترض يسأل "ألم يتمم يشوع خليفة داود هذا الوعد بإدخاله بني إسرائيل إلى أرض الراحة بعد عنائهم العظيم مع أن يشوع جاء بعد موسى وقبل داود؟" نقول كلا "فأنه لو كان يشوع قد أراحكم" بإدخالهم أرض كنعان "ما تكلم" الله "بعد ذلك عن يوم آخر" في زمن داود كما رأينا سابقاً. فالنتيجة أنه لا شعب الإسرائيليين في زمان موسى، ولا القبائل التي كانت بقيادة يشوع، ولا اليهود في زمان داود دخلوا في الراحة الموعدة.فالوعد باق إذاً كما كان لمن يطالب به "إذاً لا يزال لشعب الله" المؤمنين الذين يكملون بالفعل المعنى الروحي لهذه العلاقة. ولا شك أن المسيحيين العبرانيين الذين عهدوا نفسهم شعب الله وخشوا الحرمان على أيدي سلطات أمتهم، قد جذلوا وطربوا أن يعرفوا الآن أنه ما يزال لشعب الله "راحة سبت" كالراحة المشار إليها في تكوين 1:2. ليس سبتاً مفرزاً للراحة بل سبتاً للحياة. وهذا كما قلنا نعمة من نعم الحياة الأخرى، ولكنه أيضاً حقيقة إختبارية هنا على الأرض لشعب الله حينما يدخلون إلى راحة الخلاص.

4: 9- 16

 

9إِذاً بَقِيَتْ رَاحَةٌ لِشَعْبِ اللهِ! 10لأَنَّ الَّذِي دَخَلَ رَاحَتَهُ اسْتَرَاحَ هُوَ أَيْضاً مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا اللهُ مِنْ أَعْمَالِهِ. 11فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هَذِهِ عَيْنِهَا. 12لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إلى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. 13وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا. 14فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. 15لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. 16فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ.

إذاً لا يزال لشعب الله راحة سبت لأن من "دخل في راحته" فقد استراح هو أيضاً من أعماله كما استراح الله من أعماله. فَلْنَجْتَهِدْ إذاً أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ في مثل ذلك العصيان عينه. لأن كلمة الله حية فعالة أمضى من كل سيف ذي حدين نافذة حتى مفرق النفس والروح أوصالاً ومخاخاً ومميزة لأفكار القلب ونياته. وليس في الوجود خليقة مستترة أمامه بل كل شيء عار معروض لعيني ذلك الذي له معنا حساب. فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات يسوع ابن الله فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ إذ ليس رئيس كهنتنا ممن لا يستطيع أن يرثي لضعفاتنا بل جرب في كل شي مثلنا بلا خطية. فلنتقدم إذاً بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه".

 "لأن "من دخل في راحته" تعالى "فقد استراح هو أيضاً من أعماله كما استراح الله من أعماله" أي أن النفس لا تعود تطلب الخلاص من أعمالها فكأنها تفرغ من مساعيها التي تقوم بها إلتماساً للخلاص وتعتمد على عمل الله الذي تم بيسوع المسيح الأمر الذي يهب النفس سلاماً ويمكنها من التمتع براحة السبت حتى هنا على الأرض. ولسنا نعرف كيف تكون هذه الراحة في الحياة الأخرى. وقد قال فيلو الفيلسوف اليهودي أنه لا يشترط في راحة الله أن تكون توقفاً عن عمل الخير، بل "جهداً خالياً من العناء والإجهاد والآلام، يبذله الإنسان في راحة مطلقة.... والذي يخلو من الضعف، لا يقف عند الراحة، ولو كان يحرّك كل الأشياء". ورسالتنا تغضُّ الطرف عن هذه الإفتراضات ولكنها تبين في جلاء أن الراحة المقصودة روحية، في راحة الله

"فلنجتهد إذاً أن ندخل في تلك الراحة" ههنا شبه تناقض ظاهري إذ كيف يختلف هذا الإجتهاد عن الأعمال التي يستريح منها المؤمن؟ الجواب أن الإيمان هو الشرط الوحيد المطلوب إتمامه وهو يقتضي الإستسلام إلى الله بالنفس والجسد والروح لا مجرد الرضى العقلي. فهذا الإجتهاد إذا مرتبط بالإيمان الذي هو الشرط الوحيد لدخول راحة الله. ولا مجال لراحة خارجية في معزل عن تناسق المؤمن مع الله. وهذا التناسق ينتج جهداً، ولكنه شرط للراحة الناشئة عن الإنس مع الله

سقط الإسرائيليون كافة، ولكن الكاتب المسيحي يفكر في الأنفس فرادى حين يقول "لئلا يسقط أحد" هذا هو روح المسيحية، الروح الذي يلهم الراعي ليسعى إلى البرية وراء خروف واحد ضلَّّ وشرد. "لأن كلمة الله" عن طريق رسله وأنبيائه في القديم، مثل موعد الراحة لشعبه الذي سلف ذكره. وكلمته عن طريق رسله وأنبيائه في عصر الكاتب (أو في عصرنا نحن) مثل رسالة الدعاة المسيحيين التي بدَّلت حياة الذين أرسلت إليهم هذه الرسالة، وكلمته التي لم ينطق بها بصوت بشري، بل تعمقت في قلب أي إنسان "حية" فهي إذاً محيية للمؤمن ومميتة للماضي لأن علامة الحياة ليست مجرد الوجود (كوجود حجر مثلاً)، ولا حتى الوجود إلى الأبد، بل الحركة الناشطة. لذلك كانت هذه "الكلمة الحية" "فعالة" أيضاً، كما عرف القراء الأولون لهذه الرسالة. لأنهم، والكاتب معهم، قد تجددوا رجالاً ونساء بالمناداة بهذه الكلمة. فألفوها، كما يلفاها كل الصاغين إلى صوت الله "أمضى عن سيف ذي حدين". وقد قال الفيلسوف اليهودي فيلو أن قوة العقل المميزة السريعة أشبه بسيف من لهيب في يد الشاروبيم الحارس لباب جنة عدن بعد طرد آدم وحواء منها، سيف يفصل بين البركة والنقمة، بين حياة الطهر وحياة النجاسة. وقد لجأ أحد صحابة المسيح إلى هذه الإستعارة حين شهد سيده في مجده، فقال معبراً عن القوة المحيية في كلمات ربه "وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه" (رؤية 16:1). وحدّة سيف الكلمة الإلهية "نافذة حتى مفرق النفس والروح" أي إلى أعماق الوجدان إذ من يعلم أسرار النفس أو الروح وبالأولى أسرار نسبة الأولى على الثانية واتصالهما معاً؟ فكلمة الله تخترق حتى نقطة اتصالهما معاً "أوصالاً ومخاخاً" أي إلى أوصال النفس والروح ومخاخهما. والكلام مجازي ومعناه أن كلمة الله تصل إلى مخادع النفس وتشَّرحها كما يشرّح الجراح الجسد وهي "مميزة لأفكار القلب ونياته"

"وبالقلب" نبلغ الذروة، وسبق للكاتب أن عزا علة الفشل البشري إلى "قلب شرير بعدم إيمان" (عب 12:3) وكان تحذيره ضد تقسية القلب، وذلك لان القلب هو مركز الحياة الأدبية الشخصية

والأوصاف الخمسة التي خلعت بالتتابع على "الكلمة"- حية، فعّالة، أمضى، نافذة، مميزة، تبين في إيضاح قوتها على معالجة قلب الفرد. فهناك انتقال خطوة فخطوة من التعميم إلى التخصيص الفردي:

ولحياة تتميز بالحركة والنشاط، وتتطور الحركة فتصير فحصاً داخلياً ينفذ على دعائم كياننا ووجودنا، وليس هذا أثراً من آثار المعرفة العلمية هو تمييز، تكون فيه كلمة الله المميزة قوة أدبية تحكم علي مشاعر القلب وتتوغل إلى مخادعه

والله الذي تنير كلمته كل شيء أمامها في قلب الإنسان البشري، وتتوغل إلى أفكار النفس ومخادعها، هو إله الدينونة النهائية للكون. "وليس في الوجود خليقة مستترة أمامه بل كل شيء عار معروض" ولفظة "معروض" في الأصل اليوناني مأخوذة عن كلمة معناها رد العنق أو ليّه إلى الوراء لوضع السكين عليه. فكلمة الله هي أشبه بسيف مسلول على الأعناق وليس للإنسان قوة على النجاة منه لأن عنقه مكشوف لحد ذلك السيف ومعروض "لعيني ذلك الذي له معنا حساب" والفرق بين هذا اليوم ويوم الحساب هو أننا نجهل اليوم أو نتجاهل أن الله يرى، وأننا بدونه تعالى معدومون كل نصير، وأن السيف مسلول فوق أعناقنا

  • عدد الزيارات: 1991