الجماعة التي كُتبت إليها الرسالة
كانت فيلبي في زمن الدولة الرومانية أهم مدن مكدونية. وهي واقعة في سهل خصب ترويه مياه كانكيتس النهر الصغير الجميل. وسميت فيلبي باسم الملك فيلبس أبي الملك اسكندر المعروف بذي القرنين. وبالقرب من هذه المدينة مناجم كان الملك فيلبس يستخرج منها ذهباً وفضة حتى لم يبقَ فيها في زمن الرسول إلا الشيء القليل. على إن مركزها كان مهماً لوقوعها على إحدى الطرق الكبيرة التي أنشأها الرومان. وأهمية طريق فيلبي قائمة بكونها طريقاً عاماً للجيوش الرومانية ولنقل المتاجر بين بلدان كثيرة في آسيا وبين رومية نفسها. وكأهمية السويس اليوم لوقوعها على الطريق بين الهند وأوربا كذا كانت أهمية فيلبي قديماً لوجودها على طريق توصل بين آسيا وأوربا. وفي زمن الإمبراطور أوغستوس- وهو الذي ولد يسوع في زمانه- تأسست في هذه المدينة مستعمرة رومانية. أصبح لأهاليها نفس الحقوق التي كان يتمتع بها سكان رومية، وأقيم عليها حكام رومانيون استطاعوا أن يجعلوها من جهة معيشة أهلها وحياتهم، كجزيرة رومانية صغيرة في وسط ذلك المحيط اليوناني، بما يدخل إليه من التجار القادمين من جهات آسيا.
وكانت فيلبي أول مدينة أوربية زارها بولس الرسول بعد الرؤيا الشهيرة التي رآها في آسيا الصغرى إذ تمثل رجلاً يقول له (اعبر إلى مكدونية وأعنّا) وكانت هذه آخر الحوادث الإلهية التي أرشد بها اللّه التلاميذ إلى أوربا والغرب. وللحال عبر الرسول إلى مكدونية ووصل إلى فيلبي أولاً كما ترى ذلك مفصلاً في أعمال 16: 6- 12 وكانت هذه الزيارة حوالي سنة 52 بعد ولادة المسيح أي بعد موته وقيامته بأقل من عشرين سنة.
وترى في الآيات التي تلي ذلك (أعمال 13:16- 40) تفصيل ما وقع لبولس في تلك المدينة ولا سيما ما جرى له مع رجل السلطة المحلية وما عاناه من الصعاب.
ونقرأ في أعمال الرسل عن تنصر ثلاثة أشخاص من فيلبي وهم ليدية التاجرة من آسيا، وعبدة يونانية وحارس سجن روماني، فهؤلاء يمثلون الأجناس الثلاثة الرئيسية في المدينة أي الأسيوي واليوناني والروماني ولكن لولا هذه الرسالة وما ورد في غيرها من الرسائل عن فيلبي لما حصلنا على صورة عامة من النجاح الذي رافق مار بولس في تبشيره في فيلبي وكان ذلك النجاح عظيماً جداً فإن المهتدين لم يكونوا فقط كثيرين في العدد بل كانوا أيضاً مخلصين جداً في إيمانهم فإن كلمة الله كانت قد دخلت قلوبهم فكان اهتداؤهم عن إخلاص وكانوا يجتهدون في محو خطاياهم وإنما فضائلهم.
وهكذا قيل أيضاً عن أهل تسالونيكي وهي مدينة أخرى في مكدونية زارها بولس الرسول وفي الواقع أن الرسول سمى كنيستي فيلبي وتسالونيكي وبضع مدن أخرى بعد زيارته لها ((كنائس مكدونية)) ولم يكن ليذكرها إلا وقلبه يفيض عطفاً عليها وحناناً إلى أهلها وشكراً لهم. ولما ذهب جنوباً إلى أثينا كان يحن إليهم حنيناً عظيماً وقد كتب إليهم رسالتيه إلى أهل تسالونيكي. ثم ذهب إلى كورنثوس ورفض أن يكون عالة على مسيحي تلك المدينة لأن أهالي فيلبي وغيرها من مدن مكدونية ظلوا يرسلون إليه الإعانات من وقت إلى آخر مدة عدة سنوات وليس ذلك فقط بل أن أهالي فيلبي كانوا قد شرعوا يرسلون إليه الإعانات حالما غادرهم ذاهباً إلى تسالونيكي (فيلبي 4: 16) والظاهر أن كنائس مكدونية كانت مشهورة بكرمها العظيم فإنها لم تكن تعول بولس فقط- باعتبار أنه أبوها - بل لما اقترح بولس جمع التبرعات المالية لإعانة مؤمني أورشليم الفقراء كأن أهالي فيلبي وغيرها من مدن مكدونية أول من سخوا بالأموال. وتجد في2 كو8: 1- 5 وصف غيرتهم وحماستهم في سبيل ذلك. قال الرسول:-
"ثم نعرفكم أيها الأخوة نعمة اللّه المعطاة في كنائس مكدونية. انه في اختبار ضيقة شديدة فاض وفور فرحهم وفقرهم العميق لغنى سخائهم. لأنهم أعطوا حسب الطاقة أنا أشهد وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم. ملتمسين منا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة وشركة الخدمة التي للقديسين" (2 كو 8: 1- 5)
وبعد أن أخذ بولس هذه التبرعات إلى أورشليم حصل له انزعاج هناك بسبب اليهود كما هو معروف وتعرض رجال السلطة الرومانية للأمر فسجنوا بولس ثلاث سنوات في قيصرية. فلما رُفِعَ أمره إلى قيصر أخذ إلى إيطاليا فجرى له في أثناء تلك السفرة وقائع كثيرة فإن سفينته انكسرت عند ما لطا ولكنه نجا ووصل أخيراً إلى رومية. ويظهر ان مراسلاته مع أهالي فيلبي في هذه السنوات كانت منقطعة إلى أن انقطعت أخيراً ولكن حبهم له وشوقهم إليه لم ينقصا فلما علموا عنوانه في رومية عادوا فكتبوا إليه واستأنفوا أرسل الإعانات إليه فامتلأ بذلك فرحاً. والظاهرة أن سبب انقطاع مكاتباتهم عنه كان عدم معرفتهم عنوانه. أما رسالته إليهم وهي الرسالة التي نحن بصددها فكانت تفيض محبة وفرحاً وشكراناً. وهاك ما كتبه الرسول بهذا الشأن:-
" ثم أني فرحتُ بالرب جداً لأنكم الآن أزهر أيضاً مرة اعتناؤكم بي الذي كنتم تعتنونه ولكن لم تكن فرصة. ليس أني أقول من جهة احتياج فأني قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه.... غير أنكم فعلتم حسناً إذ اشتركتم في ضيقتي. وأنتم أيضاً تعلمون أيها الفيلبيون أنه في بداءة الإنجيل لما خرجت من مكدونية لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا انتم وحدكم. فأنكم في تسالونيكي أيضاً أرسلتم إليّ مرة ومرتين لحاجتي. ليس أني اطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (فيلبي4 : 10و11و14- 17).
وتجد في هذه الآيات أيضاً إشارة إلى الكرم الذي أظهروه للرسول بولس مدة عدة سنوات (أي منذ ذهابه إلى تسالونيكي سنة52 للميلاد إلى تاريخ إرسال عطاياهم الأخيرة إليه حوالي سنة 62 للميلاد).
فالرسالة إلى أهالي فيلبي من أدل رسائل بولس الرسول على الفرح والاغتباط مع أنه كتبها إليهم وهو يرسف في قيوده.
- عدد الزيارات: 1775