Skip to main content

الفصلُ الرَّابِع وصفاتٌ كِتابِيَّةٌ للتَّواصُلِ معَ الله - التواصُلُ مع أنفُسِنا

الصفحة 3 من 3: التواصُلُ مع أنفُسِنا

التواصُلُ مع أنفُسِنا

كانَ هُناكَ رجُلٌ يَعيشُ كناسِكٍ في عُزلَةٍ، وقامَ بِزِيارَةٍ لمكتَبِ البَريد القَريب من صومَعَتِهِ التي كانَ يعيشُ فيها. وهُناك، إلتَقى بِرَجُلٍ كانَ يُغادِرُ مكتَبَ البَريد، حامِلاً رُزمَةً من الرَّسائِل، مُبتَهِجاً بِكَونِهِ قد وصلَتْهُ هذه الرٍِّسائِل الكثيرة كُلَّها. فسألَهُ النَّاسِكُ، "متى كانت آخِر مرَّة إستَلمتَ فيها رِسالَةً من نفسِكَ لِنفسِكَ؟"

أليسَ هذا السؤالُ مُثيراً للعَجَب؟ فكم من الوقتِ مضى منذُ أن سمِعتَ رسالَةً من نفسِكَ لنَفسِكَ آخِرَ مرَّة؟ فأنتَ تسمَعُ من الآخرِين، ولكنْ كم مرَّ من الوقتِ منذُ أن سَمِعتَ من نفسِكَ؟ وهل مُمكِناً أن يسمَعَ الإنسانُ رسالَةً من نفسِهِ؟ هل تَعتَقِدُ أنَّكَ إذا تكلَّمتَ معَ نفسِكَ تَكُونُ مجنُوناً؟ مرَّةً سَمِعتُ أحدَهُم يقُولُ، "أنا أتكلَّمُ معَ نفسِي لأنَّ هذا هُوَ الوَقتُ الوَحيدُ الذي أتكَلَّمُ فيهِ معَ شخصٍ ذَكِيّ، أو أتكلَّمُ عن شَخصٍ ذَكِيّ."

إنَّ السؤالَ الذي طَرَحَهُ النَّاسِكُ الذي يعيشُ في العُزلَة، يُبرِزُ الإنضباطَ الرُّوحي بالإستِماعِ إلى النَّفس، وبِوَعي ما يجري في عقلِكَ وذِهنِكَ. وهذا ينسَجِمُ معَ الكلمات التي كتبَها داوُد: "تَكَلَّمُوا في قُلُوبِكُم على مَضاجِعِكُم." (مَزمُور 4: 4). عندما نتأمَّلُ بصَمتٍ، مُهَدِّئِينَ قُلُوبَنا في داخِلِنا، يكُونُ بإمكانِنا أن نتأمَّلَ بالأشياءِ التي يُريدُ اللهُ أن يُعَرِّفَنا إيَّاها، ويكُونُ بإمكانِنا أن نُحضِّرَ تجاوُباً ذِهنيَّاً على ما تأمَّلنا به. إن كُنَّا لا نأخذُ هذه الفُرص والأوقات الهادِئة المُنفَرِدة، لن نَحيا معَ فهمٍ للمكانِ الذي فيهِ يُعَرِّفُنا اللهُ كيفَ نُمَجِّدُهُ.

يَحُضُّنا داوُد جَدِّياً في المزمُورِ الرَّابِع، على أن نتكلَّمَ معَ نُفُوسِنا وأن نجتَمِعَ بِنُفُوسِنا في مُنتَصَفِ اللَّيل. لا بُدَّ أن داوُد كان في ضِيقٍ عندما كتبَ هذا المَزمُور. ولم يكُن قادِراً على النَّوم، وهكذا تحادَثَ معَ نفسِهِ. وتواصَلَ معَ قلبِهِ على فراشِهِ. ما هُوَ القصدُ من هذا التواصُل؟ هذا ما نُسمِّيهِ بالتأمُّل أو التفكير الذَّاتِي. كانَ على داوُد أن يُفكِّرَ كيفَ سيتَجاوَبُ معَ الأُمور التي يُعَرِّفُهُ إيَّاها اللهُ، عندما يسمَعُ اللهَ.

هُناكَ بُعدٌ آخَر من التواصُلِ معَ اللهِ، نراهُ في المَزمُور الرَّابِع. يُخبِرُنا داوُد أنَّهُ إكتَشَفَ البُعدَ الإنسانِيّ للمحادَثَةِ معَ الله. كتبَ يقُولُ: "فإعلَمُوا أنَّ الرَّبَّ قد مَيَّزَ تَقِيَّهُ. الرَّبُّ يسمَعُ عندما أدعُوهُ." لقد عرفَ داوُد وإختَبرَ ذلكَ النَّوع من محادَثَةِ الصَّلاة التي هي أن يتكلَّمَ الإنسانُ معَ الله.

ولقد حَقَّقَ داوُد الإكتِشافَ التَّالِي: "في الضِّيقِ رَحَّبتَ لي الرَّبُّ." متى نتواصَلُ فعلاً معَ الله؟ هل نقُومُ بذلكَ عندما يكُونُ لدَينا مُشكِلَة ولا نعرِفُ ماذا نفعَلُ حِيالَها؟ هذا هُوَ الوقتُ الذي فيهِ يتكلَّمُ مُعظَمُنا معَ الله. وأنا لا أُحَذِّرُ من هكذا نَوع من الشَّرِكَة معَ الله. أشكُرُ اللهَ لما قد يُسمِّيهِ البَعضُ، "لاهُوتُ العاصِفَة – أي لاهُوت طلب الله عندما تَهُبُّ عواصِفُ الحياة."

إنَّ أيَّةَ أزَمَةٍ أو مُشكِلَةٍ تُوجِّهُنا إلى الله، تُعتَبَرُ تدَخُّلاً إلهيَّاً وفُرصَةً رُوحيَّةً يُنَمِّي فيها اللهُ إيمانَنا. لقد إلتَقَيتُ بأشخاصٍ أتقِياء، يقُولُونَ لنا أنَّ هكذا أنواع من التَّدَخُّل كانت أروعَ الأحداث في حياتِهم. فالتواصُلُ الحَقيقيُّ مع الله الذي يختَبِرُهُ البَشَرُ، يجرِي عادَةً في إطارِ أزمَةٍ أو ضيقٍ عظيم. إنَّ جوهَرَ ما يقُولُهُ لنا داوُد في هذا المَزمُور هُوَ: "عندما أكُونُ في ضِيقٍ، عندها تُصبِحُ حقيقَةً واقِعة بالنسبَةِ لي يا رَبُّ. فلقد تكلَّمَت فعلاً إليَّ وأنا تكلَّمتُ إليكَ عندما كُنتُ أتألَّمُ." (مزمُور 4: 1). إن كُنتَ مُتآلِفاً معَ قِصَّةِ حياةِ داوُد التي نتعلَّمُها من الأسفارِ التَّارِيخيَّة، ومن مزامِيرِ داوُد هذه، فسوفَ تَجِدُ بواسِطَةِ بعضِ الخَيالِ المُقدَّس، عدَّةَ أماكِن في رِحلَتِهِ الرُّوحيَّة، حيثُ صَلَّى داوُد مثل هذا المَزمُور.

يُخبِرُنا داوُد أنَّهُ إكتَشَفَ هذه الأُمُور، ولكنَّهُ يُتابِعُ بإخبارِنا عن البُعدِ الحَيويّ للمُحادَثَةِ معَ اللهِ، عندَما يَكتُبُ قائِلاً: "إذبَحُوا ذبائِحَ البِرِّ وتَوَكَّلُوا على الرَّبِّ. كَثِيرُونَ يَقُولُونَ من يُرينا خَيراً؟" (مَزمُور 4: 4- 6).

بإمكانِنا أن نفتَرِضَ أنَّ داوُد يتصارَعُ معَ واحدٍ من تلكَ القرارت التي نُواجِهُها عادَةً. فبإمكانِهِ أن يعملَ الصَّواب، أو أن يعمَلَ ما هُو نافِعٌ ومُناسِب لِمَصلَحَتِهِ. فإذا عمِلَ الصَّواب، كانَ مُقتَنِعاً أنَّ العواقِبَ ستَكُونُ مأساوِيَّةً. بالواقِع، لم يكُنْ بإمكانِهِ أن يرى إمكانِيَّةً للعَيشِ، إذا عمِلَ الصواب. وهكذا قرَّرَ أن يعمَلَ النافِع لمصلَحَتِهِ، وعندها طارَ عنهُ نومُهُ لأنَّهُ رَجُلٌ بحَسَبِ قلبِ الله، مُلتَزِمٌ بالمُطلَقاتِ الأخلاقيَّة، وبالإستقامَةِ الأدبيَّة.  لهذا لم يعُدْ قادِراً على النَّوم. هذا هُوَ إطارُ هذه المُحادَثَة التي قامَ بها داوُد معَ نفسِهِ ومعَ الله.

فبعدَ الإتِّصالِ باللهِ، وبِقَلبِهِ هُوَ شخصِيَّاً، قرَّرَ أن يُضَحِّي بأيِّ شيءٍ ينبَغي أن يُضَحِّيَ بهِ، وأن يُتابِعَ الوُثُوق بالرَّبّ. أحدُ الدَّوافِع التي حرَّكت قرارَهُ هُوَ أنَّهُ كانَ مُحاطاً بأشخاصٍ كانُوا يتطلَّعُونَ بِشَوقٍ ليَرَوا إنساناً لديهِ ما يكفي من الإيمانِ والإستِقامَةِ ليعمَلَ الصَّواب، وليسَ المنفَعة أو المصلَحة الذَّاتِيَّة، كما يفعَلُ الجَميع. إن كُنَّا سنسأَلُ داوُد السُّؤالَ الثَّاني التي طرَحَهُ اللهُ على آدم وحَوَّاء، "من أخبَرَكُما؟" لأجابَ بالتَّأكيدِ أنَّ اللهَ جعلَهُ يعلَمُ أنَّهُ عليهِ أن يُضَحِّيَ بأيِّ شَيءٍ لكَي يَعمَلَ الصوابَ، واثِقاً بأنَّ اللهَ سيحفَظُهُ.

سوفَ تَجدُ عَبرَ المزامير نماذِجَ عن صَلواتٍ مثل هذه الصلاة لداوُد، التي هي محادَثاتٌ معَ الله. فبينما تقرَأُ في المَزامِير، لاحِظْ أنَّ نَمُوذَجَ كُتَّابِ المَزامير هُوَ غالِباً إعلان تَضَرُّعاتِهم لله، ومن ثَمَّ أخذ كَلِمَة من الله، التي تُشكِّلُ الجزءَ الخاصّ بالله في مُحادَثَةِ الصلاة هذه. فالمزمُورُ الحادِي والعِشرُون هُوَ نَمُوذَجٌ مُمَيَّزٌ لمُحادَثاتِ الصَّلاة هذه.

إنَّ مُرَنِّمي المَزامير هُم مُحَدِّثُونَ بارِعُون، لأنَّهُم يعرِفُونَ أنَّ الجُزءَ المُهِمَّ من محادَثَةِ الصَّلاةِ هو عندما يتكلَّمُ اللهُ إليهِم جواباً على صَلَواتِهِم. هذا يجعَلُ منهُم يعرِفُونَ أنَّ اللهَ سَمِعَ صلاتَهُم، وأنَّهُم إختَبَرُوا البُعدَ الأكثَر أهمِّيَّةً من مُحادَثَتِهم معَهُ، وأنَّهُ عليهم أن يعمَلُوا بِبَساطَةٍ ما جعلَهُم اللهُ يعرِفُونَ أنَّهُ عليهِم أن يعمَلُوه. عِندَما تُصَلِّي، هل أنتَ مُحدِّثٌ جَيِّدٌ معَ الله؟ تُعطينا أُمُّ يسُوعَ قاعِدَةً مُطلَقَةً لِنتَّبِعَها عندما نسمَعُ جُزءَ اللهِ من محادَثَتِِهِ معنا.  قالَتْ مريَمُ للخُدَّامِ في عُرسِ قانا، حيثُ حوَّلَ يسُوعُ الماءَ خمراً: "مهما قالَ لكُم افعَلُوه."

الصفحة
  • عدد الزيارات: 7403