الفصلُ السابِع الخلاص
بدأت خدمةُ يسُوع العَلَنيَّة في مجمَعٍ في الجَليل، في بَلدَتِهِ النَّاصِرة، حيثُ قرأَ من درجِ سفرِ إشعياء أمامَ الشعب: "رُوحُ الرَّبِّ عليَّ لأنَّهُ مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَساكِين أرسَلَني لأشفِيَ المُنكَسِري القُلوب لأُنادِيَ للمأسُورينَ بالإطلاق ولِلعُميِ بالبَصَر وأُرسِلَ المُنسَحِقينَ في الحُرِّيَّة. وأكرِزَ بسَنَةِ الرَّبِّ المقبُولَة." (لُوقا 4: 18- 19)
بعدَ إعطاءِ الموعِظَة التي بها بدأَ خدمتهُ العَلَنيَّة، بدأَ يسُوعُ بالكِرازَةِ بهذه الرسالة البَسيطة، والتي يُسمِّيها مُفَسِّرُو الكِتابِ المقدَّس "بَيانُ النَّاصِرة،" والمَقصُودُ بهِ بيان رُؤيتِهِ لرِسالتِهِ في هذا العالم. كانَ بَيانُ يسُوع أن يُحقِّقَ الخلاصَ للعُميان والمأسُورين والمُنكَسري القُلوب رُوحيَّاً، الذين إلتَقى بهم في حياتِهِ، مُعبِّراً لهم عن عطفِهِ، ومُحقِّقاً كُلَّ أبعادِ الخلاص هذه في حياتِهم.
ولكن كانَ هُناكَ مجمُوعَةٌ أُخرى من الناس الذي إلتقاهُم في حياتِهِ اليوميَّة. هذه المجموعة من الناس عُرِفُوا بالفَرِّيسيِّين. كانَ الفرِّيسيُّونَ فرقَةً دينيَّةً تتألَّفُ من اليَهودِ الأتقِياء الذين كانُوا مُكرَّسينَ لحفظِ العقائد اليهوديَّة المُستَقيمة. لقد كانُوا أتقياءَ جداً في الكثيرِ من الأوجُه. كانُوا الجناحَ الأُصُولِيّ في الديانَةِ اليهُوديَّة.
لم يَرَ الفَرِّيسيُّونَ أنفُسَهُم كعُميان أو مُحتاجِين، ويبدو أنَّهُم كانُوا دائِماً على أطرافِ خدمةِ يسُوع، مُشِيرِينَ بأصابِعِهم إليهِ ومُتَّهِمِينَ إيَّاهُ بإنتِهاكِ نامُوسِ مُوسى. غالِباً ما كانَ يسُوعُ غاضِباً من الفَرِّيسيِّين بسبب قساوَةِ قُلوبِهم وشُعُورِهم بالتفوُّقِ الرُّوحِيّ. ولكنَّهُ قضى الكثيرَ من الوقت مُحاوِلاً الوُصُول إليهِم لأنَّهُ أرادَهُم أن يعرِفُوا روحَ النَّامُوس الذي كانُوا يُعطُونَهُ قيمةً كبيرة.
لقد خاطَبَ يسُوعُ الأشخاصَ الضَّالِّينَ الذينَ أولاهُم قيمةً وإستَهدَفَهُم في خدمتِهِ، وكذلكَ الفرِّيسيِّينَ في نفسِ الوَقت، عندما علَّمَهُم مثلَهُ العظيم عن الأشياءِ الضَّائِعة (لُوقا 15). بعدَ إلقائِهِ عِظَةً حيويَّةً عن كِلفَةِ التلمذَة للمسيح، أحاطَ بهِ الخُطاةُ، راغِبينَ بالإقتِرابِ منهُ ليسمَعُوا المَزيدَ عن تعاليمِهِ. فإنسحَبَ الفَرِّيسيُّونَ والكَتَبَة من أمامِ يسُوع وشكَّلُوا حلقَةً خارِجيَّةً، مُدَمدِمينَ مُتذمَّرينَ من تقارُبِ يسُوع من مجمُوعَةِ الخُطاة.
لم يعتَبِرْ الفَرِّيسيُّونَ أنفُسَهُم ضالِّينَ، ولم يشعُروا بالعَطفِ أبداً على الذين كانُوا ضالِّين. وهكذا علَّمَ يسُوعُ مَثَلَهُ أمامَ هاتَين المَجمُوعَتَين من الناس الذين أحاطُوا بهِ. وبالحقيقةِ لقد وجَّهَ مثلَهُ هذا إلى الحلقَةِ الخارِجيَّة، مُفسِّراً لِلفَرِّيسيِّين ماذا كانَ يحدُثُ في الحلقَةِ الداخِليَّة التي كانَ قوامُها من العشَّارينَ والخُطاة الذين كانُوا يختَبِرونَ الخلاص. كانَ بالحقيقَةِ يدعُو الفَرِّيسيِّين ليدخُلُوا إلى الحلقَةِ الداخِليَّة ويُشارِكُوا معَهُ برسالتِهِ ليطلُبَ ويُخلِّصَ ما قد هلكَ. كانَ تحدِّيهِ لتِلكَ الحلقة الخارِجيَّة هُو: "السماءُ تفرَحُ عندما يُوجدُ هؤلاء الضَّالُّونَ، فلماذا لا تفرَحُونَ أنتُم أيضاً؟"
كانَ جوهَر ما قالَهُ يسُوعُ لتلكَ الحلقة الخارجيَّة هو التالي: "عندما تنظُرُونَ إلى هُؤلاء الناس، تَرَونَهُم كَعشَّارِينَ وخُطاةً. ولكن دَعُوني أُخبِرُكُم كيفَ يراهُمُ اللهُ. اللهُ يراهُم كَخِرافٍ ضالَّة، وكأبناء وبناتٍ ضالِّين. إنَّ جوهَرَ هذا المَثَل عن الأشخاصِ الضَّالِّين كانَ قصَّةً عن والِدٍ كانَ لديهِ إبنان.
في النِّصف الثاني، نرى رَدَّةَ فِعل الإبن الأكبَر على عودَةِ أخيهِ: "وكانَ إبنُه الأكبَر في الحقل. فلمَّا جاءَ وقَرُبَ من البَيت سَمِعَ صوتَ آلاتِ طَرَبٍ ورَقصاً. فدَعا واحِداً من الغِلمان وسألَهُ ما عَسَى أن يكُونَ هذا. فقالَ لهُ. أخوكَ جاءَ فذبَحَ أبُوكَ العجلَ المُسمَّن لأنَّهُ قَبِلَهُ سالِماً. فَغَضِبَ ولم يُرِد أن يدخُلَ. فخرجَ أبُوهُ يطلُبُ إليهِ. فأجابَ وقال لأبيهِ ها أنا أخدُمُكَ سِنين هذا عدَدُها وقَطُّ لم أتَجاوَز وَصِيَّتَكَ وجَدياً لم تُعطِنِي قَطّ لأَفرَحَ معَ أصدِقائي. ولكن لمَّا جاءَ إبنُكَ هذا الذي أكلَ مَعيشَتَكَ مَعَ الزَّواني ذبحتَ لهُ العجلَ المُسمَّن. فقالَ لهُ يا بُنَيَّ أنتَ مَعِي في كُلِّ حِين وكُلُّ ما لي فهُوَ لكَ. ولكن كانَ ينبَغي أن نفرَحَ ونُسَرَّ لأنَّ أخاكَ هذا كانَ مَيِّتاً فعاش وكانَ ضالاً فَوُجِد." (لُوقا 15: 25- 32)
لقد كانَ الأخُ الأكبَرُ، بِطريقَةٍ أو بِأُخرى، أكثَر ضَلالاً من الإبن الضَّال، لأنَّ قِيَمَهُ كانَت بعيدَةً أشَدَّ البُعد عن قِيَمِ أبيه. فالإبنُ الأكبَرُ هُوَ صُورَةٌ عن الفَرِّيسيّ، الذي وقفَ خارِجَ دائِرةِ الخَلاص المُعجِزي الذي كانَ يخلُصُ بهِ هؤلاء الضَّالُّون، ولم يكُن يقبَلْ بدُخُولِ تلكَ الدائِرة ليفرَحَ بتوبَةِ الخُطاة. فَهُم مثل الأخ الأكبَر، كانُوا غاضِبين ولم يدخُلُوا لينضَمُّوا إلى إحتِفالِ المُعجِزَةِ الكُبرى بكونِ هؤلاء الذين كانُوا مائِتينَ يَجدُونَ الحياة، وأنَّ هؤلاء الذين كانُوا ضالِّينَ كانُوا يُوجَدُون.
لقد فَرِحَ الأبُ بعودَةِ إبنِهِ الضَّال، ولكنَّ الإبنَ الأكبَر كانَ غاضِباً بسبب إستِقبالِ أبيهِ للإبنِ الضَّالّ في بيتِهِ. بنفسِ الطريقة التي بها خرجَ الأبُ من الإحتِفال وتوسَّلَ من الأخِ الأكبَر أن يدخُلَ وينضَمَّ إلى الإحتِفال، بنفسِ هذه الطريقة كانَ يسُوعُ يدعُو الفَرِّيسيِّين أن يدخُلُوا إلى الحلَقَةِ الداخِليَّة، وأن يفرَحوا بتوبَةِ الخُطاة. لقد كانَ يسُوعُ يدعُو الفَرِّيسيِّين لمُشارَكَتِهِِ في خدمتِهِ – لِكَي يَصِلَ إلى المَساكين في الرُّوح الذين وصفَهُم في بَيانِهِ، وأولاهُم قيمَةً كُبرَى خِلالَ السنوات الثلاث من خِدمَتِهِ العَلَنِيَّة.
هل تعتَرِفُ بالقِيمَةِ التي وضعها يسُوعُ على الأشخاصِ الضَّالِّينَ في هذا العالم؟ وكيفَ تشعُرُ عندما تَلتَقي بالخُطاةِ في هذا العالَم؟ وهل عزَلَتْكَ حضارَةُ كنيستِكَ عن حقيقَةِ ما تعنيهِ حياةُ الخاطِئ اليَوميَّة؟ وهل أنتَ على إتِّصالٍ بالمحبَّةِ والعطف والحَنان التي يشعُرُ بها المسيحُ الذي يحيا فيكَ تجاهَ الضَّالِّين؟ إن كانَ الأمرُ كذلكَ، قد تكُونُ في خَطَرٍ من أن تُصبِحَ مثلَ الفَرِّيسيِّين، الذين قد لا يفهَمُونَ هكذا محبَّة لهكذا أُناس.
نحنُ الوَسيلَةُ الوَحيدَةُ التي من خِلالِها يُرجِعُ المَسيحُ الحَيُّ الضَّالِّينَ في هذا العالم، ويَرُدُّهم إلى ملكُوتِهِ. في مِثالِ يسُوع عن الأشياءِ الضائِعة، إعتَرِفْ بالقِيمَةِ التي أولاها إيَّاها يسُوعُ. أُدخُلْ إلى تِلكَ الحلقَة الداخِليَّة، وشارِكْ معَهُ في مُهِمَّتِهِِ بإعطاءِ البَصَرِ للعُميان رُوحيَّاً، والحُرِّيَّة للمأسُورين، والشفاءَ للمُنكَسِري القُلُوب والضَّالِّينَ في العالم.
- عدد الزيارات: 2940