الفَصلُ الثَّانِي "مَواقِفُ الذَّهاب لأجلِ الرَّبّ"
(متَّى 5: 7- 12)
"طُوبى للرُّحَماءِ لأنَّهُم يُرحَمُون. طُوبى للأنقِياءِ القَلبِ، لأنَّهُم يُعايِنُونَ الله. طُوبى لِصانِعي السَّلام، لأنَّهُم أبناءُ اللهِ يُدعَون. طُوبى للمَطرُودِينَ من أجلِ البِرّ. لأنَّ لهُم ملكُوت السَّماوات.
"طُوبى لكُم إذا عَيَّرُوكُم وطَرَدُوكُم وقالُوا عليكُم كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَة من أجلِي كاذِبين. إفرَحُوا وتَهَلَّلُوا لأنَّ أجرَكُم عَظيمٌ في السَّماواتِ. فإنَّهُم هكذا طَرَدُوا الأنبِياءَ الذين قبلَكُم." (متَّى 5: 7- 12).
تَسَلُّق الجَبَل
كتبَ أحدُ مشاهير مُفَسِّري الكتابِ المُقدَّس أنَّ التَّطويبات تُشبِهُ تسلُّقَ الجبَل: أوَّلُ تطويبَتين – المساكين بالرُّوح والحَزَانَى – تَصِلُ بنا إلى مُنتَصَفِ الجَبَل. الوداعَةُ تَصِلُ بنا إلى ثلاثَة أرباع الطَّريق، بينما الجُوعُ والعطَشُ والشَّبع منَ البِرِّ تَصِلُ بنا إلى قِمَّةِ الجَبَل. بكلماتٍ أُخرى، نتسَلَّقُ الجَبلَ خلالَ تعَلُّمِنا لمَواقِفِ المَجيء.
عندَما يتعلَّمُ تلميذٌ المَواقِفَ التي تَقُودُ إلى قِمَّةِ الجَبل، أيُّ نَوعٍ منَ الأشخاصِ سَوفَ يكُونُ قبلََ أن يشرَعَ بالنُّزُولِ عن قِمَّةِ الجَبَل إلى الجِهَةِ الأُخرى منَ الجَبل، ويتعلَّمَ مواقِفَ الذَّهابِ التي يُريدُنا المَسيحُ أن نتعلَّمَها؟ بما أنَّهُ سيكُونُ قدِ إمتَلأَ بالبِرّ، هل سيَكُونُ كالفَرِّيسيّ؟ وهل سينظُرُ بإستِعلاءٍ إلى النَّاس ويقتَبِسُ إصحاحاتٍ وأعداداً كِتابِيَّةً تدينُ تصرُّفَ أُولئِكَ الذين يعرِفُهُم؟ مواقِفُ الذَّهاب ستُجيبُ على هذه الأسئِلة.
الرُّحَمَاءُ
المَوقِفُ الخامِس المُبارَك هُوَ، "طُوبَى للرُّحَماءِ، لأنَّهُم سيُرحَمُون." (متَّى 5: 7) تعني كلمة "رَحمَة": "المحبَّة غير المَشرُوطَة." عندما كتبَ داوُد أنَّ رحمَةَ اللهِ ستَتبَعُهُ كُلَّ أيَّامِ حياتِهِ، قصدَ بكلمة "تتبعَ"، "تُلاحِق." لقد كانَ داوُد مُقتَنِعاً أنَّ محبَّةَ اللهِ غَير المَشرُوطَة ستُلاحِقُهُ كُلَّ أيَّامِ حياتِهِ. (مزمُور 23: 6)
عندما حدَثَت أهوالُ الإجتياحِ البابِلِيّ ضِدَّ اليَهُود، كتبَ النَّبِيُّ إرميا سفرَ المراثي. وعندما كانَ يكتُبُ، حصلَ على إلهامٍ أو إعلان. لقد أعلَمَهُ اللهُ قائِلاً ما معناهُ، "أنا لن أكُفَّ البتَّةَ عن محبَّةِ شَعبِي يا إرميا!" فكتبَ عندها إرميا أنَّ مراحِمَ الرَّبِ وإحساناتِهِ تتجدَّدُ كُلَّ صَباح." (مراثي 3: 22- 23)
أوَّلُ عَدَدٍ من نُبُوَّةِ ملاخي هي: "كَلِمَةُ الرَّبِّ .. عن يَدِ ملاخي: أحبَبتُكُم قالَ الرَّبُّ!" رِسالَةُ النَّبِي هُوِشَع بأكمَلِها تتكلَّمُ عن محبَّةِ اللهِ غير المَشرُوطة. فلقد أَحَبَّ اللهُ دائِماً بمحبَّةٍ غير مَشرُوطة (1يُوحَنَّا 4: 16). رَحمَةُ اللهُ تحجُبُ عنَّا ما نستَحِقُّهُ بسَبَبِ خطايانا، ونعمَةُ اللهِ تُغدِقُ علينا ما لا نستَحِقُّهُ من شتَّى أنواعِ البَركات. أفضَلُ تفسيرٍ لهذه التَّطويبَة هُوَ، "طُوبَى للمَملوئينَ حتَّى الفَيض من محبَّة اللهِ غير المَشرُوطَة."
منَ الرَّائِع أن نُدرِكَ أنَّ كلمة "رحمة" تُوجَدُ 366 مرَّةً في الكتابِ المُقدَّس، لأنَّ اللهَ عرفَ أنَّنا سنحتاجُ لها كُلَّ يَومٍ، بالإضافَةِ إلى يَومٍ إضافِيٍّ في سنَةِ الكَبيس. مائتان وثمانُونَ مرَّةً من المرَّاتِ التي تُذكَرُ فيها رحمَةُ اللهِ نَجِدُها في العهدِ القَديم. لقد كانَ اللهُ دائماً إله المحبَّةِ غير المَشرُوطة.
وَعدُ يسُوع للرُّحَماءِ بأنَّهُم "سيُرحَمُون،" لا يعني فقط أنَّهُم سيَنالُونَ رَحمَةً منَ اللهِ وكذلكَ من أُولئِكَ الذين يُظهِرُونَ لهُم الرَّحمَة، بل ويعني أيضاً أنَّهُم سيُصبِحُونَ قنواتٍ لنقلِ محبَّةِ اللهِ غير المَشرُوطَة للنَّاس الذين يحتاجُونَ أن يُحَبُّوا بمحبَّةٍ غير مَشرُوطَة.
إن كُنَّا سننزِلُ من على قِمَّةِ الجَبَل لنَكُونَ جُزءاً من حَلِّ المسيح للمُتألِّمين، علينا أن نمتَلئَ بمحبَّةِ اللهِ غير المَشرُوطة. أُولئِكَ التلاميذ الذين يُشكِّلُونَ حُلُولَ وأجوِبَةَ يسُوع، ليسُوا فَرِّيسيِّينَ مملُوئينَ بالبِرِّ الذَّاتِي، بل هُم قنواتٌ لنقلِ محبَّةِ اللهِ والمَسيحِ غير المَشرُوطة. أن نُشبَعَ بالبِرِّ يعني أنْ نمتَلِئَ بمحبَّةِ اللهِ، بِحَسَبِ قولِ المسيح.
أنقياء القَلب
عندَما نُحِبُّ، غالِباً ما نُحِبُّ بدافِعٍ أنانِيٍّ. لهذا جاءَتِ التَّطويبَةُ التَّالِيَة لِتَقُول، "طُوبى للأنقياءِ القَلبِ، لأنَّهُم يُعايِنُونَ الله." (متَّى 5: 8) عندما يُحِبُّ تلميذُ المسيحِ، لا تَكُونُ محبَّتُهُ نابِعَةً من حاجَةٍ أنانِيَّةٍ يُريدُ إشباعَها. بل هُوَ يُحِبُّ لأنَّهُ مُمتَلِئٌ بمحبَّةِ المسيحِ الحَيِّ المُقام، ولهذا تَكُونُ دوافِعُ محبَّتِهِ نقيَّةً تماماً.
تأتي كلِمَة "أنقِياء" في هذه التَّطويبَة من الكلمة اليُونانِيَّة التي منها تشتَقُّ كلمة "تطهير." تُتَرجَمُ الكَلِمَةُ بمعنىَ "تنظيف"، حيثُ يستَخدِمُ يعقُوب الكلمة نفسَها. (يعقُوب 4: 8) جَوهَرُ هذه التَّطويبَة هُوَ أنَّهُ عندَما يُحِبُّ التِّلميذُ بمحبَّةِ اللهِ غَير المَشرُوطَة، كُلُّ الدَّوافِع الأنانِيَّة سوفَ تتطهَّرُ وتُنقَّى من قَلبِهِ. بالتَّطبيقِ الشَّخصِيّ، علينا أن نُصلِّي كُلَّ يَومٍ أنَّهُ إذا كانَ يُوجَدُ أيُّ شَيءٍ في قُلُوبِنا غير محبَّة المسيح، أن يُطَهِّرَهُ الرُّوحُ القُدُس من قُلُوبِنا.
عندما نعمَلُ شَيئاً صالِحاً للنَّاس، سَريعاً ما سيُشَكِّكُونَ بِدَوافِعِنا. ولكنَّ تِلميذَ يسُوع الرَّحُوم يُمكِنُهُ القَولُ لأُولئِكَ الذين يُحِبُّهُم: "لا أُريدُ شَيئاً منكُم إلا إمتِياز محبَّتِي لكُم بمحبَّةِ المسيح."
وَعدُ يسُوع لأنقِياءِ القَلبِ هُوَ أنَّهُم سيُعايِنُونَ الله. الذين يُوَصِّلُونَ محبَّةَ المسيح بدوافِعَ نقِيَّة، يَرَونَ اللهَ خلالَ توصِيلِهم لمحبَّةِ المسيح المُطَبَّقَة على آلامِ النَّاس الحَزانَى في هذا العالم. وبينما تتَدفَّقُ محبَّةُ اللهِ من خِلالِهِم، يَعيشُونَ في اللهِ واللهُ فيهِم، بِحَسَبِ قَولِ رَسُولِ المحبَّة. (1 يُوحَنَّا 4: 16).
صانِعُو السَّلام
التَّطويبَةُ السَّابِعة هي: "طُوبَى لِصَانِعي السَّلام، لأنَّهُم أبناءُ اللهِ يُدعَون." جَوهَرُ هذا المَوقِف هُوَ أنَّ التِّلميذ الذي هُوَ حَلُّ وجَوابُ يسُوع، هُوَ خادِمُ مُصالَحَة. أحدُ مصادِر المشاكل الرَّهيبَة عندَ أسفَلِ الجَبَل هُوَ الإنحِراف. فالنَّاسُ مُنحَرِفُونَ عنِ اللهِ، عنِ الآخرينَ وحتَّى عن نُفُوسِهِم. يَحُضُّ يسُوعُ تلاميذَهُ ليتَعَلَّمُوا ويكتَسِبُوا المَواقِفَ الدِّيناميكيَّة التي ستُعطيهم إختِبارَ المُصالَحَة في ثلاثَةِ إتِّجاهاتٍ، ومن ثَمَّ يُصبِحُونَ خُدَّامَ مُصالَحَةٍ عندما يرجِعُونَ إلى الجُمُوع.
يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّ كُلَّ مُؤمنٍ إختَبَرَ مُعجِزَةَ المُصالَحَةِ معَ اللهِ بالمسيح، مُكَلَّفٌ برِسالَةِ وخدمَةِ المُصالَحة (2كُورنثُوس 5: 14- 6: 2). بناءً على هذا المقطَع، كتبَ أحدُ اللاهُوتِيِّين: "إنَّها مَشيئَةُ المُصالِحِ أن يَكُونَ المُصالَحُونَ خُدَّامَ المُصالَحَةِ في حياةِ أُولئِكَ الذينَ لم يَختبِرُوا المُصالَحَةَ بعد." هذا هُوَ جَوهَرُ ستراتيجيِّة يسُوع بينما يُعَلِّمُ التَّطويبَةَ السَّابِعة.
خلالَ الحَربِ البارِدة، أحدُ الأطِبَّاء الجرَاحِينَ في أحدِ مُخَيَّماتِ العَبيد المُخيفَة في سيبيريا، أصبَحَ مُؤمِناً. بعدَ أن آمنَ بيسُوع مُخَلِّصاً ورَبَّاً على حياتِهِ، قرَّرَ هذا الجَرَّاحُ اليَهُودِيُّ الذي كانَ يُدعَى بُوريس كُورنفيلد أن يُصبِحَ خادِمَ مُصالَحَة في ذلكَ المكانِ الرَّهيب. فقامَ بِجراحَةٍ رائِعَةٍ على أحدِ المرضَى، ومن ثَمَّ عرَّفَهُ على المسيح بعدَ العملِيَّةِ الجِراحِيَّة. وبِسَبَبِ عملِهِ الشُّجاع، قُتِلَ ذالكَ الطَّبيبُ في سَريرِهِ تلكَ اللَّيلَة. ولكنَّ مَريضَهُ تعافَى ونجا، ليُخبِرَ العالَمَ بأسرِهِ فيما بعد عن أهوالِ مُخَيَّماتِ التَّعذيب. كانَ إسمُ هذا المَريض المُتعافي ألكسندر سُولزينيتسين.
لم يَكُن لهذا الجَرَّاح والطَّبيب المُكَرَّس أيَّةُ طريقَةٍ لِمَعرِفَةِ أنَّ هذا المَريض سيشتَهِرُ وسيكتُبُ كُتُباً رائِعَة. لقد كانَ يعمَلُ بِبَساطَةٍ ما علَّمَ بهِ يسُوعُ عندَما أعطى التَّطويبَةَ السَّابِعة. فوعدُ يسُوعُ لخُدَّامِ المُصالَحَةِ هؤُلاء، هُوَ أنَّهُم سيُدعَونَ أبناءَ الله. اللهُ كانَ لديهِ إبنٌ وحيدٌ، وكانَ إبنُهُ الوحيد مُرسَلاً. فلا عَجَبَ عندَها أنَّ اللهَ سيعتَبِرُ أُولئِكَ المُرسَلينَ لأجلِهِ بأنَّهُم أبناؤُهُ. بالطَّبعِ هذا يشمَلُ جميعَ الأولاد، بنينَ وبناتٍ لله.
المُضطَّهَدُون
"طُوبَى للمُضطَّهَدِينَ لأجلِ البِرّ، لأنَّ لهُم مَلَكُوت السَّماوات." قُلتُ أنَّ هذه التَّطويبات تأتي زَوجَينِ زَوجَين، وهي هكذا بالفِعل. فالتَّطويبَةُ السَّابِعة ترتَبِطُ بالثَّامِنَة.
لقد أعطَى بُورِيس كُورنفيلد حياتَهُ ليَكُونَ خادِمَ مُصالَحَةٍ لألكسندَر سولزينيتزين. كانَ هذا إختِبارَ خُدَّامِ المُصالَحَة عبرَ تاريخِ الكنيسة. لهذا تَقُولُ التَّطويبَةُ السَّابِعة ما معناهُ، "طُوبَى لخُدَّامِ المُصالَحة،" وتقُولُ التَّطويبَةُ الثَّامِنَة، "طُوبَى للمُضطَّهَدِينَ من أجلِ البِرّ، لأنَّ لهُم ملكُوت السَّماوات." أُولئكَ الذين يُضطَّهَدُونَ لكَونِهِم خُدَّامَ مُصالَحَة، يعتَرِفُونَ بِحَقٍّ بِسيادَةِ المَلِك على قُلُوبِهم، حتَّى ولو كَلَّفَهُم ذلكَ حياتَهُم.
لاحِظُوا أنَّ الآيَةَ لا تَقُولُ فقط "طُوبَى للمَطرُودِينَ،" لأيِّ سَبَبٍ كان – خاصَّةً بسببِ مشاكِل يجلِبُونَها على أنفُسِهِم. بل تَقُولُ الآيَة، "طُوبَى لِلمَطرُودِينَ من أجلِ البِرّ." لأنَّهُم بَشَّرُوا بالإنجيل – لأنَّهُم وحَّدُوا أنفُسَهُم معَ يسُوع المسيح، سيُضطَّهَدُون. بإمكانِكُم رُؤية سبب إرتِباط هاتَينِ التَّطويبَتَين الأخيرَتَين معاً.
خُدَّامُ المُصالَحَة يُضطَّهَدُونَ لأنَّهُم يُوضَعُونَ ستراتيجيَّاً في مركَزِ الصِّراعِ والإنحِراف. يذهَبُونَ حَيثُ يتصارَعُ النَّاسُ المُنحَرِفُونَ معَ بعضِهِم البَعض. تفَكَّرُوا بالنُّقاطِ السَّاخِنَة في العالم، كالشَّرقِ الأوسَطِ مثلاً، أو بأَيِّ مكانٍ آخر في العالم حيثُ تُوجَدُ صِراعاتٌ حادَّة. يذهَبُ خُدَّامُ المُصالَحَةِ إلى هكذا أماكِن رُغمَ كَونَها خَطِرَةٌ جِدَّاً.
يُعَلِّمُ يسُوعُ بهذه التَّطويباتِ الثَّمانِي الجَميلة، ثُمَّ إبتداءً منَ العدد الحادِي عشَر، يبدأُ بتطبيقِها. لاحِظوا الضَّمائِر التي إستَخدَمَها يسُوعُ في التَّطويباتِ الثَّماني – طُوبَى لأُولئِكَ... الضَّميرُ عادَةً شامِلٌ وغير شَخصِيّ. ولكن، إبتداءً من العددِ الحادِي عَشَر يَقُولُ، "طُوبَى لكُم إذا عَيَّرُوكُم وطَرَدُوكُم وقالُوا عليكُم كُلَّ كَلِمَةٍ شَرِّيرَة من أجلِي."
إنَّهُ يتَّجِهُ نحوَ أُولئكَ الجالِسينَ حَولَهُ، ويجعَلُ رسالَتَهُ شَخصِيَّةً. وهُوَ يُطَبِّقُ نُبُوءَتَهُ بالإضطِّهاد. يبدَأُ هذا التَّطبيقُ للتَّطويباتِ الثَّمانِي هُنا، وتعليمُ هذه التَّطويبات سيُطَبَّقُ الآنَ من خلالِ ما تبقَّى من تعليمِهِ.
قد نَظُنُّ أنَّهُ لو وُجِدَ أُناسٌ يتحلُّونَ بهذه المَواقِف الجميلة في عالَمِنا اليَوم، سيُصَفِّقُ العالَمُ لهُم. ولكنَّ هذه التَّطوِيبات النِّهائِيَّة تُخبِرُنا أنَّهُ رُغمَ كُلِّ مواقِفِهِ المُبارَكَة، سيَكُونُ تِلميذُ المسيحِ عُرضَةً للإضطِّهاد. لِماذا؟
الجَوابُ على هذا السُّؤال هُوَ أنَّ التِّلميذَ الذي يتحلَّى بهذه المَواقِف، يُواجِهُ أشخاصاً لدَيهِم نَمُوذَجٌ عمَّا ينبَغي أن يَكُونوا. عندما يتواجَهُ النَّاسُ في هذا العالَم معَ حياةِ تلميذٍ للمسيح لديهِ هذه المَواقِف، يكُونُ لديهم خياران: بإمكانِهِم أن يعتَرِفُوا بهذا النَّمُوذَج عن كيفَ ينبَغي أن يعيشُوا، وبإمكانِهم أن يرغَبُوا بالمَواقِفِ المُبارَكَة التي تجعَلُ منهُم كما هُم عليهِ. أو يُمكِنُهُم أن يُهاجِمُوا التِّلميذَ الذي يُمَثِّلُ ذهنِيَّةَ وقِيَمَ يسُوع المسيح. ولكن لمُدَّةِ ألفَي عام، كانَ العالَمُ البَعيدُ عنِ اللهِ يُمارِسُ الخَيارَ الثَّانِي.
مُلاحَظاتٌ تلخيصيَّة للتَّطويبَة الثَّامِنَة
هذه المَواقِف الثَّمانِيَة هي المَوعِظَة، وكُلُّ ما عداها في هذا التَّعليم هُوَ تطبيقٌ للعِظَة. إطارُ المَوعِظَة هذه يُقَدِّمُ الطَّريقَة التي يُعَبِّرُ بها متَّى عن الأزمَة النَّاتِجَة عن صَيرُورَةِ الإنسان مَسيحيَّاً. بِحَسَبِ متَّى، أن تُصبِحَ مَسيحيَّاً لا يتعلَّقُ بما سيفعَلُهُ المسيحُ من أجلِكَ. فالتَّشديدُ هُوَ على، "ماذا ستفعَلُ أنتَ لِيَسُوع؟ وهل أنتَ جزءٌ منَ المُشكِلَة أو جزءٌ من حَلِّ يسُوع للمَشاكِل؟ وهل أنتَ جوابٌ من أجوبَتِهِ أم أنَّكَ مُجَرَّدُ سُؤالٍ آخر؟
تُقَدِّمُ المَواقِفُ المُبارَكَة الشَّخصِيَّةَ المَقصُودَة بكَونِ الإنسان مَسيحيَّاً. الإستِعاراتُ الأربَع – المِلح، النُّور، المَدينَة، والسِّراج – التي تتبَعُ التَّطويبات، تُعَرِّفُنا على التَّحدِّي المقصُود عندما تُؤَثِّرُ الشَّخصِيَّةُ المسيحيَّةُ على الحضارَةِ العِلمانِيَّة العالميَّة.
وكأنَّهُ يُوجَدُ "خَطُّ إستِواءٍ رُوحِيّ" بينَ التَّطويبَتين الرَّابِعَة والخامِسَة. هذه التَّطويبات الثَّمانِي تقَعُ في جزئين أو مَجمُوعَتين كُلٌّ منها تتألَّفُ من أربَعِة مواقِف. التَّطويباتُ الأربَعة الأُولى هي المَواقِفُ المُتعَلِّقَة بالمَجيءِ إلى المسيح، والتَّطويباتُ الأربَعة الأخيرة تُبرِزُ المَواقِفَ المُتَعَلِّقَة بالذَّهابِ لأجلِ المسيح. التَّطويباتُ الأربَعة الأُولى تتطوَّرُ وتنمُو على رَأسِ الجَبَل، أو في علاقَتِنا الفَردِيَّة معَ اللهِ ومعَ المسيح، أمَّا التَّطويبات الأربَعَ الثَّانِيَة فينبَغي أن تُدرَسَ وتَتَطَوَّرَ في علاقاتِنا معَ النَّاس.
تنقَسِمُ التَّطويباتُ أيضاً إلى أربَعِ مجمُوعاتٍ كُلٌّ منها تتألَّفُ من زَوجَين: المَساكِينُ بالرُّوح الحَزَانى؛ الوُدَعاء الذين يَجُوعُونَ ويَعطَشُونَ إلى البِرِّ؛ الرُّحماء الأنقِياء القَلب؛ وصانِعو السَّلام المُضطَّهَدُون.
كُلُّ زوجٍ من هذه التَّطويبات يُبرِزُ سِرَّاً رُوحِيَّاً ينبَغي تَعَلُّمُهُ مِنْ قِبَلِ كُلِّ تلميذٍ ليَسُوع، قبلَ أن يَكُونَ جُزءاً من حَلِّهِ ومن جوابِهِ. التَّطويبتان الأُولى والثَّانِية: المساكين بالرُّوح الحَزانى: تُبرِزانِ نَظرةً: "ليسَ المُهِمُّ ما أقدِرُ أن أعملَهُ، بل ما يا يَقدِرُ اللهُ أن يعمَلَهُ."
الزَّوجُ الثَّانِي – الوُدَعاءُ الجِياعُ والعِطاشُ إلى البِرّ – يُبرِزُ هذا السِّرَّ الرُّوحِيّ: "ليسَ المُهِمُّ ما أُريدُهُ أنا، بل ما يُريدُهُ الله." الزَوجُ الثَّالِثُ – الرُّحماءُ أنقِياءُ القَلب – يُمَثِّلُ هذا السِّرَّ الرُّوحِيّ: "ليسَ المُهِمُّ من أو ما أنا، بل مَنْ ومَا هُو الرَّبّ."
الزَّوجُ الرَّابِع – صانِعُو السَّلام المُضطَّهَدُون – يُرَكِّزُ على السِّرّ الرُّوحِيّ، الذي ينبَغي أن نعتَرِفَ بهِ عندما يستَخدِمُنا المسيحُ، والذي هُوَ، "ليسَ المُهِمُّ ما عَمِلتُهُ أنا، بَل ما عَمِلَهُ هُوَ." يكتُبُ الرَّسُولُ بُولُس للكُورنثِيِّين أنَّهُ عندما كانَت لدَيهِ خدمَةُ ديناميكيَّةٌ في مدينَتِهِم، لم يكُنْ شَيءٌ ينبُعُ منهُ بل منَ الله (2كُورنثُوس 3: 5)
كَلِمَةُ "مُبارَك" هي كلِمَةٌ ينبَغي تعريفُها. في بَعضِ التَّرجَمات، نِجِدُها بمعنى "سَعيد." يُشيرُ هذا إلى الفَرح، الذي هُوَ ثَمَرُ الرُّوح (غلاطية 5: 22 و23). يُمكِنُ تفسيرُ الفَرَح المُبارَك بكَونِهِ السَّعَادَة غير المَنطِقيَّة، لأنَّها تنبُعُ من حُضُورِ الرُّوحِ القُدُس في حياتِنا، ولا تتأثَّرُ بالظُّرُوفِ المُحِيطَة.
"المُزدَهِر رُوحِيَّاً" طريقَةٌ أُخرى لترجَمَةِ هذه الكلمة "مُبارَك." فأن تَكُونَ مُزدَهِراً رُوحِيَّاً، لا يَعني الغِنَى الإقتِصادِيّ. فلو كان الإزدِهارُ الإقتِصادِيُّ هُوَ تعريفُ المَقصُود بكلمة "مُبارَك"، لما إعتُبِرَ أيُّ واحِدٍ من رُسُلِ المسيحِ مُبارَكاً. ولكن كَون تلاميذ يسُوع عاشُوا تطويبات يسُوع بكُلِّ ما لِلكَلِمَةِ من معَنَىً، لم يَكُونُوا أغنِياء وماتُوا مَوتاٍ مُريعَة."
- عدد الزيارات: 13133