الفَصلُ الخامِس "مُبَرَّرُونَ بالإيمان"
بعدَ أن خاطَبَ بُولُس اليَهُودَ وتحدَّاهُم في الإصحاحِ الثَّانِي من رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، بدأَ في الإصحاحِ الثَّالِث بطَرحِ السُّؤالِ ما إذا كانَت تُوجَدُ أيَّةُ حسناتٍ من كَونِ المرءِ يَهُودِيَّاً؟ ثُمَّ أجابَ على سُؤالِهِ الذَّاتِيّ بإبرازِ حسناتِ كَونِ الإنسان يَهُودِيَّاً. أوَّلُ حَسَنَةٍ يُقَدِّمُها بُولُس هي أنَّ اللهَ أعطَى النَّامُوس، أو كَلِمَتَهُ لليَهُود.
كُلُّ النَّاسِ تحتَ النَّامُوس
بِحَسَبِ بُولُس الرَّسُول، رُغمَ أنَّ اليَهُودَ لم يُطِيعُوا كَلِمَةَ اللهِ، فإنَّ عدمَ طاعَتِهِم تُبَرهِنُ بِبَساطَةٍ الحقيقَةَ التي يُعلِنُها نامُوسُ الله – أنَّنا جميعاً خُطاة. وهُوَ يُعبِّرُ عن هذه الحقيقَةَ بقَولِه: "ليَكُنِ اللهُ صادِقاً وكُلُّ إنسانٍ كاذِباً." (رُومية 3: 4) وكما أشارَ في الإصحاحِ الثَّانِي، يُظهِرُ ضَميرُ الأُمَمِيِّ أنَّ اللهَ وضعَ نامُوسَهُ حتَّى في قُلُوبِ غَيرِ اليَهُود. (2: 15). ثُمَّ يُتابِعُ بالقَولِ أنَّ الجميع، يَهُوداً أو أُمَمِيِّين، هُم تحتَ نامُوسِ الله.
إحدَى مُهِمَّات نامُوسِ اللهِ هي الكَشف عنِ الحقيقَةِ الصَّعبَة أنَّنا جميعاً خُطاة. يستخدِمُ يعقُوبُ الصُّورَةَ المجازِيَّةَ البليغة التي تَقُولُ أنَّ كَلِمَةَ اللهِ هي مثل مرآةٍ ينبَغي أن ننظُرَ إليها يَومِيَّاً، لأنَّها ستَكشِفُ نقصاتِنا (يعقُوب 1: 23، 24). وكونُ اليهُود الذي أُعطُوا كَلِمَةَ اللهِ لم يُطيعُوا كلمَتَهُ، لا يُبطِلُ أبداً مفعُولَ كَلِمَةِ اللهِ، بل يُؤَكِّدُ بِبَساطَةٍ القَصدَ منَ الكلمة، والذي هُوَ تبكيت العالَم على حقيَقَةِ كَونِنا جَميعاً خُطاة.
ثُمَّ يُعلِنُ بُولُس أنَّ كُلَّ النَّاسِ هُم تحتَ ما سيُسمِّيهِ لاحِقاً نامُوس الخَطيَّة (7: 23). وهُوَ يقتَبِسُ منَ العهدِ القَديم، ليدعَمَ تصريحَهُ بأنَّنا جميعاً خُطاة (مزمُور 14: 1- 3؛ 53: 1- 3). بما أنَّ خَطِيَّةَ الإنسانِ تُظهِرُ وتُفَعِّلُ حقيقَةَ كلمةِ الله، يُوبِّخُ بُولُس أُولئكَ الذي يَقُولُونَ أنَّهُ يُعَلِّمُ أنَّنا علينا أن نُخطِئَ لكَي تأتي الخَيرات، أي أنَّنا نُصادِقُ على صِحَّةِ كلمَةِ اللهِ عندما نُخطِئُ. ولكنَّ بُولُس يُنكِرُ صراحَةً هذا الإتِّهام الخاطِئ.
بِحَسَبِ بُولُس، القصدُ من نامُوسِ اللهِ لم يَكُنْ يوماً أن يُخَلِّصَنا. بل كانَ القَصدُ منَ نامُوسِ اللهِ أن يُعلِنَ الخَطيَّةَ، وأن يُظهِرَ لنا حاجَتَنا للخَلاصِ ولمُخَلِّص. لا أحدَ منَّا يستَطيعُ أن يعيشَ على مُستَوى الكمال الذي يطلُبُهُ الله. بهذا المعنى، ليسَ أنَّنا نحنُ نكسِرُ نامُوسَ اللهِ، بل نامُوسُ اللهِ هُوَ الذي يَكسِرُنا.
سُمِحَ لواعِظٍ في سجنٍ كَبير أن يُخاطِبَ المُجرِمينَ المحكُوم عليهِم، والذين كانُوا على وشكِ دُخُولِ السِّجن. وكانت تُوجدُ بالقُربِ من مداخِلِ السِّجنِ لوحتانِ صَخرِيَّتانِ كبيرتانِ منقُوشٌ عليها الوصايا العَشر، وبعض قوانين الولاية التي كانَ هؤُلاء المُجرِمُون قد إنتَهَكُوها. وقبلَ أن يُخاطِبَ الواعِظُ المَساجين، إقتَرَبَ من واحِدٍ منهُم، الذي كانَ قد قرأَ بعضَ قوانين ولايَتِهِ وكانَ يُتابِعُ بقراءَةِ الوصايا العَشر بِعِنايَة. وسألَ الواعِظُ هذا السَّجين قائلاً، "أيٌّ من هذه الوصايا كسَرتَ يا إبنِي؟" فأجابَ السَّجينُ، "أنا لم أكسِر هذه الوَصايا يا سَيِّد. بل هي التي كَسَرَتني!"
في هذا الإصحاحِ الثَّالِث، يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّنا لن نتبرَّرَ أبداً أمامَ عَينَي اللهِ بعَدَمِ إقتِرافِ الخطأ، ولا بالأعمالِ الصَّالِحَة التي نعمَلُها خلالَ طاعَتِنا لنامُوسِ الله. فاللهُ لم يُعطِنا نامُوسَهُ لهذا الهَدَف. بل أعطانا اللهُ نامُوسَهُ لإعلانِ الخطيَّة. بِحَسَبِ بُولُس، قصدُ نامُوسِ اللهِ هُوَ "لكَي يَستَدَّ كُلُّ فَمٍ ويَصِيرَ كُلُّ العالَمِ تحتَ قِصاصٍ منَ الله." (رُومية 3: 19). هل سبقَ وسَدَّتْ كَلِمَةُ اللهِ فَمَكَ، أم أنَّكَ لا تزالُ تتكلَّمُ، واثِقاً بِبِرِّكَ الذَّاتِيّ، واجداً الأعذارَ لِسقطاتِكَ الرُّوحِيَّة والأخلاقِيَّة؟
كُلُّ الأفكارِ الرُّوحِيَّةِ التي دوَّنها بُولُس في هذهِ التُّحفَة اللاهُوتِيَّة العميقة، حتى هذه النُّقطة، هي بمثابَةِ أرضِيَّةٍ صالِحَة لوضعِ هذه الجَوهَرَة، التي هي واحدَةٌ من أهمِّ المقاطِعِ في كِتاباتِ بُولُس: "وأمَّا الآن فقد ظَهَرَ بِرُّ الله بِدُونِ النَّامُوسِ مَشهُوداً لهُ منَ النَّامُوسِ والأنبِياء. بِرُّ اللهِ بالإيمانِ بِيَسُوع المسيح إلى كُلِّ وعلى كُلِّ الذين يُؤمِنُون. لأنَّهُ لا فَرق. إذِ الجَميعُ أخطَأُوا وأعوَزَهُم مجدُ الله. مُتَبَرِّرينَ مجَّاناً بِنِعمَتِهِ بالفِداءِ الذي بِيَسُوع المسيح. إذِ الجَميعُ أخطَأُوا وأَعوَزَهُم مَجدُ الله. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعمَتِهِ بالفِداءِ الذي بِيَسُوع المسيح. الذي قَدَّمَهُ اللهُ كفَّارَةً بالإيمانِ بِدَمِهِ لإظهارِ بِرِّهِ من أجلِ الصَّفحِ عنِ الخطايا السَّالِفَة بإمهالِ الله. لإظهارِ بِرِّهِ في الزَّمانِ الحاضِر، لِيَكُونَ بارَّاً ويُبَرِّرَ مَن هُوَ من الإيمانِ بِيَسُوع."
في هذا المقطع، الذي يُشَكِّلُ قلبَ ورُوحَ هذا التَّصريح اللاهُوتيّ الذي يُقدِّمُهُ بُولُس عن مَوضُوعِ التَّبرير، يُعطينا الأخبارَ السَّارَّة قبلَ أن يَخُوضَ في الأخبارِ المُحزِنَة. الأخبارُ السَّارَّةُ المُعلَنَةُ في هذهِ الرِّسالَة هي عن بِرٍّ أُعلِنَ من قِبَلِ الله، والذي لا يقتَصِرُ على مُجَرَّدِ طاعَةِ نامُوسِ اللهِ بِبَساطَة. فهذا البِرُّ هُوَ بِرٌّ يُكتَسَبُ بالإيمانِ بيسُوع المسيح، وليسَ بأعمالِ البِرِّ من جِهَةِ الإنسان. هذا البِرُّ يُمكِنُ أن يُنالَ من قِبَلِ جميعِ الذينَ يُؤمِنُونَ بعَمَلِ يسُوع المسيح على صَليبِ الخلاص.
وها هُوَ الآن يُكَرِّرُ بِهَدَفِ التَّشديد الحقيقَةَ نفسَها التي أعلَنَها في العددِ السَّابِع عشَر منَ الإصحاحِ الأوَّل، حيثُ أخبَرَنا أنَّهُ يُوجَدُ ذلكَ النَّوع منَ البِرِّ المُعلَنِ في الإنجيل، الذي هُوَ مُلزَمٌ ومُتَشَوِّقٌ وغيرُ خَجُولٍ بالكِرازَة بهِ في رُوما (1: 16، 17). تَذَكَّرُوا أنَّهُ كتبَ في تلكَ الأعداد أنَّ هذا البِرّ يُكتَسَبُ بالإيمانِ وحدَهُ وليسَ بالأعمالِ من جِهَةِ الذي يُؤمِنُ بأنَّ اللهَ قادِرٌ أن يُعلِنَهُ بارَّاً.
الجميعُ تحتَ الخَطِيَّة
يُتابِعُ بُولُس بعدَ ذِكرِ هذه الأخبارِ السَّارَّة، بِذكرِ الأخبارِ السَّيِّئَة، عندما يختُمُ قائِلاً: "لأنَّهُ لا فَرق؛ إذِ الجميعُ أخطأُوا وأعوَزَهُم مجدُ اللهِ..." اللُّغاتُ الأصليَّة التي كُتبَ فيها الكتابُ المُقدَّس، لديها بِضعَةُ كلماتٍ تمَّتْ ترجَمَتُها جميعاً بكلمَةٍ واحِدَة هي "خَطِيَّة." تُشيرُ هذه الكلماتُ أحياناً إلى سَهمٍ أخطأَ الهَدَف، أو إلى مَفهُومِ الخُرُوجَ إلى ما وراء المجال المَسمُوح بهِ، أو إلى كَسرِ القواعِدِ والقَوانِين.
عندما يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّنا جميعَنا أخطَأنا، يستخدِمُ للتَّعبيرِ عن الخطيَّة كلمَةً تَصِفُ سَهماً يُقَصِّرُ عنِ الوُصُولِ إلى الهَدَف. وإنسِجاماً معَ ما كتبَهُ بُولُس سابِقاً، يَقُولُ هُنا أنَّنا جميعاً خُطاةٌ، لأنَّنا نُقَصِّرُ عن المُستَوى الذي وضَعَهُ لنا اللهُ في كُلِّ كَلِمَتِهِ المُوحاة.
في الكتابِ المُقدَّس، المُستَوَى الذي وضَعَهُ اللهُ لِشَعبِهِ هُوَ أنَّ كُلَّ فكرَةٍ، كَلِمَةٍ، وعمَلٍ يَقُومُ بهِ شعبُ اللهِ، ينبَغي أن يأتِيَ بالمَجدِ لإلَهِهم. عندما نُقَصِّرُ عن هذا المُستَوَى، نَكُونُ خُطاةً. بِبَساطَةٍ، هذهِ طريقَةٌ أُخرى للقَولِ أنَّهُ علينا أن نحفَظَ المأمُوريَّة العُظمَى، التي هي محبَّة الله من كُلِّ القَلبِ ومن كُلِّ القُدرَةِ ومن كُلِّ الفكرِ، طوالَ اليومِ وكُلَّ يَومٍ نعيشُهُ في حياتِنا (1كُورنثُوس 10: 31؛ متَّى 22: 35- 40؛ تثنِيَة 6: 5).
هذه هي الإستِعارَةُ المجازِيَّةُ المُفضَّلَة لدَيَّ عن مفهُومِ الخَطيَّةِ في كلمَةِ الله. فعلى مدَى عشراتِ السنِين التي قَضَيتُها كراعِي كنيسة، واجَهتُ نَوعانِ من النَّاس الذين يحتاجُونَ أن يسمَعُوا هذا التَّعريف الكِتابِيّ للخَطِيَّة. فهُناكَ أُولئكَ الذينَ يَقُولُونَ أنَّهُم يشعُرُونَ بالصَّدمَةِ عندما أعِظُ وأُعَلِّمُ قائلاً أنَّهُم خُطاة. وهُوَ يُؤمِنُونَ بأنَّ الخُطاةَ هُم فقط أُولئكَ الذين يسرُقُونَ المصارِفَ، ويقتَرِفُونَ الزِّنَى أو القتَل. وبما أنَّهُم لا يعمَلُونَ هذه الفظائِع، فإنَّهُم يشعُرُونَ بالصَّدمَةِ عندما أقُولُ لهُم أنَّهُم خُطاة.
مُشكِلَتُهُم هي في تعريفِهِم للخَطِيَّة. فعِندَما يفهَمُونَ تعريفَ اللهِ لِلخَطِيَّة – مفهُوم كَونِنا خُطاةً لأنَّنا نُقَصِّرُ عن المُستَوى الذي وضعَهُ اللهُ لِشَعبِهِ – سيُدرِكُونَ أنَّهُم خُطاةٌ حتَّى ولو لم يقتَرِفُوا تلكَ الخطايا الفَظيعة التي يربُطُونَها بكَونِ الإنسانِ خاطِئاً بِنَظَرِهِم. بل هُم خُطاةٌ لأنَّهُم يُقَصِّرُونَ عن تحقيقِ ما خلقَهُم اللهُ لأجلِهِ: تمجيد الله في كُلِّ فكرٍ وقَولٍ وعمَلٍ طوالَ اليومِ، وكلَّ يَومٍ يعيشُونَهُ.
الشَّخصُ الآخر الذي يحتاجُ إلى هذا التَّعريف هُوَ الذي يُؤمِنُ أنَّهُم إختَبَرُوا ما يعتَبِرُونَهُ "التَّقدِيس." فبالنِّسبَةِ لهُم، التَّقديسُ يعني أنَّهُم لم ولا ولن يُخطِئُوا، لأنَّهُ كانَ لدَيهِم خطيَّة إلى أن إجتازُوا بإختبِارِ التَّقديس. (1يُوحَنَّا 1: 8- 10). لدى هَؤُلاء مُشكِلَة في تعريفِهِم للتَّقديس. فكما أشَرتُ سابِقاً في تفسيري للتَّحِيَّة التي بدأ بها بُولُس رسالَتَهُ، دعا بُولُس الكُورنثِيِّينَ بأنَّهُم "مُقَدَّسينَ"، ثُمَّ نعتَهُم بلائِحَةٍ طويلَةٍ منَ الخطايا في كنيستِهِم. يُعَلِّمُنا هذا أنَّ التَّقديس لا يعني الكمال المُنزَّه عنِ الخَطيَّة.
لديهِم أيضاً مُشكِلَةٌ في تعريفِهِم للخطيَّة. إنَّهُم يحتاجُونَ ليُدرِكُوا أنَّ الخَطِيَّةَ هي التَّقصيرُ عن المُستَوى الذي وضعَهُ اللهُ والمسيحُ لنا لكَي نَكُونَ كامِلين (متَّى 5: 48؛ تكوين 17: 1). فإذا إدَّعَى شخصٌ مُعَيَّنٌ أنَّهُ لم يَعُدْ يُخطِئ، وأنَّهُ لن يُخطِئَ أيضاً، قد يكُونُ تعريفُهُ لِلخَطيَّة محصُوراً بإقتِرافِ الزِّنى، السَّرِقَة، القَتل وما هُوَ أسوأ من ذلكَ. ولكن عندما يُوافِقُ أمثالُ هؤُلاء الأشخاص على التَّعريفِ الذي يُقَدِّمُهُ بُولُس للخطيَّة في هذا المقطَع، سيُدرِكُونَ أنَّ الإدِّعاءَ بأنَّهُم لا يُخطِئُونَ، هو بمثابَةِ إدعائِهم بأنَّهُم كامِلُون.
عندما كمَّلَ يسُوعُ نامُوسَ اللهِ بتعليمِ رُوحِ نامُوسِ مُوسى على جَبَلِ الجليل، رَفَّعَ نامُوسَ اللهِ عالِياً، لدَرجَةِ أنَّ نامُوسَ مُوسى هذا صارَ يكسِرُ كُلَّ واحِدٍ منَّا، ويَسُدُّ أفواهنا إلا عنِ التَّضَرُّعِ بصلاةِ الخاطِئ طالِبينَ رحمَةَ اللهِ (متَّى 5: 17- 48). الأخبارُ السَّارَّةُ هي أنَّنا عندما نُصَلِّي صلاةَ الخاطِئ، طالِبينَ رحمةَ الله، يُخبِرُنا يسُوعُ بأنَّهُ بإمكانِنا أن نذهَبَ إلى بيتِنا مُبَرَّرِينَ، - أي مُعلَنِينَ أبراراً من قِبَلِ الله (لُوقا 18: 10- 14).
الجميعُ يُمكِنُهُم أن يتبرَّرُوا بالإيمان
يَرجِعُ بُولُس سَريعاً إلى الأخبارِ السَّارَّة، التي تُشَكِّلُ زخمَ وقصدَ هذا التَّصريحِ المُوحَى بهِ عن لاهُوتِ العَهدِ الجديد. عندما ندرُسُ هذه الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى بِعنايَةٍ، نُدرِكُ أنَّ بُولُس يُقدِّمُ خُطَّةً منَ الله، يستَطيعُ من خلالِها الخُطاةُ أن يُعلَنُوا أبراراً منَ الله، أي وكأنَّهُم لم يُخطِئُوا أصلاً.
اللهُ هُوَ مُؤَلِّفُ هذه الخُطَّة. يتَّضِحُ هذا الأمرُ في كُلِّ ما كتبَهُ بُولُس في هذه الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى. في الإصحاحِ الثَّامِن، يَقُولُ بُولُس بِوُضُوحٍ، "اللهُ هُوَ الذي يُبَرِّرُ." (8: 33) فذبيحَةُ يسُوع المسيح، كحَمَلِ اللهِ، هي أساسُ هذه الخُطَّة (3: 25؛ 4: 25). وقيامَةُ يسُوع المسيح هي الضَّمانَةُ أنَّ الذي ماتَ على الصَّليب كانَ حملَ اللهِ الذي ماتَ من أجلِ خطايا العالَم (رُومية 4: 25).
الإيمانُ هُوَ المبدأُ الذي بهِ نُطَبِّقُ مُعجِزَةَ التَّبرير على خطايانا الشَّخصِيَّة (3: 28، 30). فالإيمانُ هُوَ مجالٌ هامٌّ جدَّاً من تبريرِنا، إذ يُخَصِّصُ بُولُس مُعظمَ الإصحاحِ الرَّابِع من هذه الرِّسالَة لمِثالِ إبراهِيم – أبي المُؤمنين. عندما يُريدُ اللهُ أن يُوصِلَ فِكرَةً رائِعَة، يُغَلِّفُها بفمهُومِ شَخص. وهُوَ يعتَبِرُ الإيمانَ مفهُوماً هامَّاً. لهذا، يُخَصِّصُ اللهُ إثنَي عشَرَ إصحاحاً من سِفرِ التَّكوين، ليُخبِرَنا بِقِصَّةِ إبراهيم، لأنَّهُ كانَ تعريفاً حَيَّاً للإيمان.
في العهدِ الجديد، عندما يُريدُ كُتَّابُهُ المَسُوقينَ بالرُّوحِ القُدُس أن يُخبِرُونا عنِ الإيمان، قبلَ أن يكتُبُوا أيَّةَ شَيءٍ يُخبِرُونَنا دائماً تقريباً عن إبراهيم. فهذه الشَّخصِيَّة الشَّهيرَة في العهدِ القَديم مَذكُورَةٌ أيضاً في العهدِ الجديد، أكثَرَ من أيَّةِ شخصيَّةٍ منَ العهدِ القديم.
نِعمَةُ اللهِ هي مَصدَرُ كَونِنا أُعلِنَّا أبراراً من قِبَلِ الله (رُومية 3: 24). فالحقيقَةُ المَجيدَةُ أنَّ نِعمَةَ اللهِ هي مَصدَرُ تبريرِنا، مُوضَّحَةٌ أيضاً من خلالِ حياةِ إبراهيم. عندما نقرأُ أنَّ إبراهيمَ آمنَ باللهِ، فحُسِبَ لهُ بِرَّاً، يَشرَحُ بُولُس أنَّ هذه الكلمة تعني أنَّ البِرَّ أُعطِيَ ولم يُكتَسَب أو يُستَحَقُّ من قِبَلِ إبراهيم.
يستَخدِمُ بُولُس لاحِقاً في الإصحاحِ التَّاسِع يعقُوبَ كمِثالٍ على النِّعمة. فالنِّعمَةُ هي عمَلُ اللهِ فينا ولأجلِنا، بِدُونِنا أو بِدُونِ أيِّ مُساعَدَةٍ منَّا. فرَحمَةُ اللهِ تحجُبُ عنَّا ما نستَحِقُّهُ، بينما نعمَةُ اللهِ تُغدِقُ علينا الخلاص وكافَّة أنواع البَرَكاتِ التي لا نَستَحِقُّها، أو لا نُحَقِّقُها بجُهُودِنا الشَّخصِيَّة. يَقُولُ بُولُس هُنا أنَّنا لن نَجِدَ مصدَرَ خلاصِنا لا في أعمالِنا ولا في إستِحقاقاتِنا، بل ببَساطَةٍ في نعمَةِ الله.
الأعمالُ هي البُرهانُ الذي يُصادِقُ على الإيمان الحقيقيّ (2: 6- 10). فبِحَسَبِ يَعقُوب، الإيمانُ الذي يُخَلِّصُنا هُوَ دائماً إيمانٌ يعمَل (يعقُوب 2: 14 – 26). قالَ أحدُهُم، "الإيمانُ وحدَهُ يستَطيعُ أن يُخَلِّص، ولكنَّ الإيمانَ الذي يُخَلِّص لا يَكُونُ أبداً وحدَهُ." فنحنُ نخلُصُ بإيمانٍ تُرافِقُهُ دائماً وتُصادِقُ عليهِ أعمالٌ صالِحَة. رُغمَ أنَّ زُخمَ هذه الرِّسالة هو أنَّنا نتبرَّرُ بالإيمانِ وليسَ بالأعمال، لاحِظوا التَّشديدَ في هذه الرِّسالَة وباقِي رسائِل بُولُس المُوحاة، على المكانة الهامَّة للأعمالِ في رِحلَةِ المُؤمنِ الإيمانِيَّة (2: 6- 10).
بِحَسَبِ بُولُس، الخُطاةُ لا يَخلُصُونَ أبداً بالأعمالِ الصَّالِحَة، ولكنَّنا نخلُصُ لأعمالٍ صالِحَةٍ قد سبقَ اللهُ فأعدَّها لِكَي نسلُكَ فيها (أفسُس 2: 8- 10). هُناكَ تشديدٌ قَوِيٌّ جدَّاً في كُلِّ كتاباتِ بُولُس على أنَّنا لم نخلُصْ ولا نَستطيعُ المُحافَظَةَ على خلاصِنا بالأعمالِ الصَّالِحة. هذا هُوَ أيضاً زخمُ وفحوى رسالَتَي بُولُس إلى أهلِ رُومية وغلاطية.
خُلاصَة
اللهُ هُوَ مُبدِعُ خُطَّةٍ يستَطيعُ من خِلالِها أن يُعلِنَ الخُطاةَ مُبَرَّرِينَ وكأنَّهُم لم يُخطِئُوا أصلاً. صليبُ يسُوع المسيح هُوَ أساسُ هذه الخطَّة. وقِيامَةُ يسُوع المسيح هي ضمانُ كَونِ يسُوع هُوَ إبن اللهِ الوحيد المَولُود عندما تألَّمَ وماتَ على الصَّليبِ لِفِدائِنا. ونعمَةُ اللهِ هي مَصدَرُ خُطَّةِ اللهِ ليُضَحِّيَ بإبنِهِ لأجلِ خلاصِنا. والإيمانُ هُوَ المَبدَأُ الذي بهِ نُطَبِّقُ شَخصِيَّاً هذه الخُطَّة العجائبيَّة لتبريرِنا من خطايانا ولأجلِ خلاصِنا. الأعمالُ لا تُخَلِّصُنا، ولكنَّها تُفَعِّلُ الإيمانَ الحقيقيَّ الذي يُخَلِّصُنا.
بعدَ أن يُقدِّمَ بُولُس قَلبَ خُطَّتِهِ في الإصحاحِ الثَّالِث، يسأَلُ: "فأينَ الإفتِخار؟" إنَّهُ يُخاطِبُ يَهُودِيَّاً وهمِيَّاً فَخُوراً بكونِ اللهِ قد أعطاهُ النَّامُوس وأنَّهُ يحفَظُ هذا النَّامُوس. وكَفَرِّيسيٍّ فَخُور، كانَ بُولُس نفسُهُ مُذنِباً بكبرياءِ البِرِّ الذَّاتِيّ هذا (فيلبِّي 3: 4- 9).
وعلى مِثالِ يسُوع، مُعظَمُ تعليمِ بُولُس هُنا مُوَجَّهٌ لقادَةِ الشَّعب اليَهُودِيّ الدينيِّين. فجوابُهُ على سُؤالِهِ الذَّاتِي هُوَ أنَّنا عندَما نفهَمُ خُطَّةَ اللهِ هذه لإعلانِنا أبراراً، لن يَكُونَ هُناكَ مكانٌ للإفتِخار. لهذا يكتُبُ هذا الرَّسُولُ قائِلاً للغَلاطِيِّين: "وأمَّا من جِهَتِي فحاشا لي أن أفتَخِرَ إلا بِصَليبِ رَبِّنا يسُوع المسيح." (غلاطية 6: 14)
كَمُعَلِّمٍ سابِقٍ للنَّامُوس، يختُمُ هذا الإصحاح الثَّالِث سائِلاً ومُجيباً مُجدَّداً: "أمِ اللهُ لِليَهُودِ فَقَط. أَلَيسَ لِلأُمَمِ أيضاً؟ بل لِلأُمَمِ أيضاً." ثُمَّ يختُمُ هذا بما يُسمِّيهِ "نامُوس الإيمان" الذي هُوَ خُطَّةُ اللهِ لتبريرِنا، يَهُودَاً كُنَّا أم أُمَماً، وكُلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض.
فِكرُهُ الخِتامِيّ هُوَ أنَّ التَّبريرَ بالإيمانِ لا يُفرِغُ نامُوسَ الله. فنامُوسُ الإيمان الذي بِهِ يُبَرِّرُ اللهُ اليَهُودَ والأُمَم، يُؤَسِّسُ نامُوسَ الله. وتصريحاتُهُ الخِتامِيَّة عنِ النَّامُوس هي صَدَى كَلِماتِ رَبِّهِ، الذي أخبَرَنا على رأسِ جَبلِ الجليل أنَّهُ لم يأتِ لينقُضَ النَّامُوسَ والأنبِياء، بل ليُكَمِّلَ جوهَرَ ما يُعَلِّمُنا بهِ النَّامُوسُ والأنبِياء (متَّى 5: 17).
- عدد الزيارات: 10341