Skip to main content

الفَصلُ الرَّابِع "جاءَت ساعَتُهُ"

(يُوحَنَّا 19: 16- 42)

عبرَ إنجيلِ يُوحَنَّا، أشارَ كاتِبُ الإنجيلِ الرَّابِع إلى تلكَ السَّاعَة المُمَيَّزَة في حياةِ وخدمَةِ يَسُوع. لا يَقصُدُ يُوحَنَّا بتلكَ السَّاعَة المعنى الحَرفِيّ، أي سِتِّينَ دَقيقَة. بل يَصِفُ الساعةَ التي من أجلِها جاءَ إلى هذا العالم. في الإصحاحِ الثَّانِي عَشَر، في حوالَي مُنتَصَفِ الطَّريق من سيرَةِ حياةِ يسُوع، إقتَبَسَ يُوحَنَّا قولَ يسُوع للآب في صلاتِهِ، أنَّ ساعَتَهُ قد جاءَت. (يُوحَنَّا 12: 23) ولقد إقتَبَسَ يُوحَنَّا يسُوعَ وهُوَ يُصَلِّي هذه الكلماتِ بعَينِها للآب، عندما صَلَّى صلاتَهُ الشَّهيرَة في الإصحاح السَّابِع عَشَر: "أيُّها الآبُ، قد أتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ إبنَك، ليُمَجِّدَكَ إبنُكَ أيضاً." (يُوحَنَّا 17: 1)

هذه السَّاعَة هي ساعَةُ موتِهِ على الصَّليب. فصَلبُهُ هُوَ الهدَفُ الأكثَرُ  أهَمِّيَّةً الذي لأجلِهِ جاءَ يسُوعُ إلى هذا العالم (3: 14- 21). عندما دَوَّنَ كُتَّابُ الأناجيل الثَّلاثَة الأُولى حدَثَ مَوتِ المسيح على الصَّليب، إستَخدَمُوا كَلِمَةً واحِدَة حاسِمة: "صَلَبُوهُ."

أقتَرِحُ أن نُشَدِّدَ على كُلِّ جُزءٍ من أجزاءِ هذه الكلمة. الجُزءُ الأوَّلُ من هذه الكلمة هُوَ الضَّميرُ المُستَتِر "هُم" صَلَبُوهُ، والذي يُثيرُ قَضِيَّة من هُوَ الذي صلبَ يسُوع المسيح؟ هل كانَ الجُنُودُ الرُّومانُ هُم الذين صَلَبُوهُ؟ أم كان اليَهُودُ؟ جوابِي هُوَ أنَّ اللهَ ضَحَّى بإبنِهِ الوحيد من أجلِ خلاصِنا (إشعياء 53: 10؛ 2كُورنثُوس 5: 21).

الجُزءُ الثَّانِي من هذه الكلمة هُوَ الفِعلُ "صَلَبَ" بِحَدِّ ذاتِهِ، والذي يُرَكَّزُ على المنهَجِيَّة التي إستَخدَمها الرُّومانُ، اليَهُودُ، والآبُ السَّماوِيّ لتحقيقِ خلاصِنا. لم يُشَدِّدْ كُتَّابُ الأناجيلِ المُتشابِهَة النَّظرَة على تفاصيلِ الصَّلب المُرَوِّعَة. كانَ هذا لَرُبَّما لأنَّ هؤلاء الكُتَّاب كانُوا يعتَقِدُونَ أنَّ قُرَّاءَهُم مُعتادُونَ على أهوالِ هذا الشَّكلِ المُرَوِّع من تنفيذِ حُكمِ الإعدام. أو لَرُبَّما أنَّ معنى هذه السَّاعَة المُفعَمَة بالمَعانِي لم يَكُنْ مادِيَّاً، بل كانَ يُشيرُ إلى المُنازَعَة الرُّوحِيَّة التي إختَبَرَها في نفسِهِ على الصَّليب، تلكَ هي التي كانت مُهِمَّةً بالنِّسبَةِ للأنبِياءِ ولكُتَّابِ الأناجيل، ممَّا جعلَهُم يُشَدِّدُونَ عليها في أسفارِهِم. كتبَ النَّبِيُّ إشعياء قائِلاً: "من تَعبِ نفسِهِ ... يَشبَعُ." (إشعياء 53: 11)

أهَمُّ جزءٍ من أجزاءِ كلمة "صَلَبُوهُ"، هي الجُزءُ الأخير، أي الضَّمير المُتَّصِل "هُ". لقد صَلَبت رُوما المئات والآلاف منَ الشُّعوبِ الذين هزَمَتْهُم. وأحياناً كانُوا يَصلُبُونَ سُكَّانَ قُرىً ومُدُنٍ بِرُمَّتِها، بِسَبَبِ تمرُّدِ سُكَّانِها ورفضِهِم دفعَ الجِزيَة. خلالَ الثَّلاثمائة سنة الأُولى من تاريخِ الكنيسة، صُلِبَ الآلافُ منَ المسيحيِّين. وقد قامَ نيرُون بِسَكبِ الشَّمعِ المَغلِيِّ على المُؤمنينَ بالمسيح بعدَ صَلبِهِم، لِكَي يُضيءَ بِهِم حدائِقَ مدينَتِهِ.

ولكنَّ مَوتَ كُلِّ أُولئِكَ الذين صَلَبَتْهُم رُوما ما كانَ مُمكِناً أن يبدَأَ بالتَّكفيرِ عن خطايانا أو بتكميلِ خلاصِنا. لقد كانَ يسُوعُ اللهَ المُتَجسِّد عندما ماتَ على الصَّليب، وكانَ هذا هُوَ ما جعلَ من مَوتِهِ الذبيحَةَ التي قَبِلَها اللهُ لخلاصِ كُلِّ أُولئكَ الذين يُؤمِنُون. لقد كانَ حملَ اللهِ الذي ماتَ ليَرفَعَ خطايا العالم عامَّةً وخطايانا نحنُ خاصَّةً. (أفسُس 5: 2؛ عبرانِيِّين 7: 26- 28؛ 10: 10؛ 1يُوحَنَّا 2: 2؛ 4: 10). وبالإجمال، لم تَكُن تَتِمُّ عمَلِيَّاتُ صَلبٍ في رُوما، عاصِمَة الأمبراطُورِيَّة، لأنَّهُ كانَ ممنُوعاً صَلبُ المُواطِنينَ الرُّومان. بل كانت عمليَّاتُ الصَّلبِ تحدثُ في المُقطاعاتِ الخارِجيَّة وفي المُستَعمَرات. وكانَ الصَّلبُ مُخصَّصاً لِلعَبيدِ إجمالاً، وكذلكَ للمُتَمَرِّدينَ الذين يقُومُونَ بإحداثِ الشَّغبِ والثَّوراتِ ضِدَّ رُوما، كما هي الحالُ هُنا معَ المُتَعصِّبينَ من اليَهُود، الذي كانُوا يُشَكِّلُونَ ميليشيات منَ المُقاتِلينَ لمُحارَبَةِ الرُّومان، حتَّى ولو كانُوا منَ الذين إنهزَمُوا سابِقاً أمامَ رُوما.

فلقد كانَ الصَّلبُ عُقُوبَةَ المُجرِمينَ الأردِياء، والأكثَر خُطُورَةً. ولم يكُنِ الصَّلبُ فقط الطريقَةَ الأكثَر إيلاماً لإعدامِ شخصٍ ما، بل كانت أيضاً الأكثَر عاراً. لقد كانَ المُجرِمُونَ يُصلَبُونَ عُراةً. وفي مُعظَمِ الأحيان، كانُوا يُترَكُونَ مُعَلَّقِينَ على الصليبِ لمُدَّةِ أُسبُوعٍ، أو أُسبُوعَين، إلى أن تأتِيَ الطُّيُورُ الكاسِرَةٌ لتنهَش لحمَ جُثَثِهم. وعندما كانُوا يُنزَلُونَ عن الصليب، نادِراً ما كانَ يَتِمُّ دَفنُهُم. بل غالِباً ما كانُوا يُلقَونَ للكلابِ البرِّيَّةِ المُفتَرِسة، وللطُّيُورِ الكاسِرة. لقد كانت هذه طريقَةٌ مُشينَةٌ ومُريَعَةٌ للموت.

في الكتابِ المُقدَّس، يُخبِرُنا نَبيُّ العهدِ القَديم إشعياء، ورُسُلُ العهدِ الجديد، عن المغزى اللاهُوتِيّ لصلبِ المَسيح. تُوجَدُ بِضعَةُ أعدادٍ في الإصحاحِ الثَّالِث والخَمسين من سفرِ إشعياء، التي تُشَكِّلُ الوَصفَ المُفضَّلَ عندي في العهدِ القَديم لمغزَى صَلبِ يسُوع المسيح: "وهُوَ مجرُوحٌ لأجلِ معاصِينا، مَسحُوقٌ لأجلِ آثامِنا، تأديبُ سلامِنا عليهِ، وبِحُبُرِهِ شُفِينا. كُلُّنا كَغَنَمٍ ضَلَلْنا، مِلنا كُلُّ واحدٍ إلى طَريقِهِ، والرَّبُّ وضَعَ عليهِ إثمَ جميعِنا... أمَّا الرَّبُّ فسُرَّ بأن يسحَقَهُ بِالحَزَن. إن جعلَ نفسَهُ ذَبيحَةَ إثمٍ يرى نسلاً تطُولُ أيَّامُهُ... من تَعَبِ نفسِهِ يرى ويشبَعُ. وعبدِي البارُّ بِمعرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثيرين، وآثامُهُم هُوَ يحمِلُها... وهُوَ حَمَلَ خَطيَّةَ كَثيرين، وشَفَعَ في المُذنِبِين." (إشعياء 53: 5، 6، 10- 12).

يُعطينا النَّبِيُّ دانيال فحوى ومغزَى ما حصَلَ عندما ماتَ يسُوعُ على الصَّليب. فبِحَسَبِ دانيال، عندما ماتَ يسُوعُ على الصَّلِيب، تَحقَّقَت كفَّارَةُ الإثم وأُتِيَ بالبِرِّ الأبديّ وخَتَمِ الرُّؤيا والنُّبُوَّة ومسح قُدُّوس القُدُّوسِين بطريقَةٍ مُمَيَّزة (دانيال 9: 24).

في رَسائِلِ العهدِ الجديد، يُعطِينا رَسُولا كَنيسةِ العهدِ الجديد العَظيمان تفسيراتٍ وتطبيقاتٍ جميلَةً عن معنى مَوتِ المسيح على الصَّليب. يُطَبِّقُ بُطرُس الإصحاحِ الذي إقتَبَسناهُ من إشعياء عندما يَقُولُ: "الذي حمَلَ هُوَ نفسُهُ خطايانا على الخَشَبَة لِكَي نَمُوتَ عنِ الخَطايا فنحيا للبِرّ. الذي بِجَلدَتِهِ شُفِيتُم. لأنَّكُم كُنتُم كَخِرافٍ ضالَّةٍ لكنَّكُم رَجعتُم الآنَ إلى راعي نُفُوسِكُم وأُسقُفِها." (1بُطرُس 2: 24- 25).

يَقُولُ بُولُس في 2كُورنثُوس 5 أنَّهُ منَ خِلالِ مَوتِ يسُوع على الصَّلِيب، "أنَّ اللهَ كانَ في المسيح مُصالِحاً العالَمَ لِنَفسِهِ، غَيرَ حاسِبٍ لهُم خطاياهُم، وواضِعاً فينا كلمة المُصالحَة." (2كُو 5: 18 و19).  

فبَينما كانَ يَسُوعُ مُعَلَّقاً على الصليب، صُولِحَ العالَمُ أجمَعُ معَ الله. يُخبِرُنا عَدَدٌ ديناميكيٌّ في هذا المقطَع أنَّهُ عندَما أنهى يسُوعُ عملَهُ على الصليب من أجلِ خلاصِنا، من تلكَ اللحظة فصاعِداً، اللهُ لم يَعُدْ يحسُب لنا خطايانا، لأنَّهُ وضعَها على إبنهِ الوحيد يسُوع، عندما عُلِّقَ على الصَّليب. (19) علينا جميعاً أن نقبَلَ فردِيَّاً وشخصيَّاً ذَبِيحَتَهُ من أجلِنا، وأن نعتَرِفَ بِهِ رَبَّاً ومُخَلِّصاً.

هذا هُوَ جَوهَرُ الأخبارِ السَّارَّة التي سنَكرِزُ بها للعالَمِ أجمع. فالأخبارُ السَّارَّة التي سنُشارِكُها معَ أهلِ هذا العالم هي ليسَت أنَّهُم سيَذهَبُونَ إلى الجحيم بِسَبَبِ خطاياهُم. فالإنجيلُ (الخَبَرُ السَّارّ) الذي نحنُ مُكَلَّفُونَ بالكرازَةِ بهِ للضَّالِّين الذين نلتَقيهِم في حياتِنا وفي علاقاتِنا الشَّخصِيَّة، هُوَ أنَّهُ لا يجِب أن يَذهَبُوا إلى الجحيم. (مرقُس 16: 15) فإذا تابُوا وآمنُوا خَلُصُوا، لأنَّ اللهَ لن يحسِبَ عليهِم خَطِيَّةً. (رُومية 10: 9- 11) فلقد وضعَ كُلَّ الخطايا على إبنِهِ الوحيد، الذي نزلَ إلى أعماق ِالجحيم من أجلِي وأجلِكَ بالصَّليب.

وينتَهي هذا الإصحاحُ العظيم، أي 2كُورنثُوس 5، بالكلماتِ التَّالِيَة: "لأنَّهُ جعلَ الذي لم يعرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأجلِنا، لِنَصيرَ نحنُ برَّ اللهِ فيهِ." إذ تجاهَلنا تقسيمَ الإصحاح، نرىأنَّ الأعدادَ التَّالِيَةَ تضَعُ أمامنا تحدِّياً: "إذاً نسعى كَسُفَراء عنِ المَسيح كأنَّ اللهَ يَعِظُ بنا. نطلُبُ عنِ المَسيح تصالَحُوا معَ الله." (2كُورنثُوس 5: 21؛ 6: 1و2).

في رسالَتِهِ الأُولى إلى الكُورنثُوسيِّين، قَدَّمَ بُولُس أوضحَ التَّصريحاتِ في الكِتابِ المُقدَّس عمَّا هُوَ الإنجيل (1كُورنثُوس 15: 3- 4)، الذي نحنُ مُكَلَّفُونَ بالكرازَةِ بهِ لكُلِّ خليقَةٍ على الأرض (مرقُوس 16: 15). وفي بدايَةِ رسالتِهِ، يُعلِنُ أنَّهُ عندما جاءَ إلى كُورنثُوس كانَ مُصَمَّماً على أن لا يَكرِزَ إلى بالمسيح وإيَّاهُ مَصلُوباً (2: 1- 2). لَرُبَّما قصدَ أنَّهُ لن يقتَبِسَ منَ الفلاسِفَة والشُّعراء اليُونان، كما فعلَ في أثينا قبلَ سفَرَهِ إلى كُورنثُوس (أعمال 17، 18).

عندما ختمَ رسالَتَهُ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس، ذكَّرَ الكنيسةَ التي أسَّسَها هُناكَ بالإنجيلِ الذي كرزَ لهُم بهِ. ذَكَّرَهُم أنَّ هذا كانَ ما كرزَ لهُم بهِ؛ وهذا ما آمنُوا بهِ؛ هذا الإنجيل هُوَ الذي خلَّصَهُم، ولو لم يُؤمِنُوا بهذا الإنجيلِ لَهَلَكُوا. وخلالَ تذكِيرِهِ إيَّاهُم بأنَّ الإنجيلَ الذي كَرَزَ لهُم بهِ هُناكَ كانَ أساسَ إيمانِهِم، قالَ لهُم أنَّ الإنجيل تَضَمَّنَ حقيقَتين عن يسُوع المسيح: يسُوع المسيح ماتَ وقامَ منَ الموت لغُفرانِ خطايانا، بِحَسَبِ الكُتُب.

رُغمَ أنَّ يُوحَنَّا سيَستَخدِمُ أيضاً كلمة "صَلَبُوهُ"، فبعدَ إستِخدامِها يُعطينا السَّردَ الأعمَق لحَدَثِ موتِ المسيح على الصَّليب، التي نَجِدُها في سِيَرِ حياةِ يسُوع المُوحاة هذه. والآن وقد تأمَّلنا بالتَّطبيقِ الشَّخصِيّ لمعنى مَوتِ يسُوع، سوفَ أبدأُ بتقديمِ مُلَخَّصِي لقصَّةِ يُوحَنَّا المُوحَى بها عن أهمِّ ساعَةٍ من حياةِ يسُوع وخدمَتِه.

إبتداءً منَ العددِ السَّادِس عَشَر من الإصحاحِ التَّاسِع عشَر، نقرأُ: "فأخَذُوا يسُوعَ ومَضوا بهِ. فخرجَ وهُوَ حامِلٌ صَليبَهُ إلى المَوضِعِ الذي يُقالُ لهُ مَوضِعُ الجُمجُمَة، ويُقالُ لهُ بالعِبرانِيَّة جُلجُثَة. حَيثُ صَلَبُوهُ وصَلَبُوا إثنَين آخرَينِ معَهُ من هُنا ومن هُنا ويسُوعُ في الوَسَط." هذا ما فعَلَهُ الجُنُود.

"وكتبَ بيلاطُس عُنواناً ووَضَعَهُ على الصَّليب. وكانَ مكتُوباً يسُوعُ النَّاصِريُّ مَلِكُ اليَهُود. فقَرَأَ هذا العُنوان كَثيرُونَ من اليَهُودِ لأنَّ المكانَ الذي صُلِبَ فيهِ يسُوعُ كانَ قَريباً من المَدينَة. وكانَ مكتُوباً بالعِبرانِيَّة واليُونانِيَّة واللاتِينيَّة. فقالَ رُؤساءُ كَهَنَةِ اليَهُود لِبِيلاطُس لا تَكتُبْ مَلِك اليَهود بل إنَّ ذاكَ قالَ أنا مَلِكُ اليهُود. أجابَ بيلاطُس ما كَتَبتُ قد كَتَبتُ." (يُوحَنَّا 19: 16- 22)

كانَتِ اللاتِينيَّةُ للرُّومان، واليُونانِيَّةُ كان اللغة الأكثَر شُيُوعاً في تلكَ الأيَّام، والأرامِيَّةُ كانَت لليَهُود. يتساءَلُ الكثيرُونَ لماذا لم تَكُنِ الُّلغاتُ الثلاث العبرانِيَّة، اللاتِينيَّة، واليُونانِيَّة. الجوابُ على هذا السُّؤال هوَ أنَّهُ بينما كانَ اليَهُودُ في السَّبِي، تعلَّمُوا أن يتكلَّمُوا الآرامِيَّة. فإذا كنتُم قد دَرَستُم العهدَ القديمَ معنا، قد تتذكَّرُونَ أنَّ نحميا غَضِبَ جدَّاً لأنَّ اليَهُودَ الذين رَجَعُوا منَ السَّبِي لم يُعَلِّمُوا اللُّغةَ العِبرانِيَّة لأولادِهم. (نحميا 13: 23- 25).

يُقالُ أنَّ العادَةَ كانت أنَّهُ عندما كانَ يُصلَبُ أحدُهُم، كانَ يتقدَّمُ جُندِيٌّ رُومانِيٌّ أمامَ المَوكِب، حامِلاً رايَةً مكتُوباً عليها سَبَب قيادَةَ ذلكَ الإنسان للمَوتِ صلباً. وعندما كانَ يُصلَبُ السَّجين، كانت تُعلَّقُ تلكَ الرَّايَة فوقَ صَليبِهِ. وكانَ هُناكَ نوعٌ من العدالَةِ في هذا الأمرِ المُريع، إذ أنَّهُ إذا كاَن أيٌّ من الجُمهُورِ يعرِفُ أيَّ سَبَبٍ يُسقِطُ الإتِّهامات ضِدَّ المَحكُومِ عليهِ، فبإمكانِهِ أن يتقدَّمَ ويحتجَّ على الحُكم، وعندها تُجرى مُحاكَمَةٌ أُخرى. ولكن بسبب كون الرُّومان قُساةً في أحكامهم، لم يكُن يتجرَّأُ الكثيرُ من النَّاسِ على الإعتِراض، لأنَّهُ إذا تبيَّنَ أنَّ المُعتَرِضَ كانَ مُخطِئاً في إدِّعائِهِ، فكانَ يتمُّ صلبُهُ هُوَ أيضاً.

وتُتابِعُ قِصَّةُ الصَّلبِ بالقَول"ثُمَّ إنَّ العَسكَرَ لمَّا كانُوا قد صَلَبُوا يسُوعَ، أخَذُوا ثِيابَهُ وجَعَلُوها أربَعَةَ أقسامٍ، لكُلِّ عسكَرِيٍّ قِسماً. وأخذُوا القَميصَ أيضاً. وكانَ القَميصُ بِغَيرِ خياطَةٍ مَنسُوجاً كُلُّهُ من فَوق. فقالَ بعضُهُم لِبَعضٍ لا نَشُقُّهُ بَلْ نقتَرِعُ عليهِ لِمَن يكُونُ." (يُوحَنَّا 19: 23- 24)

يُتابِعُ يُوحَنَّا إضافَةَ تعليقاتِهِ الشَّخصِيَّة في العدد 24، "لِيَتِمَّ الكِتابُ القائِلُ إقتَسَمُوا ثِيابِي بينَهُم وعلى لِباسِي ألقُوا قُرعَةً." (مزمُور 22: 18) وكما كانتِ الحالُ في تنفيذِ أحكامِ الصَّلب الرُّومانِيَّة، فكانَ هذا يعني أنَّ رَبَّنا يسُوعَ لم يكُنَ يرتَدِيَ ثيابَهُ بينما كانَ مُعلَّقاً على الصليب، بل صُلِبَ شِبهَ عَارٍ من أجلِنا جميعاً. لهذا كُتِبَ عنهُ، "إحتَمَلَ الصَّليب، مُستَهيناً بالخِزِي." (عبرانِيِّين 12: 2)

بعدَ ذلكَ نجدُ مُلاحَظَةً لا يُقدِّمُها إلا كاتِبُ هذا الإنجيل، رَسُولُ المُحبَّة: "وكانت واقِفاتٌ عندَ صَليبِ يسُوع أمُّهُ وأُختُ أُمِّهِ مَريَمُ زوجَةُ كِلُوبا ومَريَمُ المَجدَلِيَّة. فَلَمَّا رأى يسُوعُ أُمَّهُ والتِّلميذَ الذي كانَ يُحِبُّهُ واقِفاً قالَ لأُمِّهِ يا إمرأَة هُوَّذا إبنُكِ. ثُمَّ قالَ لِلتِّلميذِ هُوَّذا أُمُّكَ. ومِن تِلكَ السَّاعَة أخذَها التلميذُ إلى خاصَّتِهِ." (يُوحَنَّا 19: 25- 27)

منذُ أن أُخبِرنا بأنَّهُ قد "تركَهُ التلاميذُ جميعُهم وهَرَبُوا،" (مَرقُس 14: 50)، منَ المُثيرِ للإهتِمام أن نقرَأَ أنَّ هذه النِّساء الأربَع والرَّسُول يُوحَنَّا كانُوا جميعاً أمامَ الصَّليب. فأخُتُ أُمِّهِ التي ذُكِرَت هُنا كانت أُمَّ يعقُوب ويُوحنَّا، وزوجَةَ زَبَدِي.

تَذَكَّرُوا أنَّها جاءَت في متَّى 20 إلى الرَّبِّ يسُوع وسجدَت أمامَهُ، وكانَ لديها طلبٌ لتطلُبَهُ منهُ. فقالَ لها، "ماذا تطلُبِينَ؟" فقالَت، "عندما تأتي في ملكوتِكَ الذي تتكلَّمُ عنهُ دائماً، أُريدُ أن يكُونَ أولادي الإثنين واحِداً عن يمينِكَ والآخر عن يسارِكَ."

وتُتابِعُ القِصَّةُ في العدد 28، "بعدَ هذا رأى يسُوعُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ قد كَمَلَ فَلِكَي يَتِمَّ الكِتابُ (يَستَمِرُّ يُوحَنَّا بالتأكيد أنَّ كُلَّ هذا كانَ لتَتميمِ ما جاءَ في الكُتُب)، قالَ أنا عَطشان. وكانَ إناءٌ مَملُوَّاً خَلاً، فَمَلأُوا إسفنجَةً خَلاً وَوَضَعُوها على زُوفا وقَدَّمُوها إلى فَمِهِ. فلمَّا أخذَ يسُوعُ الخَلَّ قالَ قد أُكمِلَ ونَكَّسَ رأسَهُ وأسلَمَ الرُّوح." (28- 30)

يُخبِرُنا كُتَّابُ الأناجيلِ الأُخرى أن عبارَة "قد أُكمِلَ،" كانَت صرخَةَ إنتِصارٍ. يقُولُ كُتَّابُ باقِي الأناجيل، "فصَرخَ بِصَوتٍ عظيمٍ،" وأسلَمَ الرُّوحَ، أو أسلَمَ حياتَهُ. (متَّى 27: 46؛ مَرقُس 15: 37؛ لُوقا 23: 46). كانت الصَّرخَةُ العَظيمَةُ التي صرخَها يسُوعُ، باللُّغَةِ اليُونانِيَّة، كلمةً واحِدَةً هي، Tetelestai. وهي تعني بِبَساطَةٍ، "قد أُكمِلَ.

عندما كان يَتِمُّ خَتمُ حُكمٍ بالسِّجن، كانَ الرُّومانُ يكتُبُونَ كلمة Tetelestai على سِجِلِّ السَّجِين. معنى الكَلِمَة كانَ مُشابِهاً للختمِ الذي يُستَخدَمُ عندَ تسديدِ الدَّين، والذي يَقُولُ، "سُدِّدَ المَبلَغُ بالكامِل". فعندما كانَ يُصلَبُ سَجينٌ ما، غالباً ما كانُوا يكتُبُونَ هذه الكلمة نفسَها على لَوحَةٍ، وكانُوا يُسَمِّرُونَ هذه اللَّوحَة على صليبِ هذا السَّجينِ المَصلُوب، مكانَ اللوحة التي كانت تُعَبِّرُ عن سَبَبِ إعدامِهِ. فبينما يكُونُ ذلكَ السَّجينُ الذي يَتِمُّ إعدامُهُ مُعَلَّقاً على ذلكَ الصَّليب لمُدَّةٍ تُقارِبُ الأُسبُوع، قُبَيلَ مَوتِهِ، وحتَّى بعدَ مَوتِهِ بِوَقتٍ طَويل، كانت تلكَ الكَلِمة Tetelestai تُعَبِّرُ عنِ العدالَة الرُّومانِيَّة، وتَدُبُّ الرُّعبَ في نُفُوسِ الشعوب التي هزمَها الرُّومانُ وأرادُوا السَّيطَرَةَ عليها. فكم كانَ مُناسِباً أنَّ يسُوعَ إختارَ هذه الكلمة للتَّعبيرِ عن صَرخَةِ الإنتِصار على الصَّليب.

تذَكَّرُوا أنَّ يسُوع عَبْرَ حياتِهِ بكامِلِها، كانَ مُهتمَّاً بإكمالِ الأعمال التي أعطاهُ الآبُ ليَعمَلَ. "ينبَغي أن أعمَلَ أعمالَ الذي أرسَلَني ما دامَ نهارٌ. يأتِي ليلٌ حِينَ لا يستطيعُ أحدٌ أن يعمَلَ." (9: 4) "لي طَعامٌ لآكُلَ لستُم تعلَمُونَهُ أنتُم؛ طَعامي أن أعمَلَ مشيئَةَ الذي أرسَلَني وأُتَمِّمَ عمَلَهُ." (4: 34) وقالَ في الصلاة، "أيُّها الآبُ، أنا مجَّدتُكَ على الأرض. العملَ الذي أعطَيتَني لأعملَ قد أَكمَلتُهُ." (17: 4) وعندَما وصلَ إلى نهايَةِ حياتِهِ وعمَلِهِ وألَمِهِ على الصَّليب، صَرخَ قائِلاً: Tetelestai "قد أُكمِلَ." (19- 30)

هذه كَلِماتٌ جَميلَةٌ، لأنَّها بِصراحَةٍ تعني أنَّهُ ليسَ علينا أن نُضِيفَ أيَّ شَيءٍ على ما عمِلَهُ يسُوع، لكَي نحصُلَ على الغُفرانِ والمُصالَحَة. فهل تعتَقِدُ أنَّهُ بإمكانكَ أن تزيدَ أيَّ شَيءٍ على ما أكملَهُ وأتمَّهُ يسُوعُ على الصَّليب؟ لا يُمكِنُكَ أن تُضيفَ شَيئاً، إن كانَ هُوَ قد أكمَلَ كُلَّ شَيء. فإن كانَ قد أكمَلَ العمَل، كما أوضحَ هُوَ تماماً، الشَّيءُ الوَحيدُ الذي بإمكانِكَ أن تعمَلَهُ هُوَ، بما أنَّهُ "أنهى على الصَّليب كُلَّ ما كانَ ضَرورِيَّاً لِخَلاصِنا، فكُلُّ ما تركَهُ لكَ لِتَعمَلَهُ هُوَ أن تُصدِّقَ أو لا تُصدِّقَ هذا العمل، أن تُؤمِنَ أو لا تُؤمِنَ به - بينما كانَ يَحُضُّ الرُّسُلَ في بدايَةِ عظَةِ العُلِّيَّة (يُوحَنَّا 14: 1).ولكن ليسَ بإمكانِكَ أن تُضيفَ أيَّ شَيءٍ على عملِ المسيح المُتَمَّم على الصَّليب، لأنَّهُ قد أُكمِلَ أصلاً.

تُوضِحُ الرِّسالَةُ إلى العِبرانِيِّينَ هذا الأمرَ بالتَّمامِ. "لا تبقى بعدُ تقدِمَةٌ عن الخَطيَّة، إن كانت الذَّبيحَةُ قد أُكمِلَت". (عبرانِيِّين 7: 27؛ 10: 12). فإن كانَ المسيحُ قد صَرَّحَ قائِلاً "قد أُكمِل"، Tetelestai ، وإن كانَ اللهُ قد رَضِيَ بذلكَ، فمنَ الجهلِ والجُنُونِ ونُكرانِ الجَميل أن نُحاولَ إضافَةَ أيِّ شَيءٍ على ما عملَهُ مُخَلِّصُنا من أجلِنا على الصَّليب. عندما تُعَلِّمُ كَلِمَةُ اللهِ أنَّ الطَّاعَةَ لما نعرِفُهُ تُفَعِّلُ الإيمانَ الحقيقيّ، لا تقتَرِحُ هذه الكلمَةُ أنَّهُ بإمكانِنا أن نُضِيفَ شَيئاً على عملِ المسيحِ المُتَمَّمِ على الصَّليب.

من المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّهُ عندما يَقُولُ يُوحَنَّا، "أحنَى رأسَهُ وأسلَمَ الرُّوح،" (19: 30)، تُشيرُ الكلماتُ اليُونانيَّةُ إلى أنَّهُ أحنى رأسَهُ وكأنَّهُ يَستَلقِيَ على وِسادَةٍ. إذا تَفَكَّرنا بالناحِيَة العمَلِيَّة لِلصَّلبِ، تأمَّلْ بتلكَ المُعجِزة المُشارُ إليها هُناك. فإن كانَت يداكَ مُسَمَّرَتينِ على صَليبٍ، وجسدُكَ مُعلَّقاً على هذا الصِّليب، وأسلمتَ الرُّوح، ألَنْ يتدَلَّى رأسُكَ إلى الأمام؟ ولكن يبدُو أنَّ الكتابَ يَقُولُ أنَّ الرَّبَّ أحنَى رأسَهُ إلى الَوراء وأسلَمَ الرُّوح.

ليسَتِ القَضِيَّةُ، كما يُوضِحُ يُوحنَّا تماماً، أنَّ حياتَهُ أُخِذَت منهُ، بَل هُوَ الذي أسلَمَها. فهُوَ يَقُولُ في الإصحاح العاشِر من إنجيلِ يُوحنَّا، "لي سُلطانٌ أن أضعَها ولي سُلطانٌ أن آخُذَها أيضاً. هذه الوَصِيَّة قَبِلتُها من أبِي." (18) فكما يبدو، لقد أسلَمَ يسُوعُ حياتَهُ طَوعاً وإختِياراً. ويُشيرُ يُوحَنَّا إلى الأمرِ نفسِهِ عندما يكتُبُ قائِلاً أنَّ يسُوعَ أحنَى رأسَهُ [إلى الوراء] وأسلمَ الرُّوحَ طَوعاً، طاعَةً وإنسجاماً معَ مَشيئَةِ الآب.

ثُمَّ تستَمِرُّ القِصَّةُ في العدد 31. "ثُمَّ إذ كانَ إٍستِعدادٌ فَلِكَي لا تَبقَى الأجسادُ على الصَّليبِ في السَّبتِ لأنَّ يومَ ذلكَ السبتِ كانَ عظيماً، سألَ اليَهُودُ بِيلاطُسَ أن تُكسَرَ سِيقانُهم ويُرفَعُوا."

بِدُونِ الدُّخُولِ في تَفاصِيلِ أهوالِ الصَّلب، عندما كانَ يمُوتُ شَخصٌ على الصَّليب، كانَ ألمُ الكَفَّين اللَّذَينِ يَحمِلانِ ثقلَ الجسدِ بكامِلِهِ، كانَ هذا الألَمُ يُصبِحُ مُبَرِّحاً لا يُطاق. ويُقالُ أنَّ الرِّئَتَينِ كانتا تتعطَّلانِ، بالإضافَةِ إلى شَتَّى أنواعِ مشاكِلِ التنفُّس، ولكي يشعُرَ المَصلُوبُ بشيءٍ من الرَّاحَةِ المُؤقَّتَة، كانَ يُحاوِلُ أن يُلقِيَ ثِقلَ جسدِهِ على القَدَمين، لكَي يُريحَ كَتِفَيهِ ويديهِ، وبالطبعِ كفَّيهِ المُتألِّمَين.

حاوِلُوا أن تتصوَّرُوا الرُّعبَ الشديد الذي عانَى منهُ المَصلُوبُ بهذه الطريقة لمُدَّةِ خمسَةِ أيَّامٍ أو أُسبُوع، قبلَ أن يُنقَذَ بالمَوت. فبإمكانِكُم أن ترَوا أنَّ مُنَفِّذِي حُكمِ الإعدام صلباً كانُوا يكسِرُونَ قدَمَي المَصلُوب، لكَي يُسرِّعُوا موتَهُ بعدَمِ إستطاعَتِهِ أن يرتاحَ بالإستنادِ إلى القسم السُّفلِي من جسدِه. إنَّ هذا لوصفٌ رَهيبٌ بالفِعل. وكانُوا يستَخدِمُونَ مِطرَقَةً ضخمَةً لكَي يكسرُوا بها عظامَ رِجلَي المَصلُوب.

وهذا ما فعلُوهُ باللِّصَينِ المَصلُوبَينِ عن يمينِ ويسارِ يسُوع. يقُولُ الكتابُ، "فأتى العَسكَرُ وكَسَرُوا ساقَيْ الأَوَّل والآخر المَصلُوب معَهُ. وأمَّا يسُوعُ فلمَّا جاوُؤا إليهِ لم يَكسِرُوا ساقَيهِ لأنَّهُم رأَوهُ قد ماتَ. لكنَّ واحِداً من العَسكَرِ طعنَ جنبَهُ بِحَربَةٍ ولِلوَقتِ خرجَ دَمٌ وماءٌ. والذي عايَنَ شَهِدَ وشهادَتُهُ حَقٌّ وهُوَ يعلَمُ أنَّهُ يَقُولُ الحَقَّ لتُؤمِنُوا أنتُم." (يُوحَنَّا 19: 32- 35)

هُنا نِجِدُ يُوحنَّا يُدخِلُ تعليقَهُ مُجدَّداً، مُشيراً إلى أنَّ هذا الأمر كانَ تتميماً للنُّبُوَّات. "لأنَّ هذا كانَ لِيَتِمَّ الكِتابُ القائِلُ عَظمٌ لا يُكسَرُ منهُ." (يُوحنَّا 19: 36) كانَ هذا على ما يبدُو إشارَةً إلى حملِ الفِصحِ الذي لم يكُنْ يُكسَرُ عظمٌ من عِظامِهِ. (خُرُوج 12: 46). تَذَكَّرُوا كيفَ قدَّمَ يُوحَنَّا المعمدانُ يسُوع: "هُوَّذا حملُ اللهِ الذي يرفَعُ خَطِيَّةَ العالم." يُوحَنَّا 1: 29) بهذه الطَّريقَة يُطَبِّقُ يُوحَنَّا معنَى هذا الحَدَث المأساوِيّ لِصَلبِ الرِّبِّ يسُوع.

يَجِدُ بَعضُ اللاهُوتيِّينَ الكثيرَ من المغزى في ذلكَ المَقطَعِ الذي يتكلَّمُ عن الدَّمِ والماءِ الخارِجِ من جنبِ المَسيح الطَّعِين. ويُؤمِنُونَ أنَّ الدَّمَ هُوَ أساسُ خلاصِنا، أي الدَّمُ المُقدَّسُ الذي سُفِكَ من أجلِ خطايا العالم بِشَكلٍ عام، ومن أجلِ خطايانا بشكلٍ خاصّ. ويُؤمِنُونَ كذلكَ أنَّ الماءَ يُشيرُ إلى إيمانِنا بهذا الدَّم، من خلالِ المعمُوديَّة، طاعَةً للمأمُوريَّةِ العُظمَى (متَّى 28: 18- 20). ويُوحنَّا سيكُونُ لديهِ الكثير ليَقُولَهُ عن هذا المَوضُوع في رسالتِهِ الأُولى التي نَجِدُها في أواخِرِ العهدِ الجديد (1يُوحَنَّا 5: 6).

يُخبِرُنا المَقطَعُ الأَخِيرُ في الإصحاحِ التَّاسِع عشر عن رَجُلَين: يُوسُف الرَّامِي ونيقُوديمُوس. كانَ نيقُودِيمُوس الرَّابِّيَّ الذي جاءَ إلى يسُوعَ ليلاً في الإصحاحِ الثَّالِث من إنجيلِ يُوحنَّا، حيثُ نجدُ تلكَ المُقابَلَة الرَّائِعة حيثُ قالَ يَسُوع، "ينبَغي أن تُولَدَ ثانِيَةً." يبدُو أنَّ يُوسُف الرَّامِي ونِيقُودِيمُوس كانَا مُؤمِنينَ خُلسَةً، وكانا كلاهُما عُضوَين في السَّنهَدرِيم. يظهَرُ هذا من كَونِهما قد خَشِيا غضَبَ أعضاءِ السّنهَدريم إذا إعترَفا عَلَناً بإيمانِهم بيسُوع.

ولكنَّ النَّاحِيَة السلبِيَّة من هذا المقطَعِ الخِتامِيّ هُوَ أنَّ هذين الرَّجُلَين كانَ بإمكانِهما أن يتكلَّمَا، عندما كانَ السنهَدرِيمُ يُجرِي المحاكَمة الدِّينيَّة، حيثُ حُكِمَ على يسُوع بتُهمَةِ التَّجدِيف. ولكنَّ النَّاحِيَة الإيجابِيَّة هي أنَّهُما عندما شاهَدا موتَ المسيح، لم يعُدْ بِوُسِعِهما أن يَبقَيا مُؤمِنَينِ سِرَّاً.

هُناكَ أمرٌ أجِدُهُ مُثيراً للإهتِمامِ، ألا وهُوَ أنَّهُ رُغمَ إعجابِ هذين الرَّجُلَينَ بحياتِهِ، لم يكُنْ ما رآيَاهُ في حياةِ يسُوع هُوَ الذي يمنَحُهُما الإيمانَ ليكُونا تِلمِيذَينِ علَنِيَّينِ ليسُوع المسيح، بل موتُهُ هُوَ الذي جعلَ من كُلٍّ من نيقُوديمُوس ويُوسُف الرَّامِي مُؤمِنَينَ يعتَرِفانِ علانِيَةً بيسُوع. قالَ يسُوع، "وأنا إن إرتَفَعتُ، أجذِبُ إليَّ الجَميع." (يُوحَنَّا 12: 32)

يَقُولُ مُفَسِّرو الكتابِ المُقدَّس أنَّ نيقُوديمُوس كانَ شَقيقَ المُؤرِّخ اليَهُودِيِّ الشَّهير يُوسيفُوس، وأنَّ إعتِرافَ نيقُوديموس علانِيَةً بالإيمانِ بيسُوع غيَّرَ وضعَهُ من أشهَرِ رابِّيٍّ في أُورشليم إلى أحقَرِ رابِّيٍّ في أُورشَليم. ولقد أدَّى إعتِرافُهُ بالإيمانِ بيسُوع إلى عَيشِهِ بَقيَّةَ حياتِهِ بالفَقرِ المُدقِع. آخِرُ مرَّةٍ تمَّتِ فيها الإشارَةُ في التَّاريخ إلى نيقُوديمُوس كانت أنَّهُ شُوهِدَ يبحَثُ في القَمامَةِ مُحاولاً إيجادَ طعامٍ لعائِلتِهِ.

يَقُولُ هذا المَقطَعُ الخِتامِيُّ، "ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ الذي من الرَّامَة وهُوَ تِلميذٌ ليسُوع ولكن خُفيَةً لسببِ الخَوفِ من اليَهُود، سألَ بيلاطُس أن يأخُذَ جسدَ يسُوع." (38) وكما أشَرتُ سابِقاً، لم يَكُنِ الرُّومانُ يدفِنُونَ ضحايا الصَّلب، بل كانُوا يترُكُونَ أجسادَهُم على الصَّليب لتأكُلَ الطيُورُ الكاسِرَةُ والوُحُوشُ المُفتَرِسَةُ جثَثَهُم. كما وأنَّ الدِّفاعَ عن سَجينٍ صُلِبَ من قِبَلِ الرُّومان، كانَ يُمكِنُ أن يُؤَدِّي إلى صَلبِ هذا الشَّخصِ الذي يُدافِعُ عنِ المصلُوبِ أيضاً. وكما تعلَّمنا من أكفانِ لِعازار، كانت العادَةُ أن يتُمَّ لَفّ جسد المَيت بأكفانٍ، يضعُونَ في طَيَّاتِه الأطياب، لإبعادِ الرَّوائِحِ الكَريهَة التي كانت تُرافِقُ المُوتَ بإستِمرار. فعندما طَلَبَ يُوسُف الرَّامِي جسدَ يسُوع، أعتَقِدُ أنَّهُ كانَ يحمِلُ معَهُ كمِّيَّةً كبيرةً من الأطيابِ والعُطُور، ممَّا يكفي لنضحِ جُثَّةِ مَلِك.

بهذه الطريقة ينتَهي الإصحاحُ التَّاسِع عشر الرَّائع. تذَكَّرُوا بينما تقرَأُونَهُ، أنَّهُ ليسَت العوامِل الجسديَّة في الصَّلبِ هِي المُهِمَّة، بل الآلام الرُّوحيَّة التي عانى منها يسُوعُ المسيح على الصليب هي التي أنجَزَت خلاصَنا. يُخبِرُنا الإصحاحُ الثَّالِث والخَمسُون من سفرِ إشعياء أنِّ الألمَ في أعماقِ نفسِ يسُوع إذ وُضِعَت عليهِ آثامُنا، هُوَ الذي حقَّقَ خلاصَنا.

يُخبِرُنا بُولُس أنَّ اللهَ جعلَ الذي لم يعرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأجلِنا. (2كُورنثُوس 5: 21). هذه الحقيقة ينبَغي أن تُوضَعَ إلى جانِبِ كلماتِ يسُوع الأخيرة على الصَّليب، والتي إقتَبَسَها من المَزمُور 22: "إلهي إلهِي لماذا تركَتَني؟" (مزمُور 22: 1؛ مرقُس 15: 34).

يعتَقِدُ مُفَسِّرُو الكتابِ المُقدَّس المُحافِظُون أنَّهُ عندما وُضِعَت خطايا كُلِّ كائِنٍ بَشَرِيٍّ عاشَ في زَمنِ المسيح وقبلَهُ وبعدَهُ، عندما وُضِعَت كُلُّ هذه الخطايا عبرَ التَّاريخ على يسُوع، وبما أنَّ اللهَ الآبَ لا يستَطيعُ النَّظَرَ إلى الخَطيَّة، في تلكَ اللحظة إنقَطَعت العلاقَةَ المتينَة بينَ يسُوع والآب. حدَثَ هذا عندما صَرخ للآبِ قائِلاً، "إلهِي إلهِي لماذا تركتَني؟" وإنقطاعُ هذهِ العلاقَة معَ الآب كان السَّبب الذي أدَّى إلى الألَمِ العميق في نفسِ يسُوع، الذي حقَّقَ خلاصَنا. لا يُشَدِّدُ كُتَّابُ الأناجيل على تفاصِيلِ الصّلب المادِّيَّة الرَّهيبَة، لأنَّ الألمَ الرُّوحِيَّ في عُمقِ نفسِ يسُوع عندما ماتَ على الصَّليب هُوَ الذي خَلَّصَنا.

أحدُ مُعَلِّمي الكتابِ المُقدَّس الإنكليز، أوضحَ مفهُومَ كونِ خطايانا قد وُضِعَت على يسُوع بالطَّريقَةِ التَّالِيَة: "تصَوَّرُوا كُلَّ مجاري الصَّرف الصِّحِّي في العالم وقد أُفرِغَت مرَّةً على رأسِ شخصٍ حَريصٍ لا بل مَهوُوسٌ بالنَّظافَةِ. عندها تتكوَّنُ لدَيكُم فكرَةٌ عمَّا قصدَهُ إشعياءُ عندما تنبأَ قائِلاً أنَّ كُلَّ آثامِنا وكُلَّ العقابِ الذي إستَحقَّيناهُ لنتمتَّعَ بالسَّلامِ معَ الله سيُوضَعُ على المَسِيَّا. بإمكانِكُم أيضاً تقدير كلمات بُولُس الرَّسُول التَّالِيَة: "اللهُ جعلَ الذي لم يعرِفْ خَطِيَّةً خَطِيَّةً لأجلِنا."(إشعياء 53: 5و6؛ 2كُورنثُوس 5: 21)

بينما كانت إمرأَةٌ مُثَقَّفَةٌ تُغادِرُ الإجتِماع، قالَت للدُّكتُور كامبل مُورغن: "أعتَقِدُ أنَّ الإيضاحَ الذي إستَخدَمتَهُ هذا الصَّباح كانَ مُشِيناً ومُرَوِّعاً!" فأجابَ هذا المُفسِّرُ العَظيم: "الشَّيءُ الوحيدُ المُشينُ والمُرَوِّعُ في إيضاحِي هُوَ خطِيَّتُكِ وخطَيَّتي التي جعلَت من تضحيَةِ المُخَلِّص أمراً ضَرويَّاً!"

من هُوَ يسُوعُ في هذا الإصحاحِ العَظيم من إنجيلِ يُوحَنَّا؟ إنَّهُ حمَلُ الله، الذي جاءَ ليَرفَعَ خطايا العالم.

وما هُوَ الإيمانُ بِحَسَبِ هذا الإصحاح؟ الإيمانُ هُوَ إتِّباعُ مِثالِ يُوسُف الرَّامِي ونيقُوديمُوس، بالخُروجِ منَ الخفاءِ إلى العَلن للُوقُوفِ إلى جانِبِ يسُوع في موتِهِ وقيامَتِه.

وبِحَسَبِ الإصحاحِ التَّاسِع عشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا، ما هي الحياةُ؟ الحياةُ هي الخلاصُ الذي إشتراهُ لنا إبنُ اللهِ الوحيد عندما عُلِّقَ على الصَّليب. والحياةُ هي المُصالَحة والسَّلامُ معَ الله. فالذي يُسَمِّيهِ يُوحَنَّا، "الحياة الأبديَّة" هُوَ تلكَ النَّوعِيَّة منَ الحياة التي نختَبِرُها عندما نتصالَحُ معَ الله، لأنَّنا نكُونُ قد إلتَزمنا بأن نضعَ ثِقتنا وإيمانَنا بيسُوع.

  • عدد الزيارات: 3689