Skip to main content

الفَصلُ الثَّالِث "مُحاكَمة يسُوع الرُّومانِيَّة"

(يُوحَنَّا 18: 28- 19: 16)

كتبَ يُوحَنَّا يَقُولُ أنَّ مُحاكَمَةَ يسُوع الرُّومانِيَّة بدأَت كالتَّالِي: "ثُمَّ جاؤُوا بِيَسُوع من عندِ قِيافا إلى دارِ الوِلاية. وكانَ صُبحٌ. ولم يدخُلُوا هُم إلى دارِ الولاية لِكَي لا يتنجَّسُوا فيأكُلُونَ الفِصحَ. فخرجَ بِيلاطُس إليهِم وقالَ: "أيَّةَ شِكايَةٍ تُقَدِّمُونَ على هذا الإنسان؟ أجابُوا وقالُوا لهُ، لو لم يكُنْ فاعِلَ شَرٍّ لما كُنَّا قد سَلَّمناهُ إليكَ. فقالَ لهُم بِيلاطُس خُذُوهُ أنتُم واحُكُمُوا عليهِ حسبَ نامُوسِكُم. فقالَ لهُ اليَهُودُ لا يَجُوزُ لنا أن نقتُلَ أحَداً. لِيَتِمَّ قولُ يَسُوعَ الذي قالَهُ مُشيراً إلى أيَّةِ مِيتَةٍ كانَ مُزمِعاً أن يَمُوتَ." (يُو18: 28- 32)

تَذَكَّرُوا أنَّنا عندما نَقُومُ بِدَرسِ هذا السَّردِ التَّارِيخي في إنجيلِ يُوحَنَّا، لدينا فقط كَلماتٍ مكتُوبَة، بِدُونِ أن نُخبَرَ عن نبرَةِ الصَّوتِ التي كانت تُستَخدَمُ في تلكَ الظُّرُوف. ونادِراً ما نُخبَرُ عن تعابيرِ وتقاسيمِ الوجهِ وحركات ِجسدِ الذي يَتِمُّ إقتِباسُ أقوالِهِ، عندما نقرَأُ هكذا مقاطِع من كلمةِ الله. لو كُنَّا نعرِفُ أبعادَ الإتِّصالِ بينَ بِيلاطُس وهؤُلاء اليَهُود، لإتَّضَحَ أنَّ بِيلاطُس كان يَكرَهُ هؤُلاء القادَة الدِّينيِّين اليَهُود وكانُوا هُم يكرَهُونَهُ.

قَبلَ أن أُلَخِّصَ مُحاكَمَةَ يسُوع الرُّومانيَّة، أعتَقِدُ أنَّهُ منَ المُهِمِّ لنا أن نعرِفَ هذا الوالِي الرُّومانِيّ الذي كانَ يُسَمَّى بِيلاطُس البُنطِي. المُؤرِّخُ اليَهُودِيُّ يُوسِيفُوس، الذي كتبَ التَّاريخ اليَهُودِيّ، وعاشَ حياتَهُ خلالَ زَمانِ العهدِ الجديد، يُخبِرُنا أنَّ بِيلاطُس أصبَحَ حاكِمَ اليَهُوديَّة سنة 26 ميلاديَّة، وبَقِيَ في هذا المَنصَب لمُدَّةِ عشرِ سنواتٍ. ولكنَّهُ حَظِيَ بِبدايَةٍ سَيِّئة لحُكمِهِ معَ القادة الدِّينيِّين اليَهُود، لأنَّهُ في أوَّلِ زيارَةٍ لهُ إلى أُورشَليم، آتِياً من مَركَزِهِ في قيصَريَّة في فلسطِين، رفعَ الجُنُودُ الذين رافَقُوهُ راياتٍ كانت تعلُوها تماثيلُ منحُوتَةٌ منَ البُرونز لرأسِ الأمبراطُور طيباريُوس يُوليُوس قَيصَر أُوغسطُس.

  وبما أنَّ الأمبراطُور كانَ مُعتَبَراً إلهاً من قِبَلِ رُوما، وبما أنَّ اليَهُودَ بعدَ السَّبِي لم يرجِعُوا أبداً إلى عبادَةِ الأوثان والأصنام، وكانُوا يكرَهُونَ تماماً أيَّ نوعٍ من الصُّوَرِ والتماثِيل، إحتَجُّوا على تماثيلِ رأس قيصَر البرُونزِيَّة. وصارُوا يتوافَدُونَ إلى بيلاطُس، مُطالِبين إيَّاهُ بإزالَةِ هذه التماثيل. وكَوَالٍ رُومانِيّ، لم يفعَلْ بيلاطُس أيَّ شَيءٍ ليُسهِّلَ الأمرَ على هؤُلاء اليَهود.

وفي مُناسَبَةٍ مُعَيَّنة، طلبَ من القادَةِ أن يُلاقُوهُ في إحدى الملاعِب الرِّياضِيَّة ليُناقِشُوا القَضِيَّة. وكانَ قد جعلَ جُنُودَهُ يُحاصِرونَ هذا الملعب. وأعتَقِدُ أنَّ مُخَطَّطَهُ كانَ أن يَقُومَ بمذبَحَةٍ ضدَّ هؤُلاء اليَهود الذي جاؤُوا ليُفاوِضُوهُ. ولكنَّ قادَةَ هؤُلاء اليهود كانُوا أُمَناءَ لِقَضِيَّتِهم لدَرَجَةِ أنَّهم مَدُّوا أعناقَهم قائِلين، "نُفَضِّلُ أن تقطَعَ أعناقَنا على أن نرى هذه الأصنام والأوثان في مدينتِنا المُقدَّسة."

فتراجَعَ بيلاطُس عندَ هذه المُناسَبة. لَسنا مُتَأكِّدِينَ لماذا، ولكن هذا ما فعلَهُ. ولقد إعتُبِرَ هذا إنتِصاراً للشَّعبِ اليَهُودِيّ. ولكن بإمكانِكَ المُراهَنة على أنَّهُ لم يكُن هُناكَ أيَّةُ محبَّةٍ بين بيلاطُس ورجال الدِّين اليَهود.

الحادِثَة الثَّانِية كانَت غلطَةً إقتَرَفها بيلاطُس، وهي أنَّهُ بنى قناةً مُعلَّقَةً للمِياهِ، لأنَّ المياهَ كانت شَحيحَةً في أُورشَليم. ولكي يُمَوِّلَ مشرُوعَ بناء هذه القناة المُعلَّقَة، إقتَحَمَ هيكَلَ أُورشَليم وسيطَرَ على أموالِ الخزنة. قُلنا عندما كُنَّا ندرُسُ الإصحاحَ الثَّانِي، أنَّهُ عندما إحتَّلَ الرُّومانُ اليهُوديَّة حوالي العام 70 ق. م.، كانَ يُوجَدُ في خزنَةِ هيكَلِ أُورشَليم ما يُعادِل ما بينَ الخمسة إلى سبعة ملايين دُولاراً.

وذاتَ مَرَّة، حدَثَت مُظاهراتُ إحتِجاجٍ على الطُرُقاتِ، فأرسَلَ بيلاطُس جُنوداً جعلَهُم يتسلَّلُونَ بِثيابٍ مدنيَّةٍ بينَ المُتظاهِرينَ من اليهُود، وبإشارةٍ من بيلاطُس، قامَ هؤُلاء الجُنود المُتَخفِّينَ بِذبحِ وقتلِ المئاتِ من اليَهود. فأثارَت هذه المَذبَحَةُ غَضَبَاً وكُرهاً في أعماقِ قُلُوبِ رجالِ الدِّين اليَهُودِ ضِدَّ بيلاطُس.

ثُمَّ الحادِثَةُ الثَّالِثَة كانت أنَّهُ كانَ لدَيهِ تلكَ الدُّروع الذَّهَبِيَّة في قصرِ هيرُودُس، وكانَ مرسُوماً عليها  صُورَة طيباريُوس قيصَر. وكانَ هُناكَ تذمُّرٌ عَلَنِيٌّ من هذا، إلى درَجَةِ أنَّ الأمبراطُور نفسَهُ أمرَ بِيلاطُس بنزعِ صُورَتِهِ عن الدُّرُوع.

يُخبِرُنا يُوسِيفُوس أنَّهُ بعدَ مَوتِ وقِيامَةِ يسُوع، أدَّتَ حادِثَةٌ نهائِيَّة إلى إنهاءِ حياةِ بِيلاطُس السِّياسِيَّة. ففي العام 36 ميلاديَّة، حدَثَت ثورَةٌ في السامِرة، وأخمَدَها بيلاطُس بطريقَةٍ فَظَّةٍ، لدرجَةِ أنَّ القائِدَ الرُّومانِي في سُوريا وَشَى بهِ إلى الأمبراطُور طيباريُوس قيصَر، الذي أنهى ولايَتَهُ وإستدعاهُ إلى رُوما.

وبينما كانَ بيلاطُس على طريقِهِ إلى رُوما، ماتَ طيباريُوس قيصَر، وأخذَ كاليغُولا مكانَهُ، وكانَ رَجُلاً مجنُوناً، وبإمكانِنا أن نتصوَّرَ مصيرَ بِيلاطُس عندما وصلَ إلى رُوما لِلقاءِ الامبراطُور المَجنُون. فلقد إختَفَى إسمُهُ عن صفحاتِ التَّاريخ منذُ ذلكَ الحِين. لقد شارَكتُ بهذه المعلُومات التَّاريخيَّة، لأُساعِدَ القُرَّاءَ على فَهمِ عواقِبِ العداوَةِ بينَ بِيلاطُس وأُولئكَ اليَهُود. لقد كانَ بِيلاطُس يكرَهُ اليَهُود، وكانُوا هُم يكرَهُونَهُ بِدَورِهم.

بدأت مُحاكَمَةُ يسُوع الرُّومانيَّة بِخُرُوجِ بِيلاطُس من قَصرِهِ ليُخاطِبَ اليَهُود، لأنَّهُم كانُوا يرفضُونَ دُخُولَ قصرِه. فبما أنَّ دُخُولَهُم قصرَهُ كانَ سيجعَلُهُم نَجسِين، كانَ هذا الأمرُ سيحرِمُهُم من الإحتِفالِ بالفِصح. يُحَيِّرُنا أن نجِدَ هؤُلاء القَادَة اليَهُود مُهتَمِّينَ بأن يَكُونُوا مُقدَّسِينَ طقسِيَّاً، في وقتٍ كانُوا يُطالِبُونَ بِقتلِ إبنِ الله.

فخَرَجَ بِيلاطُس وطَلَبَ منَ اليَهُودِ عن الإتِّهامات التي يُوَجِّهُونَها نحوَ هذا الإنسان. فأجابُوهُ أنَّهُ لو لم يَكُنْ يسُوعُ مُجرِماً، لما كانُوا قد طالَبُوا بإجراءِ هذه المُحاكَمة. أجابَ بِيلاطُس بأنَّهُ عليهِم أن يأخُذُوا يسُوعَ ويحاكِمُوهُ بأنفُسِهم، بحَسَبِ نامُوسِهِم الدِّينيّ. فأجابُوا أنَّهُ لم تَكُنْ لدَيهِم السُّلطة لإنزالِ حُكمِ الإعدامِ بهذا الإنسان، رُغمَ أنَّهم أرادُوا أن يروهُ مَيِّتاً. ولقد أدركَ بِيلاطُس لاحِقاً أنَّ هذه لم تَكُن مُحاكَمة بل جريمة جُمهُورٍ هائِج.

التَّبادُل الإفتِتاحِيّ يُظهِرُ أنَّ جَوَّ هذه المُحاكَمة الرُّومانِيَّة كانَ صراعاً بينَ الأعداء، والعلاقَة بينَ بِيلاطُس وهؤُلاء اليَهُود كانت مملوءَة بالعَداوَة. أدخَلَ يُوحَنَّا تعليقاً بأنَّ كُلَّ ما كانَ يحدُثُ كانَ تتميماً للنُّبُوَّات الكتابِيَّة التي وصَفَت موتَ المسيح المَسِيَّا (29- 32).

فرَجَعَ بِيلاطُس إلى الباحَةِ، ودعا يسُوعَ ليَمثُلَ أمامَهُ. وجرَت بينَهُما مُحادَثَةٌ عميقَة، سألَهُ فيها بِيلاطُس إن كانَ هُوَ مَلِك اليَهُود. فأجابَ يسُوعُ أنَّ مَملَكَتَهُ ليسَت من هذا العالم. في إطارِ هذا التَّبادُل بينَ يسُوع وبيلاطُس، قدَّمَ يسُوعُ تصريحاً عميقاً عن رِسالَتِهِ إلى هذا العالم. قالَ، "لهذا قد وُلِدتُ أنا ولِهذا أتَيتُ إلى العالم، لأشهَدَ لِلحَقّ. كُلُّ من هُوَ منَ الحَقِّ يسمَعُ صَوتي." (يُوحَنَّا 18: 37)

هُنا طرحَ بِيلاطُس سُؤالَهُ الشَّهير، "ما هُوَ الحَقّ؟"  وهُوَ لم ينتَظِرْ منهُ جواباً، بل رجَعَ إلى الباحَةِ الخارِجيَّة وأعلنَ لِليَهُودِ قائِلاً أنَّهُ لم يَجِدْ علَّةً ولا تُهمةً على يسُوع تُبَرِّرُ مُحاكَمَتَهُ. قد يكُونُ هذا لأنَّهُ أُعجِبَ بيَسُوع، أو لأنَّهُ كانَ يكرَهُ هؤلاء اليَهُود، ولم يَكُنْ يُريدُ أن يعمَلَ لهُم أيَّ شَيءٍ يطلُبُونَهُ منهُ.

في الإصحاحِ الثَّامِن عشَر من هذه الإنجيل، عندما أجَبنا على السُّؤال، "من هُوَ يسُوع؟" كانَ جوابُنا أنَّهُ هُوَ الشَّاهِدُ الأمين، الذي جاءَ لِيَشهَدَ لِلحَقّ. ألَيسَ منَ المأساةِ أنَّهُ عندما طرحَ بيلاطُس هذا السُّؤال، كانَ ينظُرُ وجهاً لِوجهٍ إلى ذلكَ الذي هُوَ الحَقّ، وأنَّهُ لم ينتَظِرْ لِيَسمَعَ الجواب؟

بِحَسَبِ العادَةِ الرُّومانِيَّة بإطلاقِ سَراحِ سَجِينٍ واحِدٍ في إحتِفالاتِ الفِصح، عرضَ بيلاطُس على اليَهُود بأن يُطلِقَ سراحَ يسُوع. ولكنَّهُم أخذُوا يصرُخُونَ أنَّ الذي أرادُوا أن يُطلَقَ سراحُهُ هُوَ بارابَّاس المُجرم. (يُوحَنَّا 18: 33- 40)

فأسلَمَ الوالِي الرُّومانِيُّ يسُوعَ للجَلدِ، على مِثالِ ما يعملُونَ بالمُجرِمين. وكانت هذه أيضاً مُمارَسَةً رُومانِيَّةً مُعتادَة – أي جَلد السَّجين بِسَوطٍ مصنُوعٍ من أشرِطَةٍ من جلدِ الحيوان، مُعلَّقٌ في آخِرِ كُلٍّ منها قِطَعٌ حادَّةٌ منَ المَعدَنِ أو العَظم، التي كانَت تُثَلِّمُ جسدَ الضَّحِيَّة. وبعدَ الجَلد، وضعُوا ثَوباً أُرجُوانِيَّاً على يسُوع. لقد عُصِبَت عيناهُ، هُزِئَ بِهِ، ضُرِبَ ولُكِمَ من قِبَلِ الجُنُودِ، ووُضِعَ على رأسِهِ إكليلٌ من شَوك.

بعدَ ذلكَ، أخرَجَ بِيلاطُس يسُوعَ إلى اليَهُود وقالَ لهُم، "ها أنا أُخرِجُهُ لكُم لتَعلَمُوا أنَّني لم أجِدْ عِلَّةً على هذا الإنسان." نقرَأُ: "فخَرَجَ يسُوعُ خارِجاً وهُوَ حامِلٌ إكليلَ الشَّوكِ وثَوبَ الأُرجُوان. فقالَ لهُم بِيلاطُس: هُوَّذا الإنسانُ." (يُوحَنَّا 19: 5).

في اللُّغَةِ الأصليَّة، رُوحُ هذه الكَلمات هُوَ التَّالِي: "أُنظُرُوا إلى هذا الرَّجُلِ المِسكِين المَظلُوم الذي يُرثَى لِحالِهِ!" ليسَ بالإمكانِ أن نعرِفَ تماماً ماذا كانَ قصدُ بيلاطُس. يعتَقِدُ بعضُ المُفَسِّرينَ  أنَّ بيلاطُس كانَ يُحاوِلُ إثارَةَ عَطفِ رِجالِ الدِّين هُناك. إن كانَ هذا هُوَ قصدُهُ، كانَ عليهِ أن يُدرِكَ أنَّ أُناساً أمثال حَنَّان، أو أُولئكَ الذين كانُوا جُزءاً من ذلكَ النِّظامِ الفاسِد، ما كانُوا سيُشفِقُونَ على شخصٍ كانَ يُهدِّدُ إستمرارِيَّةَ تجارَتِهِم الدِّينيَّة.

لهذا شارَكتُكُم بهذه المَعلُوماتِ التَّاريخيَّةِ المُطَوَّلَة. أنا شخصيَّاً مُقتَنِعٌ بأنَّ بِيلاطُس كانَ مملوءاً بالغَضَب تجاهَ أُولئكَ اليَهُود، وكُلُّ ما عَمِلَهُ كانَ بِإستِهزاءٍ وسُخرِيَةٍ بيسُوع وبرجالِ الدِّين اليَهُود الماثِلينَ أمامَهُ آنذاك. وعلينا أن لا نتعجَّبَ عندما نقرَأُ بعدَ ذلكَ، "فَلمَّا رآهُ رُؤساءُ الكَهَنَةِ والخُدَّامُ صَرَخُوا قائِلينَ إصلِبْهُ إصلِبْهُ. قالَ لهُم بيلاطُس خُذُوهُ أنتُم واصلُبُوهُ لأنِّي لَستُ أجِدُ فيهِ علَّةً. أجابَهُ اليَهُودُ لنا نامُوسٌ وحَسَبَ نامُوسِنا يَجِبُ أن يَمُوتَ لأنَّهُ جعلَ نفسَهُ إبنَ الله." (يُوحَنَّا 19: 1-7).

أليسَ منَ المُثيرِ للعَجَبِ والحُزنِ في آنٍ أنَّ بعضَ الأشخاصِ أنفُسِهم الذين صَرَخُوا أُوصنَّا، عندما دخلَ يسُوعُ إلى أُورشَليم راكِباً على جَحشٍ، في بدايَةِ هذا الأُسبُوعِ الحاسِم في حياتِهِ وخدمَتِهِ، أنَّهُم صَرَخُوا آنذاكَ مُطالِبينَ بِصَلبِ يسُوع؟

رَجَعَ بيلاطُس بعدَ ذلكَ إلى البَلاط، وإكتَشفَ أنَّ يسُوعَ لن يتكلَّمَ معَهُ. عندما عبَّرَ عن تعجُّبِهِ من رفضِ يسُوع بأن يُكَلِّمَ الشخصَ الذي لهُ السُّلطانُ بأن يَصلِبَهُ أو بأن يُطلِقَهُ، أخبرَ يسُوعُ بيلاطُسَ بأنَّهُ ما كانَ ليتمتَّعَ بهذا السُّلطان لو لم يُعطَهُ من فَوق. (يُوحَنَّا 19: 9- 11) هذا التَّذكيرُ بأنَّ اللهَ مُسيطِرٌ وسَيِّدُ المَوقِف، هُوَ تشديدٌ من كاتبِ الإنجيل.

نقرَأُ أنَّهُ من هذا الوقت فصاعِداً، أرادَ بيلاطُس أن يُطلِقَ سَراحَ يسُوع. ولكنَّ اليَهُود أخذُوا يُمارِسُونَ الضَّغطَ على بيلاطُس، عندما أعلَنُوا أنَّ مَنْ يُطلِقُ سراحَ هذا الرَّجُل فهُوَ ليسَ مُحِبَّاً لِقَيصَر. (12) ولقد كانت تُوجَدُ بالفِعل حلقَة مُصَغَّرَة في رُوما وكانت تُسَمَّى، "مُحِبِّي قَيصَر، أو أصدِقاء قيصَر." وبيلاطُس لم يَكُنْ يُبلِي بلاءً حسناً في أدائِهِ السِّياسيّ كوالٍ لليَهُودِيَّة، خاصَّةً لأنَّ هؤُلاء القَادَة اليَهُود الدِّينيِّين كانُوا يتذَمَّرُونَ منهُ بإستمرار. وكانت لدَيهِم السُّلطة الكافِيَة للتَّسَبُّبِ ببَعثَةِ تحقيقٍ رومانِيَّة حولَ أداءَ بيلاطُس السِّياسِيّ، الأمرُ الذي لم يُرِدْهُ بيلاطُس بتاتاً. ولم يُرِدْ أن يَصِلَ إتِّهامُ اليَهُودِ لهُ بأنَّهُ ليسَ مُحِبَّاً لِقَيصَر إلى آذانِ الرُومان.

ولقد مارَسَ اليَهُودُ أيضاً ضغطاً على بيلاطُس عندما قالُوا أنَّ يسُوعَ إدَّعَى أنَّهُ مَلِك. "كُلُّ من يدَّعي أنَّهُ مَلِكٌ يُقاوِم قَيصَر." وهذه جريمَةٌ عِقابُها المَوت في الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانيَّة. فعندما أعلَنَ الكَهَنَةُ ورجالُ الدِّين الآخرُون قائِلين، "ليسَ لنا مَلِكٌ إلا قَيصَر،" فهذا أمرٌ يدعُو للدَّهشَةِ الكاملة. (يُوحَنَّا 19: 14- 15). فعندما إعتَرَضُوا على الضَّرائِب الرُّومانِيَّة الأُولى، خاضُوا حربَ تمَرُّدٍ بِسَبَبِ إدِّعائِهِم أنَّ اللهَ هُوَ ملِكُهُم، وأنَّهُ لا يُمكِنُهُم أن يدفَعُوا ضرائِبَ لمَلِكٍ أرضِيّ. وكُرهُهم ليَسُوع ونظرَتُهُم الرُّوحِيَّة الفاسِدَة تَكشِفُ كم كانُوا بعيدينَ عنِ اللهِ في تلكَ المرحلة منَ التَّاريخِ العِبريّ، عندما مَشَى يسُوعُ بينَهُم.

خرجَ بيلاطُس مُجدَّداً آتِياً بيَسُوعَ معَهُ. نقرأُ أنَّهُ جلسَ على كُرسِيِّ القَضاء. كانَ يُوجَدُ كُرسِيٌّ للحُكمِ كانَ مبنِياً على قمَّةِ دَرَجٍ طَويل. لقد كانَ هذا الكُرسِيُّ بالواقِع عرشاً كانت تُعلَنُ الأحكامُ القَضائِيَّةُ من عليه. عندما نقرأُ، "أخرجَ يسُوعَ وجلَسَ" الكلماتُ اليُونانِيَّة المُستَخدمَة "جلسَ،" كانَ ينبَغي أن تُتَرجَمَ "أجلَسَهُ." لقد كانَ يسُوعُ قد صَرَّحَ بأنَّهُ مَلِكُ اليهُود. فلِكَي يُظهِرَ إستِهزاءَهُ بيسُوع، ويُتابِعَ بالسُّخرِيَةِ منهُ، جعلَ بيلاطُسُ يسُوعَ يجلِسُ على عرشِ القضاءِ، ثُمَّ قالَ، "هُوَّذا مَلِكُكُم." (يُوحَنَّا 19: 14)

عندما قالَ هؤُلاء اليَهُود، "مَنْ يُطلِقُ سراحَهُ ليسَ مُحِبَّاً لِقَيصَر،" و "ليسَ لنا ملِكٌ إلا قيصَر،" (15)، غسَلَ بيلاطُس يديهِ وسَلَّمَ يسُوعَ لليَهُودِ ليُصلَبَ." (متَّى 27: 24).

هذه المُحاكَمَةُ الرُّومانِيَّةُ الصُّوَرِيَةُ المُزَيَّفَة ليسُوع تُعطينا بعضَ الأجوِبَة على هذه الأسئلة الثَّلاثَة الأساسيَّة: من هُوَ يسُوع؟ إنَّهُ الحَقُّ، وهُوَ الذي جاءَ لِيَشهَدَ لِلحَقّ. إنَّهُ مَلِكُ اليَهُود، وهُوَ دَيَّانُ الكُلِّ على الأرض. عندما أقرأُ عن بيلاطُس وهُوَ يسخَرُ من يسُوعَ بإجلاسِهِ على كُرسِيِّ الولايَة، أتساءَلُ كيفَ ستَكُونُ حالَةُ بِيلاطُس عندَما سيُدانُ يوماً ما من قِبَلِ يسُوع (يُوحَنَّا 5: 22- 24). عندَها لن يسخَرَ بيلاطُس من يسُوعَ أبداً، لأنَّهُ سيَكُونُ ينظُرُ إلى وجهِ دَيَّانِ كُلِّ الأرض – ملك المُلُوك ورُبُّ الأرباب. (رُومية 14: 11، 1تيمُوثاوُس 6: 13- 16).

وما هُوَ الإيمانُ؟ نَجِدُ في بيلاطُس جواباً سَلبِيَّاً على ذلكَ السُّؤال. لقد كانَ بيلاطُس رَجُلاً دانَ حياةَ يسُوع بناءً على معايير القانُون الرُّومانِيّ، وصرَّحَ ثلاثَ مرَّاتٍ قائِلاً، "لم أجِد عِلَّةً على هذا الإنسان." لم يُلاحِظ أيُّ إنسانٍ قَطّ يسُوعَ بِدِقَّةٍ أكثَرَ ممَّا لاحَظَهُ بها بيلاطُس، رُغمَ أنَّهُ قامَ بِذلكَ مُرغماً بالظُّرُوفِ التي دفعتْهُ للتأمُّلِ بِيَسُوع.

ولكنَّ بِيلاطُس لم يُؤمِنْ، رُغمَ أنَّهُ رأى الحقيقَةَ عن يسُوع قانُونيَّاً ومَوضُوعيَّاً. لقد كانَ ينظُرُ مُباشَرَةً إلى الحقِّ وجهاً لِوجهٍ، وكُلُّ ما فعلَهُ كانَ أنَّهُ طرحَ السُّؤال، "ما هُوَ الحقّ؟" (18: 38) وكونَهُ لم يَنتَظِرْ أن يسمَعَ الجوابَ على سُؤالِهِ هذا، مَثَّلَ بيلاطُس بِذلكَ نمُوذجاً عمَّا ليسَ هُوَ الإيمان.

خلالَ قراءَتِكَ معنا لإنجيلِ يُوحَنَّا، هل تَجِدُ نفسَكَ مثلَ بيلاطُس؟ وهل تنظُرُ إلى الحَقِّ وجهاً لِوَجهٍ وتَقُولُ، "ما هُوَ الحَقّ؟" لقد كُنتُ أُفَتِّشُ عنِ الحَقِّ لِسنواتٍ طَويلَة قبلَ أن أُدرِكَ أنَّني كُنتُ أنظُرُ إلى الحقِّ وجهاً لِوجهٍ في كُلِّ مرَّةٍ فَكَّرتُ فيها بِيَسُوع. لقد تَبِعتُ المسيحيَّةَ لِسنواتٍ طالِباً الحَقَّ في اللاهُوتِ، الفَلسَفَةِ وعلمِ النَّفس.

قالَ أحدُهُم، "علمُ النَّفسِ الذي ليسَ مُؤَسَّساً على الحقِّ الذي أظهَرَهُ يسُوعُ وعلَّمَهُ لنا هُوَ أشبَهُ بالتَّفتيشِ عن سَريرٍ أسوَد في غُرفَةٍ مُظلِمَة. الفَلسَفَةُ بِدُونِ يسُوع هي بمثابَةِ البَحثِ في غُرفَةٍ مُظلِمَةٍ عن سريرٍ أسوَد غير مَوجُود أصلاً في تلكَ الغُرفَةِ المُظلِمَة. الإلحادُ، المادِّيَّةُ، أو أيَّةُ مُحاوَلَةٍ أُخرى لتَفسيرِ الحياةِ بِدُونِ الله، كما هي مُفَسَّرَةٌ بالمسيح، هي أشبَهُ بالتفتيشِ في غُرفَةٍ مُظلِمَةٍ عن سَريرٍ أسوَد غير مَوجُود فيها، ورُغمَ ذلكَ نصُرخُ في نهايَةِ بَحثِنا العَبَثِيِّ قائِلين: "وجدتُهُ!"

العالَمُ بأسرِهِ يبحَثُ عنِ الحَقّ. والحقُّ يُوجَدُ في شَخصِ يسُوع المسيح. لقد كانَ ولا يزالُ الحقَّ المُتَجَسِّد. كانَ أعظَمَ شاهِدٍ للحَقِّ سبقَ وشَهِدَهُ العالَمُ على الإطلاق. وكانت حياتُهُ وتعليمُهُ ولا تزالُ أعمَقُ حقٍّ سبقَ ورآهُ أو سَمِعَ بهِ هذا العالَم. فالذي صَرَّحَ قائِلاً، "أنا هُوَ الطَّريقُ والحَقُّ و الحياةُ" (يُوحَنَّا 14: 6)، أخبَرَنا في صلاتِهِ الكَهنُوتيَّة قائِلاً، "كلامُكَ هُوَ حَقٌّ." (يُوحَنَّا 17: 17) بينما تجِدُونَ مُواصَفات المسيح وتعليمَه العَميق في هذا الإنجيل، أرجُو أن ينتَهِيَ بَحثُكُم هذا عنِ الحقِّ كما إنتَهَى بحثِي أنا، عندما تُدرِكُونَ أنَّكُم تتواجَهُونَ معَ الحقِّ المُطلَق عندما تلتَقُونَ بالمسيحِ بالإيمان.

لقد كانَ إختِبارِي ولا يَزالُ أنَّهُ عندَما يبدَأُ بَحثُِنا عنِ الحَقِّ وينتَهِي بالمسيح، نَكُونُ قد إكتَشَفنا على الأقلّ جواباً جَديداً على السُّؤال، "ما هي الحياةُ؟" الحياةُ هي أن نَكُونَ على علاقَةٍ معَ الذي هُوَ الحقّ. الحياةُ هي الوُصُولُ إلى ما وراءِ الصَّفحَةِ المُقدَّسَة في كلمةِ الله، وإكتشِافُ الشَّرِكَةِ معَ الكلمةِ الحيَّة، يسُوع المسيح. خاصَّةً بالنِّسبَةِ للباحِثِ عنِ الحَقّ، الحياةُ هي إيجادُ ومَعرِفَةُ الحقّ. الحياةُ هي مَعرِفَةُ كَونِنا نعرِفُ ما هُوَ الصَّوابُ. الحياةُ هي أن نعرِفَ أنَّنا لم نَعُدْ نبحَثُ في غُرفَةٍ مُظلِمَةٍ عن سريرٍ أسوَدٍ غير مَوجُود أصلاً في تلكَ الغُرفَة.

  • عدد الزيارات: 3667