Skip to main content

أنتُم في العالَم ولكنَّكُم لستُم منَ العالَم

لقد صَلَّى أن لا يأخُذَهُم الآبُ منَ العالم، بل أن يحفَظَهُم منَ الشِّرِّير، ومنَ المخاطِرِ التي سيُواجِهُونَها في العالم. أصبحَ التَّشديدُ الآن الحقيقَةَ المجيدة التي ستأخُذُ مكانَها قَريباً. فكما تنتَصِبُ الشُّمُوعُ على منائِرَ إختارَها الرَّبُّ بنفسِهِ، هكذا سيُرسِلُهُم إلى العالَم مُفَوِّضاً إيَّاهُم أن يُتَلمِذُوا أُناساً في كُلِّ أُمَّةٍ على الأَرض.

ولقد أعطانا رِسالَةً تعبُّدِيَّةً أُخرى عندَما صَلَّى لكي يتقدَّسُوا أو لكَي يتخصَّصُوا للآبِ بالحَقّ. كُلُّ راعٍ أو قائِدٍ رُوحِيٍّ ينبَغي أن يُصَلِّيَ هذه الصَّلاة، خلالَ صلاتِهِ لأُولئكَ الذين أقامَهُم الرُّوحُ القُدُسُ عليهِم رُعاةً: "لأجلِهِم أُقَدِّسُ أنا ذاتِي، ليتَقَدَّسُوا هُم أيضاً بالحَقّ." (يُوحَنَّا 17: 19).

في هذا الإطار، يُقدِّمُ يسُوع أفضَلَ تعريفٍ ونظرَةٍ إلى كيفيَّةِ الإقتِرابِ من كَلِمَةِ الله. فلقد طَلَبَ منَ الآبِ أن يُقَدِّسَهُم بِالحَقِّ، ومن ثَمَّ صَرَّحَ قائِلاً: "كلامُكَ هُوَ حَقّ." (يُوحَنَّا 17: 17). بِحَسَبِ يسُوع، الكتابُ المُقدَّسُ هُوَ حَقٌّ، وعلينا أن نقتَرِبَ من الكتابِ المُقدَّس باحِثينَ عنِ الحَقّ. كثيرُونَ يقرَأُونَ الكتابَ المُقدَّسَ مُتَسائِلين، "ما هُوَ؟" بكلماتٍ أُخرى، "ما هوَ الأُسلُوبُ الأدبيُّ لما أقرأُ؟ هل هُوَ تاريخٌ، شِعرٌ، وعظٌ، مثَلٌ، مجازٌ، أُسطُورَةٌ، أم خُرافَة؟"

أخبَرَنا يسُوعُ سابِقاً في هذا الإنجيل أنَّهُ علينا أن نقتَرِبَ من تعليمِهِ باحِثينَ عنِ الحقِّ، معَ إلتِزامٍ بأنَّنا سنُطَبِّقُ هذا الحقَّ الذي سنَجِدُهُ في تعليمِهِ. فعندما نُطَبِّقُ الحَقَّ نُبَرهِنُ أنَّ تعاليمَ يسُوع هي كلمةُ الله. فإذا أردنا أن نُبَرهِنَ أنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ بكامِلهِ هُوَ كلمةُ اللهِ المُوحَى بها، والمَعصُومَة عنِ الخَطأ، أعتَقِدُ أنَّهُ علينا أن نقرَأَ الكتابَ المُقدَّس باحِثينَ عنِ الحَقِّ. فعندَما نُقدِّمُ الإلتِزام بأن نُطَبِّقَ ونُطيعَ الحَقَّ الذي نَجِدُهُ في الكتابِ المُقدَّس، عندها نُبَرهِنُ أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ بكامِلِهِ هُوَ كلمةُ الله. لقد علَّمَ يسُوعُ بواقِعيَّةٍ أنَّ العِلمَ لا يُؤدِّي دائماً بالضَّرُورَةِ إلى العَمَل. بل علَّمَ ما إكتَشَفتُ حقيقَتَهُ في إختباري الشَّخصِيّ، أنَّ العملَ يقُودُ دائماً إلى الإقتِناعِ العَميق بأنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ هُوَ كَلِمَةُ الله.


يسُوعُ يُصَلِّي لأجلِ كَنيسِتِهِ

في القِسمِ الثَّالِثِ منَ الصَّلاة، في يُوحَنَّا (17: 20- 26)، يُصَلِّي يسُوعُ لأجلِ النَّاس الذين كانُوا سيُؤمِنُونَ بسَبَبِ هَؤُلاء الرِّجال الأحد عشَر. هذا يعني أنَّهُ يُصَلِّي لأجلِكَ ولأجلِي، منذُ أكثَر من عشرينَ قَرناً، ولأجلِ كُلِّ الأشخاصِ الذين آمنُوا وأصبَحُوا جُزءاً من كَنيسَةِ المسيح التي أسَّسَها من خلالِ شهادَةِ هؤُلاء الأحد عشَر.

في القِسمِ الأخير من هذه الصَّلاة، نَجِدُهُ يُصَلِّي لأجلِكَ ولأجلِي: "ولَستُ أسأَلُ من أجلِ هَؤُلاء فقط بل أيضاً من أجلِ الذين يُؤمِنُونَ بِي بِكلامِهِم. لِيَكُونَ الجَميعُ واحداً كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ وأنا فيكَ لِيَكُونُوا هُم أيضاً واحداً فينا، لِيُؤمِنَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتَني. وأنا قد أعطَيتُهُم المجدَ الذي أعطَيتَني ليَكُونُوا واحداً كما أنَّنا نحنُ واحد. أنا فيهِم وأنتَ فيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إلى واحدٍ ولِيَعلَمَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتني وأحبَبتَهُم كما أحبَبتَني." (يُوحَنَّا 17: 20- 23)

بينما تتأمَّلُونَ بهذا الجزءِ الثَّالِث منَ الصَّلاة، لاحِظُوا أوَّلاً أنَّ الوِحدَةَ التي يُريدُها لنا هي على مِثالِ وحدَتِهِ معَ الآب. فلقد أخبَرَنا في الإصحاحِ العاشِر من هذا الإنجيل أنَّهُ هُوَ والآب واحد (يُوحَنَّا 10: 30). الآن أصبحَت وِحدَتُهُم نَمُوذجاً للطريقَةِ التي بها بإمكانِنا أن نَكُونَ واحداً معَ الآب، معَ المُخلِّص، ومعَ بعضِنا البَعض.

لم يَكُنْ يسُوعُ يُصَلِّي لأجلِ ذلكَ النَّوع منَ الوِحدة الذي يُنادِي بهِ الكثيرُونَ اليوم، والذي يتأسَّسُ بِكُلِّ أسَفٍ بمُناداةِ هؤُلاء بإمكانِيَّةِ الوِحدَةِ معَ أُولئكَ الذين ينتَمُونَ لدِياناتٍ أُخرى، لأنَّ المُنادِينَ بهذه الوحدة لم يَعُودوا يُؤمِنُونَ بالعقائد الأساسيَّة لإيمانِهم. ليسَ منَ الصعبِ الإتِّفاقُ حولَ ما لم يَعُدِ النَّاسُ يُؤمِنُونَ بهِ اليوم.

التَّطبيقُ والتَّفسيرُ الأساسِيَّين لهذه الوحدة هُوَ المصدَرُ الدِّينامِيكيِّ لأعمالِ ولأقوالِ المسيح التي تنتُجُ عن الحقيقَةِ العجائِبيَّة أنَّهُ هُوَ والآب واحد. قالَ يسُوعُ لأُولئكَ الرُّسُل في البُستان، من خلالِ مَثَلِهِ عنِ الكَرمَةِ والأغصان: "أنا فيهِ وهُوَ فيَّ. هكذا أنتُم أيضاً، يُمكِنُكُم أن تَكُونُوا فيَّ وأنا فيكُم." (21). بهذه الطريقة وَصَفَ يسُوعُ الوِحدَةَ التي طلبَ منَ الآبِ أن يُعطِيَها لهؤلاء الرُّسُل، ولأُولئكَ الذين سيُؤمِنُونَ ويُصبِحُونَ جُزءاً من كنيستِهِ عبرَ التَّاريخ.

"أيُّها الآبُ أُريدُ أنَّ هؤُلاء الذين أعطَيتَني يكُونُونَ مَعي حَيثُ أكُونُ أنا لِينظُرُوا مَجدِي  الذي أعطَيتَني لأنَّكَ أحبَبتَني قبلَ إنشاءِ العالم." (24)

في هذا العدد يُعلِنُ يسُوعُ أنَّهُ أرادَ هؤُلاء الأحد عشَر تلميذاً أن يَكُونُوا معَهُ لكَي يرَوا مجدَهُ. ولقد وعدَ بأن يَكُونَ معَ أُولئكَ الذين يكرِزُونَ بالإنجيل ويُتلمِذُونَ النَّاس لهُ عبرَ تاريخِ الكنيسة (متَّى 28: 18- 20). بإمكانِنا الإفتِراض أنَّهُ بينما أعطَى مجدَهُ لأُولئكَ الأحدَ عشَر، فلقد أعطى وسيستَمِرُّ بإعطاءِ مجدِهِ لأُولئكَ الذينَ يدعُونَهُ رَبَّاً ومُخَلِّصاً، إلى أن يجيءَ ثانِيَةً.


لِكَي يُؤمِنَ ويعرِفَ العالَمُ

أخبَرَ يسُوعُ هؤلاء الرِّجال في العُلِّيَّة أنَّهُم عندما يختَبِرُونَ هذه الوحدَة، سيعمَلُونَ أعمالاً أعظَم من تِلكَ التي عمِلَها هُو. الآن نتعلَّمُ لماذا وظَّفَ يسُوعُ ثلاثَ سنواتٍ لتدريبِ تلاميذِهِ. لقد أرادَهُم أن يختَبِرُوا هذه الوِحدَة، وأن يعمَلُوا هذه الأعمال، لأنَّهُ أراد أن يعرِفَ العالَمُ وأن يُؤمِنَ العالَمُ بحقيقَتين: أنَّ الآبَ أرسَلهُ إلى هذا العالم، وأنَّ الآبَ أحبَّهم كما أحبَّ إبنَهُ الوحيد! لقد شدَّدتُ على هذه التَّضَرُّعاتِ في الأعداد 20 إلى 23، التي إقتَبَستُها أعلاهُ، لأنَّني أُؤمِنُ أنَّها التركيزُ الأساسيُّ والأكثَرُ حيويَّةً لهذه الصَّلاة.

إنَّ مِفتاحَ فهمِ تركيز هذه الصلاة، نجِدُهُ بطريقَةٍ أو بأُخرى في العدَدَين الأخيرين: "أيُّها الآبُ البارُّ إنَّ العالَم لم يعرِفْكَ. أما أنا فعرفتُكَ، وهؤُلاء عَرَفُوا أنَّكَ أنتَ أرسَلتَني. وعرَّفتُهُم إسمَكَ وسأُعَرِّفُهُم لِيَكُونَ فيهِم الحُبُّ الذي أحبَبتَني بهِ، وأكُونَ أنا فيهِم." (يُوحَنَّا 17: 25- 26)

بينما كانَ يُصَلِّي يسُوعُ هذه الصَّلاة، رَكَّزَ بالصَّلاةِ لأجلِ العالم. فحتَّى ولو قالَ للآبِ أنَّهُ لا يُصَلِّي لأجلِ العالم، ولكنَّهُ ذَكَرَ العالَمَ تسعَ عشرَةَ مرَّةً في صلاتِهِ هذه! ونجدُ مركَزِ الثِّقلِ في صلاتِهِ في الكلماتِ التَّالِيَة، "أيُّها الآبُ البارُّ، إنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ!" لقد أعلَنَ أنَّّهُ لا يُصَلَِّي لأجلِ العالم، لأنَّ العالَمَ لا يعرِف.

صَلَّى لأجلِ هؤُلاء الرُّسُل لأنَّهُم يعرِفُونَ، ولأنَّها وسيلتُهُ لإقناعِ هذا العالم بحَقِيقَتَين كرزوا بهما وقدَّمَ عنهُما مثالاً لمُدَّةِ ثلاثِ سنواتٍ: الحقيقَةُ الأُولى هي أنَّ اللهَ أرسَلَ إبنَهُ الوحيد إلى العالم من أجلِ خلاص ِالعالم. والحقيقَةُ الثَّانِيَة هي أنَّ اللهَ أحبَّ النَّاسَ في هذا العالم بمقدارِ ما أحبَّ إبنَهُ الوحيد.

هاتانِ الحقيقَتانِ الإنجيليَّتانِ نجدُهُما مُسَجَّلَتينِ في الإصحاحِ الثَّالِث من هذا الإنجيل. قالَ يسُوعُ لمُعلِّمِ النَّامُوس نيقُوديمُوس: "لأنَّهُ هكذا أحبَّ اللهُ العالمَ، حتَّى بذلكَ إبنَهُ الوحيد، لكي لا يهلِكَ كُلُّ من يُؤمِنُ بهِ، بل تكُونُ لهُ الحياةُ الأبديَّة." (يُوحَنَّا 3: 16).

لقد كانَ يسُوعُ يُصَلِّي لأجلِ هؤُلاء الرُّسُل في الأعدادِ الخمسةِ الأُولى من هذه الصَّلاة، عندما صَلَّى من أجلِ حياتِهِ وخدمتِهِ، لأنَّهُ بمعنىً ما كانَ هؤُلاء الرُّسُل عملَهُ الأهَمّ في هذا العالم. وبعدَ خمسَةِ قُرونٍ من رفعِهِ هذه الصَّلاة، كانَتِ الأمبراطُوريَّة الرُّومانيَّة بِرُمَّتِها قد إنضمَّت للإيمانِ المسيحيّ الذي أعلَنَهُ هؤُلاء الرُّسُل. لقد إستُجِيبَت هذه الصَّلاةُ الرَّائِعة عندما بارَكَ الآبُ بِقُوَّةٍ ستراتيجيَّةَ إبنِهِ الوحيد للوُصُولِ إلى العالم من خلالِ هؤلاء الرُّسُل، وأُولئكَ الذين سيُؤمِنُونَ من خلالِ كرازَتِهِم.

  • عدد الزيارات: 15520