الفَصلُ الثَّالِث "مُهِمَّةٌ مَهُوبَة"
(يُوحَنَّا 15: 18- 27)
إنَّ إستِعارَةَ الكَرمَةِ والأغصان كانت التطبيقَ العميق لجَوهَرِ تعليمِ يسُوع في العُلِّيَّة. هُنا يُشارِكُ يسُوعُ بِبَعضِ الحقائقِ الصَّعبة التي سيُواجِهُها هؤُلاء الرِّجال، خلالَ تطبيقِهِم للمأمُوريَّةِ العُظمة، التي كانَ قد كَلَّفَهُم بها في عظتِهِ في حفلِ تخريجهم. وهوَ سيتبَعُ هذه التَّوقُّعاتِ الواقِعيَّة الصَّعبة عن مُواجَهتهم المُقاومة والإضطِّهاد، التي كانُوا سيُواجِهُونَها بمعلُوماتٍ أكثَر تحديداً عن عملِ الرُّوحِ القُدُس فيهم ومن خلالِهم عندما يقبَلُونَ المُعَزِّي:
"إِنْ كَاْنَ العَاْلَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوْا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِيْ قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ العَاْلَمِ لَكَاْنَ العَاْلَمُ يُحِبُّ خَاْصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ العَاْلَمِ بَلْ أَنَاْ اخْتَرْتُكُمْ مِنَ العَاْلَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ العَاْلَمُ. اذْكُرُوْا الكَلامَ الذِيْ قُلْتُهُ لَكُمْ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَاْنُوْا قَدِ اضْطَهَدُوْنِيْ فَسَيَضْطَهِدُوْنَكُمْ. وَإِنْ كَاْنُوْا قَدْ حَفِظُوْا كَلامِيْ فَسَيَحْفَظُوْنَ كَلامَكُمْ. لَكِنَّهُمْ إِنمَّاْ يَفْعَلُوْنَ بِكُمْ هَذَاْ كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِيْ لأَنَّهُمْ لا يَعْرِفُوْنَ الذِيْ أَرْسَلَنِيْ. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ خَطِيَّةٌ. وَأَمَّاْ الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِيْ خَطِيَّتِهِمْ. الذِيْ يُبْغِضُنِيْ يُبْغِضُ أَبِيْ أَيْضَاً. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَاْلاً لَمْ يَعْمَلْهَاْ أَحَدٌ غَيْرِيْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ. وَأَمَّاْ الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضَُوْنِيْ أَنَاْ وَأَبِيْ. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الكَلِمَةُ المَكْتُوْبَةُ فِيْ نَاْمُوْسِهِمْ إِنَّهُمْ أَبْغَضُوْنِيْ بِلا سَبَبٍ. وَمَتَىْ جَاْءَ المُعَزِّيْ الذِيْ سَأُرْسِلُهُ أَنَاْ إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوْحُ الحَقِّ الذِيْ مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِيْ. وَتَشْهَدُوْنَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِيْ مِنَ الإِبْتِدَاْءِ". (يُوحَنَّا 15: 18- 27)
تُسَجِّلُ هذه الأعداد الطريقة التي حضَّرَ بها يسُوعُ الرسل لأمرٍ سيأتي قريباً وهو الإضطهاد والعذاب. خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الكنيسة، كان من غير الشرعي أن يكون الإنسان تلميذاً ليسوع المسيح. وحدثت موجاتٌ رهيبةٌ من الإضطهاد ضدّ أتباع المسيح. لهذا السبب لم تُبنَ كنائس في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الكنيسة، حتَّى قُبُول الأمبراطُور قسطنطين للإيمانِ المسيحي، الأمرُ الذي جعلَ إتِّباع يسُوع أمراً شَرعيَّاً مقبُولاً (عام 312 م.) وحتَّى قسطَنطِين، كانت الكنيسة تجتمع في المنازل غالِباً بشكلٍ سرّيٍّ، أو في مقابرَ تحت الأرض ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ، تحتَ عاصِمة الأمبراطُوريَّة الرُّومانيَّة.
منذُ تلكَ الأيَّامِ المُبَكِّرَة من تاريخِ الكنيسة، كانَ يُعتَبَرُ عقدُ الإجتماعاتِ كتلاميذ يسُوع أمراً غيرَ شَرعِيٍّ، وكان يُشَارُ إلى هذه الإجتماعات بالكَنيسَةِ السِّريَّة تحتَ الأرض." وإذا كانَ الكَثيرُونَ على غَيرِ عِلمٍ بهذا الواقِع، فهُناكَ الملايين منَ المُؤمنينَ اليوم الذي يجتَمِعُونَ في كنائِسَ سِرِّيَّة "تحتَ الأرض"، لأنَّ الكثيرَ منَ الحضاراتِ المُعاصِرَة تضطَّهِدُ المُؤمنينَ بالمسيح وتعتَبِرُ إتِّباعَ يسُوع علَناً هُوَ أمرٌ غَيرُ شَرعِيّ.
الكلمة اليُونانِيَّة للإشارَةِ إلى "منزِل" هي، "إيكُوس". لهذا يُشيرُ المُفَسِّرُونَ إلى الكنيسة السّرِّيَّة التي تجتَمِعُ تحتَ الأرض في جماعاتٍ صَغيرَة، إلى كَونِها "كنائس المنزِل." تعليماتُ العهدِ الجديد المُوحَى بها عنِ النِّظامِ، الهيكَلِيَّة، وعملِ الكنيسة، جميعُها مَبنِيَّةً على حقيقَةِ أنَّ الكنيسة كانت تجتمِعُ في إطارِ هذه المَجمُوعَة الصَّغيرة (1كُورنثُوس 14: 26 – 40). وبما أنَّهُ يجرِي اليوم إضطِّهادٌ مُخيفٌ للمُؤمنين في كافَّةِ أرجاءِ العالم، فإنَّ الكنيسةَ تتَّجِهُ مُجَدَّداً إلى مفهُوم "كنيسة المنزِل"، خاصَّةً عندما كانت تُقرَأُ الإصحاحاتُ الأخيرة من سفرِ أعمال الرُّسُل.
عندما قالَ يسُوعُ لتلاميذِهِ مُحَذِّراً، "إِنْ كَاْنَ العَاْلَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوْا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِيْ قَبْلَكُمْ،" (يُوحَنَّا 15: 18)، إستَخدَمَ كلمة "عالم" بمعنى فلسَفة العالم، أو طريقَة تفكير العالم، أو نظام قِيَم العالم الخالِي من المُطلَقاتِ والمُسَلَّماتِ الأخلاقِيَّة. لهذا علَّمَ يسُوعُ أنَّ تلاميذَهُ سيَكُونُونَ كمدِينَةٍ على جَبَلٍ لا يُمكِنُ إخفاؤُها (متَّى 5: 14). بِحَسَبِ يسُوع، العالَمُ سيُبغِضُهُم لأنَّ كُلَّ ما هُم عليهِ، وما يُؤمِنُونَ بهِ، ونظام القِيم الذي يتمسَّكُونَ بهِ، هي جيمعُها في نزاعٍ مُباشَر معَ ما يُؤمِنُ بهِ أهلُ هذا العالم وما يُعطُونَهُ قيمَةً. التَّطبيقُ الشَّخصِيُّ لكَ ولي كتلاميذ للمسيح اليوم هُوَ في غايَةِ الوُضُوح.
في العدد 19 يُقدِّمُ لنا يسُوعُ وصفاً دَقيقاً للمُؤمِنِ كَفَرد وللكنيسَةِ كجماعة، عندما يَقُولُ، "إختَرتُكُم لتخَرُجُوا منَ العالم." إنَّ عبارَة "منَ العالَم" هي تعريفٌ حَرفِيٌّ للكَنيسة. وباللُّغَةِ التي كتبَ بها يُوحَنَّا هذا الإنجيل، أي اليُونانِيَّة، كلمة كنيسة هي "إكليسيَّا"، التي تعني "مدعُوُّونَ إلى خارِج." فأُولئكَ المدعُوُّونَ منَّا إلى خارِج يُشَكِّلُونَ الكنيسة. ولكن مدعُوُّونَ من ماذا؟ مدعُوُّونَ منَ الفَلسَفَةِ العِلمانِيَّة، ومن طريقَةِ التَّفكير، ومن نظامِ قِيَمِ النَّاسِ في هذا العالم.
وكأتباعٍ للمَسيح، علينا أن نُدرِكَ أنَّنا مَدعُوُّونَ من هذا العالم لكي نُصبِحَ أهلَ "عالَمٍ آخر." لأنَّهُ يدعُونا للخُرُوجِ من هذا العالم عندما نأتي إليهِ بالإيمان ونلتَزِمُ بإتِّباعِهِ. ولا ينبَغي أن نتعجَّبَ عندَما نكتَشِفُ أنَّ العالمَ لا يتمسَّكُ بِقِيَمِ المسيح. والعالَمُ لن يدَعَنا ننسى أبداً أنَّنا نسيرُ على إيقاعٍ آخر، وأنَّهُ علينا أن لا نتعجَّبَ عندما نجدُ أنَّ أهلَ هذا العالم لا يتمسَّكُونَ بالقِيَمِ والآداب والأهداف والمقاصِد التي نتمسَّكُ بها نحنُ. فإن كُنَّا بالحقيقةِ نسمَعُ كلماتِ يسُوع هذه، فسَوفَ نتحضَّرُ لهذا الإختبار.
قالَ يسُوعُ أيضاً، "أُذكُرُوا ما كلَّمتُكُم بهِ أنَّ العَبدَ ليسَ أفضَلَ من سَيِّدِهِ." (20) عندما تكلَّمَ بهذه الكلمات، كانَ يُكَرِّرُ تصريحاً أعطاهُ في بِدايَةِ هذه الخُلوة معَ التلاميذ. (يُوحَنَّا 13: 16). ثُمَّ يُتابِعُ، "إن كانُوا قدِ إضطَّهَدُونَني فسيَضطَّهِدُونَكُم." ولكن لاحِظُوا هذا التَّشديد الإيجابِيّ: إن كانُوا قد أطاعُوا تعليمي، فسيُطِيعُونَ تعليمَكُم أيضاً." (20)
بكلماتٍ أُخرى، "أنتم تتعاملون مع العالم عينه الذي تعاملتُ أنا معهُ. وأنتُم تتوقَّعُونَ منَ أهلِ هذا العالم نفسَ التَّجاوُبَ الإيجابِيّ و السَّلبِي الذي حصَلتُ عليهِ أنا في تجاوُبِهِم معِي. ومعظم الشعب الذي تعاملتُ معه اضطهدني في ردّه عليّ. لكنّ البعض آمن. لذا، توقّعوا أن يضطهدكم معظم الشعب. ولكن توقَّعُوا أيضاً أن يُؤمِنَ الكَثيرُونَ ويتبَعُوني ويعيشُوا مبادِئِي في حياتِهِم، نتيجَةً لكرازَتِكُم ولتَعلِيمِكُم."
- عدد الزيارات: 3139