Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "أسئِلَة وأجوِبَة"

(يُوحَنَّا 13: 33- 14: 14)

في بِدايَةِ كُلِّ كُتَيِّبٍ من كُتَيِّباتِ تفسيرِ إنجيلِ يُوحَنَّا، أُوضِحُ أنَّ قَصدِي هُوَ أن أُوَفِّرَ بعض الشُّرُوحاتِ لأُولئكَ الذين سَمِعُوا حلقاتِنا المائَة والثَّلاثِين من بَرنامَج "في ظِلالِ الكلمة"، والتي تُعَلِّمُ إنجيلَ يُوحَنَّا عدداً بعدَ الآخر. وسوفَ تتمتَّعُونَ بالإستِمرارِيَّةِ في دراسَتِكُم لإنجيلِ يُوحَنَّا، إذا قَرَأتُم الكُتَيِّباتِ الأربَعة في هذه السِّلسِلَة قبلَ أن تقرَأُوا هذا الكُتَيِّب، الذي هُوَ الكُتَيِّبُ الخامِس في سِلسِلَة التَّفسير هذه.

يَصِحُّ هذا بالتَّحديد على هذا الكُتَيِّب الذي أنتُم الآنَ بِصَدَدِ قراءَتِهِ، لأنَّ القَرينَةَ التي تُساعِدُنا على فَهمِ ما سندرُسُهُ مُفَسَّرَةٌ في الكُتَيِّب 26، الذي يسبِقُ كُتَيِّبَ الدِّراسَة هذا تماماً. فإن كُنتُم تُريدُونَ أن تَقُومُوا بدراسَةِ أو تعليمِ إنجيلِ يُوحَنَّا عدداً بعدَ الآخر، ولم تَكُن لدَيكُم الكُتَيِّباتُ الأربَعة السَّابِقَة من هذه السِّلسِلَة، إتَّصِلُوا بنا فنُرسِلَها لكُم عاجِلاً.

وكما أشَرتُ في الكُتَيِّب السِّادِس والعِشرين، يبدَأُ يُوحَنَّا في مُنتَصَفِ الإصحاحِ الثَّانِي عشَر النِّصفَ الثَّانِي من إنجيلِ يُوحَنَّا. النِّصفُ الأوَّلُ من هذا الإنجيل يتكلَّمُ بِشَكلٍ عامٍّ عن خدمَةِ يسُوع من وَعظٍ وتعليمٍ وشِفاءٍ وتدريبٍ للرُّسُل الذين سيُتابِعُونَ ما بدأَهُ خلالَ السَّنواتِ الثلاث من خدمَتِهِ العَلَنيَّة. بدَأَ يُوحَنَّا القِسمَ الثَّانِي من إنجيلِهِ بتخصيصِ أربَعَةِ إصحاحاتٍ للطَّريقَةِ التي ذَكَّرَ بها بأطوَلِ عِظَةٍ مُدَوَّنَةٍ ليسُوع، والتي نَجِدُها مُسَجَّلَةً في الإصحاحاتِ الأربَعة، والتي تُسَمَّى بِعِظَةِ العُلِّيَّة." (يُوحَنَّا 13- 16).

غالِباً ما إستَخدَمَ مُعَلِّمُو النَّامُوس القُدَامَى منهَجِيَّةَ الأسئِلَة والأجوِبَة خلالَ تعليمِهم. ولقد أجابُوا بالفعلِ على الأسئِلَةِ بأسئِلَةٍ أُخرى طرحُوها بِدَورِهِم. وعندما سُئِلَ مُعَلِّمُ النَّامُوس هِلِّل، "لماذا تُجِيبُونَ أنتُم الرَّابِّيُّونَ على السُّؤالِ بِسُؤال؟" أجابَ بالسُّؤال، "ولمَ لا؟" وكما يُشَدِّدُ هذا الإنجيلُ، كانَ يسُوعُ أكثَرَ من مُجَرَّدِ مُعَلِّمٍ للنامُوس. ولكن، كَونَهُ المُعَلِّمُ الكامِل، إستَخدَمَ طريقَةَ الأسئِلَة والأجوِبَة خلالَ تعليمِهِ. ولقد أثارَ تعمُّداً أسئِلَةً تَجُوبُ في قُلُوبِ وأفكارِ هَؤُلاء الرُّسُل الذين خاطَبَهُم بعظَتِهِ الطَّويلة في العُلِّيَّة.

ألقَى يسُوعُ أطوَلَ عِظَةٍ لهُ عندما إلتَقى معَ تلاميذِهِ للمرَّةِ الأخيرة قبلَ مَوتِهِ. وبما أنَّ كُلَّ هذا التَّعليم أُعطِيَ في إطارِ خُلوَة، لهذا أُسمِّيهِ "الخُلوة المسيحيَّة الأخيرة." في مرحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ من خدمَةِ يسُوع العلنيَّة لثلاثِ سنواتٍ، ألقَى يسُوعُ عِظَةً تُسَمَّى "المَوعِظَة على الجبل." أُسمِّي هذه العِظة "الخُلوة المسيحيَّة الأُولى،" لأنَّ يسُوعَ أعطَى هذا التعليم في إطارِ خُلوة. ومن بَينِ التَّلاميذِ الذين وضعَ أمامَهُم التَّحدِّي على ذلكَ الجَبل، كلَّفَ يسُوعُ الإثنَي عَشَر ليَكُونُوا رُسُلَهُ أَو مُرسَليه. ولقد علَّمَهُم لثلاثِ سنواتٍ، وأظهَرَ لهُم كيفيَّةَ العمَل بتعليمِهِ، ثُمَّ دَرَّبَهُم وأرسَلَهُم ليُغامِرُوا في خِدمَتِهِ. وها هُوَ الآن يأخُذُ خُلوَةً معَهُم، وهُوَ على وَشكِ أن يُخَرِّجَهُم من مدرَسَةِ تدريبِهِ.

الأعدادُ الأخيرَةُ من الإصحاحِ الثَّالِث عشَر تَذكُرُ سُؤالَين طَرَحَهُما بُطرُس على يسُوع: "يا مُعَلِّم، أينَ تذهَب؟ ولماذا لا أستَطيعُ أن أذهَبَ معكَ؟ فأنا مُستَعِدٌّ أن أضعَ حياتِي عنكَ!" أجابَ يسُوعُ على أسئِلَةِ بُطرُس بالتَّنبُّؤِ عن نُكرانِ بُطرُس المُثَلَّث لهُ، وتابَعَ يسُوعُ بالإجابَةِ على هذينِ السُّؤالَين اللذَينِ طرَحَهُما بُطرُس في بدايَةِ الإصحاحِ التَّالِي. وبعدَ أن طرحَ بُطرُس سُؤالَيهِ، وبعدَ أن أجابَ الرَّبُّ عليهِما، تقدَّمَ الرُّسُلُ تُوما، فيلبُّس، ويَهُوَّذا وطرَحُوا أسئِلَةً على يسُوع أيضاً. ولقد شكَّلَت أسئِلَتُهُم وأجوِبَةُ يسُوع على أسئِلَتِهِم هذه قَلبَ الإصحاحِ الرَّابِع عشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا.

أنا مُقتَنِعٌ أنَّ يسُوعَ كانَ يُشَجِّعُ عمداً طرحَ مثل هذه الأسئِلَة، عندما إستَخدَمَ كَلِماتٍ مُفعَمَةٍ بالعَطفِ، التي نراها مُدَوَّنَةً في نهايَةِ الإصحاحِ الثَّالِث عشَر." "يا أولادي، أنا معَكُم زَماناً قَليلاً بَعد. سَتَطلُبُونَني وكَما قُلتُ لِليَهُود حيثُ أذهَبُ أنا لا تَقدِرُونَ أنتُم أن تأتُوا، أقُولُ لكُم أنتُم الآن." (يُوحنَّا 13: 33). في هذَينِ الإصحاحَين، ومن العدد 31 من الإصحاحِ الثالِث عشَر وحتَّى العدد 31 منَ الإصحاح الرَّابِع عشَر، ليسَ بإمكانِكُم أن تقرَأُوا خمسَةَ أعدادٍ بِدُونِ أن تمُرُّوا عبرَ مَوضُوعِ الدُّخُولِ والخُرُوج – أي أنَّ يسُوعَ دَخَلَ إلى هذا العالم وها هُوَ الآن يخرُج ليَمضِيَ إلى الآب.

عندما شَدَّدَ يسُوعُ على هذا المَفهُوم تِكراراً، كانَ يُثيرُ عمداًَ هذينِ السُّؤالَينِ اللذينِ طرحَهُما بُطرُس، في أذهانِ كُلِّ أُولئكَ الرُّسُل. قامَ يسُوعُ بِهذا لأنَّ أجوِبَتَهُ على هذه الأسئِلة شكَّلَت قَلبَ الحقيقَةِ التي أرادَ أن يُشارِكَها معَهم في إطارِ هذه الخُلوة الأخيرة.

عندما أجابَ يسُوعُ أوَّلَ سُؤالٍ لبُطرُس القائِل، "حيث أمضِي أنا لا تقدِرُونَ أنتُم أن تتبَعُونَني، ولكنَّكُم ستَتبَعُونَنِي لاحِقاً،" تأكَّدُوا من أن تُلاحِظُوا أنَّ يسُوعَ لم يُجِبْ بالفِعل على سُؤالِ بُطرُس. فهُوَ لم يُخبِرْ بُطرس تماماً أينَ كانَ سيمضِي. بل قالَ بِبَساطَة: "لا تَقدرُ أن تَتبَعَني الآن، ولكنَّكَ ستَتبَعُني لاحِقاً." ثُمَّ عادَ بُطرُس ليَطرَحَ سُؤالَهُ الثَّانِ]: "يا سَيِّد، لماذا لا أقدِرُ أن أتبَعَكَ؟" إنِّي أضَعُ نفسِي عنكَ."

يبدُو أنَّ بُطرُس أدرَكَ أنَّهُ عندَما يَقُولُ يسُوعُ أنَّهُ سيمضِي بَعيداً، كانَ يُشيرُ بِذلكَ إلى مَوتِهِ. وكما أشَرتُ في الكُتَيِّبِ السَّابِق، كانَ رِجالُ الدِّينِ يُحَرِّضُونَ رُوما لتُطبِقَ على الرَّبِّ يسُوع وعلى رُسُلِهِ. وهكذا بَرَزَ خَطَرٌ كَبيرٌ أَحْدَقَ بالتَّلاميذ. فعرَفُوا أنَّهُ منَ المُمكِنِ جدَّاً أن يُطلَبَ منهُم أن يمُوتُوا معَ المسيح – خاصَّةً عندما أخبَرَهُم بأنَّهُ ماضٍ ليَمُوت، وأنَّهُم هُم أيضاً سيَمُوتُونَ وسيُدفَنُونَ في التُّرابِ مثل حبَّةِ الحِنطَة. (يُوحَنَّا 12: 24)

أجابَ يسُوعُ على تصريحِ بُطرُس القائِل بأنَّهُ مُستَعِدٌّ أن يُضَحِّيَ بِنَفسِهِ لأجلِ يسُوع، أجابَ يسُوعُ بالكلماتِ التَّالِيَة: "أحَقَّاً أنتَ مُستَعِدٌّ أن تضعَ حياتَكَ عنِّي؟ الحَقَّ أقُولُ لكَ، قبلَ أن يصيحَ الدِّيكُ ستُنكِرُني ثلاثَ مرَّاتٍ." تأمَّلَ كيفَ كانَ وَقْعُ هذه الكلماتِ على قَلبِ بُطرُس وكم سَبَّبَتْ لهُ منَ الألَمِ والأسى.

لا يُخبِرُنا يُوحَنَّا شَيئاً عنِ تعابيرِ وَجهِ يسُوع ولا عن نبَرَةِ صَوتِهِ عندما تكلَّمَ بهذه الكلماتِ الرَّهيبَة لبُطرُس. ولكنَّني مُقتَنِعٌ، رُغمَ عدَم توفُّر الدَّليل، بأنَّهُ عندَما تكلَّمَ يسُوعُ بهذه الكلمات معَ بُطرُس، كانَت عيناهُ مملُووءَتانِ بالمحَبَّةِ تجاهَ بُطرُس، وعبَّرَ صَوتُهُ عنِ الكَثيرِ منَ الحَنانِ تجاهَهُ.

قَبلَ لَحظاتٍ فقط من قَولِهِ هذه الكلمات لبُطرُس، خاطَبَهُم جَميعاً كأطفال. وبما أنَّ الكلامَ كانَ بهدَفِ التَّودُّدِ والعَطفِ تجاهَهُم، نعلَمُ أنَّ الرَّبَّ يسُوعَ كانَ في مرحَلَةِ عطفٍ وحنانٍ على التَّلاميذ في هذه المرحلة. أعتَقِدُ أنَّ محبَّتَهُ وحنانَهُ إستَمرَّا عبرَ حوارِهِ معَ بُطرُس. حتَّى أنَّني أظُنُّ أنَّهُ كانت لدَيهِ بَسمَةٌ على وجهِهِ عندَما خاطَبَ بُطرُس قائِلاً: "أحَقَّاً يا بُطرُس؟ الحقَّ الحقَّ أقُولُ لكَ إنَّهُ لا يَصيحُ الدِّيكُ غداً صباحاً، حتَّى تُنكِرَ ثلاثَ مرَّاتٍ أنَّكَ تَعرِفُني – ليسَ مرَّةً واحِدَةً، بل ثلاثَ مرَّاتٍ!"

تأمَّلُوا كم كانت كلماتُ يسُوع التي تكلَّمَ بها معَ بُطرُس مَدعَاةً للإضطِّراب لباقِي التَّلاميذ المُتحلِّقِينَ حولَ المائِدَة. نقرَأُ أنَّهُم إضطَّرَبُوا في نُفُوسِهم. ومِنَ المُلائِمِ جدَّاً أن تَكُونَ الكلماتُ التي سَمِعُوها منَ يسُوع، والتي خاطَبَهم جميعَهُم بها، هي التَّالِيَة: "لا تَضطَّرِبْ قُلُوبُكُم. أنتُم تُؤمِنُونَ باللهِ فآمِنُوا بِي. فِي بَيتِ أبي منازِلُ كَثيرَة. وإلا فإنِّي كُنتُ قد قُلتُ لكُم. أنا أَمضِي لأُعِدَّ لَكُم مكاناً. وإن مَضَيتُ وأَعدَدتُ لكُم مكاناً آتي أيضاً وآخُذُكُم إليَّ، حتَّى حيثُ أكُونُ أنا تكُونُونَ أنتُم أيضاً. وتَعلَمُونَ حيثُ أنا أَذهَبُ وتَعلَمُونَ الطَّريق." (يُوحَنَّا 14: 1- 4).

لاحِظُوا أيضاً أنَّهُ عندَما يَقُولُ لهُم جميعاً: "لا تَضطَّرِبْ قُلُوبُكُم،" يستخدِمُ كلمة "قُلُوبُكُم بِصِيغَةِ الجَمع." كانَ يتكلَّمُ بِوُضُوحٍ معَهُم جميعاً عندما قالَ، "آمنُوا باللهِ. وآمنُوا بِي." بكَلِماتٍ أُخرى، أنتُم تُؤمِنُونَ بالله. آمنُوا أيضاً بي." هذا تصريحٌ من قِبَلِ يسُوع بأُلُوهِيَّتِهِ، لأنَّهُ وضعَ نفسَهُ على المُستَوى ذاتِهِ معَ الله. ثُمَّ بدَأَ الإصحاح الرَّابِع عشَر الرَّائِع بالكلماتِ المألُوفَةِ التَّالِيَة، التي نُحِبُّ  أن نقرَأَها في خدماتِ الدَّفنِ أو الجنازة.

"وتَعلَمُونَ حيثُ أنا أذهَبُ وتعلَمُونَ الطَّريق." (يُوحنَّا 14: 4) أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّ تصريحَهُ الأخير تعمَّدَ بهِ إثارَةَ سُؤالٍ آخر في أذهانِ التلاميذ. بإخبارِهِ إيَّاهُم أنَّهُم يعرِفُونَ أينَ كانَ ذاهِباً ويعرفُونَ الطَّريق الذي كانَ ذاهِباً فيهِ، تجرَّأَ الرَّسُولُ الذي نَدعُوهُ "تُوما المُشَكِّك" ورَدَّ بِالسُّؤال: "يا سَيِّد، لسنا نعلَمُ أينَ تذهَبُ فكيفَ نقدِرُ أن نعرِفَ الطَّريق."

أمّا إجابة يسوع عن سؤال توما فتُشَكِّل أحد أجمل الأعداد في الكتاب المقدّس وفي إنجيل يوحنّا. أجابَ يسُوع: "أَنَاْ هُوَ الطَّرِيْقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاْةُ." ثُمَّ أضاف، "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِيْ الى الآبِ إِلَّاْ بِيْ."

لقد قدَّمَ يسُوعُ بالحقيقَةِ ثلاثَة تصريحاتٍ عقائِديَّة، عندما أجابَ على سُؤالِ تُوما. هذه التَّصريحات الثلاث هي أنَّهُ هُوَ الطَّريق وهُوَ الحقُّ وهُوَ الحياة. عندما صَرَّحَ أنَّهُ الطَّريقُ إلى ذلكَ المكان الذي يُعدُّهُ لهُم، كانَ يُشيرُ إلى مَوتِهِ على الصَّليب. فصَليبُ رَبِّنا ينبَغي أن يُمَثِّلَ أكثَرَ من مُجَرَّدِ زينَةٌ يلبَسُها النَّاسُ على صُدُورِهِم. صليبُ يسُوع المسيح يُشيرُ إلى طريقِ خلاصِنا، وإلى الطريق الذي يُؤَدِّي إلى المكانِ الذي أعَدَّهُ يسُوعُ لأُولئكَ الذين آمنُوا باللهِ وبهِ كمُخَلِّصِهم.

مَوتُ يسُوع على الصَّليب يشير الى خدمته كَكاهِن. فالكاهِنُ هو الذي يتوسّط للإنسان لدى اللهِ. وهذا ما فعلَهُ يسوع عندما قدّم نفسه على الصليب. لقد شقّ طريقاً لنا كي نذهب الى ذلك المكان السماوي ونعيش فيه الى الأبد مع اللهِ، وذلكَ بتَقديمِهِ ذَبيحَةً كامِلَةً عن خطايانا. (يُوحَنَّا 1: 29؛ إشَعياء 53: 7؛ عبرانِيين 2: 17؛ 9: 11- 28).

كان بإمكانه تأمين الطريق من خلال ترك أعماله السماويّة بعد ظهر يوم الجمعة والمجيء الى هذا العالم ليموت على الصليب من أجل خطايا العالم. لكنّه أتى الى هذا العالم وعاش لمدّة ثلاث وثلاثينَ عاماً، لأنّه لم يأتِ ليموت على الصليب فقط. فكما أشَرتُ سابِقاً، عددُ الإصحاحات التي يُعطيها هذا الإنجيلُ الأولويَّةَ ليَصِفَ الأسبوع الأخير من حياة يسوع، يُرينا أنَّ مَوتَهُ على الصَّليب وقيامَتَهُ منَ المَوت شكَّلاً الجُزءَ الأكثَر أهمِّيَّةً وحيويَّةً من حياتِهِ وخدمتِهِ. فلماذا لم يأتِ فقط يوم الجمعة العظيمة ليموت على الصليب؟ "لأنّه كان أيضاً الحقّ."

هل تذكرون مقدّمة هذا الإنجيل (يُوحَنَّا 1: 1- 18) التي جاءَ فيها: "فِيْهِ كَاْنَتِ الحَيَاْةُ وَالحَيَاْةُ كَاْنَتْ نُوْرُ النَّاْسِ. [كانَ هُوَ الكَلمة – أي ناقِلَ فِكرِ الله – الذي عَبَّرَ عن كُلِّ فكرِ اللهِ تجاهَ البَشر، الذي كانَ بإمكانِهم أن يفهَمُوه. وكَونَهُ الكلمة، كانَ عندَ اللهِ منذُ البَدء، وكانَ الله،] وَالكَلِمَةُ صَاْرَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَاْ وَرَأَيْنَاْ مَجْدَهُ مَجْداً كَمَاْ لِوَحِيْدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُؤًا نِعْمَةً وَحَقَّاً"؟

لقد حصل شعب اللهِ على الحقِّ الذي جاءَهُم عن طريق الصفحة المقدّسة من خلال موسى والأنبياء. لكنّ اللهَ شعرَ بقوّةٍ بأنّه يريد أن يكون لدى شعبِ هذا العالم أكثرُ من الصفحة المقدّسة. أرادهم أن يحصلوا على الكلمة الحيّة متجسّدةً. أرادنا أن نرى كم أنّ حقيقة الصفحة المقدّسة يمكنها أن تأخذ شكلاً بشريّاً وأن تعمل في العالم، أي أرادَنا أن نرى كَلِمَةً عاشَ وسلكَ في حياةٍ كامِلَة في الجَسَدِ البَشَري. أرادَنا أن نرى كيفَ يُمكِنُ لحقيقَةِ الصَّفحَةِ المُقدَّسَة أن تعمَلَ وتُعاشَ في الحياةِ البَشَريَّة. وهذا ما عناه يسوع عندما قال: " أَنَاْ هُوَ الحَقُّ". ففي كُلِّ ما كانَهُ وكُلِّ ما عَمِلَهُ، كانَ هُوَ الحَقّ. وبالطبع هذا التصريح يشمل ذلك كلّ مرّةٍ فتح فيها يسوع فمه وعلّم تلاميذه وقال الحقّ وشهد للحقّ.

يقول يسوع في الجزءُ الثالث من تَصريحِهِ العَظيم: "أَنَاْ هُوَ الحَيَاْةُ". هذا يعني أنّ يسوع عاش الحياة المثاليّة، وَأَظْهَرَ لنا ما هي الحياة. لقد صنع لنا نموذجاً عن الحياة الأبديّة التي يخبرنا يوحنّا عن نوعيّتها في هذا الإنجيل. ويعني هذا التَّصريحُ أنَّ يسُوعَ جاءَ ليمنَحَ ما أَسمَاهُ "حياة أفضَل، أو حياة فيَّاضَة"، وذلكَ من خلالِ منحِ إختِبارِ الولادَةِ الجديدة لأولئكَ الذين علَّمَهُم وقابَلَهُم. (يُوحَنَّا 10: 10)

تبدأ هذه التَّصريحات الثلاثة بكلمتينِ مهمّتينِ: "أَنَاْ هُوَ" والتي تُشَكِّلُ أهمَّ كلماتٍ تكلَّمَ بها. إذ نُركِّزُ إهتِمامنا على الطريقة التي أجابَ بها يسُوعُ تُوما، نكتَشِفُ تصريحاً آخر من تصريحاتِ يسُوع القائِلَة "أنا هُوَ" في إنجيلِ يُوحَنَّا. فهو لم يَقُلْ: "أتيتُ لأُخبرَكُم عن طريقٍ وأَصِفَ لكم حقيقةً مُعيَّنَة تتكلَّمُ عن نوعيّةِ حياةٍ". إنّ الكلمتينِ المهمّتينِ هنا هما: "أَنَاْ هُوَ"، أي "أنا هو طريقُ الخلاص. وأنا هو ذلك الحقّ الذي تسمَعُونَ عنهُ، وأنا هو تلك الحياة التي هي نُور العالم".

تَذَكَّرُوا أنَّهُ في المُقدِّمَة، أشارَ يُوحَنَّا إلى أنَّ يُوحَنَّا المعمدان لم يَكُنْ هُوَ الشَّخصُ المُهم، بل يسُوعُ كانَ هذا الشَّخص. عندما ظهَرَ يُوحَنَّا المعمدان، كانَ يَقُولُ بإستِمرار أنَّهُ لم يَكُنْ هُوَ المُهم، بينما عندما ظهَرَ يسُوع نراهُ يَقُولُ دائماً عن نفسِهِ: "أنا هُوَ." أحد الأمور الأكثر ديناميكيّةً التي يذكُرُها يُوحَنَّا عن يسوع هو أنّه عاش كلّ أمرٍ قاله وعلّمه. لكن عندما قال إنّه الحياة، على الأقل جُزءٌ ممَّا صَرَّحَ بهِ كانَ أنَّ الحياةَ التي عاشَها على الأرضِ هُنا كانت نَمُوذَجاً لنَوعِيَّةِ الحياة التي يُريدُها اللهُ لِكُلِّ كائنٍ بَشَريٍّ.

المعنى الأساسِي لتصريحِهِ أنَّهُ كانَ هُوَ الحياة، نجدُهُ أيضاً في مُقَدِّمَةِ هذا الإنجيل. في الكُتَيِّباتِ الأُولى من هذه السِّلسِلَة، التي تُقدِّمُ لنا دراسَةً لإنجيلِ يُوحَنَّا عدداً بعدَ الآخر، أشَرتُ إلى أنَّهُ في الإعدادِ الإفتِتاحِيَّة، أخبَرنا يُوحَنَّا عمَّا سيَقُولُهُ لنا في إنجيلِهِ. لهذا علينا أن لا نتفاجَأَ عندما نكتَشفُ خلالَ تحرُّكِنا عبرَ إنجيلِ يُوحَنَّا، أنَّ المُقدِّمَةَ هي بمثابَةِ لائحة مُحتَويات تَصِفُ ما نقرَأُهُ في إنجيلِ يُوحَنَّا.

تُخبِرُنا هذه المُقدِّمَة أنَّهُ عندما تجاوبَ النَّاسُ بطريقَةٍ صحيحَةٍ معَ يسُوع، أخذُوا سُلطاناً أن يَصيرُوا أولادَ الله، ووُلِدُوا من فَوق. وُلِدُوا: "ليس من دَمٍ، ولا من مَشيئَةِ رَجُلٍ، بل منَ الله." (يُوحَنَّا 1: 12، 13) كان يسوع الحياة، بمعنى أنّه منح الناس قوّةً ليصبحوا الحياة التي كان يُقدِّمُ نَمُوذجاً عنها من أجلهم.

تُظهِرُ لنا دراسَةُ شَخصِيَّاتِ العهدِ القَديم مبدأً إستَخدَمَهُ اللهُ عندما أرادَ أن يُعَلِّمَ حقيقَةً هامَّة. وهذا المبدَأُ هُوَ: "عندما تُقدِّمُ فكرَةً عظيمَةً، جَسِّدْها بِشخصٍ." مثلاً، عندما أرادَ اللهُ أن يُعَلِّمَنا مفهُومَ الإيمان، جسَّدَ هذا المفهومَ في حياةِ شخصٍ إسمُهُ إبراهِيم. جسَّدَ مفهُومَ النِّعمة في حياةِ يَعقُوب، وجسَّدَ مفهُومَ العِنايَةِ الإلهيَّةِ في حياةِ يُوسُف (تكوين 12 – 24؛ 25 – 32؛ 37 – 50).

عندما أرادَ اللهُ أن يُعَبِّرَ عن مفهُومِ الحياةِ الأبديَّة – أي تلكَ النَّوعِيَّة منَ الحياة التي يُريدُها اللهُ لكَ ولي – جَسَّدَ مَفهُومَ الحياةِ الأبديَّةِ هذا في الحياةِ التي عاشَها الرَّبُّ يسُوعُ المسيح على أرضِنا لمُدَّةِ ثلاثٍ وثلاثِينَ سنَةً. وفي مُقدِّمَتِهِ، لم يُخبِرْنا يُوحَنَّا فقط بأنَّ الكلمة الذي صارَ جسداً، كانَ النُّور. بل أخبَرَنا أيضاً أنَّ النِّعمَةَ والحَقَّ بِيَسُوع المسيح صارا. بِكَلماتٍ أُخرى، يسُوعُ المسيحُ كانَ الحياة والنُّورَ اللذَينِ جاءَ ليمنَحَنا إيَّاهُما. وكانَ أيضاً الطَّريق والوَسيلَة التي من خلالِها يُمكِنُنا إختبار وعيش الحياة التي تجعَلُنا بالحقيقَة أبناءَ الله. الوِلادَةُ الجديدةُ هي وسيلَةُ التَّحوُّل التي تمنَحُنا هذه الحياة. الولادَةُ الجديدَة ووسيلَتُها مُتَضَمَّنتانِ في هذه الكلمات، "أنا هُوَ الحياةُ."

التَّطبيقُ الشَّخصِي والتَّعبُّدِيّ لهذه الحقيقة، هُوَ أنَّ المسيحَ الحَيَّ المُقام هُوَ الحياةُ وهُوَ أيضاً الطريقُ لهذه الحياةِ اليوم. إنجيلُ يُوحنَّا لا يُقدِّمُ فقط شخصِيَّةً تاريخيَّةً عاشَت منذُ ألفَي سنَة. بل هُوَ أيضاً حيٌّ اليوم، ومن المُمكِنِ لهُ أن يحيا فيَّ وفيكَ.

وبما أنََّ هُناكَ أشخاصاً يُشَكِّكُونَ بِحقيقيَّةِ وُجودِ يسُوع التَّاريخيّ، كتبَ أحدُ تلاميذِ يسُوع المُخلِصين قائِلاً: "أنا أؤمن أنّه هو، في حين أنّ الناس لم يكونوا واثقينَ من أنّه كان هو. وفي الوقت الذي لم يكن فيه الناس متأكّدين من أنّه فعل، أعلم أنا أنّه لا يزال يعمل".

لقد قيل أيضاً ما يلي: "إنّ يسوع المسيح هو كلّ شيءٍ يقوله عن نفسه، ويسوع المسيح يستطيع أن يقوم بكلّ أمرٍ قال إنّه يمكنه فعله. أنتم كلّ شيءٍ يقوله يسوع المسيح فيكم، وتستطيعون فعل أيّ شيءٍ يقول يسوع المسيح إنّكم تستطيعون فعله، لأنّه فيكم".

هذان التَّصريحانِ هُما تطبيقانِ شَخصِيَّانِ للتَّصريحِ التَّالي ليسُوع: "أَنَاْ هُوَ الحَيَاْةُ".

  • عدد الزيارات: 20084