الفَصلُ الأوَّل "مشاكلُ الحياة المُستَعصِيَة"
(يُوحَنَّا 11: 1- 16)
نُقَدِّمُ لكُم الكُتَيِّبَ الرَّابِع من بينِ سِتَّةِ كُتَيِّباتٍ تُؤَلِّفُ سِلسِلَةً تفسيريَّةً لأُولئكَ الذين تابَعُوا معنا بَرامِجَنا المئة والثلاثين، التي دَرَسنا فيها معاً إنجيلَ يُوحَنَّا، عدداً بعدَ الآخر. فإذا لم تكُن الكُتَيِّباتُ الثلاثَةُ الأُولى بِحَوزَتِكُم، أُشَجِّعُكُم أن تَكتُبُوا لنا وتَطلُبُوا هذه الكُتَيِّباتِ، لأنَّها ستُوَفِّرُ لكُم أساساً يُساعِدُكُم على فَهمِ هذا الكُتَيِّب وهذه الدِّراسَة المُعَمَّقَة لإنجيلِ الرَّسُول يُوحَنَّا.
سوفَ نَجِدُ أنَّ الإصحاحَ الحادِي عشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا هُوَ واحِدٌ من أكثَرِ الإصحاحاتِ إثارَةً للإهتِمامِ، ليسَ في هذا الإنجيل فحَسب، بل لَرُبَّما في الكتابِ المُقدَّسِ بكامِلِهِ. وسوفَ يُعطِينا هذا الإصحاحُ بَعضَ الأجوِبَةِ الرَّائِعة على أسئِلَتِنا المِفتاحِيَّة الثلاثة. بينما تقرَأُونَ الإصحاحَ الحادِي عشر، فتِّشُوا عنِ الأجوِبَةِ للأسئِلَةِ التَّالِيَة: من هُوَ يسُوع؟ ما هُوَ الإيمانُ؟ وما هِيَ الحياةُ؟ نجدُ إطارَ أو خَلفِيَّةَ المُحتَوى العَميق للإصحاحِ الحادِي عَشَر إبتداءً منَ العدد الأربَعين منَ الإصحاحِ العاشِر حيثُ نقرَأُ:
"ومضى [يسُوعُ] أيضاً إلى عبرِ الأُردُنِّ إلى المكانِ الذي كانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فيهِ أوَّلاً ومَكَثَ هُناك. فأتى إليهِ كَثيرُونَ وقالُوا إنَّ يُوحَنَّا لم يفعَلْ آيَةً واحِدَةً. ولكنْ كُلّ ما قالَهُ يُوحَنَّا عن هذا كانَ حَقَّاً. فآمنَ كَثيرُونَ بهِ هُناكَ.
"وكانَ إنسانٌ مَريضاً وهُوَ لِعازارُ من بَيتِ عنيا من قَريَةِ مَريَم ومرثا أُختِها. وكانَت مريَمُ التي كانَ لعازارُ أَخُوها مريضاً هي التي دَهَنتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ ومَسَحتْ رِجلَيهِ بِشَعرِها. فأرسَلَتِ الأُختانِ إليهِ قائِلَتَين يا سَيِّد هُوَّذا الذي تُحِبُّهُ مَريضٌ. فلمَّا سَمِعَ يسُوعُ قالَ هذا المَرَضُ ليسَ لِلمَوت بل لأجلِ مجدِ اللهِ لِيَتَمَجَّدِ إبنُ اللهِ بهِ. وكانَ يٍسُوعُ يُحِبُّ مَرثا وأُختَها ولِعازار. فلمَّا سَمِعَ أنَّهُ مَريضٌ مكَثَ حينئذٍ في المَوضِعِ الذي كانَ فيهِ يَومَين."
يبدَأُ هذا الإصحاحُ بِقِصَّةِ رَجُلٍ يُدعَى لِعازار، كانَ لَدَيهِ شَقيقَتانِ، مريم ومرثا. كانُوا يَعيشُونَ في بَيتِ عنيا، وهي ضاحِيَةٌ من ضَواحِي أُورشَليم، تبعُدُ عنها ما يَقِلُّ عن ثلاثَةِ كيلومترات. عندما كانَ يسُوعُ في أُورشَليم، إعتادَ أن يمكُثَ معَ هذه العائِلة. وعندما تورَّطَ في ذلكَ الحِوارِ العدائِيّ معَ رِجالِ الدِّين في أُورشَليم، لا بُدَّ أنَّ هذا الحوار أتعَبَهُ كثيراً. ويبدُو أنَّهُ إعتادَ أن ينسَحِبَ إلى بيتِ عنيا ليَمكُثَ معَ هذه العائِلَةِ التي أحبَّها كثيراً، والتي كانت تتألَّفُ من ثلاثَةِ أشخاصٍ.
ينتَهي الإصحاحُ العاشِرُ مُقَدِّماً لنا يسُوع وهُوَ في البَرِّيَّةِ وراءَ نهرِ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يُوحَنَّا المعمدان يكرِزُ ويُعَمِّدُ. إذا قُمتُم بِزِيارَةِ الأراضِي المُقَدَّسَة، يُمكِنُكُم أن تُسافِرُوا بالسَّيَّارَةِ أربَعَ ساعاتٍ جَنُوبَ أُورشَليم. وبعدَ ذلكَ سوفَ يُشِيرُ دَليلُكُم نحوَ منطَقَةٍ شاسِعَةٍ في البَرِّيَّةِ تجاهَ الأُردُنّ ويَقُولُ: "هُناكَ كانَ يُوحَنَّا المعمدان يَقُومُ بِخِدمَتِهِ." نقرَأُ أنَّ الكَثيرينَ كانُوا يخرُجُونَ منَ أُورشَليم إلى البَرِّيَّةِ ليَسمَعُوا وعظَ هذا الإنسان الذي قالَ عنهُ يسُوعُ أنَّهُ كانَ الأعظَمَ بينَ أنبياءِ العهدِ القَديم. (متَّى 11: 11؛ لُوقا 7: 28).
بِحَسَبِ الأعدادِ الأخيرة من هذا الإصحاحِ العاشِر، كانَ يسُوعُ قد قامَ بِخدمَةٍ مُثمِرَةٍ جدَّاً في البَرِّيَّةِ عندما وصَلَهُ الخَبَرُ عن مَرَضِ لِعازار المُمِيت. في هذه المرحلة من خدمَتِهِ، كانَ يسُوعُ يتعرَّضُ للرَّفضِ والمُقاوَمَةِ من قِبَلِ رِجالِ الدِّين في أُورشَليم، ولكنَّهُ عندما ذهبَ إلى البَرِّيَّةِ، نقرَأُ أنَّ المَزيدَ منَ النَّاسِ جاؤُوا لِيَسمَعُوهُ، أكثَرَ جدَّاً منَ الذين خرجُوا سابِقاً ليَسمَعُوا يُوحَنَّا المعمدان. نقَرأُ أنَّ هؤُلاء قالُوا: "رُغمَ أنَّ يُوحَنَّا لم يَصنَعْ أيَّةَ مُعجِزَةٍ، ولكن كُلّ ما قالَهُ عن هذا الرَّجُل كانَ صَحيحاً. فآمنَ كَثيرُونَ هُناكَ." هكذا نَجِدُ يسُوعَ في بِدايَةِ قِصَّتِنا هذه.
كانَتِ القِصَّةُ قد بدَأَت بالحقيقَةِ في بَيتِ عنيا، حَيثُ كانَ لِعازارُ مَريضاً. وكانت كلمة "مريض" التي إستُخدِمَت في رِسالَةِ الشَّقيقَتَين إلى يسُوع، كانت تعني: "مريضاً مرضاً مُمِيتاً." ولقد سبقَ لُوقا وعَرَّفَنا على هاتَينِ الأُختَين في إنجيلِهِ. إذا كُنتُم تذكُرُونَ الطَّريقَة التي عرَّفَنا بها لُوقا على هاتَينِ الشَّقِيقَتين، كانَ يسُوعُ ذاهِباً إلى بَيتِ عنيا، ولرُبَّما لِزيارَةِ منزلِ هاتَينِ الشَّقيقَتين لأوَّلِ مرَّة. كانت نظرَةُ مرثا نحوَ زِيارَةِ يسُوع لمنزِلِهما مُفعَمَةً بالإهتمامِ البالِغ، وكانَ ينبَغي أن يَكُونَ كُلُّ شَيءٍ مُرتَّباً، وأن يكُونَ الطَّعامُ لائِقاً.
أما مريَمُ فكانت مُختَلِفَةً تماماً عن شَقيقَتِها مرثا. نظَرَت مريَمُ لِزِيارَةِ المُعَلِّم بالطَّريقَةِ التَّالِيَة: "كَلِمَةُ اللهِ الأزَلِيّ صارَ جسداً، وها هُوَ آتٍ ليَزُورَ منزِلِي. أهَمُّ أمرٍ في هذه الزِّيارَة هي أن أجلِسَ عندَ قدَمَيهِ وأسمَعَ كَلِمَتَهُ، مُصغِيَةً إلى كُلِّ ما سيُظهِرُهُ ويَقُولُهُ لي عنِ الله." وهكذا جَلَسَت مريمُ في غُرفَةِ الجُلُوس تُصغِي لتَعليمِ يسُوع بالكتابِ المُقدَّس، أمَّا مرثا فقَبَعَت في المَطبَخِ تَخدُمُ وتُعِدُّ الطًَّعام. فجاءَت مرثا غاضِبَةً إلى دَرسِ الكتابِ المُقدَّس ووبَّخَت يسُوعَ بِقَسوَة.
لا نحتاجُ الكَثيرَ لنتساءَلَ عمَّا كانت تُفَكِّرُ بهِ مرثا. فنَبرَةُ صَوتُها كانت تعكِسُ فُقدانَ صَبرِها، عندما كانت تتذَمَّرُ قائِلَةً بِصراحَةٍ أنَّها تُرِكَتْ وحيدَةً لِتَهتَمَّ بِكُلِّ التَّحضِيراتِ والطَّعامِ في المَطبَخ، أمَّا مريَمُ فلم تهتَمّ بمُساعَدَتِها. كانت مرثا تُريدُ بِوُضُوحٍ أن يحكُمَ الرَّبُّ في هذه المسألَة، ظَنَّا منها أنَّهُ سيَقِفُ إلى جانِبِها.
أمَّا يسُوع فلم يَقِفْ إلى جانِبِ مرثا. لقد كانَ يُحِبُّ مَرثا، لأنَّ الكتابَ يَقُولُ صَريحاً أنَّ يسُوعَ أحَبَّ مرثا ومريم ولعازار. أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّ يسُوعَ نظَرَ إلى مرثا بمحبَّةٍ عندما قالَ لها: "مرثا مرثا، تهتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثيرَةٍ والحاجَةُ إلى واحِد. شَيءٌ واحِدٌ مُهِمٌّ وهُوَ الذي إختارَتْهُ مريم. لقدِ إختارَت مريَمُ النَّصيبَ الصَّالِحَ الذي لن يُنزَعَ منها." لم يتردَّدْ يسُوعُ بالوُقُوفِ إلى جانِبِ مريَم. ولكنَّهُ وجَّهَ هذه الكلماتِ بمحبَّةٍ إلى مرثا.
هاتَانِ هُما المَرأَتانِ اللَّتانِ نَلتَقِيهِما مُجَدَّداً هُنا في الإصحاحِ الحادِي عشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا. وعندَما نَلتَقِيهِما، نجدُهُما يُواجِهانِ أصعَبَ مُشكِلَتَين مُستَعصِيَتَين في الحَياة: المَرض والمَوت. حتَّى معَ كُلِّ عُلُومِنا الطِّبِّيَّة وتقَدُّمِنا التِّقَنِيّ، لا يزالُ المَرَضُ والمَوتُ أكثَرَ مُشكِلَتَينِ مُستَعصِيَتَين في الحياة. ولقدِ إجتاحَت هاتانِ المُشكِلَتَانِ حياةَ هاتَينِ الشَّقِيقَتَينِ عندما إكتَشَفَتا أنَّ أخيهما لِعازار كانَ مُصاباً بِمَرَضٍ مُمِيت.
فكانتِ الرِّسالَةُ المُستَعجِلَةُ التي أرسَلَتا بها إلى يسُوع في البَرِّيَّة، هي التَّاليَة: "يا رَبّ، الذي تُحِبُّهُ مَريضٌ." لَم تطلُبْ الشَّقِيقَتانِ أيَّةَ طِلبَةٍ. بل قدَّمَتا لهُ المعلُوماتِ بِبَساطَةٍ كامِلَة. أرادَتا التأكُّد بأنَّهُ يعلَمُ بحالِ أخيهِما. فلقد آمنتا بِدُونِ شَكٍّ أنَّهُ إذا عَلِمَ، فإنَّ مُشكِلَتَهُما المُستَعصِيَة سوفَ تَجِدُ حَلاً لها.
لقد تمتَّعَتا بِذلكَ النَّوع منَ الإيمانِ والثِّقَةِ بيسُوع، الذي يُضِيفُ على لائِحَةِ أجوِبَتِنا على السُّؤال: "ما هُوَ الإيمانُ؟" تُعَلِّمُنا رِسالتهُما عنِ الطَّريقَةِ التي بها ينبَغي أن نُقَدِّمَ مشاكِلَنا إلى يسُوع. فكُلُّ ما ينبَغي أن نعمَلَهُ هُوَ أن نقتَدِيَ بمِثالِ هاتَينِ الشَّقِيقَتَين، ونحرَضَ على أن يعلَمَ الرَّبُّ بحالِ مُشكِلَتنا.
لَدَيَّ شَقيقَةٌ أكبَر منَّي سِنَّاً، وهِيَ التي قادَتني إلى الإيمانِ بالرَّبّ، عندما كُنتُ لا أزالُ في الثَّامِنَةِ عشرَة من عُمرِي. ولقد قامَت هي وزَوجُها الذي كانَ قَسِّيساً، بِرِعايَتي لأكثَر من أربَعينَ سنَةً عندما أصبَحتُ قَسِّيساً. وعندما كانت تحصُلُ مُشكِلَة حقيقيَّة، عادةً ما كانت تَقُولُ: "الرَّبُّ يعلَمُ، الرَّبُّ يعرِفُ." قالَت هذا عندما كانت زوجَتي مريضَةً بِشَكلٍ خَطير. أتَذَكَّرُ أنَّني قُلتُ لها: "وماذا يعني هذا؟ كيفَ يُمكِنُ أن يُعَزِّيَنِي مُجَرَّدُ علمُ الرَّبِّ بِمُشكِلَتي؟"
فأجابَتني شَقيقَتي بالقَول، "أنتَ تعلَمُ أنَّ الرَّبَّ هُوَ جَوهَرُ المحبَّة. وهُوَ قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، ولا يعسُرُ عليهِ أمرٌ. فإن كُنتَ تعلَمُ أنَّهُ يعرفُ بِمُشكِلَتِكَ المُستَعصِيَة، وبما أنَّهُ المحبَّة الكامِلَة ولدَيهِ كُلّ قُدرَة في السَّماءِ وعلى الأرض، فكُلُّ ما تحتاجُ أن تَعرِفَهُ هُوَ أنَّهُ هُوَ يعرِفُ بحالِكَ. هذهِ هي الرُّوحُ التي بها أرسَلَت مرثا ومريَم بِخَبَرِ مَرَضِ أخيهما لعازار إلى يسُوع. وعلينا أن نقتدِيَ بِمِثالِهِما، وأن نُقَدِّمَ مشاكِلَنا إلى يسُوع. عندما إستَلَمَ يسُوعُ هذا الخَبَر، كانَ تجاوُبُهُ غيرَ إعتِيادِيٍّ، الأمرُ الذي يَضَعُنا أمامَ تَحَدٍّ كبير خلالَ إجابَتِنا عمَّا هُوَ الإيمانُ في إنجيلِ يُوحَنَّا.
قالَ يسُوعُ: "هذا المَرَضُ ليسَ لِلمَوت." تَقُولُ إحدَى التَّرجَمات: "القصدُ منَ هذا المَرَض ليسَ الموت." هذا تجاوُبٌ أو جوابٌ مُحَيِّرٌ ومُربِكٌ، لأنَّهُ يُلَمِّحُ إلى كَونِ القَصدِ من بعضِ الأمراضِ المَوت. هل سبقَ وتأمَّلتُم بهذا؟ يُعَلِّمُ الكِتابُ المُقدَّسُ بِوضُوحٍ أنَّ الحياةَ الأبديَّةَ هي ذات قيمَة أسمَى جدَّاً من حياتِنا الأرضِيَّة الزَّمَنِيَّة. فالحالَةُ الأبديَّةُ هي أفضَلُ جدَّاً منَ الحياةِ التي يُعطِينا إيَّاها اللهُ هُنا.
كثيرُونَ يعلَمُونَ أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ يُعَلِّمُ في عِدَّةِ أماكِن وطُرُق أنَّ أعظَمَ البَركاتِ الرُّوحيَّة تَكمُنُ أمامَنا، إذ تنتَظِرُنا في الحالَةِ الأبديَّة. رُغمَ ذلكَ، فنحنُ لا نُمعِنُ التَّفكِيرَ في هذه القَضِيَّة: كيفَ يَنقُلُنا الرَّبُّ منَ الحالَةِ الزَّمَنِيَّةِ إلى الحالَةِ الأبديَّة؟ فهُوَ غالِباً ما يستَخدِمُ مشاكِلَ المَرَضِ والمَوت المُستَعصِيَة، ليَنقُلَنا إلى المَجالِ الأبديِّ من وُجُودِنا.
هذا ما قَصَدَهُ يسُوعُ عندما أجابَ على الخَبَرِ الذي أرسَلَتْهُ مريَمُ ومرثا عن أخيهِما لِعازار، بِقَولِهِ: "القَصدُ من هذا المَرَض ليسَ المَوت. قد ينتُجُ عنهُ المَوتُ، ولكنَّهُ لن ينتَهِيَ بالمَوت." ويُتابِعُ قائِلاً: "كلا، بل ليَظهَرَ مجدُ الله، ليتَمَجَّدَ إبنُ اللهِ فيهِ."
يُرينا هذا أنَّ القَصدَ من هذا المَرَض يَصِلُ إلى ما هُوَ أبعدُ منَ الطَّريقَة التي تُرينا أنَّ محبَّةَ يسُوع تَصِلُ إلى ما هُوَ أبعد منَ الحالَةِ الأبديَّة. هذا القَصدُ هُوَ مجدُ الله، وأن يتمجَّدَ إبنُ اللهِ من خلالِ مَوتِ وإقامَةِ شَقيق مريم ومرثا منَ الموت.
أتَذكُرُونَ أنَّهُ قالَ الشَّيءَ نفسَهُ في الإصحاحِ التَّاسِع، عنِ الرَّجُلِ الذي شَفاهُ بعدَ أن كانَ أعمَى منذُ وِلادَتِهِ؟ قالَ يسُوعُ ما معناهُ: "هذا الرَّجُل وُلِدَ أعمَى، ليسَ بِسَبَبِ خَطِيَّةٍ إرتَكَبَها هُوَ ولا والِداهُ، بل القَصدُ من عماهُ هُوَ أن تظهَر أعمالُ اللهِ من خلالِ شفائِهِ منَ العَمَى." ومنَ الواضِحِ أنَّ الحَقيقَةَ نفسَها مُعلَنَةٌ هُنا.
إن كُنَّا نتَمَحوَرُ حَولَ أنفُسِنا فنتساءَلُ عن كُلِّ ما يحدُثُ لنا: "لماذا يحدُثُ لي هذا؟ وماذا أنتَفِعُ منهُ؟" قد لا نأخُذُ بِعَينِ الإعتِبار العِنايَةَ الإلهيَّةَ أو مجدَ اللهِ في نظرَتِنا للأُمُور. ولكن إن كانت حياتُنا تتمحوَرُ بالأحرى حولَ المسيحِ والله، عندما تحدُثُ مشاكِلُ ساحِقَة في حياتِنا، نُوبِّخُ ونُؤَدِّبُ أنفُسَنا بالسُّؤال: "يا الله، كيفَ يُمكِنُ لهذه الظُّرُوف المأسَاوِيَّة التي ليسَ لنا يدٌ فيها، أن تُمَجِّدَكَ أو أن تُمَجِّدَ إبنَكَ يسُوع في حياتِي؟" وهل يُمكِنُ لهذهِ المُشكِلَة أن تُمَجِّدَ المسيح، وأن تُعلِنَ كلمةَ الحياةِ للَّذِينَ يُراقِبُونَ تجاوُبِي معَ هذه الأزمَة؟
يُوجَدُ عدَدٌ مُرادِفٌ في سفرِ المزامِير، يَقُولُ، "إذا سَقَطَتِ الأعمِدَةُ [في حياتِك]، فالصِّدِّيقُ ماذا يفعَلُ؟" (مزامير 11: 3). إذا طَرَحنا هذا السُّؤال، سوفَ نَجِدُ غالِباً قصداً ومعنىً في أزماتِ مرَضِنا وألَمِنا، بما في ذلكَ عندما يُخبِرُنا تقريرُ الطَّبيبِ أنَّنا سنمُوتُ قريباً.
يُحَيِّرُني العددُ الذي يَقُولُ: "ولقد أحَبَّ يسُوعُ مرثا وأُختَها ولِعازار. ولكنَّهُ عندما سَمِعَ أنَّ لِعازار كانَ مَريضاً، مكَثَ حَيثُ كانَ يَومَين." (يُوحَنَّا 11: 5 و6).
لقد أصبَحتُ قَسِّيساً أرعى كَنيسة منذُ العام 1956. أحياناً وجدتُ أنَّهُ منَ الضَّرُورِيِّ أن أستَخدِمَ هذا المَثَلَ لأُفَسِّرَ أنَّهُ حتَّى يسُوع لم يَكُنْ مَوجُوداً في كُلِّ مكانٍ جَسَدِيَّاً. فلم يَكُنْ بإمكانِهِ أن يتواجَدَ في مكانَينِ في وقتٍ واحِد. فماذا لو واجَهَ الرَّبُّ نَفسُهُ المُشكِلَةَ التي أُواجِهُها عندما أكُونُ في زِيارَةِ أحدِِ أعضاءِ الكنيسةِ لأُشَجِّعَهُ، ممَّا يمنَعُني من أن أكُونَ في زيارَةِ عُضوٍ آخر منَ الرَّعِيَّة، إذا إحتاجَني في الوقتِ ذاتِهِ. أتَساءَلُ كم منَ الوقتِ سَيَبقَى راعي الكنيسة قَسِّيساً في كَنيستِهِ، إذا أجابَ دعوَةً لِزيارَةِ أحدِ أعضاءِ كنيستِهِ لكونِهِ مَريضاً على فِراشِ المَوت، إذا أجابَهُ هذا القَسِّيسُ بأنَّهُ إنطِلاقاً من محبَّتِهِ لهذا الأخ المَريض، سيَبقَى الرَّاعي مكانَهُ ولن يَزُورَ هذا المريض إلى أن يَكُونَ قد تُوُفِّيَ.
ولكن لا بُدَّ أنَّهُ كانَ لدَى الرَّبّ يسُوع قَصدٌ في تأخُّرِهِ. تبدُو لنا هذه القِصَّة الشَّيِّقَة وكَأنَّها مُصَغَّرٌ لِسِفرِ أيُّوب. منَ الواضِحِ أنَّ يسُوعَ كانَ يُتيحُ فُرصَةً لهاتَينِ الأُختَينِ ولِشَقِيقِهما أن يختَبِرا مشاكِلَ المَرَضِ والمَوت، لأنَّهُ أحبَّهُم محبَّة آغابِّي. وهُوَ يعرِفُ أنَّ إختِبارَهُم لهذه المشاكِل سيُعطِي مجداً للهِ الآب، والإبن نفسُهُ سيتمجَّدُ من خلالِ موتِ لعازار. ولكن علينا أن نُرَكِّزَ على مُلاحَظَةِ يُوحَنَّا بأنَّ يسُوعَ أجَّلَ وُصُولَهُ لأنَّهُ أحَبَّ أُولئِكَ الأشخاصِ الثَّلاثَة، أي لِعازار ومريم ومرثا.
منَ المُثيرِ للإهتمامِ أنَّهُ عندما أرسَلَتِ الشَّقيقتانِ بالرَّسالَةِ القائِلة: "الذي تُحِبُّهُ مَريضٌ،" إستَخدَمَتا كَلِمَة "فيليُو" للتَّعبيرِ عن "تُحِبُّهُ،" والتي تتضمَّنُ معنَى الصَّداقَة، أو تلكَ المحبَّة التي يُعَبِّرُ عنها شَخصٌ يُحِبُّ العَمَلَ الصَّالِحَ. ولكن عندما نقرَأُ العددَ القائِلَ: "لأنَّ يسُوعَ أحَبَّ مرثا وأُختَها مريم ولعازار،" الكلِمَةُ اليُونانِيَّةُ المُستَخدَمَةُ لمحبَّة هي: "آغابِّي." لقد إستَخدَمَ يٍسُوعُ هذه الكلمة التي تُعَبِّرُ عن نوعِيَّةِ محبَّتِهِ لهُم، والتي لم يُحِبُّهُم أحدٌ بهذا النَّوع منَ المحبَّةِ من قَبل. واضِحٌ أنَّ هذه المحبَّة كانت الدَّافِع الكامِن وراءَ تأخيرِ يسُوع، ولكن ماذا كانت أهدافُهُ منَ السَّماحِ لهَؤُلاء الأشخاصِ الثَّلاثَة بأن يختَبِرُوا المرضَ والموت؟
سوفَ نَجِدُ الجوابَ على هذا السُّؤال من باقِي الحدَث: "ثُمَّ بعدَ ذلكَ قالَ لِتلاميذِهِ لِنَذهَبْ إلى اليَهُوديَّة أيضاً. قالَ لهُ التَّلاميذُ يا مُعَلِّم الآنَ كانَ اليَهُودُ يَطلُبُونَ أن يَرجُمُوكَ وتذهَبُ أيضاً إلى هُناك. أجابَ يسُوعُ ألَيسَت ساعاتُ النَّهارِ إثنَتَي عشرَةَ. إن كانَ أحدٌ يَمشي في النَّهارِ فلا يعثُرُ لأنَّهُ ينظُرُ نُورَ هذا العالم. ولكن إن كانَ أحدٌ يمشِي في اللَّيلِ يعثُرُ لأنَّ النُّورَ ليسَ فيهِ.
"قالَ هذا وبعدَ ذلكَ قالَ لهُم لِعازَر حَبيبُنا قد نام لَكِنِّي أَذهَبُ لأُوقِظَهُ. فقالَ تلاميذُهُ يا سَيِّد إن كانَ قد نامَ فهُوَ يُشفَى. وكانَ يسُوعُ يَقُولُ عَن مَوتِهِ. وهُم ظَنُّوا أنَّهُ يَقُولُ عن رُقادِ النَّوم. فقال َلهُم يسُوعُ حَينَئِذٍ علانِيَةً لِعازر مات. وأنا أفرَحُ لأجلِكُم إنِّي لم أكُنْ هُناكَ لتُؤمِنُوا ولكن لِنَذهَبْ إليهِ.
"فقالَ تُوما الذي يُقالُ لهُ التَّوأمُ للتَّلاميذ رُفَقائِهِ لِنَذهَبْ نحنُ أيضاً لِكَي نَمُوتَ مَعهُ." لاحِظُوا أنَّهُ عندَما آمنَ الرُّسُلُ أنَّ المسيحَ إتَّخذَ قراراً بأن يُعَرِّضَ نفسَهُ للخَطَرِ الكبير، نَجِدُ أن من نُسَمِّيهِ "تُوما المُشَكِّك،" هُوَ الذي قالَ، "لِنذهَبْ نحنُ أيضاً لكَي نَمُوتَ معَهُ!"
أوضحَ يسُوعُ لهؤُلاء الرِّجالِ أنَّهُ أصبَحَ الآنَ على وَشكِ الإنتِقالِ إلى اليَهُوديَّة (أي إلى أُورشَليم)، وبالطَّبعِ إلى بَيتِ عنيا." فذَكَّرُوهُ أنَّهُ فقط من فترَةٍ وجيزَة (كما نقرَأُ في الإصحاحِ الثَّامِن والعاشِر من إنجيلِ يُوحَنَّا)، أنَّ اليهُودَ حاولُوا أن يرجُمُوه.
فسألُوهُ، "هل ستَرجِعُ إلى هُناك؟" فكانَ جوابُهُ في العددِ التَّاسِع، "أليسَت ساعاتُ النَّهارِ إثنَتَي عشرَةَ؟ إن كانَ أحَدٌ يمشِي في النَّهارِ لا يَعثُرُ لأنَّهُ ينظُرُ نُورَ هذا العالم." كانَ يعني بِقَولِهِ هذا، "أنا أعلَمُ ما أنا فاعِلُهُ. فأنا أمشِي في النُّور. وأنا لا أعثُرُ في الظُّلمة."
عندَما قالَ للتلاميذ بِوُضُوحٍ أنَّ لِعازار قد مات، وأضافَ أنَّهُ فَرِحَ أنَّهُ لم يَكُنْ مَوجُوداً لِكَي يُؤمِنُوا، هل كانَ يسُوعُ يقصُدُ بِذلكَ أنَّ هؤُلاء الرُّسُل لم يكُونُوا قد آمنُوا بهِ بعد؟ المرَّةُ الأُولى التي نقرَأُ فيها أنَّ تلاميذَهُ آمنُوا بهِ، كانت عندما قامَ بِمُعجِزَتِهِ الأُولى في عُرسِ قانا الجَليل. وكانَ رُسُلُهُ يُرافِقُونَهُ مُسبَقاً، وكانُوا قد شَهِدُوا حتَّى الآن كُلَّ المُعجِزات التي ذَكَرَها يُوحنَّا لنا في الإصحاحاتِ العَشر الأُولى من إنجيلِهِ.
تَذَكَّرُوا أنَّنا نَجِدُ بينَ صَفحاتِ هذا الإنجيل العظيم أجوِبَةً على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمانُ؟" هُنا نَجِدُ أنَّ السُّؤالَ عنِ الإيمان تَتِمُّ الإجابَةُ عليهِ ثانِيَةً. "وأنا أفرَحُ لأَجلِكُم إنِّي لم أكُنْ هُناكَ لِتُؤمِنُوا." بَينَما تقرَأُونَ الأناجيل، لاحِظُوا الأماكِنَ المُتَعدِّدَة التي يطرَحُ فيها يسُوعُ السُّؤالَ عنِ الإيمان على تلاميذِهِ (متَّى 8: 26؛ 14: 31؛ مَرقُس 4: 40؛ لُوقا 8: 25). منَ الواضِحِ أنَّ هدَفَ يسُوع من خلالِ هذه القِصَّة هُوَ إيمانُ مرثا، مريَم، ولِعازر، بالإضافَةِ إلى أُولئِكَ الذين يُحِبُّونَ هذه العائِلة، وتلاميذه.
رُغمَ أنَّ هذا لَيسَ التَّفسير الصَّحيح، ولكنَّ تطبيقاً ثانَويَّاً لكلمات يسُوع هذه يطرَحُ السُّؤال حولَ عدد ساعاتِ العَمَل التي ينبَغي أن نعتَبِرَها مُناسِبَةً أُسبُوعِيَّاً لأتباعِ يسُوع المُكَرَّسِين. غالِباً ما نَنسَى الحقيقَةَ الصَّعبَة أنَّهُ قبلَ أن يأمُرَ اللهُ شعبَهُ بأن يستَريحُوا في اليَومِ السَّابِع، أمرَهُم أوَّلاً أن يُجاهِدُوا ويتعَبُوا لِسِتَّةِ أيَّامٍ. في هذا المقطع، يَقُولُ يسُوعُ أنَّهُ تُوجَدُ إثنتا عشرةَ ساعَة في النَّهار. فهل هذا يعني أنَّهُ علينا أن نعملَ 72 ساعَة أُسبُوعِيَّاً؟
كَم ساعَة في الأُسبُوع ينبَغي على تِلميذٍ مُكَرَّسٍ ليَسُوع المسيح أن يعمَلَ في كَرمِ الرَّبّ؟ هل بإمكانِكُم أن تَتَصَوَّرُوا الرَّسُول بُولُس يُجيبُ على هذا السُّؤال بإخبارِنا أنَّهُ يتوجَّبُ علينا أن نعمَلَ ثمانِي ساعاتٍ يَومِيَّاً، خمسَةَ أيَّامٍ في الأُسبُوع، أو ما يُعادِلُ أربَعينَ ساعة عمَل؟ هل يُمكِنُ أن يَتِمَّ تقريرُ هذهِ القَضِيَّة من قِبَلِ إتِّحاداتِ العَمَل العالَمِيَّة، أو من قِبَلِ الحضارَةِ العِلمانِيَّة؟
عندما إقتَرَحَ إخوةُ يَسُوعَ عليهِ برنامجَ عمَلٍ لخدمَتِهِ، لم يتأثَّرْ بتاتاً بإقتراحاتِهِم، لأنَّهُ كانَ دائماً يفعَلُ ما يُرضِي الآب (يُوحَنَّا 8: 29). علينا أن نُقَدِّمَ الملاحظَةَ نفسَها هُنا، عندما إقتَرَحَ الرُّسُل أينَ ومتَى ينبَغي أو لا ينبَغي أن يذهَبَ المسيحُ. ولقد عرفَ ما كانَ يعمَلُ بِرُجُوعِهِ إلى اليَهُوديَّةِ في هذه اللحظة الدَّقيقَة.
- عدد الزيارات: 3170