الفَصلُ الخامِس "الخرافُ الآمِنَة"
(يُوحَنَّا 10: 17- 42)
"أمَّا أنا فإنِّي الرَّاعي الصَّالِح وأعرِفُ خاصَّتي وخاصَّتي تَعرِفُني. كما أنَّ الآبَ يَعرِفُني وأنا أعرِفُ الآب. وأنا أضَعُ نفسي عنِ الخِراف. ولي خِرافٌ أُخَر لَيسَت من هذه الحظيرة ينبَغي أن آتِيَ بِتِلكَ أيضاً فتسمَع صَوتي وتكُونُ رَعِيَّةٌ واحِدَةٌ وراعٍ واحِد."
"لِهذا يُحِبُّني الآبُ لأنِّي أضَعُ نفسِي لآخُذَها أيضاً. ليسَ أحَدٌ يأخُذُها منِّي بل أضَعُها أنا من ذاتِي. لِي سُلطانٌ أن أضَعَها ولي سُلطانٌ أن آخُذَها أيضاً. هذه الوَصيَّة قَبِلتُها من أَبِي." (يُوحَنَّا 10: 14- 18).
هُنا نَجدُ المسيحَ يَصِفُ عملَهُ الأكثر أهَمِّيَّةً. فلقد خدَمَ خدمَةً علنيَّةً لمُدَّةِ ثلاثِ سنواتٍ، ولقد أصبَحَ في أُورشَليم، الأمرُ الذي سيُوفِّرُ الإطارَ لأهَمِّ عمَلٍ يعملُهُ في العالم.
وكما لاحظتُ في نظرَتي لهذا الإنجيل، يُوجَدُ واحِدٌ وعِشرُونَ إصحاحاً في إنجيلِ يُوحَنَّا. تقريباً نصفُ هذه الإصحاحات تُخبِرُنا عن السَّنوات الثلاث والثَّلاثين الأُولى من حياةِ يسُوع، ولكنَّها لا تُخبِرُنا شَيئاً عن ولادَتِهِ ولا عن السَّنواتِ الثَّلاثين الأُولى من حياتِهِ. بل هي تتحدَّثُ فقط عنِ السَّنواتِ الثلاث الأخيرة من حياتِهِ. وسُرعانَ ما نَجِدُ أنفُسَنا نَقرأُ الإصحاح الثَّانِي عشَر، نجدُ أنَّ السنواتِ الثلاث والثَّلاثين من حياتِهِ قدِ إنقَضَت، بما في ذلكَ ثلاث سني خدمتِهِ العَلنيَّة. وكُلُّ الإصحاحاتِ الأُخرى – تقريباً نصف مُحتَوى هذا الإنجيل – تَصِفُ الأُسبُوعَ الأخير من حياتِهِ.
هُناكَ تِسعَةٌ وثمانُونَ إصحاحاً في الأناجيلِ الأربَعة. فقط أربَعة منها تُغَطِّي ولادَتَهُ والسنوات الثَّلاثِين الأُولى من حَياتِهِ. ثَمَانِيَة وخَمسونَ إصحاحاً تُرَكِّزُ على السَّنواتِ الثلاث الأخيرة، وسَبعَةٌ وعشرُونَ إصحاحاً تتَكلَّمُ عنِ الأُسبُوعِ الأخيرِ من حَياتِهِ. فلماذا يُعتَبَرُ الأُسبُوعُ الأخيرُ من حياةِ المسيح على هذا القدَر منَ الأهمِّيَّة؟ الوَصفُ المَكتُوبُ للأُسبُوعِ الأَخيرِ من أهمِّ حَياةٍ عاشَها أحدٌ على الإطلاق، يُشَكِّلُ نصفَ مُحتَوى سيرَةِ حياة يسُوع هذه، لأنَّ هذه الإصحاحاتِ والأعداد تُسَجِّلُ مُعجِزَةَ موتِ المسيح وقيامَتِهِ من أجلِ خلاصِنا. فَمَوتُهُ وقِيامَتُهُ كانا من أجلِ خلاصِ خَطايا العالَمِ أجمَع بِشَكلٍ عامٍّ، وخطاياكَ وخطايايَ بِشكلٍ خاصّ.
كأتباعِ يسُوع، لدَينا مأمُوريَّة بأن نكرِزَ بالإنجيلِ للعالَمِ أجمَع. في خاتِمَةِ الأناجيلِ الأربَعة، وفي بِدايَةِ سفرِ أعمالِ الرُّسُل، يُعطينا الرَّبُّ مأمُوريَّةً بأن نُتَلمِذَ أُناساً ليَسُوع خلالَ كرازَتِنا بالإنجيل في كُلِّ أُمَّةِ في العالم. فإذا أخَذنا المأمُوريَّةَ العُظمَى على مَحمَلِ الجَدّ، علينا أن نُدرِكَ أنَّنا قبلَ أن نبدَأَ بالكرازَةِ بالإنجيل، علينا أن نفهَمَ ما هُوَ الإنجيل.
في رِسالَتِهِ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس، يُعطينا بُولُس تعريفاً واضِحاً لِكَلِمَةِ "إنجيل." أنا أخافُ أنَّ النَّتائِجَ ستَكُونُ مُخجِلَةً إذا قامَ قَسِّيسُ كنيسَةٍ ذات مُعَدَّل وسَطِي بإعطاءِ ورقَةٍ وقَلَمٍ لكُلِّ واحدٍ من أعضاءِ كنيستِهِ وطلبَ منهُم أن يَكتُبُوا جواباً على السُّؤال: "ما هُوَ الإنجيلُ الذي نحنُ مُكَلَّفُونَ بالكِرازَةِ بهِ في العالم؟ وإدعَمُوا أجوِبَتَكُم بأعدادٍ كِتابِيَّة."
في الأعدادِ الأربَعة الأُولى من الإصحاح الخامِس عَشَر من الرِّسالَةِ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس، يُعطينا بُولُس جواباً مَكتُوباً على السُّؤالِ الذي ذكرناهُ أعلاهُ، والذي طرحَهُ قَسِّيسٌ إفتِراضِيَّاً على أعضاءِ كنيستِهِ عمَّا هُوَ الإنجيل. فبينما يختَتِمُ بُولُس رِسالَتَهُ للكُورنثُوسيِّينَ، يكتُبُ قائِلاً ما معناهُ: "أوَدُّ أن أُذَكِّرَكُم الآن بما هُوَ الإنجيلُ الذي كَرَزتُ لكُم بهِ عندما جِئتُ إلى كُورنثُوس. هذا ما كرزتُ بهِ. وهذا ما آمنتُم بهِ. وهذا ما خَلَّصَكُم. وهذا ما تَقِفُونَ عليهِ الآن. وإذا آمنتُم بخلافِ ذلكَ وتمسَّكتُم بخلافِ ذلكَ، تَضِلُّون. فالآن هذا هُوَ الإنجيل: أنَّ يسُوعَ المسيح ماتَ من أجلِ خطايانا، بِحَسَبِ الكُتُب. وأنَّهُ قامَ منَ الأمواتِ بحَسَبِ الكُتُب."
هذا هُوَ بالتَّحديدِ والصَّراحَةِ والتَّدقيق الإنجيلُ الذي نكرِزُ بهِ للعالَمِ أجمع. فعندما يكُونُ لدَينا فهمٌ واضِحٌ لما هُوَ الإنجيل، نفهَمُ سببَ مقدارِ الأهمِّيَّةِ القُصوى التي أُعطِيَت للأسبُوعِ الأخيرِ من حياتِهِ. ثُمَّ نفهَمُ ما يُظهِرُهُ يسُوعُ لنا هُنا في هذه الأعداد، عندما يَقُولُ،"لِهذا يُحِبُّني أبي، لأنِّي أضَعُ نفسِي عنِ الخراف لآخُذَها أيضاً. ليسَ أحَدٌ يأخُذُها منِّي، بل أضَعُها أنا من ذاتِي."
منَ المُربِكِ أن نُلاحِظَ عبرَ هذا الإنجيل أنَّ يسُوعَ لا يدَّعي أبداً أنَّهُ يعمَلُ أُمُوراً من نفسِهِ. فبِحَسَبِ يسُوعُ، هُوَ لا يعمَلُ شَيئاً. بل الآبُ يعمَلُ كُلَّ شَيءٍ، بهِ ومن خلالِهِ. فالآبُ هُوَ المنبَعُ والقُوَّةُ والقصدُ من كُلِّ كَلِمَةٍ يقُولُها، ومن كُلِّ عملٍ يعمَلُهُ. والآبُ هُوَ حَرفِيَّاً الشَّخصُ الذي يعمَلُ كُلَّ ما يعمَلُهُ يسُوعُ.
لَدَينا هُنَا إستِثناءٌ على هذا القَول. هذا هُوَ الوقتُ الذي يَقُولُ فيهِ أنَّهُ سيعمَلُ شَيئاً من ذاتِهِ. يَقُولُ، "لِهذا يُحِبُّني الآبُ، لأنِّي أضَعُ نفسِي لآخُذَها أيضاً. لا أحَد يأخُذَ حياتِي منِّي. فلَدَيَّ أنا السُّلطة أو القُوَّة لأضَعَها والسُّلطَةُ والقُوَّةُ لأستَرِدَّها أيضاً." ثُمَّ يَقُولُ،
"هذه الوَصِيَّة قَبِلتُها من أَبِي." فهُوَ هُنا أيضاً لا يَدَّعِي أن يعمَلَ شَيئاً بمعزَلٍ عنِ الآب. بل هذا ما يبدُو للوهلَةِ الأُولى. لديهِ وَصِيَّةٌ ولديهِ سُلطَةٌ منَ الآبِ ليَمُوت ويَقُومَ من المَوت.
سيُخبِرُنا لاحِقاً في هذا الإصحاح أنَّهُ هُوَ والآبُ واحِد (30). الذي يَقصُدُهُ بهذا هُوَ أنَّ كُلَّ ما يَقُولهُ ويفعَلُهُ هُوَ بِبَساطَةٍ تدَفُّقٌ أو تعبِيرٌ عن وِحدَتِهِ معَ الآب. قد يَكُونُ هذا مُثيراً لإهتمامنا عندما نتأمَّلُ بِسُؤالٍ مثل، "ما هُوَ الإيمانُ؟"
فَعِندَما يُعَلِّمُ الرُّسُلَ في العُلِّيَّةِ، يَقُولُ لهُم ما جوهَرُهُ أنَّهُ بعدَ موتِهِ وقِيامَتِهِ، سيَكُونُ مُمكِناً لهُم أن يَكُونُوا واحِداً معَهُ، كما كانَ هُوَ واحداً معَ الآب. (يُوحَنَّا 14: 20- 24) يا لِهذا التَّحدِّي الرَّائِع، أن نُدرِكَ أنَّنا نستطَيعُ أن نَكُونَ واحداً معَ المسيح المُقام، كما كانَ وكما هُوَ الآن، وكما سيَكُونُ حتَّى نهايَةِ الأزمانِ واحداً معَ الآب.
في إطارِ هذا التَّعليم، أعطَى يسُوعُ رُسُلَهُ وعداً رائِعاً. أخبَرَهُم أنَّهُم إن كانُوا سيُصبِحُونَ في وِحدَةٍ معَ الرُّوحِ القُدُس، كما كانَ هُوَ معَ الآب، سيعمَلُونَ أعمالاً أعظَمَ ممَّا عمِلَ هُوَ. لا بُدَّ أنَّهُ قَصَدَ أنَّ أعمالَهُم ستَكُونُ أعظَمَ بمعنَى الكَمِّيَّة وليسَ النَّوعِيَّة، لأنَّهُم سيكُونُونَ كثيرِين. فتعليمُهُ فوق الإعتيادِيَّ، الذي سنتأمَّلُ بهِ بأكثَرِ عُمقٍ عندما سندرُسُ هذه الأعداد معاً، كانَ يعني بِجَوهَرِهِ أنَّ كَلِمَةَ اللهِ نُطِقَ بها وأنَّ عملَ اللهِ أُنجِزَ على الأرضِ من خلالِهِ، لأنَّهُ كانَ واحداً معَ الآب. فإذا كانُوا سيُصبِحُونَ في وحدَةٍ معَ الرُّوحِ القُدُس، فإنَّ كَلِمَةَ وعملَ رَبِّهم ومُخَلِّصِهم ستُنطَقُ وتُنجَزُ على الأرضِ من خلالِهم.
في هذا المقطَع، يتكلَّمُ يسُوعُ عنِ المَوتِ والقِيامَة. هل تذكُرُونَ ذلكَ التَّصريح العقائِدي الصَّرف الذي قدَّمَهُ يسُوعُ لنيقُوديمُوس، عندما أعلَنَ أنَّهُ ينبَغي أن يمُوتَ على الصَّليب، لأنَّ مَوتَهُ على الصَّليب كانَ الخلاص الوحيد منَ الله، لأنَّهُ كانَ المُخَلِّص الوحيد المُرسَل منَ اللهِ؟ فهُوَ يبني على أساسِ هذا التَّصريح هُنا في هذا المقطَع، حيثُ يُعلِنُ قائِلاً: "عندما سيَحدُثُ هذا، هل تَظُنُّونَ أنَّني صُلبتُ بِبَساطَةٍ على الصَّليب، كما كانَ يُصلَبُ أيُّ شَخصٍ آخر يُعارِضُ سُلطَةَ الرُّومان. لن يَستطيعَ إنسانٌ أن يأخُذَ حياتِي منِّي بل أنا سأضَعُ حياتِي بفعلٍ إرادِيٍّ من مَشيئَتي، وبُرهانُ هذا هُوَ أنَّني سأستَرِدُّ حياتِي ثانِيَةً بإرادَتي."
لا نتفاجَأَنَّ عندَما نقرَأُ:"فَحَدَثَ أيضاً إنشِقاقٌ بينَ اليَهُودِ بِسَبَبِ هذا الكلام. فقالَ كَثيرُونَ منهُم بِهِ شَيطانٌ وهُوَ يهذِي. لماذا تَستَمِعُونَ لهُ. آخرُونَ قالُوا ليسَ هذا كلام من بهِ شَيطان. ألَعَلَّ شَيطاناً يقدِرُ أن يفتَحَ أعيُنَ العُميان." (يُوحَنَّا 10: 19- 21)
يتغَيَّرُ المَوضُوعُ هُنا في الإصحاحِ العاشِر. يبدَأُ قِسمٌ آخر في السِّفر معَ العددِ الثَّانِي والعشرين. فلقد إنقَضَت شُهُورٌ قبلَ أن يحدُثَ ما يَتِمُّ وصفُهُ الآن: "وكانَ عِيدُ التَّجديدِ في أُورشَليم، وكانَ شِتاءٌ. وكانَ يسُوعُ يتمشَّى في الهَيكَلِ في رِواقِ سليمان. فاحتاطَ بهِ اليَهُودُ وقالُوا لهُ إلى متى تُعَلِّقُ أنفُسَنا. إن كُنتَ أنتَ المسيحُ فقُلْ لنا جَهراً.
"أجابَهُم يسُوعُ إنِّي قُلتُ لكُم ولستُم تُؤمِنُون. الأعمالُ التي أنا أعمَلُها بإسمِ أبِي هي تَشهَدُ لي. ولكنَّكُم لستُم تُؤمِنُونَ لأنَّكُم لَستُم من خرافِي كما قُلتُ لكُم. خِرافِي تسمَعُ صَوتي وأنا أعرِفُها فَتتبَعُني. وأنا أُعطيها حياةً أبديَّةً، ولن تهلِكَ إلى الأبد، ولا يخطَفُها أحَدٌ من يَدي. أبي الذي أعطاني إيَّاها هُوَ أعظَمُ منَ الكُلِّ ولا يقدِرُ أحدٌ أن يخطَفَ من يَدِ أبِي. أنا والآبُ واحِد." (يُوحَنَّا 10: 22- 30)
"فتناوَلَ اليَهُودُ حجارَةً لِيَرجُمُوهُ. أجابَهُم يسُوعُ أعمالاً كَثيرَةً حسنَةً أرَيتُكُم من عِندِ أبِي. بِسَبَبِ أيِّ عمَلٍ منها تَرجُمُونَني؟ أجابَهُ اليَهُودُ لَسنا نَرجِمُكَ لأجلِ عمَلٍ حَسنٍ بل لأجلِ تجديفٍ. فإنَّكَ وأنتَ إنسانٌ تجعَلُ نفسَكَ إلهاً." (يُوحَنَّا 10: 31- 33)
"من هُوَ يسُوعُ" في إنجيلِ يُوحَنَّا؟ تأكَّدْ من أن تَقُومَ بهذه المُلاحَظة عندما تقرَأُ هذا الإنجيل: في عِدَّةِ مقاطِع، منَ الواضِحِ جدَّاً أنَّهُ هُوَ المَسِيَّا. وفي مقاطِعَ أُخرى مثل هذا المقطع، منَ الواضِحِ جدَّاً أنَّهُ الله. إنَّهُ لَيسَ مُجرَّد شخصٍ إلهيّ، وليسَ هُوَ فقط إبن الله. إنَّهُ الله. إنَّهُ جزءُ منَ شَخصِيَّةِ الله. إنَّهُ الإبنُ، واللهُ هُوَ الآبُ، وهُما يُقَدَّمانِ هُنا إلى جانِبِ الرُّوحِ القُدُس كثالُوثٍ مُقَّدَس: الآب، والإبن، والرُّوح القُدُس. والثَّلاثَة هُم الله الواحد.
نجدُ هذا الإله المُثَلَّث الأقانيم مُصَوَّراً على صفحاتِ الكتابِ المُقدَّسِ عامَّةً. مثلاً، في الإصحاح الأوَّلِ من الكتابِ المُقدَّس، الكلمَةُ المُستَخدَمَةُ لِوَصفِ اللهِ هي بِصيغَةِ الجَمع. نقرَأُ: "لنَصنَعِ الإنسانَ على صُورتِنا." إذا قرأتُم قِصَّةَ الخَلقِ عن كَثَب، ستَرونَ حُضُورَ الآبِ والرُّوحِ مُشارَاً إليهِ في مُعجِزَةِ الخَلق، لأنَّ الكلمات التي تُشيرُ إلى اللهِ هي بِصِيغَةِ الجمع. "نَعمَلُ الإنسانَ على صُورَتِنا كَشَبَهِنا..." ونقرَأُ أنَّ رُوحَ اللهِ كانَ يَرِفُّ على وجهِ المياهِ خلالَ عمليَّةِ الخَلق. وفي الصَّلاةِ الرَّائِعة التي صَلاَّها رَبُّنا للآبِ في هذا الإنجيل، قالَ: "والآن مَجِّدْني أنتَ أيُّها الآبُ عندَ ذاتِكَ بالمَجدِ الذي كانَ لي عِندَكَ قَبلَ كَونِ العالم." (يُوحَنَّا 17: 5) لهذا نحنُ نعرِفُ أنَّ الإبنَ كانَ حاضِراً معَ الآبِ والرُّوحِ عندَ خلقِ العالَم.
لقد إنتَهَت جَولَةُ الحِوارِ هذه عندما سألُوهُ: "إلى متى تُعَلِّقُ أنفُسَنا. إن كُنتَ أنتَ المسيحَ فَقُلْ لنا جَهراً." فأشارَ إليهِم أنَّهُ سبقَ وأجابَ على سُؤالِهم ولكنَّهُم لم يُصَدِّقُوهُ.
في نهايَةِ الإصحاحِ الثَّامِن، لم يَكُنْ هُناكَ أيُّ شَكٍّ بتاتاً في أذهانِ رِجالِ الدِّين أنَّ يسُوعَ كانَ يدَّعي بأنَّهُ الله. فحاوَلُوا أن يَرجُمُوهُ بدَعوَى التَّجديف، لأنَّهُم فَهِمُوا بِوُضُوحٍ ما صَرَّحَ بهِ عن نفسِهِ. نجدُ هذا التَّجاوُب نفسَهُ على أقوالِ يسُوع هُنا في هذا المقطَع: "فتناوَلَ اليَهُودُ أيضاً حجارَةً ليَرجُمُوهُ." كتبَ يُوحَنَّا كلمة "أيضاً" لأنَّهُم سبقُوا وحاوَلُوا رَجمَهُ في نهايَةِ الإصحاحِ الثَّامِن، عندَما قدَّمَ هذه التَّصريحات.
هُناكَ تشديدٌ على مَوضُوع العنايَة الإلهيَّة التي تمتَدُّ عبرَ إنجيلِ يُوحَنَّا. في الإصحاحِ السَّادِس، قدَّمَ يُوحَنَّا خدمَةَ الرَّبِّ في إطارِ عِنايَةِ الله: كُلُّ من يُعطيهِ الآبُ سيُقبِلُ إليهِ، وإن لم يجتَذِبْهُم الآب، لن يستَطيعُوا أن يأتُوا. وعندما يجذِبُهُمُ الآبُ ويأتُون، لن يطرحَهُم خارِجاً. (يُوحَنَّا 6: 37- 47)
عندما سألُوهُ عن عملِهِ، أجابَهُم بالفِعل، "هذا ما أعمَلُهُ طوالَ النَّهار. أنا أتنقَّلُ بِبَساطَةٍ في هذا العالم، وخلالَ تنقُّلِي أنا أُعلِنُ هذه الكلمات التي هي رُوحٌ وحَياة. وعندما أنطِقُ بهذه الكلمات، الذين هُم خرافِي، أي الذين أُعطُوا لي، يُجتَذَبُونَ إليَّ من قِبَلِ الآبِ والرُّوح. فهُم يسمَعُونَ صَوتي ويُقبِلُونَ إليَّ. وعندما يأتُون، لا أُخرِجُهُم خارِجاً."
قالَ يسُوعُ في الإصحاحِ الخامِس، "لا يُعوِزُكُم البُرهانُ لتُؤمِنُوا بي. أنتُم لا تُؤمِنُونَ بي لأنَّكُم لا تُريدُونَ أن تُؤمِنُوا." هُنا في الإصحاحِ العاشِر، يُعطِينا يسُوعُ سَبَباً آخَرَ لعدَمِ إيمانِهم عندما يَقُول، "أنتُم لا تُؤمِنُونَ لأنَّكُم لَستُم من خِرافِي. خِرافِي تسمَعُ صَوتِي. وأنا أعرِفُها وهي تعرِفُني وتتبَعُني. وأنا أُعطِيها حياةً أبديَّة. ولن تهلِكَ إلى الأبد." هذه هي مِيزاتُ خِرافِهِ، وهُوَ يَقُولُ لليَهُود، "أنتُم لا تُؤمِنُونَ لأنَّكُم لَستُم من خرافِي."
عندما يمنَحُ خرافَهُ الحياةَ الأبديَّة، لن تهلِكَ أبداً. فعندما تخلُصُ هذه الخرافُ، هل يُمكِنُ أن تفقُدَ خلاصَها؟ أصغُوا إلى هذا التَّفسير لجوابِ يسُوع على هذا السُّؤال: "لو كُنتُم بالحقيقَةِ من خرافِي، فهذا يعني أنَّ الآبَ قدِ إجتَذَبَكُم إليَّ وأعطاكُم لي. فالآبُ سَيَكُونُ سَبَبَ مجيئِكُم إليَّ، والسُّلطة أو القُوَّة الكامِنة وراءَ مجيئِكُم، ومجدُهُ هُوَ القَصدُ من مجيئكُم إليَّ للخلاص." (28- 30) هذا هُوَ بالواقِعِ ما يحدُثُ عندما نُؤمِنُ ونخلُص.
ثُمَّ يُضيفُ يسُوعُ على هذه الإستِعارَة الجميلة هذا التطبيقَ التَّفسيريَّ الجميل: "خِرافِي تسمَعُ صَوتي. وأنا أعرِفُها، وهي تتبَعُني، وأنا أُعطيها حياةً أبديَّة، ولن تهلِكَ إلى الأبد. ولا يخطَفُها أحدٌ من يَدي. أبي الذي أعطاني إيَّاها هُوَ أعظَمُ منَ الكُلِّ ولا يَقدِر أحَدٌ أن يخطَفَ من يَدِ أبِي. أنا والآبُ واحِد." (27- 30). عندمَا نفهَمُ الخلاصَ بِحَقٍّ، ندرِكُ أنَّ خلاصَنا لا يعني أنَّنا نحنُ نتمسَّكُ بهِ، بل أنَّهُ هُو يُمسِكُ بنا.
عندما كانَ أطفالُنا لا يزالُونَ صِغاراً، كُنَّا نسكُنُ في بَلدَةٍ على شاطِئِ البَحر، وغالِباً ما كُنتُ آخُذُ أولادي إلى الشَّاطِئ. وعندما كانَ يُحاوِلُ أحدُ أبنائي الذي كانَ لا يزالُ صَغيراً جداً، أن يقتَرِبَ منَ الأمواج، كانت الأمواجُ المَُضادَّة تدفَعُهُ بِقُوَّة. لقد أردتُ دائماً أن أكُونَ أنا مُن يُمسِكُ بِيَدِهِ وليسَ هُوَ من يُمسِكُ بِيَدي، لئلا يَقَع. ولكنَّهُ كانَ يُصِرُّ أنَّهُ هُو يُريدُ أن يُمسِكَ بِيَدِي. فسَمَحتُ لهُ أن يُمسِكَ بِيَدي. وكانت تأتي المَوجَةُ الأُولى وتُوقِعُهُ أرضاً إذ تُفلِتُ يَدُهُ من يَدي بِسببِ قُوَّةِ الأمواج. وعندها كانَ يرجِعُ إليَّ وهُوَ يبصُقُ مياهَ البَحرِ المالِحة التي إبتَلَعها، وكانَ يرتَمي عليَّ قائِلاً، "يا بابا، أمسِكْ أنتَ بِيَدي هذه المرَّة."
ولقد إكتَشَفَ إبني الصَّغير أنَّ إمساكَ أبيهِ بِيدِهِ كانَ ينجَحُ بشكلٍ أفضَل جدَّاً من إمساكِهِ هُوَ بيدِي. يُعَلِّمُنا يسُوعُ هُنا أنَّ الخلاصَ وأمانَ خلاصِنا، ليسَ مُتَعلِّقاً بتمسُّكِنا نحنُ بالرَّاعِي. فالأخبارُ السَّارَّةُ هي أنَّهُ هُوَ من يُمسِكُ بنا.
يُقَدِّمُ لنا يسُوعُ إستِعارَةً أُخرى عنِ الخرافِ في هذه الأعداد. فهُوَ يتكلَّمُ عن كَونِ الخرافِ في يَدِهِ. تأمَّلْ بيدِهِ المَفتُوحَة، حامِلاً بها خروفاً، الذي يُشيرُ لي ولكَ، في كفِّ يَدِهِ. وأصغِ الآنَ إلى وعدِهِ أنَّهُ لا يَستَطيعُ أحَدٌ أن يخطَفَ هذا الخرُوفَ من يَدَِهِ.
بَينما تبدَأُ بالتَّفكيرِ بأنَّ هذا الخَرُوف قد يَكُونُ قادِراً على مُمارَسَةِ حُرِّيَّةِ الإختِيار، وأن يتَّخِذَ قرارَ القفزِ من يَدِ الرَّبّ، أصغِ إلى وصفِ يسُوع لِيَدِ الآب، التي تأتي من فَوقُ لتَغمُرَ كَفَّي الإبن، جامِعَةً يديهِ معاً، والخَروفُ في أمانٍ بينَهُما. الآن أصبَحَتِ الصُّورَةُ المجازِيَّةُ كامِلَةً عندما يَقُولُ يسُوع، "أبي الذي أعطاني إيَّاها هُوَ أعظَمُ منَ الكُلِّ ولا يَقدِرُ أحَدٌ أن يخطَفَ من يَدِ أبِي." (29)
نحنُ مخلُوقاتٌ ذات خيَار، ويُوجَدُ أشخاصٌ ضالُّون. ولكنَّ الأبناءَ الضَّالِينَ لا يَبقُونَ في الكُورَةِ البَعيدَةِ طيلَةَ حياتِهِم. وعندما لا يَرجِعُ الإبنُ الضَّالُّ من حَظيرَةِ الخنازِير التي يعيشُ فيها بعيداً عنِ الآب، يَكُونُ الحُكمُ أنَّهُ لم يَكُنْ إبناً أصلاً. ولكن، إن كُنتَ أنتَ إبناً ضالاً، أو إذا كانَ لدَيكَ إبنٌ ضالٌّ، سوفَ تتعزَّى كَثيراً عندما تعلَمُ أنَّ الأبناءَ يَرجِعُون. فلن يَفُوتَكَ القِطارُ أبداً لتَعودَ إلى نفسِكَ مثل الإبن الضَّال، وتُقَرِّرَ أنَّكَ لا تنتَمي إلى حَظيرَةِ الخنازير في الكُورَةِ البَعيدَةِ في هذا العالم. ولا تَكُفَّ عنِ الصَّلاةِ لعَودَةِ أبنائِكَ الضَّالِّينَ، لأنَّهُ منَ المُمكِنِ جِدَّاً لهُم أن يَكُونُوا أبناءَ حَقِيقيِّينَ للآب، أو خراف ضالَّة سترِجعُ إلى حَظيرَةِ الرَّاعي الصَّالِح. (لُوقا 15: 11- 24).
عندما كانَ الدُّكتُور J. Vernon McGee أُستاذِي في كُلِّيَّةِ اللاهُوت، سألتُهُ مرَّةً، "ماذا لو ماتَ الإبنُ وهُوَ في الكُورَةِ البَعيدَة، في حُفرَةِ الخنازِير؟" فكانَ جوابُهُ، "عندَها سيَكُونُ إبناً مَيِّتاً، وليسَ خنزِيراً مَيِّتاً." فكَونُ الإنسان في حُفرَةِ الخنازِير لا يجعَلُ منهُ خنزيراً. بل يجعَلُ منهُ إبناً موجُوداً في المكانِ الخطأ، حيثُ لا ينبَغي لهُ أن يَكُون.
هذه بعضُ الأسئِلَة التي أُثِيرَت في هذا الجزء من الإصحاح العاشِر من إنجيلِ يُوحَنَّا. بِرأيي، العددُ الأهَمُّ في هذا الإصحاح هُوَ العددُ الثلاثون: "أنا والآبُ واحِد." هذا واحِدٌ من أعظَمِ التَّصريحاتِ التي قدَّمَها يسُوع. هذا هُوَ تفسيرُهُ لِكُلِّ من هُو، ولِكُلِّ الكلماتِ التي تكلَّمَ بها ولكُلِّ الأعمال التي عَملَها. بِالنِّسبَةِ ليَسُوع، هذا هُوَ التَّفسيرُ الدِّينامِيكيّ لِحَياتِهِ وعملِهِ: "أنا والآبُ واحِد."
ولقد قدَّمَ يسُوعُ تصريحاً عميقاً آخر في هذا الإطار نفسِهِ عندما قالَ، "يُمكِنُ لِخِرافِي أن تَعرِفَني ولي أنا أن أَعرِفَها، تماماً كما يَعرِفُني الآبُ وأنا أعرِفُ الآب." بكلماتٍ أُخرى، هُوَ والآبُ واحِد، ويُمكِنُ لنا أن نَكُونَ واحِداً معَهُ، أي معَ المسيحِ المُقامِ الكائن. ليسَ فقط المسيح التَّاريخيّ الذي كانَ، بل المسيح الكائن الآن بِسَبَب قِيامَتِهِ.
عندما نستَوعِبُ معنى هذا التَّعليم/الوعد، يُصبِحُ التَّفسيرُ العمَلِيّ والتَّعَبُّدِيّ الحقيقَةَ الرَّهيبة أنَّهُ منَ المُمكِنِ لنا أن نَكُونَ واحداً معَهُ، فيُنطَقُ بكلماتِ المسيحِ من خلالِنا على الأرض، وتُعمَلُ أعمالُ المسيحِ من خلالِنا على الأرض. هذا التَّعليم/الوعد سيَكُونُ مُمكِنَاً الوُصُولُ إليهِ لكُلِّ تلميذٍ حَقيقيٍّ، من خلالِ وِحدَتِنا معَ الرُّوحِ القُدُس. وسيُخبِرُنا المسيحُ المزيدَ عن هذا الأمر في عظةِ العُلِّيَّة (يُوحَنَّا 13- 16).
- عدد الزيارات: 3518