Skip to main content

الفَصلُ الخامِس "مَثَلُ رُؤيا يسُوع الإرساليَّة"

يبدَأُ الإصحاحُ السَّادِسُ بِمُعجِزَةِ إشباعِ الخَمسة آلاف. ولقد تأمَّلنا بهذه المُعجِزَة خلالَ دِراسَتِنا للأناجيلِ المُتَشابِهَةِ النَّظرَة. لِهذا، لن ننظُرَ إليها بِعُمقٍ هُنا. ولكن بعدَ المُعجِزَةِ التي أشبَعَ بها يسُوعُ خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ جائِعٍ معَ عائِلاتِهم، لَرُبَّما ما يبلُغُ حوالَي عشرين ألف نسمَة، ألقى يسُوعُ عظَةً عظيمَةً. وتُعتَبَرُ هذه العِظَةُ جزءاً من حوارِهِ العَدَائِيّ معَ رِجالِ الدِّين. هذا ما يُسمَّى "بِعِظَةِ خُبزِ الحياة."

في عِظَةِ خُبزِ الحياة، يُصَرِّحُ يسُوعُ قائِلاً أنَّهُ هُوَ خُبزُ الحَياة. في الإصحاحِ الرَّابع، يُصَرِّحُ يسُوعُ عقائِديَّاً أنَّهُ هُوَ ماء الحياة، وذلكَ عندما كانَ يتعامَلُ معَ حاجاتِ الإنسان الأساسيَّة، التي هي العَطَش. قالَ يسُوع، "أنا هُوَ ماءُ الحياة، من يَشرَبُ من هذا الماء لن يعطَشَ أيضاً." بالطَّبعِ عندما قالَ يسُوعُ هذا، كانَ يُقدِّمُ صُورَةً عن الولادَةِ الجديدة، وعنِ الحياةِ الأبديَّة التي يرغَبُ يُوحَنَّا أن يختَبِرَها كُلُّ واحِدٍ منَّا.

ولقد تعامَلَ يسُوعُ في العظَةِ التي تُعتَبَرُ أصعَبَ خطابٍ ألقاهُ يسُوع، تعامَلَ معَ حاجَةٍ أُخرى من حاجاتِ الإنسان – الجُوع. يَقُولُ يسُوعُ ما جَوهَرُهُ، "بإمكانِي أن أُشبِعَ جُوعَكَ لِبَقِيَّةِ حياتِكَ." في إطارِ هذا التَّصريح، قدَّمَ يسُوعُ عظتَهُ عن خُبزِ الحياة. وعندما إنتَهى من هذه العِظَة، نقرَأُ، "من ذلكَ الوقت رجَعَ كَثيرُونَ من تلاميذِهِ إلى الوراء ولم يعودُوا يمشُونَ معَهُ." فإلتَفَتَ يسُوعُ إلى الإثنَي عشَر وقالَ لهُم، "ألَعَلَّكُم أنتُم أيضاً تُريدُونَ أن تمضُوا؟"

هُنا نَجِدُ في كَلِماتِ بُطرُس، أحدَ أعمَقِ الأجوِبَةِ على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمانُ؟" فعندَما سألَ يسُوعُ الرُّسُلَ ما إذا كانُوا سيَترُكُونَهُ هُم أيضاً، أجابَ بُطرُس بما معناهُ، "إلى أينَ نذهبُ؟ كلامُ الحياةِ الأبديَّةِ عندَكَ." لم يَفهَمْ بُطرُس هذه العِظَة الصَّعبَة، ولكنَّهُ إختارَ بالإيمانِ أن يَستَمِرَّ بإتِّباعِ يسُوع.  

في نهايَةِ عِظَةِ خُبزِ الحَياة، قالَ يسُوع، "إن لم تشرَبُوا دَمي وتأكُلُوا جَسَدِي، لن تَكُونَ لكُم حياةٌ أبديَّة." ظَنَّ البَعضُ أنَّ يسُوعَ كانَ يُعَلِّمُ عن أكلِ لُحُومِ البَشَر. ولهذا تركَهُ الكَثيرُون. أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّ هذه العِظَة مرَّتَ فوقَ رأسِ بُطرُس كسَربٍ منَ العصافِيرِ الطَّائِرة. فبُطرُس لم يفهَمْ ما كانَ يَقصُدُهُ يسُوع. ولكنَّنا هُنا نحصَلُ على جوابٍ رائِعٍ على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمانُ؟" أحياناً، يكُونُ الإيمانُ أن نُؤمِنَ عندما لا نفهَم."

قالَ إشعياءُ أنَّ اللهَ لا يُفَكِّرُ مثلَ الإنسان، ولا يعمَلُ مثلَ الإنسان. لِهذا، علينا أن لا نتوقَّعَ أن نفهَمَ الله، بِحَسَبِ النَّبِيِّ إشعياء (إشعياء 55). ولكنَّ إشعياء يُتابِعُ بالقولِ أنَّ كلِمَةَ اللهَِ ستُحَقِّقُ إنسجاماً وتوافُقاً بينَ أفكارِنا وأفكارِ الله. لِهذا وعظَ إشَعياءُ بِكَلِمَةِ اللهِ، ولهذا علينا نحنُ أن نكرِزَ بكلمَةِ اللهِ، وأن نقرَأَ وندرُسَ هذه الكلمة.

ولكن، بينما نقتَرِبُ من اللهِ من خلالِ كلمتِهِ، علينا أن لا نتوقَّعَ دائماً أن نفهَمَ كُلَّ ما نقرَأُهُ عنِ الله، لأنَّ اللهَ ليسَ إنساناً، وهُوَ مختَلِفٌ تماماً عنِ الإنسان. وبما أنَّ يسُوعَ كانَ أعظَمَ إعلانٍ منَ اللهِ لهذا العالم، علينا أن لا نتفاجَأَ أن نقرَأَ أنَّهُ كانَت تُوجَدٌ أوقاتٌ لم يَفهَمْ فيها صَيَّادُو السَّمَك يسُوع.

تأمَّلُوا بِحِكمَةِ سُلَيمان عندما تساءَلَ قائِلاً في أمثال 20: 24، "منَ الرَّبِّ خَطَواتُ الرَّجُل. أمَّا الإنسانُ فكَيفَ يفهَمُ طريقَهُ." فإن كانَ الرَّبُّ لا يعمَلُ كإنسانٍ ولا يُفَكِّرُ كإنسانٍ، وإن كُنَّا نسيرُ في طريقِهِ ونطلُبُ مشيئَتَهُ لحياتِنا، فلا ينبَغي أن نتوقَّعَ أن نفهَمَ دائماً الطريقَ التي نَسيرُ فيها عندما نَمشي تحتَ قِيادَةِ الله.

أظهَرَ بُطرُس حِكمَةً عظيمَةً عندما تجاوَبَ معَ عِظَةِ خُبزِ الحياة التي ألقاها يسُوعُ، عندما قالَ ما معناهُ، "أنا لا أفهَمُ ما تَقُولهُ، ولكنَّني أُؤمِنُ بكَ وسوفَ أتبَعُكَ دائماً."

لم يُعطِنَا يسُوعُ فقط صُورَةً عنِ الولادَةِ الجديدةِ عندما تكلَّمَ عنِ ماءِ الحياةِ وعن خُبزِ الحياة، بل أعطانا أجوِبَةَ جَميلَةً على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمانُ؟"وكما أشَرتُ سابِقاً، في كُلِّ مرَّةٍ تشرَبُ فيها كأسَ ماءٍ بارِد، لديكَ صُورَةٌ عمَّا هُوَ الإيمانُ. تصَوَّرْ أنَّكَ تَمُوتُ عطَشاً. وأنتَ تحمِلُ في يَدِكَ كأسَ ماءٍ تَظُنُّ أنَّهُ سوفَ يُروِي عطَشَكَ ويُخَلِّصُ حياتَكَ. فكيفَ ستُبرهِنُ حقيقَةَ كَونِكَ تُؤمِنُ أنَّ هذا الماء سيُروي عطَشَكَ ويُخَلِّصُ حياتَكَ؟ بإمكانِكَ أن تُبَرهِنَ إيمانَكَ عندما تشرَبُ هذا الماء.

يَقُولُ يسُوعُ، "أنا هُوَ الماءُ الحَيُّ، وأنتُم لدَيكُم عَطَشٌ للحياة. أنا هُوَ الخُبزُ الحيُّ، وأنتُم لدَيكُم جُوعٌ للحياةِ الأبديَّةِ الفيَّاضَةِ الحقَّة. فكيفَ ستُبَرهِنُونَ حقيقَةَ إيمانِكُم بأنَّني أستَطيعُ أن أُروِيَ عطَشَكُم إلى الأبد وأن أُشبِعَ جُوعَكُم مدى حياتِكُم؟ وكيفَ ستجعَلُونَي مُنسَجماً معَ حياتِكُم، ممَّا سيَسمَحُ لي بأن أُروِيَ عطَشَكُم وأُشبِعَ جُوعَكُم؟ حسناً، بينما تشرَبُونَ الماءَ لتُبَرهِنُوا حقيقَقَةَ كَونِكُم تُؤمِِنُونَ أنَّ كأسَ ماءٍ يُمكِنُهُ أن يُروِيَ عطَشَكُم، عليكُم أن تقبَلُونِي وأن تَتَمَثَّلُونِي، عليكُم أن تُؤمِنُوا بي وأن تُصبِحُوا على علاقَةٍ وثيقَةٍ بي. عليكُم أن تأتُوا وتَتبَعُوني."

هذا ما كانَ يسُوعُ يَقُولُهُ في أصعَبِ مقطَعٍ من عِظَتِهِ عن خُبزِ الحياة، عندما تكلَّمَ عن شُربِ دَمِهِ وأكلِ جَسَدِهِ. عندما إستَخدَمَ هاتَينِ الإستِعارَتَين المجازِيَّتَين، كانَ يُعَلِّمُ ما فحواهُ: "كُلُّ ما تحقَّقَ بمَوتي وكُلُّ ما عنَاهُ مَوتي لكُم، عليكُم أن تشرَبُوهُ؛ عليكُم أن تُؤمِنُوا بِحَقٍّ وأن تتمثَّلُوني. عليكُم أن تقبَلُوا في إختِبارِ حياتِكُم  كُلَّ ما يُريدُ الآبُ أن يُعطِيَكُم من خلالِ مَوتِي، الأمرُ الذي يُشارُ إليهِ بِدَمي، والمَرمُوزُ إليهِ بعَصِيرِ الكرمَةِ في خدمَةِ العَشاءِ الأخير، الذي سأتناوَلُهُ وسأُؤَسِّسُهُ قَبلَ مَوتي على الصَّليبِ بِبِضعِ ساعاتٍ. بإمكانِكُم أن تَرمُزُوا وأن تُعَبِّرُوا عن إيمانِكُم بِكُلِّ ما يعنيهِ مَوتِي لكُم، عندما تشرَبُونَ عصيرَ الكرمَةِ خلالَ خدمَةِ كسرِ الخُبز." الحَقيقَةُ العظيمَةُ الأُخرى عن يسُوع، كانت الحياة التي عاشَها. لقد عاشَ يسُوعُ حياةً رائِعَةً هُنا على الأرض، وبَينَما عاشَ هذه الحياة، كانَ يُظهِرُ لنا حقَّاً ويمنَحُنا نِعمَةً لنُطَبِّقَ الحقَّ الذي أعلنَهُ وعَلَّمَهُ. لقد كانَ يُظهِرُ لنا ويُمَكِّنُنا من أن نَعيشَ حياةً كما أرادَ اللهُ لنا أن نَعيش. حياةُ المسيح التي أظهَرَها يسُوعُ في الأناجيل هي صُورَةٌ عنِ الحياةِ الأبديَّة. فالحياةُ الأَبَديَّةُ هي بِجَوهَرِها أبديَّة نَوعاً وكَمَّاً.

عندَما يَقُولُ يسُوعُ، "ينبَغي أن تأكُلُوا جَسَدِي،" يُعطينا إيضاحاً آخَر عنِ الإيمان. فهُوَ يَقُولُ لنا هُنا في هذه العِظة، "أنا هُوَ الخُبزُ الحَيّ، وأنتُم جِياعٌ. كيفَ يُمكِنُكُم أن تَتَنَاولُوا الخُبزَ وأنتُم جياعٌ، وأن تتعامَلُوا معَ هذا الخُبز بِطريقَةٍ تجعَلُهُ يُشبِعُ جُوعَكُم؟ يُمكِنُكُم ذلكَ عندما تأكُلُونَ الخُبزَ وتتمثَّلُونَهُ وتقبَلُونَهُ.

حياتِي، الحياةُ التي أحيَاها لِثلاثٍ وثلاثِينَ سنَةً، تُظهِرُ لكُم كيفَ يُمكِنُكُم أن تُشبِعُوا جُوعَكُم للحَياة. حيَاتي تُظهِرُ لكُم كيفَ أرادَ اللهُ الآبُ لكُم أن تَعيشُوا حياتَكُم. عليكُم أن تتجاوَبُوا بِشَكلٍ صَحيحٍ معَ حَياتي. عليكُم أن تتمثَّلُوا حَياتِي. عليكُم أن تُبَرهِنُوا رَمزِيَّاً إيمانَكُم بِحَياتِي وبِكُلِّ ما تَعنيهِ حَياتِي لكُم عندَما تأكُلُونَ خُبزَ العشاءِ الرَّبَّانِي.

بِكَلِماتٍ أُخرى، عليكُم أن تأكُلُوا جَسَدِي (كما هُوَ مُمَثَّلٌ بالخُبز) وأن تَشرَبُوا دَمي (كما هُوَ مُمَثَّلٌ بالخَمرِ أو بالكأس)، وإلا فلن تَكُونَ لكُم حياةٌ أبديَّة." إنَّ يسُوعَ لا يُعَلِّمُ هُنا أنَّ أكلَ الخُبزِ وشربَ الخَمر مِن على مائِدَةِ الرَّبِّ سوفَ يُعطينا الحياةَ الأبديَّة. بل هُوَ يُعَلِّمُ أنَّ الإيمانَ بِما يُمَثِّلُهُ الخُبزُ والخَمرُ، سوفَ يُعطينا الحياةَ الأبديَّة. عندما كتبَ بُطرُس يَقُولُ أنَّ المَعمُوديَّةَ تُخَلِّصُنا، كانَ يقصُدُ أنَّ ما نُصَرِّحُ أنَّنا نُؤمِنُ بهِ من خلالِ المعمُوديَّةِ، هُوَ الذي يُخَلِّصُنا. (1بُطرُس 3: 21).

ولكنَّ بُطرُس وباقِي التَّلاميذ لم يفهَمُوا ما سَبَقتُ وشَرَحتُهُ لِلتَّو. نقرَأُ أنَّ العَديدَ منَ تلاميذِ يسُوع إبتَعَدُوا عنهُ ولم يَعُودُوا يمشُونَ معَهُ، لأنَّ فِكرَتَهُم عنِ الإيمان كانت: "أنا أُؤمِنُ فقط بما أفهَمُهُ." تَذَكَّرُوا أنَّهُ كانَ هُناكَ فَرقٌ بينَ التِّلميذ والرَّسُول. كانَ التَّلاميذُ أتباعاً، أمَّا الرُّسُل فكانُوا تلاميذَ يسُوع الذين كُلِّفُوا ليَكُونُوا رُسُلَهُ أو مُرسَليهِ الخاصِّين.

لقد إبتَعدَ الكَثيرُ منَ التلاميذ عن يسُوع في هذه المرحلة، ولكنَّ كُلَّ رُسُلِهِ إقتَدُوا بِمِثالِ بُطرُس وتَبِعُوا يسُوع، حتَّى ولو لم يَفهَمُوا عظَةَ يسُوع هذه. لقد تمتَّعَ بُطرُس بمَوهِبَةِ الإيمانِ المِثاليّ النَّمُوذَجي عندَما قالَ ما فحواهُ، "أنا لا أفهَم، ولكنَّني رُغمَ ذلكَ أُؤمِنُ."

عندَما نَصِلُ إلى المَرحلَةِ التي لا نَعُودُ نفهَمُ فيها الأُمُور، علينا أن نَبنِيَ جسرَ الإيمان، إنطِلاقاً مِمَّا نفهَمُهُ إلىما لا نفهَمُهُ. أحياناً نحنُ نَسيرُ في النُّورِ بالعِيان، ولكن أحياناً أُخرى علينا أن نسيرَ في الظُّلمَةِ بالإيمان.

حتَّى ولو سُمِّيَت هذه العِظَةُ "عظةَ خُبزِ الحياة"، فإنَّ هذه العِظَة لا تقصُدُ بجَوهَرِها الحديثَ عنِ الخُبز. فالعِظَةُ هي بِمعنىً ما عن العمل الذي لهُ دلالَةٌ ومنفَعَة. لاحِظُوا قَرينَةَ أو إطارَ العِظة. فلقد أعادَ يسُوعُ فتحَ الحوارِ العَدائِي معَ رجالِ الدِّينِ هؤُلاء حيالَ عملِهِم. ولقد قالَ يسُوعُ أُمُوراً قاسِيَةً لهُم. قالَ، "عمَلُكُم هُوَ بِدُونِ منفَعَة، وأقُولُ لكُم أنَّ سَبَبَ ذلكَ هُوَ أنَّ دوافِعَكُم المَغلُوطَة هي السَّبَبُ الكامِنُ وراءَ عمَلِكُم غير النَّافِع."

فأجابُوا، "حسناً، ماذا نفعَلُ حتَّى نعمَلَ أعمالَ الله؟" فأجابَهُم يسُوع، "أن تُؤمِنُوا بالَّذي هُوَ أرسَلَهُ." فأجابُوهُ بما معناهُ، "ماذا تعمَلُ أنتَ طِوالَ النَّهار؟ إن كُنتَ تُعَلِّمُنا عنِ العمَلِ النَّافِع، أخبِرْنا ماذا تعمَلُ طِوالَ النَّهار؟"

في عظَةِ خُبزِ الحياةِ هذه، أعطانا يسُوعُ بِفصاحَةٍ بالِغة فلسَفتَهُ الخاصَّة بالخِدمة. فلقد أخبَرَهُم يسُوعُ عن عملِهِ، والذي قالَهُ كانَ عميقاً جِدَّاً. أوَدُّ أن أُفَسِّرَ وأُلَخِّصَ جَوهرَ ما قالَهُ يسُوع: "هذا ما أعمَلُهُ: بينما أتجوَّلُ في هذا العالم، عندما يَقُولُ لي الآبُ أن أتكلَّمَ بِكَلِماتٍ مُعَينَّة، عندَها أنطِقُ بها. فأنا أتكلَّمُ بما يَقُولُ لي الآبُ أن أتكلَّمَ بهِ. البَعضُ يرفُضُونَ كلامي. هؤُلاء لَيسُوا في إنسجامٍ معَ الله ولا يسمَعُونَ كلامي على الإطلاق. ولكن عندما أتكلَّمُ بالكلماتِ نفسِها التي يَقُولُ لي الآبُ أن أنطِقَ بها، عندها الأشخاصُ الذين يجذِبُهُم الرُّوحُ القُدُسُ إلى الآب، سيكَتشِفُونَ أنَّ هذا الكلام هُوَ رُوحٌ وحياة. هؤُلاء يأتُونَ إلى الله عندما يسَمُعُونَ هذا الكلام. هذا ما أفعَلُهُ طوالَ اليوم."

لقد كانَ يسُوعُ يُخبِرُ هَؤُلاء النَّاس ويُخبِرُنا نحنُ أيضاً بأمرٍ مُثِيرٍ جدَّاً. فهُوَ سيَقولُ لنا الأمرَ ذاتَهُ في العُلِّيَّةِ لاحِقاً في إنجيلِ يُوحَنَّا. منَ المُمكِنِ أن يَكُونَ الإنسانُ وسيلَةَ نقلٍ يعمَلُ اللهُ من خلالِهِا عملَهُ. فعمَلُ اللهِ هُوَ أكثرُ الأعمالِ منفَعَةً ومعنىً الذي يُمكِنُني أن أعمَلَهُ. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ كُلَّ شَخصٍ مَدعُوٌّ ليَكُونَ واعِظاً أو مُرسَلاً. على أيَّةِ حالٍ، أعتَقِدُ أنَّ هذا يعني أنَّ مهما عَمِلتُم، عليكُم أن تَعمَلُوا ذلكَ لأنَّكُم تُؤمِنُونَ أنَّ هذا هُوَ عملُ اللهِ الذي أعطاكُم لتَعمَلُوه.

لَرُبَّما وضعَكَ اللهُ في عالَمِ الأعمالِ التِّجارِيَّة أو في مهنَةٍ مُعيَّنة. ولَرُبَّما جعلَ منكِ أيَّتُها القارِئةُ رَبَّةَ منزِلٍ أو أُمَّاً، الأمرُ الذي يعني أنَّ اللهَ دعاكِ لِتَكُونِي صانِعَةَ رِجالٍ وأُناسٍ، رَبَّةَ منزِلٍ أو صانِعَةَ ذِكريات. مهما كُنتُم تعمَلُون، عليكُم أن تتَحلُّوا بالإقتِناعِ أنَّكُم مَوجُودُونَ حَيثُ دَعاكُمُ اللهُ لِتَكُونُوا، وأنَّكُم تعمَلُونَ العمل الذي أقامَكُم اللهُ لِتَعمَلُوهُ.

اللهُ يُريدُنا أن نَكُونَ حيثُ تَكُونُ الحاجَة. إحدَى الطُّرُق التي يُحَرِّكُ اللهُ المُؤمنينَ للخُرُوجِ إلى العالَمِ حيثُ يُوجَدُ الأشخاصُ الذي يحتاجُونَ للمسيح، هي أنَّهُ يجعَلُنا نحتاجُ أن نخرُجَ إلى العالم لِنَكسَبَ رِزقَنا وقوتَ عائِلاتِنا. فهذا يدفعُنا للخُرُوجِ إلى العالم وللتَّواجُدِ معَ أشخاصٍ بحاجَةٍ للحياةِ الأبديَّةِ وللإيمانِ بالمسيح. هذا هُوَ العمَلُ النَّافِعُ الذي تكلَّمَ عنهُ يسُوعُ في عِظَةِ "خُبزِ الحياة."

بناءً على إختِبارِي الشَّخصِيّ في العمَلِ معَ الكثيرِ منَ النَّاسِ عبرَ الأجيال، أعتقِدُ أنَّ أحدَ أخطَرِ الآفاتِ في عَصرِنا هي المَلَل أو الضَّجَر. أنا أتعجَّبُ من عدَدِ النَّاسِ الذين يَقُولُونَ أنَّهُم مُصابُونَ بالضَّجَر، وهُم أشخاصٌ كُنتُ أعتَقِدُ أنَّهم ينبَغي أن يشعُرُوا بالإكتفاءِ والملء لأنَّهُم يَبدُونَ أنَّهُم يعمَلُونَ أعمالاً مُثيرَةً. ولكن، بينما أتعرَّفُ عليهم، أكتَشِفُ أنَّ مُعظَمَهُم يضجَرُونَ مِمَّا يعمَلُونَهُ.

مُنذُ عِدَّةِ سنواتٍ، وجدتُ قَولاً يُعَبِّرُ عمَّا يَقُولُهُ لي الكَثيرُ منَ الرِّجال. كتبَ أحدُ رِجالِ السِّياسَةِ الذي كانَ قد بلغَ الثَّامِنَةَ والثَّمانِين منَ العُمر، كتبَ الكلماتِ التَّالِيَة في مُفَكَّرَتِهِ منذُ وقتٍ طَويل: "إذا نَظرتُ إلى الوراء، وأنا في الثَّامِنَةِ والثَّمانِين من عُمرِي، وبعدَ سبعَةٍ وخمسينَ عاماً قَضَيتُها في الحياةِ السِّياسيَّةِ في إنكلترا، معَ العِلمِ أنَّني كُنتُ أتأمَّلُ بالحُصُولِ على أفضَلِ النتائِج، وأتأمَّلُّ بِتاريخِ بريطانيا والعالَم منذُ العام 1914، أرى بِوُضُوحٍ أنَّني لم أُحَقِّقْ ولم أُنجِزْ شَيئاً. فالعَالَمُ اليَوم وتاريخُ المُجتَمَعِ البَشَريّ خلالَ السَّنواتِ السَّبع والخَمسين الأخيرة كانَ سيَبقَى تماماً كما هُوَ الآن لو أنَّني قضَيتُ هذه السَّنواتِ في لِعبِ كُرَةِ الطَّاوِلَة بدلَ كَوني عُضواً فاعِلاً في مجالِسِ الإدارة وبدَلَ كِتابَتي كُتُباً ومقالات. لهذا، توجَّبَ عليَّ أن أَقُومَ بالإعتِرافِ المُخزِي أمامَ نفسي وأمامَ الذين سيقرَأُونَ هذه المُذَكِّرات، أنَّني في حياتِي الطَّويلة، بدَّدتُ ما بَينَ المائة وخمسينَ ألفاً وبينَ المائَتي ألف ساعَة من العَمل غير المُجدِي بتاتاً."

عندَما جاءَ يسُوعُ لِيُخَلِّصَنا، جاءَ لِيُخَلِصَنا من عدَّةِ أشياء. أحَدُ الأشياء التي أرادَ أن يُخَلِصنا منها هي المُعاناةُ منَ ضجَرِ "العمل غير المُجدِي بتاتاً." لا أعتَقِدُ أنَّ أيَّ شَخصٍ يفهَمُ من هُوَ يسُوع، وما هُوَ الإيمانُ، وما هي الحياةُ الأبديَّة، سوفَ يَكُونُ مُلَخَّصُ حياتِهِ المَكتُوب على لَوحَةِ قَبرِهِ، "لقد كانَت حياتي التي عَمِلتُ فيها لِمُدَّةِ سبعَةٍ وخمسينَ سنَةً، كانت مُجَرَّدَ عملٍ غير مُجدٍ بتاتاً."

بِرَأيي، رَبُّنا يسُوعُ المسيح لا يُريدُنا أن يكَونَ لدينا هكذا لَوحَة على قُبُورِنا عندما نعيشُ ثمانٍ وثمانِينَ سنَةً. لهذا أعطانا عِظَةَ خُبزِ الحياة. في قَلبِ ونفسِ عِظَةِ خُبزِ الحياة، تكلَّمَ يسُوعُ أساساً عن العمل النَّافِع والمُجدي بشكلٍ كامِل.

  • عدد الزيارات: 3254