الفَصلُ الأوَّل "المياهُ الحَيَّة"
أخبَرنا يُوحَنَّا في مُقدِّمَتِهِ بأنَّهُ كانَ سيَقُولُ لنا أنَّهُ عندَما تجاوَبَ النَّاسُ معَ يسُوع بِطَريقَةٍ صحيحَة، كانُوا يُولَدُونَ من جديد. هذا ما فعلَهُ يُوحَنَّا مجازِيَّاً في الإصحاحِ الثَّانِي، وكانَ هذا بِوُضُوحٍ هدَفُهُ في الإصحاحِ الثَّالِث، عندما وصفَ تلكَ المُقابَلَة غير الإعتِيادِيَّة بينَ يسُوع ومُعَلِّم النَّامُوس نيقُوديمُوس.
في الإصحاحِ الرَّابِع، يُخبِرُنا يُوحَنَّا عن لِقاءٍ جرى بينَ يسُوع وإمرأَةٍ سامِريَّة. يبدَأُ هذا الإصحاح بإخبارِنا أنَّ يسُوعَ كانَ سينتَقِلُ من أُورشَليم إلى الجَليل. وعندما يُعطينا الوحيُ تفاصِيلَ جُغرافِيَّة، عادَةً يكُونُ هناكَ سَبَبٌ وجيهٌ لذلكَ. وإن كانَ أحدٌ قد ذهَبَ إلى الأراضِي المُقدَّسة، سيُلاحِظُ أنَّ هذا يعني أنَّ الرَّحلةَ التي كانَ سيقُومُ بها يسُوع كانت تُغَطِّي مُعظَمَ الأراضِي المُقدَّسة. ولكي يُسافِرَ يسُوعُ من أُورشَليم إلى الجليل، كانَ لا بُدَّ لهُ أن يجتازَ السَّامِرَة.
وبما أنَّهُ كانَت تُوجَدُ أحكام مُسبَقَة مُرَّة بينَ اليَهُود والسَّامِريِّين، عندما كانَ اليَهُودُ الأُورثُوذكس يُسافِرونَ من اليَهُوديَّةِ إلى الجَليل، كانُوا يأخُذُونَ طريقاً أطوَل لكي يتجنَّبُوا المُرُورَ عبرَ السَّامِرَة. ونقرَأُ هُنا أنَّهُ عندما سافرَ يسُوعُ من أُورشَليم إلى الجَليل، لم يأخُذْ الطريق الطَّويل ليتجنَّبَ السَّامِرَة. بل إجتازَ عبرَ السَّامِرَةِ مُباشَرَةً. وهذا يَدُلُّ على أنَّ يسُوعَ كانَ يُعَلِّمُ تلاميذَهُ دَرساً عنِ الأحكامِ المُسبَقَة.
وهكذا وصلَ يسُوعُ إلى قَلبِ السَّامِرَة، وبالتَّحديد إلى مَدينَةٍ نُسَمِّيها اليوم شَكيم، حيثُ كانت تُوجَدُ بِئرُ يعقُوب. ورفَضَ تناوُلَ الطَّعام منَ التَّلاميذ عندَ عودَتِهِم. يبدُو أنَّهُ كانَ يُحَرِّرُ نفسَهُ منهُم، لأنَّهُ أرادَ أن يقضِيَ وقتاً على إنفِرادٍ معَ المرأَةِ السَّامِريَّة.
بإمكانِنا أن نتعلَّمَ الكَثيرَ عن تِقَنِيَّاتِ المُقابَلات، إذا دَرَسنا مُقابَلَةَ يسُوع معَ المرأَةِ السَّامريَّة. أوَّلاً، لاحِظُوا أنَّ يسُوعَ كانَ مُهتَمَّاً، لا بَل "مُكَرَّساً" جدَّاً لهذه المُقابَلَة. وتعني كلمة "مُكَرَّس" بالمعنَى الحَرفِيّ للكَلِمَة، "سَلَّمَ أو وضعَ شَيئاً جانِباً لهدَفٍ مُعَيَّن." لقد وضعَ يسُوعُ جانِباً أحكامَ حضارَتِهِ اليَهُوديَّةِ، ووضعَ جانِباً راحَتَهُ الشَّخصِيَّة، بهدَفِ تحقيقِ هذه المُقابَلَة. نقرَأُ أنَّ الوقتَ كانَ ظُهراً وكانَ هُوَ مُتعَباً. وعلى الأرجح كانَ الطَّقسُ حارَّاً جداً.
ولقد كانَ يسُوعُ مُهتَمَّاً بإخلاصٍ بالشخص الذي سيُقابِلُهُ. ولقد أظهَرَ هذا الإهتِمام المُخلِص عندما قَرَّرَ أن يُقابِلَ هذا الشَّخص على إنفِراد. فعندما نتقابَلُ معَ النَّاس، علينا أن نُدرِكَ أنَّهُم لن يُشارِكُوا بأسرارِ قُلُوبِهم، إلا عندَما نَلتَقِي بهِم على إنفِراد. تُوجَدُ أوقاتٌ يكُونُ منَ المُهِمِّ جدَّاً فِيها أن نجلِسَ على إنفرادٍ معَ الشخصِ الذي نُقابِلُهُ.
بينما نتأمَّلُ بِشَخصِ المسيح خلالَ هذه المُقابَلَة، علينا أن نُلاحِظَ أيضاً تمييزَهُ. فإجراءُ مُقابَلَةٍ يعني حرفِيَّاً، "النَّظَر بينَ السُّطُور." ولقد قامَ يسُوعُ بالفِعل بالنَّظَرِ بينَ سُطُورِ أقوالِ المرأةِ السَّامِريَّةِ التي قابِلَها، مُصغِياً إلى كَلِماتها بِتَمييزٍ دقيق.
جاءَ يسُوعُ إلى البِئر لينتَشِلَ الماء. لقد كانَ عطشاناً، وكانت المرأَةُ أيضاً عطشى. وهُوَ هُنا لم يَكُن يتكلَّمُ إلى مُعَلِّمٍ منظُورٍ للنَّامُوس، لذلكَ لا نَجِدُهُ يستَخدِمُ كَلِماتٍ مثل "الولادَة الثَّانِيَة." وأنا مُتَأكِّدٌ أنَّهُ كانَ يَقُولُ لهذه المرأة السَّامِريَّة الشيءَ نفسَهُ الذي كانَ يَقُولُهُ لِمُعَلِّمِ النَّامُوس، ولكنَّهُ لم يُعَبِّرْ عنهُ بالطريقَةِ نفسِها. فهُوَ يَصِفُ إختِبارَ الولادَةِ الجديدة لهذهِ المرأَة السَّامِريَّة بلُغَةٍ تَصويريَّةٍ تستطيعُ فهمَها.
وعندَما طَلَبَ منها ماءً لِيَشرَبَ، فتحَ معَها حِواراً بتَعبِيرِهِ عن حاجَتِهِ لِخِدمَةٍ منها. وبما أنَّ الرِّجالَ اليَهُود لم يَكُونُوا يُكَلِّمُونَ السَّامِريِّين، خاصَّةً إمرأَةً سامِريَّةً، ولا سِيَّما رَديئة السُّمعَةِ والصِّيت مثل هذه المرأة عندَ البِئر، كانَت هذه الخُطوة تجاوُزاً لِكُلِّ العوائقِ الحضارِيَّةِ والأحكام العِرقيَّة المُسبَقَة بينَ اليَهُودِ والسَّامِريِّين. ولقد ركَّزَ المسيحُ في حِوارِهِ على عَطَشِها. وعالَجَ حقيقَة كونِها ستحتاجُ العَودَة ثانِيَةً إلى هذا البِئر لكي تُروِيَ ظَمَأَها.
كانَ المسيحُ بالواقِع يسأَلُها التَّالِي: "ما رأيُكِ بأن تَشرَبي ماءً سيُروِي ظَمَأَكِ مرَّةً وإلى الأبد بما يَكفِي لِكُلِّ حياتِكِ؟" غالِباً ما تساءَلتُ عمَّا إذا كانت هذه المرأة مُدمِنَة على الخَمر. فإن كُنتَ أنتَ مُدمِناً على المَشرُوباتِ الرُّوحيَّة، ألن تَكُونَ هذه صُورَةٌ مجازِيَّةٌ جميلَةٌ تُشيرُ إلى الولادَةِ الجديدة: "إشرَبْ مرَّةً واحِدَةً، وسوفَ يُروَى ظَمَأُكَ إلى الأبد؟"
وعندما فَهِمَتْ ما كانَ يَقُولُهُ لها، أجابَتْهُ قائِلَةً، "يا سَيِّد، أعطِنِي من هذا الماءِ لِكَي أشرَبَ وأرتَوِيَ لِباقي حياتِي، ولا آتِيَ إلى هُنا أيضاً وأستَقِي." هُنا، قالَ لها يسُوع،"إذهَبِي إدعِ زَوجَكِ." فأجابَت، "ليسَ لي زَوجٌ." فقالَ لها يسُوع، (إذا كانَ بالإمكانِ تفسير جوابَهُ لها)، "أنتِ على حَقٍّ تماماً! فلقد كانَ لكِ خمسَةُ أزواجٍ، والرَّجُلُ الذي لكِ الآن ليسَ هُوَ زَوجُكِ، أليسَ كذلكَ؟"
فالآن، لماذا أتى يسُوعُ على ذِكرِ هذا المَوضُوع؟ هُنا نَصِلُ مُجَدَّداً إلى القَضِيَّةِ نفسِها التي رأَيناها في لِقاءِ يسُوع معَ زَكَّاً، أي قضيَّة التَّوبَة (لُوقا 19: 8، 9). فبِدُونِ تَوبَة، لا يُمكِنُها أن تشرَبَ هذا الماء الحَيّ، الذي سيُروِي ظَمَأَها لِبَقِيَّةِ حياتِها.
إذ نتأمَّلُ بتِقَنِيَّةِ لِقاءاتِ يسُوع، نرى أنَّهُ، بالإضافَةِ إلى الأُمُورِ التي سَبَقَ وذَكَرتُها، كانَ يسُوعُ مُباشَرَاً وصَريحاً جدَّاً في لِقاءاتِهِ. وإلى أن وصَلَ يسُوعُ إلى تلكَ المرحَلَة التي فيها صارَحَ هذه المرأة بشكلٍ مُباشَر حِيالَ حياتِها الشخصِيَّة، كانَ قد كَلَّمَها سابِقاً عن محبَّتِهِ وقُبُولِهِ غير المَشرُوطَين لها. فإذا قُمنا أنا وأنتَ بإيصالِ قُبُولِ اللهِ غير المَشروط للشخصِ الذي نُقابِلُهُ، عندما نَصِلُ إلى المرحَلة التي سنحتاجُ فيها أن نَكُونَ صَريحِينَ ومُباشَرين، سوفَ نكتَشِفُ أنَّ الشَّخصَ الذي نُحاورُهُ سيَقبَلُ صراحَتَنا معَهُ.
وكَمُحاور، لم يَكُنْ يسُوعُ مُباشَراً وصَريحاً فحَسب، بل وكانَ أيضاً مُوَجِّهاً. فيَسُوعُ لم يَكُنْ مُحاوِراً غَيرَ مُوَجِّهْ. لاحِظُوا كم كانَ يسُوعُ مُوَجِّهاً في مُقابَلَتِهِ معَ هذه المرأَة. فلقد وجَّهَها لِمُشكِلَتِها، التي هي خَطِيَّتُه. ولقد وجَّهَها إلى حَلِّها، الذي كانَ المياهَ الحَيَّة. وفي الوقتِ المُناسِب، وَجَّهَها لِمُخَلِّصِها. وقُرابَةَ نهايَةِ المُقابَلَة، قالَت، "أنا أعلَمُ أنَّ مَسيَّا سيأتي. وعندما يَأتي، هُوَ سَيُخبِرُنا بِكُلِّ شَيءٍ." فأجابَها يسُوع، "أنا الذي أُكَلِّمُكِ هُوَ." (يُوحَنَّا 4: 26).
بهذهِ الكَلِمات، كانَ يسُوعُ يُوَجِّهُ بِوُضُوحٍ هذه المرأة السَّامِريَّة لِتَتَقابَلَ معَ المَسيَّا، وكانَ يُصَرِّحُ بِوُضُوحٍ أنَّهُ هُوَ المسيَّا. هذا التَّصريحُ الذي قدَّمَهُ يسُوعُ يُعَزِّزُ حُجَّةَ يُوحَنَّا المُنَظَّمَة – والتي يُمكِنُ مُتابَعَتُها عبرَ إنجيلِهِ – أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح (المَسِيَّا)، إبن الله. في هذا الإطار، يَقُولُ يسُوعُ لها أيضاً، "لو كُنتَ تعلَمِينَ عَطِيَّةَ الله، ومن هُوَ الذي يَقُولُ لكِ، "أعطِينِي لأشَربَ، لَطَلَبتِ أنتِ منهُ فأعطاكِ ماءً حَيَّاً."
عِندَما تُصَلِّي، إن كُنتَ تُكَلِّمُ اللهَ، ماذا ينبَغي عليكَ أن تطلُبَ من إلهٍ قادِرٍ على كُلِّ شَيء؟ قالَ يسُوعُ بِوُضُوحٍ لهذهِ المرأة أنَّهُ هُوَ المَسِيَّا، وأنَّها إذا عَلِمت هذا وآمنَتْ بهِ، لكانت طَلَبَت منهُ الحياةَ الأبديَّة، والخَلاص، والمياه الحَيَّة، لأنَّ هذه هي الشُّربَة الوَحيدَة التي سَتُروِي ظَمَأَها لباقِي حياتِها.
عِندَما قالَ لها أن تَدعُوَ زوجَها، وكانَ يُوَجِّهُها إلى خَطِيَّتِها وإلى ضَرُورَةِ التَّوبَة، فعلَت ما يفعَلُهُ النَّاسُ عادَةً عندما تُواجِهُهم بِخَطيَّتِهِم وبحاجَتِهِم للتَّوبَة. فطَرَحَت سُؤالاً لاهُوتِيَّاً صعباً يُعتَبَرُ موضِعَ جَدَل. سأَلَت ما معناهُ: "أنتُمُ اليَهُود تُؤمِنُونَ أنَّ أُورشَليم هي المكانُ الذي يحتَفِظُ فيهِ اللهُ بِمَركَزِهِ الرَّئيسيّ، ولكنَّنا نحنُ السامِريِّينَ نُؤمِنُ أنَّ اللهَ ينبَغي أن يُعبَدَ على جَبَلِ جِرزِّيم. فما هُوَ مَوقِفُكَ من هذا المَوضُوع؟" هذا يُشبِهُ القَول، "لطالَما تساءَلتُ، من هُوَ على حَقٍّ؟ المشيَخِيُّونَ، أم الميثُودِيستِيُّون، أمِ المعمدانِيُّونَ أمِ الكاثُوليك – أقصُدُ – أنا مُرتَبِكٌ ومُشَوَّشٌ!" هل سبقَ وإلتَقَيتَ بأشخاصٍ يطرَحُونَ أسئِلَةً صَعبَةً، عندَما يُحاوِلُونَ التَّهرُّب من مُواجَهَةِ حقيقَةِ خطيَّتِهم الصَّعبَة، وحاجَتِهِم للتَّوبَة؟
عندما أثارَت السَّامِريَّةُ هذه القَضايا، لاحِظْ أنَّهُ بينما تابَعَ يسُوعُ كونَهُ مُوَجِّهاً، قامَ بِتَوجِيهِها إلى ما هُوَ أبعد من الدِّياناتِ المُعاصِرَة لها. قالَ يسُوعُ لها ما معناهُ، "اللهُ رُوحٌ. وليسَ أحدٌ يملِكُ اللهَ في عُلبَة. أنتُمُ السَّامِريُّونَ لا تملِكُونَ اللهَ هُنا على جَبَلِ جرزِّيم، ولا نحنُ اليَهُودُ نملِكُ اللهَ في أُورشَليم. اللهُ روحٌ، والذي يسجُدُونَ لهُ، بالرُّوحِ والحَقِّ ينبَغي أن يسجُدُوا، في أيِّ مكانٍ يَشاؤُون." عندَما تكلَّمَ يسُوعُ معَ المرأَةِ السَّامِريِّةِ بهذه الكلمات، وجَّهَ هذه المرأَة السَّامِريَّة إلى ما وراء الدِّيانة؛ وجَّهَها إلى اللهَ الذي هُوَ رُوحٌ.
أحد أجمَل الأشياء عن هذه المُقابَلَة، نقرأُ عنهُ في لُغَةِ يُوحَنَّا الرَّمزِيَّة. وكما أشَرتُ سابِقاً في مُقَدِّمَةِ هذا الإنجيل، علينا أن نبحَثَ دائماً عَنِ المَعنَى الأعمَق، عندما نقرَأُ كِتاباتِ الرَّسُول يُوحَنَّا. فيُوحَنَّا يستَخدِمُ هُنا لُغَةً رَمزِيَّةً، عندما يكتُبُ عن جَرَّةِ هذه المرأة.
فعندَما تحضُرُ المرأَةُ على مَسرَحِ هذه المُقابَلة، جرَّةُ الماءِ خاصَّتُها هي رَمزٌ لِعَطَشِها، وبالطَّبع عطَشُها كانَ لأكثَرِ من مُجَرَّدِ العَطَشِ للماء. فَكَونُها كانَ لديها خمسَةُ أزواجٍ، وكانت تعيشُ آنذاك معَ رَجُلٍ لم يَكُن زَوجُها، كُلُّ هذا يُوحِي بِعَطَشٍ أعمَق من مُجَرَّدِ العَطَشِ للمِياه. تعجَّبَتِ المرأَةُ في بدايَةِ هذه المُقابَلة أنَّ يَسُوعَ لم يَكُنْ معَهُ دَلوٌ. وبما أنَّ دَلوَ الماءِ كانَ رمزاً للعَطَش، أو للحاجَة، عندَها بإمكانِكُم القَول أنَّ يسُوعَ سيُوصَفُ في هذه المُقابَلة كَرَجُلٍ لا يحمِلُ دَلوَ ماء – أي كَرَجُلٍ ليسَ لدَيهِ العَطَش الذي يُمَيِّزُ هذه المرأة السَّامِريَّة وحاجَتَها للخَلاص.
أجمَلُ مقطَعٍ في هذه المُقابَلة هُوَ حَيثُ نقرأُ: "فتَرَكَتِ المرأَةُ جَرَّتَها ومَضَتْ إلى المَدينَةِ وقالَت للنَّاس: هَلُمُّوا أُنظُرُوا إنساناً." (يُوحَنَّا 4: 28، 29).
وعندما إختَبَرَتِ المرأَةُ الوِلادَةَ الجديدة، وجَّهها يسُوعُ إلى خِدمَتِها. وحَقيقَةُ كَونِها عندما ذهَبَت إلى المدينة، أنَّها ذهَبَت لِلِقاءِ رِجالٍ، هُوَ أمرٌ لهُ دلالَةٌ ومعنَى. أيُّ رِجالٍ هُم أُولئِكَ الذين ذهَبَتْ لتَلتَقِيَ بهم وتُخبِرَهم عن يسُوع؟ بالطَّبع ذهَبَت إلى رِجالٍ كانت تَعرِفُهُم. ولَرُبَّما كانت تعرِفُ الكَثيرَ منهُم في المدينة. وبما أنَّ النِّساءَ لم يَكُنَّ يتعامَلنَ بِحُرِّيَّةٍ معَ الرِّجال في تلكَ الحضارَةِ السَّامِريَّة، أعتَقِدُ أنَّ هذه المُلاحَظة التي أدلَى بها يُوحَنَّا تُوحِي إلى أنَّ هذه المرأة كانت لَرُبَّما مُومِساً. فذَهَبَت إلى الرِّجالِ في السَّامِرَة، وقالَت لهُم ما معناهُ، "هَلُمُّوا أُنظُرُوا إنساناً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلت. [لقد فتحَ أفكارَ قَلبِي. وتكلَّمَ إلى قَلبِي. هَلُمُّوا أُنظُرُوا إنساناً]."
ونقرَأُ أنَّ الرَّجالَ أتَوا، وأصغُوا إلى يسُوع بسببِ قَولِ المرأة. ولكن لاحِقاً، وبعدَ أن إلتَقوا بهِ قالُوا، "لسنا بعدُ بِسَبَبِ كلامِكِ نُؤمِنُ. لأنَّنا نحنُ آمنَّا ونعلَمُ أنَّ هذا بالحقيقَة هُوَ المسيح مُخَلِّص العالم." (يُوحَنَّا 4: 42.) ويُخبِرُنا يُوحَنَّا في هذا السِّجِلِّ المُوحَى بهِ عن هذه المُقابَلَة، يُخبِرُنا مُجَدَّداً عمَّا أخبَرَنا بهِ سابِقاً بما كانَ سيَقُولُهُ لنا. وعندما كانَ النَّاسُ يتجاوَبُونَ بِطَريقَةٍ صحيحَةٍ معَ يسُوع، كانُوا يُولَدُونَ من جَديد. هذا الإصحاح يَصِفُ الوِلادَةَ الجديدة للمرأَةِ السَّامِريَّة، وكذلكَ النَّاس الذين بَشَّرَتْهُم في مَدِينَةِ السَّامِرَة.
لقد ذكَرَت مُقابَلَةُ يسُوع في هذا الإصحاح وصفَهُ لأعظَمَ إختِبارَينِ في هذه الحَياة. الولادَة الجديدة، وكَونَنَا الوسيلة التي من خِلالِها يتجدَّدُ النَّاسُ. ولقد وصفَ يسُوعُ مجازِيَّاً لهذه المرأة هذين الإختِبارَين اللذين هُما أعَظَ إختِبارَين في الحياة. قالَ ما معناهُ: "أيُّتُها المرأة، إذا شَرِبتِ من هذا الماء، فإنَّ هذه المياه الحيَّة لن تُروِي ظَمَأَكِ فحَسب، بل ستنبَعُ منكِ كنبعِ مياهٍ حيَّةٍ تتدفَّقُ ليَشرَبَ منها الآخرون ويَرتَوُون."
بِكَلماتٍ أُخرى، "ليسَ فقط أنَّكَ سَتَتَجَدَّدِين وستُروِينَ ظمأكِ في الحياةِ. بل ستُصبِحِينَ يُنبُوعاً يأتي إليهِ الآخرونَ ليُروُوا ظَمَأَهُم ويُولَدُوا من جَديد." كُلُّ هذا حدَثَ معَ هذه المرأة السَّامِريَّة. فسُرعانَ ما إختَبَرَت بِنَفسِها الولادَةَ الجَديدة، حتَّى ذَهَبَت إلى السَّامِرَة وبشَّرت النَّاسَ بالمسيح.
بَينَما تَقُومُ بِتَلخِيصِ هذه المُقابَلة المُطَوَّلَة، التي بما تحويهِ من تجاوُبٍ معَ المُقابَلة الذي يمتَدُّ عبرَ 42 عدداً، إطرَحْ على نفسِكَ هذه الأسئِلة التي نقتَرِبُ من خلالِها إلى إنجيلِ يُوحَنَّا. من هُوَ يسُوع؟ في هذه المُقابَلة، نجدُ أنَّ يسُوعَ هُوَ المياهُ الحيَّة. والعَطَشُ هُوَ إحدى حاجاتِنا الأساسيَّة كَكَائِناتٍ بَشَريَّة. يسُوعُ هُوَ المياهُ الحيَّةُ التي تُروي ظَمَأَنا.
وما هُوَ الإيمانُ في هذه المُقابَلة؟ لدَينا جوابٌ على ما هُوَ الإيمان، وذلكَ عندما يَقُولُ يسُوعُ لهذه المرأة، "لو كُنتِ تعلمينَ من هُوَ الذي يُكَلِّمُكِ، أو لو كُنتِ تعلَمِينَ عَطيَّةَ الله، ماذا كُنتِ ستَطلُبِينَ منهُ! الإيمانُ هُوَ أن تُدرِكَ أنَّكَ تطلُبُ منَ اللهِ شَيئاً، أنَّكَ تُخاطِبُ مَلِكَ الكَون، الذي لدَيهِ منابع لا تَنضُب منَ القُوَّةِ. تُعطينا هذه المُقابَلة جواباً آخَرَ على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمانُ؟" في كُلِّ مرَّةٍ نرتَشِفُ فيها جرعَةَ ماء. فنحنُ نُؤمِنُ أنَّ كأسَ الماءِ البارِد الذي نحمِلُهُ في يدَنا سيُروي ظمَأَنا. ونستطيعُ أن نُبَرهِنَ إيمانَنا بهذه الحقيقة، عندما نشرَبُ بالفِعل كأسَ الماءِ هذا. وبنفسِ الطريقة، يُؤمِنُ الكثيرُونَ أنَّ يسُوعَ يستَطيعُ أن يُروِيَ ظَمَأَهُم، ولكنَّهُم لا يَشرَبُونَ أبداً ماءَ الحياةِ بإيمانٍ.
عندما قالَ يسُوعُ للمرأَةِ أن تَدعُوَ زَوجَها إذا كانت ترغَبُ بأن تشرَبَ من ماءِ الحياةِ هذا، نجدُ جواباً آخَرَ على سُؤالِ يُوحَنَّا عمَّا هُوَ الإيمانُ. قَضِيَّةُ التَّوبَةِ بالإيمانِ ينبَغي أن تَتِمَّ مُواجَهَتُها. ففي كُلِّ مُقابَلاتِ يسُوع المُدرَجَة في إنجيلِ يُوحنَّا والأناجيل الثلاثة الأُخرى، لا يُوجَدُ ما يُسمَّى بالإيمانِ المُخَلِّصِ بِدُونِ تَوبَةٍ. وكما رأَينا في مُقابَلاتِ يسُوع التي قامَ بها معَ زَكَّى ومعَ الشَّابِّ الغَنيّ، نصحَ يسُوعُ بالتَّوبَةِ قبلَ أن يُعلِنَ تحقُّقَ إختِبارِ الخلاص (لُوقا 18: 18- 23؛ 19: 8، 9)
ثُمَّ بينَما نقرَأُ سِجِلَّ يُوحنَّا لِهذهِ المُقابَلة، علينا أن نسأَلَ، "ما هي الحياةُ؟" الحياةُ هي إختِبارُ ذَينَكَ الإختِبارَينِ العَظِيمَين، أن نُولَدَ من جديد، وأن نُصبِحَ أدواتٍ من خلالِها يُولَدُ النَّاسُ من جديد. والحَياةُ قد تَكُونُ أيضاً التَّخَلُّصَ من "جِرارِنا." (يُوحَنَّا 4: 28) جَميعُنا لدَينا عَطَشُنا أو حاجاتُنا. ولكنَّ الأخبارَ السَّارَّةَ هُنا هي أنَّنا عندَما نُولَدُ من جديد، نترُكُ جِرارَنا، أي طُرُقنا القَديمَة بإرواءِ ظمَئِنا، وعندها يَتِمُّ إرواءُ ظَمَئِنا، ونُصبِحُ آنيَةً يشرَبُ منها الآخرُونَ ويُولَدُونَ ثانِيَةً.
هل أُروِيَ عَطَشُكَ؟ وهل آمنتَ أنَّ يسُوعَ يستطِيعُ أن يُروِيَ ظَمَأَكَ، ولكنَّكَ لم تتَّخِذْ بعد بالإيمان خُطوَةَ شُربِ المياهِ الحَيَّة؟ إن لم تَختَبِرْ بعد هذا الفرح العَظيم، تُبْ عن خَطِيَّتِكَ، واترُكْ "جِرارَكَ" القَديمة خلفَكَ، وإقبَلْ يسُوعَ كمياهِكَ الحيَّة. صَلاتِي هي أنَّكَ إذا كُنتَ قد وُلِدتَ ثانِيَةً، وإن كانَ المسيحُ قد أصبَحَ منبَعَ مياهِكَ الحيَّة، أن تختَبِرَ هذا الفَرح المُضاعَف عندما تُشارِكُ الأخبارَ السَّارَّةَ معَ الآخرين، حتَّى معَ أُولئكَ المنبُوذِينَ في حضارَتِكَ ومُجتَمَعِكَ.
- عدد الزيارات: 3279