Skip to main content

الفَصلُ السَّادِس "ينبَغي أن تُولَدُوا من فَوق"

الإصحاحُ الثالِثُ هُوَ الأكثَرُ شعبِيَّةً في إنجيلِ يُوحَنَّا. إنَّهُ الإصحاحُ الذي يُسَجِّلُ لِقاءَ يسُوع معَ مُعلِّمٍ للنَّامُوس إسمُهُ نِيقُوديمُوس. بينما ندرُسُ هذا الإصحاح معاً، إقرأُوهُ في إطارِ كونِ يُوحنَّا يُخبِرُنا بما سيَقُولهُ لنا. ففي مُقدِّمَتِهِ، كتبَ يُوحَنَّا ما معناهُ: "هذا ما سأُخبِرُكُم بهِ. عندما آمنَ النَّاسُ بِيَسُوع، كانُوا يُولَدُونَ ثانِيَةً." في الإصحاحِ الثَّانِي، مجازِيَّاً، أخبَرنا يُوحَنَّا كيفَ صوَّرَ يسُوعُ الولادَةَ الثَّانِيَة مجازِيَّاً، عندما أنجزَ مُعجِزَتَهُ الأُولى.

في الإصحاحاتِ الثَّالِث والرَّابع والخامِس، سيُعطينا يُوحَنَّا أمثِلَةً عن أشخاصٍ وُلِدُوا ثانِيَةً. الأوَّلُ هُوَ مُعَلِّمُ النَّامُوس نيقُوديمُوس. يَقُولُ النَّصُّ في اللُّغَةِ الأصليَّة، أنَّهُ كانَ رجُلاً مشهُوراً ومُعَلِّماً مُحتَرَماً في أُورشليم في ذلكَ الزَّمان (3: 10). يُخبِرُنا التَّقليدُ أنَّ نيقُوديمُوس كانَ أخي يُوسِيفُوس، المُؤرِّخ اليَهُوديّ الشَّهير.

رُغمَ أنَّنا لا نقرَأُ في الإصحاحِ الثَّالِثِ أنَّ نيقُوديمُوس كانَ مَولُوداً ثانِيَةً، ولكنَّنا سنقرَأُ عنهُ ثانِيَةً في إنجيلِ يُوحنَّا. تقريباً في مُنتَصَفِ إنجيلِ يُوحَنَّا، نقرَأُ أنَّ نيقُوديمُوس دافَعَ عن يسُوع أمامَ السَّنهَدريم، وحوالي نهايَة إنجيلِ يُوحَنَّا، نقرأُ أنَّ نيقوديمُوس شارَكَ بِشجاعَةٍ بدَفنِ يسُوع (7: 50؛ و19: 39). هُنا يتدخَّلُ التَّقليدُ لِيُخبِرَنا أنَّ نيقُوديمُوس كانَ قد إختَبَرَ التَّجديد والولادَةِ الثَّانِيَة في هذه المرحلة، ولقد تحمَّلَ بِفَرحٍ خسارَةَ كُلّ ما لديهِ من أجلِ المسيح.

جاءَ نيقُوديمُوس إلى يسُوعَ ليلاً، وفتحَ معَهُ حواراً بشكلٍ مُثيرٍ للعَجَب، داعِياً إيَّاهُ: "أيُّها المُعلِّمُ، أو الرَّابِّي." وهذا أمرٌ جديرٌ بالمُلاحَظة. علينا أن نتذَكَّرَ أنَّهُ بالمعنَى الإنسانيّ، كانَ يسُوعُ نجَّاراً ولكن ذا سُمعَةٍ ليسَت رَفيعَة، لكَونِهِ منَ النَّاصِرَة، ورُغمَ ذلكَ نجدُ هُنا مُعَلِّماً عَظيماً للنَّامُوس في إسرائيل، يدعُو يسُوعَ "رابِّي أو مُعَلِّم" ويَقُولُ لهُ، "نحنُ نعلَمُ أنَّكَ أتيكَ منَ اللهِ مُعَلِّماً، لأنْ ليسَ أحدٌ يَقدِرُ أن يعمَلَ هذه الآيات التي أنَ تعمَلُ، إن لَم يكُنِ اللهُ معَهُ." منَ المُثيرِ للإهتمامِ أنَّ نيقُوديمُوس هُوَ الذي أتى إلى يسُوع. نحنُ نُشَدِّدُ كثيراً على كَونِهِ جاءَ إلى يسُوع ليلاً. ولكن لَرُبَّما جاءَ ليلاً لأنَّهُ كانَ يعمَلُ بِجَدٍّ طوالَ النَّهار، أو لأنَّهُ لم يُرِدْ أن يعرِفَ أحَدٌ أنَّهُ جاءَ ليَرَى يسُوع.

التَّفسيرُ المُهِمُّ لمجيءِ نيقُوديمُوس ليَرَى يسُوع، هي أنَّهُ كانَ مُعجَباً بالأمُورِ التي رأى يسُوعَ يعمَلُها. ومنَ الواضِحِ أنَّهُ كانَ مُهتَمَّاً أن يعرِفَ ماذا كانَ لدى يسُوع لِيَقُولَهُ. نحنُ نَخدَعُ أنفُسَنا إذا ظَنَنَّا أنَّ الأمرَ مُختَلِفٌ اليوم. فالنَّاسُ يرغَبُونَ بأن يسمَعُوا ما لدينا لِنَقُولَهُ، فقط عندما يُعجَبُونَ بما نعمَلُهُ.

تذَكَّرُوا أنَّ يسُوعَ يَضَعُ تشديداً كبيراً على الأداء أكثر ممَّا يضَعُهُ على الإعتِراف. هُنا بإمكانِنا أن نرى ثِمارَ هذهِ الفَلسفَة. قالَ أحدُهُم، "الذي نُؤمِنُ بهِ بالفِعل، فذلكَ نعمَلُهُ. وكُلُّ ما عدا ذلكَ هُوَ مُجَرَّدُ كلامٍ دينيٍّ." فقط بِسَبَبِ كَونِ مُعَلِّمِ النَّامُوس الشَّهير قد أُعجِبَ بما رأى يسُوعَ يعمَلُهُ، فقط بِسَبَبِ ذلكَ أرادَ أن يسمَعَ كلامَ يسُوع الدِّينيّ. فقط عندما يُعجَبُ النَّاسُ بما يَرَونَنا نَعمَلُ، عندهَا سيهتَمُّونَ بكلامِنا الدِّينيّ.

بِهذهِ الطَّريقَة بدأَ هذا الحوارُ المُربِك. عندما قدَّمَ نيقُوديمُوس تصريحاً صادَقَ على هُوِيَّةِ يسُوع، عندَها  فُتِحَ البابُ أمامَ يسُوع ليُشارِكَ بحدِيثِهِ الدِّينِيّ: "الحَقَّ الحَقَّ أقُولُ لكُم. إن كانَ أحدٌ لا يُولَدُ من فَوق، لا يَقدِرُ أن يرَى ملكُوتَ الله. إن كانَ أحدٌ لا يُولَدُ منَ الماءِ والرُّوح، لا يَقِدرُ أن يدخُلَ ملكوتَ الله. المَولُودُ منَ الجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، والمَولُودُ منَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لا تَتَعجَّبْ أنِّي قُلتُ لكَ ينبَغي أن تُولَدُوا من فَوق."

هذه الكَلِماتُ تَجعَلُ منَ الإصحاحِ الثَّالِث من إنجيلِ يُوحَنَّا "إصحاحَ الولادَةِ الجَديدة." مُولُودٌ من جَديد! ماذا يعني هذا؟ بينما نقتَرِبُ من مَوضُوعِ الولادَةِ الجديدة، أوَّلاً علينا أن نطرَحَ السُّؤال: "ما هُوَ القَصدُ من الوِلادَةِ الجديدة؟" لاحِظُوا أنَّ يسُوعَ لا يُعَلِّمُ أنَّ الولادَةَ الجديدة هي غايَةٌ بِحَدِّ ذاتِها. فالوِلادَةُ الجديدة هي وسيلَةٌ تُؤَدِّي إلى غايَة، بحَسَبِ يسُوع. فيسُوعُ لا يَقُولُ فقط، "ينبَغي أن تُولَدُوا من فَوق." بل ويَقُولُ أيضاً لنا لماذا علينا أن نُولَدَ ثانِيَةً.

ينبَغي أن نُولَدَ ثانِيَةً، لأنَّنا لا نستطيعُ أن نرى ملكُوتَ اللهِ ولا أن ندخُلَ ملكُوتَ اللهِ إلا إذا وُلِدنا ثانِيَةً. فكَما تَرَون، الحقيقَةُ الأساسيَّةُ هُنا هي ملكُوتُ الله، وليس الولادَة الجديدة. فمَلَكُوتُ اللهِ هُوَ الغايَة؛ أمَّا الولادةُ الجديدة فما هِيَ إلا وَسيلَةٌ تُؤَدِّي إلى الغايَة التي هي ملكُوتُ الله.

فبالنِّسبَةِ ليسُوع، ينبَغي علينا أن نُولَدَ ثانِيَةً، لأنَّ المَولُودَ منَ الجَسَدِ هُوَ مُجَرَّدُ جَسد. عندما يستَخدِمُ الكتابُ المُقدَّسُ كَلِمَة "جسد"، فهُوَ يعني، "الطبيعة الإنسانيَّة، بدُونِ مُساعَدَةِ الله." فوِلادَتُنا الجسديَّة جعَلَت منَّا مُجَرَّدَ مخلُوقاتٍ جسديَّة. وبإمكانِنا القَول أنَّ يسُوعَ كانَ يُعَلِّمُ ما معناهُ أنَّ الوِلادَةَ الجسديَّة جعلَت منَّا حيواناتٍ ناطِقَة. ولكن إذا أرَدنا أن نَكُونَ خلائِقَ رُوحيَّة، فعَلَينا أن نُولَدَ ولادَةً رُوحيَّة.

ما هُوَ ملكُوتُ الله؟ تعلَّمنا الجوابَ على هذا السُّؤال عندما درَسنا العهدَ القَديم والمَوعِظَة على الجَبَل (متَّى 5- 7). ملَكُوتُ اللهِ هُوَ المجالُ الذي يملُكُ اللهُ فيهِ. والحقيقَةُ هي بِبَساطَةٍ التَّالِيَة: اللهُ مَلِكٌ، ولديهِ مجالٌ يملِكُ عليهِ. فإن كانَ اللهُ يملِكُ عليكَ، فأنتَ إذاً جزءٌ منَ ملكُوتِهِ. وإن كُنتَ من رعاياهُ المُخلِصِين، وإن كانَ هُوَ مَلِكُ المُلُوكِ ورَبُّ الأربَاب، عندَها تَكُونُ قد رأَيتَ ملكُوتَ اللهِ وتكُونُ قد دَخَلتَهُ.

يعتَقِدُ الكَثيرُونَ أنَّ ملكُوتَ اللهِ هُوَ السماءُ بعدَ الموت. وتفسيرُهُم لكَلِماتِ يسُوع في لقائِهِ معَ نيقُودِيمُوس هو، "لن تَدخُلُوا أبداً السماءَ عندما تَمُوتُون إلا إذا وُلِدتُم من جديد." ولكِنَّني مُقتَنِعٌ أنْ ليسَ هذا ما قَصَدَهُ يسُوعُ عندما نطقَ بهذه الكلمات المألُوفَة.

بل كانَ جَوهَرُ ما قالَهُ يسُوعُ لِنِيقُودِيمُوس هُوَ التَّالِي: "لن تَرَ أبداً حقيقَةَ كَونِ اللهِ يُريدُ أن يَكُونَ مَلِكَكَ، إلاَّ أو حتَّى تُولَدَ من جديد، ولن تدخُل َأبداً ذلكَ النَّوع منَ العلاقَةِ معَ اللهِ إلا أو حتَّى تُولَدَ من جديد. ولكن، عندَما تُولَدُ من جديد، سوفَ ترى اللهَ مَلِكاً لكَ، وسوفَ تدخُلُ ذلكَ النَّوع منَ العلاقَةِ معَ الله – ليسَ عندما تَمُوت – ولكن الآن فَوراً!" فبالنِّسبَةِ ليسُوع، أوَّلُ نتيجَةٍ للولادَةِ من جديد هي أن نعتَرِفَ كما إعتَرَفَ تُوما قائلاً ليسُوع المُقام منَ الأموات، "رَبِّي وإلهِي!" (يُوحَنَّا 20: 28)

لقد كانَ الرَّسُولُ بُولُس يُعَلِّمُ الحقيقَةَ ذاتَها عندَما أعلَنَ أنَّهُ لا يقدِرُ أحدٌ أن يَقُولَ أنَّ يسُوعَ رَبٌّ إلا بالرُّوحِ القُدُس (1كُورنثُوس 12: 3). في العهدِ الجديد، يرى المُؤمِنُونَ ملكُوتَ اللهِ ويدخُلُونَهُ، عندما يدعُونَ يسُوع رَبَّاً ومُخَلِّصاً. ونحنُ سوف نرى وندخُلُ علاقَةَ المَلَكُوت هذه معَ يسُوع، عندَما نُولَدُ من جديد. أوَّلُ نتيجَةٍ لِمُعجِزَةِ كَونِنا وُلِدنا من جديد، ستَكُونُ أنَّ المسيحَ سيَكُونُ بالواقِعِ والفِعل رَبَّنا ومَلِكَنا.

منذُ عدَّةِ سنواتٍ، أخذتُ بعضَ شيُوخِ الكنيسةِ التي كُنتُ أرعاها إلى خُلوَةٍ رُوحيَّة. وطلبتُ منهُم أن يتأمَّلُوا بِسُؤالَين وأن يُجيبُوا عليهِما كِتابَةً. السُّؤالُ الأوَّلُ الذي طرحتُهُ كانَ: بِناءً على تعليمِ يسُوع في النِّصفِ الثَّانِي من الإصحاحِ السَّادِس من إنجيلِ متَّى، ماذا ينبَغي أن تَكُونَ أولويَّاتُكُم؟ السُّؤالُ الثَّانِي كانَ: بِناءً على كيفَ تصرِفُونَ وقتَكُم، مالَكُم، طاقَتَكُم، وعواطِفَكُم، وكُلَّ الأشياء التي تُشَكِّلُ جَوهَرَ حياتِكُم، ما هي أولويَّاتُكم حرفِيَّاً؟

بينما كانُوا يُجيبُونَ على هذينِ السُّؤالَين، شجَّعتُهُم أن يكُونُوا صادِقينَ – ولقد كانُوا صادِقينَ جداً. كُنتُ أنا من أسَّسَ هذه الكنيسة، ومُعظَمُهُم كانُوا يحضُرُونَ لعدَّةِ سنواتٍ. وكانُوا قد سَمِعُوا تعليمِي أكثَرَ من مَرَّة. ولقد صُدِمتُ عندما قالَ أحَدُهم، "للمرَّةِ الأُولى في حياتِي أرى أنَّ يسُوعَ قالَ أنَّهُ يُريدُ أن يَكُونَ أوَّلَ أولَويَّاتِي. وأنَّ ملكُوتَ اللهِ ينبَغي أن يَكُونَ أوَّلَ أولويَّاتِي. فهذا ما يُعَلِّمُ بهِ يسُوعُ بِوُضُوحٍ هُنا. ولكنَّني لم أرَ هذه الحقيقَةَ من قَبل." ثُمَّ قالَ خلالَ إجابَتِهِ على السُّؤالِ الثَّانِي، "بناءً على طريقَةِ عَيشي، لأَكُونَ صريحاً تماماً، أهَمُّ أمرٍ في حياتِي هُوَ أنا، زوجَتي، طِفلي، تقاعُدِي، وأمانِي – وما شابَهَ ذلكَ. أتساءَلُ ما إذا كانَ لِيَسُوع أيُّ مكانٍ في أولويَّاتِي."

وعندما كانُوا جميعاً قد أجابُوا على أسئِلَتي بطريقَةٍ مُشابِهَة، شارَكتُهُم ببضعَةِ أعدادٍ من الإصحاحِ الثَالِث من إنجيلِ يُوحَنَّا. ثُمَّ قُلتُ، "قالَ يسُوع، عندَما تُولَدُونَ من جديد، سوفَ ترَونَ أنَّ اللهَ ينبَغي أن يَكُونَ مَلِكَكُم. فَعِندما تُولَدُونَ من جديد، سوفَ تدخُلُونَ في علاقَةٍ معَ اللهِ، حيثُ يَكُونُ اللهُ بالحقيقَةِ وبالفعلِ مَلِكَكُم." هذا لا يعني أنَّهُ سيحظَى دائماً بالمكانَةِ الأُولى في حياتِكُم، الأمرُ الذي كانَ سيجعَلُ منكُم كامِلين، ولكنَّ هذا يعني أنَّكُم ستَكُونُونَ على الأقَلِّ قد رأيتُم ودخَلتُم في علاقَةٍ معَهُ.

كانت هذه كنيسة إنجيليَّة، حيثُ إعتَرَفَ كُلُّ واحِدٍ أنَّهُ مَولُودٌ ثانِيَةً عندما إنضَمَّ إلى الكنيسة. فقُلتُ لهؤُلاءِ الشُّيُوخ، "كَثيرُونَ منكُم قالُوا أنَّهُم لم يرُوا حقيقة المَلَكُوتِ من قَبل، وكثيرُونَ منكُم كانُوا صادِقينَ ليقُولُوا أنَّهُم لم يدخُلُوا بعدُ في هذا النَّوع من العلاقة مع الله، حيثُ يكُونُ هُوَ مَلِكَكُم، والأولويَّة الأُولى في حياتِكُم – وقِمَّةُ أَولَوِيَّاتِ أهدافِكُم. فإن لم تروا ملكُوتَ الله في هذا الإطار، وإن لم تدخُلُوا إلى ملكُوتِ اللهِ، الأمرانِ اللذانِ يُشَكِّلانِ أوَّلَ بُرهانَينِ للولادَةِ الثَّانِيَة، فأيُّ حقٍّ لكُم أن تدَّعُوا أنَّكُم مَولُودِينَ ثانِيَةً؟"

عندما شارَكَ يسُوعُ بكلامِهِ الدِّينيّ معَ عُضُو السَّنهَدريم نيقُوديمُوس، سألَهُ هذا الأخير سُؤالاً مرَّتَين. وكانَ سُؤالُهُ، "كَيفَ؟ كيفَ يُمكِنُ للإنسانِ أن يُولَدَ ثانِيَةً؟ كيفَ يُمكِنُ للإنسانِ وهُوَ شَيخٌ أن يُولَدَ ثانِيَةً؟ ألَعَلَّهُ يدخُلُ بطنَ أُمِّهِ ثانِيَةً ويُولَدُ؟" يبدُو أنَّ يسُوعَ إنزَعَجَ من هذا السُّؤال. وأجابَهُ يسُوعُ بما معناهُ، "ها أنتَ مُعَلِّمٌ مشهُورٌ في إسرائيل. ولقد إستَخدمتُ أمامَكَ إيضاحاً عادِيَّاً عامِّيَّاً أرضِيَّاً، ولم تفهَمْهُ. فماذا ستفعَلُ إن أخبَرتُكَ بأُمُورٍ رُوحيَّةٍ، مثلَ التَّالِية: وليسَ أحدٌ صَعِدَ إلى السَّماء، إلا الذي نزلَ منَ السَّماء، إبنُ الإنسان الذي هُوَ في السَّماء."

بينما كانَ يسُوعُ يَقُولُ هذا، أعتَقِدُ أنَّهُ كانَ ينظُرُ إلى عَينَي نيقُوديمُوس. كانَ يسُوعُ يَقُولُ لمُعَلِّمِ النَّامُوس المُمَيَّز هذا، أنَّهُ هُوَ بِنفسهِ كانَ في السَّماءِ في نفسِ الوقتِ الذي كانَ يقِفُ أمامَهُ ويتكلَّمُ معَهُ. وعندما قدَّمَ يسُوعُ هذا التَّصريح، لم يتجرَّأْ نيقُوديمُوس ولا حتَّى بأن يسألَ، "كيف؟"

ثُمَّ، وبِهَدَفِ التفسيرِ والتَّلخيص، ذَكَّرَ يسُوعُ نيقُوديمُوس بِقِصَّةٍ مُسَجَّلَةٍ في سفرِ العدد. كانَ بنُو إسرائيل في البَرِّيَّة، وكانُوا يتذَمَّرُون. وبما أنَّ اللهَ يكرَهُ التَّذَمُّر (عدد 14: 26- 31، فيلبِّي 2: 14)، أرسَلَ اللهُ حيَّاتٍ لتَلسَعَ المُتَذَمِّرين. ثُمَّ أرسَلَ اللهُ رسالَةَ رَحمَة، إذ أمرَ مُوسى بإقامَةِ حَيَّةٍ نُحاسِيَّةٍ كعمودٍ في وسطِ المحلَّة. وأُعلِنَت رِسالَةُ الرَّحمَةِ لِكُلِّ من لسَعَتْهُ الحيَّة: "إن كانَ بإمكانِكَ أن تزحَفَ أو تجعَلَ أحداً يحمِلَكَ إلى وسطِ المحلَّة، حيثُ تتطلَّعُ إلى الحيَّةِ النُّحاسِيَّةِ، سوفَ تشفَى من لَسعَةِ الحيَّة." (عدد 21)

قالَ بعضُهُم، "إنَّ مُجَرَّدَ النَّظَرِ إلى قِطعَةٍ منَ النُّحاس لن تشفيَني من لَسعَةِ أفعَى." وهكذا ماتَ هؤُلاء بِلَسعاتِ الأفاعِي. ولكن قالَ آخرُون، "بالحقيقَةِ لا نفهَمُ كيفَ يُمكِنُ لمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلى الحيَّةِ النُّحاسِيَّةِ أن يشفِيَ من لَسعاتِ الأفاعي،ولكنَّ هذا هُوَ أملَنُا الوحيد." فتدبَّرُوا أحداً ليَنقُلَهُم أو لِيَجُرَّهُم، أو زحفُوا بأنفُسِهم إلى وسطِ المحلَّة، ونَظَرُوا إلى تلكَ الحَيَّةِ النُّحاسِيَّة. وشُفِيُوا من لَسعاتِِ الأفاعي بمُجرَّدِ نظَرِهم إليها بإيمانٍ."

تُشَكِّلُ هذه  مُجَرَّدَ مُعجِزَةٍ واحِدَةٍ من مُعجِزاتِ العهدِ القَديم المُتعدِّدَة، إلى أن نقرَأَ الإصحاحِ الثَّالِث من هذا الإنجيل. في هذه المَرحَلَة في حوارِهِ معَ نيقُوديمُوس، قدَّمَ يسُوعُ أكثَرَ تصريحٍ عقائِديٍّ سجَّلَهُ كُتَّابُ الأناجيلِ الأربَعَة (يُوحَنَّا 3: 14- 21). ولِكَي نُفَسِّرَ ونُلَخِّصَ، يُخبِرُنا هذا المُعَلِّمُ العظيمُ قائِلاً: "ينبَغي أن أُرفَعَ (أُصلَبَ) على الصَّليب. ينبَغي أن أُرفَعَ على الصَّليب، لأنَّني إبنُ اللهِ الوَحيد. وكإبنِ اللهِ الوحيد، بِمَوتِي على الصَّليب سأُصبِحُ حَلَّ اللهِ الوحيد لمُشكِلَةِ الخَطيَّة، لأنَّني المُخَلِّصُ الوحيدُ من الخطيَّة. عندما سأُرفَعُ على ذلكَ الصَّليب، إن كانَ النَّاسُ سيَنظُرُونَ إليَّ بإيمانٍ وأنا مُعَلَّقٌ على الصَّليب، تماماً كما كانَ يُشفَى أُولئكَ الذين لدغتهُمُ الحَيَّاتُ بمُجَرَّدِ نظَرِهِم إلى الحيَّةِ النُّحاسِيَّة، كذلكَ أيضاً فإنَّ الذين ينظرونَ بِعَينِ الإيمان إليَّ وأنا مُعَلَّقٌ على الصَّليب، سوفَ يُشفَونَ من مُشكِلَةِ الخطيَّة. وسوفَ يُصبِحُونَ مُقدَّسِين، وسوفَ يحصلُونَ على حياةٍ أبديَّةٍ خالِدَة."

 بِحَسَبِ يُوحَنَّا المعمدان، كانَ يسُوعُ المسيحُ الله-الإنسان حملَ اللهِ الذي جاءَ إلى العالم لِيَنزِعَ خطايا العالم. وهُنا نتعلَّمُ من يسُوع أنَّهُ كانَ سيَجِدُ حَلاً لِمُشكِلَةِ الخَطيَّة بمَوتِهِ على الصَّليب بدلاً عنَّا جميعاً. ولقد أوضَحَ يسُوعُ هذا الأمر تماماً عندما قالَ لِنِيقُوديمُوس: "هكذا أحَبَّ اللهُ العالم حتَّى بذلكَ إبنَهُ الوحيد، لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ من يُؤمِنُ بهِ، بل تَكُونُ لهُ الحياةُ الأبديَّة." (يُوحَنَّا 3: 16)

كانَ هذا جَوهَر ما أجابَ بهِ يسُوعُ على سُؤالِ نيقُوديمُوس لهُ، "كيفَ يكُونُ ذلكَ؟" فبِمعنىً ما، كانَ جوابُ يسُوع على سُؤالِ نيقوديمُوس "كيف؟" بكلمَةٍ واحِدَة هي، "آمِنْ." ماذا يعني أن نُؤمِنَ؟ وكما أشَرتُ سابِقاً، في كُلِّ إصحاحاتِ إنجيلِهِ، يُخبِرُنا يُوحَنَّا ويُظهِرُ لنا ماذا يعني أن نُؤمِنَ. في هذا الإصحاح، نجِدُ الإيمانَ مُوضَّحاً ومُفَسَّراً بأُولئكَ الأشخاصِ الذينَ كانُوا ينظُرُونَ إلى الحيَّةِ النُّحاسِيَّةِ ويُشفَونَ من لَسعاتِ الأفاعي.

وبطريقَةٍ ما، بمُجَرَّدِ فعلِ الإيمان، ننظُرُ أنا وأنتَ إلى يسُوع على صَليبِهِ ونَقُولُ لله، "أنا أُؤمِنُ أنَّ يسُوعَ هُوَ إبنُكَ الوحيد؛ وأنا أُؤمِنُ أنَّ يسُوعَ هُوَ حَلُّكَ الوحيد لمُشكِلَةِ الخطيَّة، ويسُوع هُوَ المُخَلِّصُ الوحيدُ الذي أرسَلتَهُ. وها أنا الآن أُؤمِنُ بإبنِكَ ليَكُونَ مُخَلِّصِي الشَّخصِيَّ."

لقد كانَ يسُوعُ يَقُولُ لِنِيقُودِيمُوس، ولكَ ولي، أنَّ كُلَّ من يُؤمِنُ يُمكِنُهُ أن يُولَدَ من جديد. وإن كانَ لنا دَورٌ في الولادَةِ الثَّانِيَة، فإنَّ دَورَنا في هذه المُعجِزة هُوَ أن نُؤمِنَ. وهذا بَسيطٌ لِلغَايَة. دَورُنا هُوَ أن نُؤمِنَ أنَّ المسيح ماتَ على الصَّليب من أجلِ خَطايانا.

أمَّا دَورُ اللهِ في الولادةِ الجديدةَ، فَهُوَ بُعدٌ لن يَكُونَ بإمكانِنا أبداً أن نفهَمَهُ. فأنتَ لم يتوجَّبْ عليكَ أن تفهَمَ عمليَّةَ الولادَةِ الجسديَّة لكَي تتمكَّنَ من أن تُولَدَ في هذا العالم. بل كُنتَ غيرَ قادِرٍ على أن تعمَلَ شَيئاً حِيالَ ولادَتِكَ الجَسَدِيَّة. فأنتَ وُلِدتَ بِكُلِّ بَساطَةٍ. علَّمَ يسُوعُ أنَّهُ ينبَغي أن نُولَدَ منَ الرُّوح. ولكنَّهُ لم يُعَلِّمْ أنَّهُ يتوجَّبُ علينا أن نَلِدَ أنفُسَنا رُوحيَّاً. بل علينا أن نُلَبِّيَ بعضَ الشُّرُوط؛ علينا أن نَقُومَ بما علينا، أي أن نُؤمِنَ، وعندَها سيَقُومُ اللهُ بِدَورِهِ. اللهُ سيُعطينا حياةً أبديَّةً خالِدَة من خلالِ إختِبارِ الولادَةِ الجديدة.

شَبَّهَ يسُوعُ دورَ اللهِ في الولادَةِ الجديدة بالرِّيح. فنحنُ نسمَعُ صوتَ الرِّيح، ولكنَّنا لا نراهُ. عندما يحدُثُ إعصارٌ كبير، يَكُونُ خُبراءُ الطَّقسِ أوَّلُ من يُوافِقُ أنَّهُ ليسَ بإمكانِنا أن نتنبَّأَ بالمكانِ الذي سيَضرِبُهُ رِيحُ الإعصارِ في المرحلَةِ المُقبِلَة. وهكذا قدَّمَ يسُوعُ هذه الإستِعارَة المجازِيَّة، ثُمَّ أعلَنَ قائِلاً، "هكذا كُلُّ من وُلِدَ منَ الرُّوح." لن نفهَمَ أبداً دورَ اللهِ في الولادَةِ الجديد، ولن يَكُونَ علينا أن نفهَمَ دورَ اللهِ لكي نُولَدَ ثانِيَةً. فدَورُنا كانَ بَسيطاً جداً. ولقد لخَّصَ يسُوعُ دورَنا بِكلِمَةٍ واحِدَة: "آمِنْ."

هذه الأعدادُ التي فَسَّرتُها ولخَّصتُها، أصبَحَت أكثرَ تصريحٍ عقائِديٍّ يُقدِّمُهُ يسُوعُ، عندما قالَ لنيقوديمُوس أنَّ كُلَّ من يُؤمِنُ بما قالَهُ عن معنَى موتِهِ على الصَّليب لن يُدانَ، بل ستَكُونُ لهُ الحياةُ الأبديَّة. ومن لا يُؤمِنُ يُدَن، ليسَ بِسَبَبِ خطاياهُ، بَل لأنَّهُ لم يُؤمِنْ بما قالَهُ يسُوعُ عن مَعنَى مَوتِهِ على الصَّليب (يُوحَنَّا 3: 16- 18). هذا هُوَ أكَثَرُ تصريحٍ عقائِديٍّ يُقدِّمُهُ يسُوع.

بالإضافَةِ إلى كُلِّ ما شارَكتُ بهِ عن هذا التَّعليمِ الذي قدَّمَهُ يسُوع، كانَ يَسُوعُ يَبعَثُ بِرسالَةٍ من خلالِ هذه العُضوِ المُمَيَّزِ في السِّنهَدريم، للقادَةِ الدِّينيِّين للشعبِ اليَهُودي. وكانَ جَوهَرُ هذه الرِّسالَة: "ينبَغي أن تُولَدُوا مِن فَوق. ينبَغي أن تَبدَأُوا بِهذه الطريقة، وينبَغي أن تبدَأُوا معِي!"

  • عدد الزيارات: 3308