Skip to main content

الفَصلُ الثَّانِي "الكَلِمَةُ الحَيَّة"

"يُوحنَّا 1: 1- 18"

"في البَدءِ كانَ الكلمة والكلِمَةُ كانَ عندَ الله وكانَ الكلمةُ الله. هذا كانَ في البَدءِ عندَ الله. كُلُّ شَيءٍ بهِ كانَ وبِغَيرِهِ لم يكُنْ شَيءٌ مِمَّا كان. فيهِ كانت الحَياةُ والحَياةُ كانت نُور النَّاس. والنُّورُ يُضيءُ في الظُّلمَةِ والظُّلمَةُ لم تُدرِكْهُ. كانَ إنسانٌ مُرسَلٌ من الله إسمُهُ يُوحنَّا. هذا جاءَ لِلشَّهادَة لِيَشهَدَ للنُّور لكَي يُؤمِنَ الكُلُّ بِواسِطَتِهِ. لم يكُنْ هُوَ النُّور بَل لِيَشهَدَ للنُّور. كانَ النُّورُ الحَقِيقيُّ الذي يُنيرُ كُلَّ إنسانٍ آتِياً إلى العالم. كانَ في العالم وكُوِّنَ العالَمُ بهِ ولم يعرِفْهُ العالم. إلى خاصَّتِهِ جاءَ وخاصَّتُهُ لم تقبَلْهُ. وأمَّا كُلُّ الذين قَبِلُوهُ فأعطاهُم سُلطاناً أن يَصيرُوا أولادَ الله أي المُؤمنُونَ بإسمِهِ. الذين وُلِدُوا ليسَ من دَمٍ ولا من مَشيئَةِ جَسَدٍ ولا من مَشيئَةِ رَجُلٍ بَلْ منَ الله. والكَلِمَةُ صارَ جسداً وحَلَّ بينَنا ورأينا مجدَهُ مجداً كما لِوَحِيدٍ من الآب مَمْلُوءاً نِعمَةً وحَقَّاً. يُوحنَّا شَهِدَ لهُ ونادَى قائِلاً هذا هُوَ الذي قُلتُ عنهُ إنَّ الذي يأتي بعدِي صارَ قُدَّامي لأنَّهُ كانَ قَبلِي. ومن مِلئِهِ نحنُ جَميعاً أخذنا ونِعمَةً فوقَ نعمة. لأنَّ النَّامُوس بمُوسى قد أُعطِيَ. أمَّا النِّعمَةُ والحَقُّ فَبِيَسُوع المسيح صارا. اللهُ لم يَرَهُ أحدٌ قَطّ. الإبنُ الوَحيدُ الذي في حُضنِ الآب هُوَ خَبَّر."

في مُقَدِّمَةِ دراسَتِنا لهذا الإنجيل، حاولتُ أن أضعَ أمامَكُم إنجيلَ يُوحنَّا في إطارِهِ الصحيح، وذلكَ بمُشارَكَتِكُم ببعضِ المفاتيح التي أعتَقِدُ أنَّها ستفتَحُ أمامَكُم رسالةَ الإنجيل الرَّابِع الفَريدة. في هذا الفَصل، أوَدُّ أن أبدَأَ دِراسَةَ هذا الإنجيل، عدداً بعدَ الآخر.

قالَ أحدُ وُعَّاظِ الرِّيف المَشهُورين، "عندما تُلقِي عِظَةً، عليكَ أن تعملَ ثلاثَةَ أشياء: أوَّلاً، عليكَ أن تَقُولُ للناس ما ستُخبِرُهم بهِ. ثُمَّ عليكَ أن تُخبِرَهُم. ثُمَّ عليكَ أن تُخبِرَهُم بما سبقَ وأخبَرتَهُم بهِ!"

بمعنى ما، يَصِفُ هذا التَّعليمُ طريقَةَ تنظيم إنجيل يُوحنَّا. فالأعدادُ الثمانِيَة عشر الأُولى في هذا الإنجيل تُسمَّى من قِبَلِ المُفسِّرين بالمُقدِّمَة، حيثُ يُخبرُنا الرَّسُولُ يُوحنُّا بما سيقُولُهُ لنا. ثُمَّ إبتداءً منَ العدد 19 منَ الإصحاحِ الأوَّل، وُصُولاً إلى العدد 29 منَ الإصحاحِ العِشرين، يُخبِرُنا يُوحَنَّا بأَخبارِهِ. ثُمَّ، في الأعداد 30 و31 من الإصحاحِ العشرين، يُخبِرُنا يُوحَنَّا بما أخبَرَنا بهِ. تُخبِرُنا هذهِ الأعدادُ المِفتاحِيَّةُ من هذا الإنجيل لماذا أخبَرنا يُوحنَّا بما أخبَرنا بهِ.

 بِطريقَةٍ ما، كُلُّ ما سيُخبِرُنا بِهِ إنجيلُ يُوحنَّا في الإصحاحات الأحد والعِشرين، يُقدَّمُ لنا بِشكلِ مُوجز في هذه المُقدِّمةِ الصغيرةِ التي يُعطينا إيَّاها يُوحنَّا في الأعداد الثمانِيَة عشر الأُولى من إنجيلِهِ. في هذه الأعداد الثمانِيَة عشر الأُولى، يُخبِرُنا يُوحنَّا بما سيقُولُهُ لنا. يُخبِرُنا أنَّ الكلمة كانَ عندَ الله في البَدءِ، وأنَّ الكلمة كانَ الله. عندما يُشيرُ يُوحنَّا إلى "الكلمة"، كانَ يقصُدُ يسُوع المسيح، الذي كانَ منذُ البدءِ معَ اللهِ، وكانَ الله.

كما أشَرتُ مُسبَقاً في المُقدِّمَة، هذا الإنجيلُ هُوَ بِجُملتِهِ عن يسُوع المسيح. لذلكَ عندما نقرَأُ إنجيلَ يُوحنَّا، علينا أن نقتَرِبَ منهُ باحِثين عن المسيح. في العددِ الأوَّلِ من هذا الإنجيل، عندما يُشيرُ يُوحَنَّا إلى يسُوع المسيح كالكَلمة، يُقدِّمُ بذلكَ أوَّلَ صُورَةٍ ليسُوع.

فماذا يَقصُدُ الرَّسُولُ يُوحنَّا عندما يُشيرُ إلى يسُوع المَسيح كالكلمة؟ الكلمة هي وسيلَةُ نقلٍ للتعبير. فإذا كانت لديَّ فكرَةٌ في عقلي وأردتُ أن أُشارِكَ هذه الفكرة معَ عقلِكَ، فإنَّ أداةَ النقل التي تنقُلُ الفكرَةَ من عقلي إلى عقلِكَ هي الكلمة.

الفكرة التي يُشيرُ إليها يُوحنَّا هُنا هي أنَّهُ في البِدايَة، تماماً كما يُخبِرُنا سفرِ التَّكوين، كانَ اللهُ منذُ البَدء. ولكن، في هذا الوصف المُوحَى بهِ، يُخبِرُنا يُوحنَّا أنَّهُ في البَدءِ لم يكُنِ اللهُ وحيداً. ففي سفرِ التَّكوين، الضميرُ المُستَخدَمُ إشارَةً إلى الله هُوَ بِصِيغَةِ الجَمع، وبِحَسَبِ يُوحَنَّا، في البَدءِ كانَ الكلمة معَ الله. عندَما صَلَّى يسُوعُ لأجلِ رُسُلِهِ، طَلَبَ منَ اللهِ أن يَرُدَّ لهُ المجدَ الذي كانَ لهُ قبلَ كَونِ العالم. (يُوحَنَّا 17: 5). في البَدءِ، بحَسَبِ يُوحنَّا، كانَ لدى الله فكرَةً على قَلبِهِ أرادَ أن يُشارِكَها معَ البَشَر. يسُوع المسيح كانَ وسيلَةَ النَّقلِ، أوِ الكَلِمَة التي حمَلَت هذه الفكرة من عقلِ اللهِ إلى عقلِ الإنسان.

العددُ الثامِن عشر من الإصحاح الأوَّل من إنجيلِ يُوحنَّا، الذي قرأتُهُ على مسامِعِكُم منذُ دقائِق، يختُمُ مُقدِّمَةَ إنجيلِ يُوحنَّا، ويُقدِّمُ تصريحاً عظيماً عن يسوع: "اللهُ لم يَرَهُ أحدٌ قَطّ؛ الإبنُ الوَحيدُ الذي في حُضنِ الآبِ هُوَ خَبَّر." (يُوحَنَّا 1: 18)

يُخبِرُنا يُوحنَّا في العددَين الرَّابِع عشَر والثامِن عشر من هذا الإصحاحِ الأوَّل من إنجيلِ يُوحنَّا أنَّ الكَلِمَةَ صَارَ جَسَداً، وعاشَ بينَنا، لكي نستطيعَ أن نرَى أفكارَ الله، التي أعلَنها لنا يسُوعُ بالكامِل. لاحِقاً في هذا الإنجيل، سيستشهِدُ يُوحَنَّا بِقَولِ يسُوع، "أنا هُوَ الحَقُّ" وكذلكَ، "لِهذا وُلِدتُ، لأشهَدَ لِلحَقّ." (14: 6؛ 18: 37) لقد كانَ يسُوعُ الحقَّ الذي أرادَ اللهُ أن يُشارِكَهُ معكَ ومَعي.

يُخبِرُنا الكتابُ المقدَّسُ في أكثَرِ من مكانٍ أن لا أحد قد رأى الله. بل رأى الناسُ إعلاناتٍ من الله. وإختبَرَ الناسُ ظُهُوراتٍ لله، كانَ بعضُها مَهُوباً ومُدهِشاً، ولكنَّ هذا التعبير عن الله، أو إعلان الله، أو ظُهُور الله الذي رأوهُ، لم يكُنْ كُلّ ما يُمكِن أن يَرَوهُ عنِ الله. فلا أحد يستطيعُ أن يرى اللهَ بكَمالِهِ. يُخبِرُنا العهدُ القَديمُ أنَّ لا أحَد يستطيعُ أن يرى اللهَ ويعيش.  (خُرُوج 33: 20) وهكذا نجدُ أن لا أحد رأى الله بهذا المعنى الكامِل. فبحَسَبِ يُوحَنَّا، أقرَبُ مسافَةٍ بإمكانِنا أنا وأنتَ أن نرى منها إعلاناً كامِلاً لله، هي ما نراهُ عندَما ننظُرُ إلى يسُوع. هذا سَبَبٌ آخر لكَونِ "متحَفِ اللوحاتِ الرُّوحيَّة" هُوَ الإنجيلُ المُفضَّلُ عندِي بينَ الأناجيل الأربَعة.

"...الإبنُ الوَحيدُ الذي في حُضنِ الآب..." هذا يعني أنَّهُ في علاقَةٍ حَميمَةٍ معَ الآب. فأن يكُونَ الإنسانُ "في حُضنِ" شخصٍ ما، يعني أنْ يكُونَ جالساً عن يمينِهِ على المائِدة، أو بكلماتٍ أُخرى، في أكثَرِ مكانٍ حميمٍ في العلاقة. كانَ الإبنُ معَ الآب منذُ البَدء، وكانَ في علاقَةٍ حَميمَةٍ معَ اللهِ الآب. هذا الإبنُ الذي كانَ في هذه العلاقة الحميمة معَ اللهِ الآب، أعلنَ اللهَ وخَبَّرَ بهِ بشكلٍ كامِل.

 إنَّ كلمة "خبَّرَ" باللُّغَةِ اليُونانِيَّةِ الأصليَّة هي كلمة "فسَّرَ." عندما تدرُسُ اللُّغةَ اليُونانيَّة في كُلِّيَّةِ اللاهُوت، تدرُسُ في السنة الأُولى اللُّغةَ اليونانيَّة في قواعِدها اللُّغَويَّة وما شابهَ ذلك. إذا قُمتَ بِدِراسَةِ أربَعِ سنواتٍ من اللغةِ اليونانيَّة، بعدَ السنة الأُولى من دراسةِ اللغةِ اليونانيَّة، ستكُونُ السنواتُ الثلاث التالية ما يُسمُّونَهُ Exegesis أو تفسير. (Ex تعني: إستِخراج مِن، و Gesis تعني: الحقيقة أو المَعرِفَة.) فلِكَي تُفسِّرَ عدداً من أعدادِ الكتابِ المقدَّس، يعني أن تستخرِجَ من هذا العدد كُلَّ الحقيقة الكامِنة فيهِ. يُخبِرُنا يُوحَنَّا أنَّ كُلَّ الحقيقة التي يتمكَّنُ العقلُ البَشَرِيُّ أن يفهَمَها عنِ الله كانت مُتَوَقَّعَةً من قِبَلِ يسُوع المسيح.

كَما أشَرتُ عندما كُنَّا ندرُسُ حياةَ أشخاصٍ مثل إبراهيم، مُوسى، وداوُد في العهدِ القَديم، عندما كانَ اللهُ يُريدُ أن يُشارِكَ مفهُوماً عظيماً مثل الإيمان، كانَ يُغَلِّفُ هذا المَفهوم بِشخصٍ. يُخبِرُنا يُوحَنَّا أنَّ يَسُوعَ كانَ الشَّخص الذي جسَّدَ اللهُ فيهِ كُلَّ الحقِّ الذي أرادَ إعلانَهُ لهذا العالم. لقد كانَ يسُوعُ ذلكَ الشَّخص بِكُلِّ ما كانَهُ، وبِكُلِّ ما عَمِلَهُ. ولقد كمَّلَ يسُوعُ هذا الدَّور أيضاً بِكُلِّ ما قالَهُ. في الأناجيل، عندَما نقرَأُ: "فَفَتَحَ فاهُ وعَلَّمَهُم قائِلاً،" علينا أن نُدرِك أنَّ يسُوع المسيح كانَ أعظَمَ إعلانٍ أعطاهُ اللهُ لهذا العالم.

هذا ما يقصُدُهُ يُوحَنَّا عندما يُخبِرُنا أنَّ يسُوع المسيح كانَ وهُوَ كَلِمَة الله. يسُوع المسيح كانَ وهُوَ كلمة اللهِ الحيَّ، الذي كانَ معَ اللهِ في البَدءِ، وكانَ الله. هُوَ كانَ الكلمة، والكَلِمَةُ صارَ جسداً، وجاءَ إلى هذا العالم، وفَسَّرَ لنا الله. إنَّ أعظَمَ إعلانٍ عنِ اللهِ ليسَ الكتاب المُقدَّس. بل أعظَمُ إعلانٍ سبقَ وأُعطِيَ عنِ اللهِ في هذا العالم، هُوَ يسُوع المسيح.

العِلمُ والتِّقَنِيَّةُ المُتَطَوِّرَة تطرَحُ  أمامَنا اليوم قضايا أخلاقِيَّة مُحرِجَة، مثل الهندَسَة الجِينيَّة، الإستِنساخ البَشَريّ، الإجهاض، والمَوت الرَّحيم. بِغَضِّ النَّظَرِ عما هي هذه القَضايا، علينا أن نبدَأَ دائماً معَ يسُوع وأن نسألَ نُفُوسَنا، "هل عالَجَ يسُوعُ هذهِ القَضِيَّة، ولو على الأقل بِشكلٍ مبدَئيّ؟" فما نُؤمِنُ بهِ ينبَغي أن يبدَأَ دائماً معَ يسُوع. فالحقيقَةُ التي كانَها يسُوع، والحقيقَةُ التي علَّمَها يسُوع، ينبَغي أن تَكُونَ أساسَ وقلبَ ما نُؤمِنُ بهِ، إن كُنَّا سنُعتَبَرُ مُستَحِقِّينَ أن نعتَبِرَ أنفُسَنا تلاميذَ ليسُوع المسيح.


يسُوعُ كانَ الله

بِمعنَىً ما، المَوضُوعُ الرَّئيسيُّ للإنجيل الرَّابِع مُعَبَّرُ عنهُ في الكلماتِ الثَّلاث الأخيرة من العددِ الأوَّل منَ الإصحاحِ الأوَّلِ منهُ، حيثُ نقرَأُ، "وكانَ الكَلِمَةُ الله." فالكَلِمَةُ الذي كَتَبَ عنهُ يُوحنَّا، ليسَ أنَّهُ فقط كانَ في البَدءِ، وكانَ معَ الله. بل كانَ الكَلِمَةُ الله. وحُجَّةُ إنجيل يُوحَنَّا الرَّئيسيَّة هي أنَّهُ عندما صارَ الكلِمَةُ الذي كانَ الله، عندما صارَ جسداً وفسَّرَ لنا الله، كانَ هذا الكلمة يسُوع المسيح! وعَبْرَ كُلِّ إنجيلِهِ، كانَ هدَفُ يُوحَنَّا أن يُخبِرُنا أنَّ يسُوع لم يَكُن إلَهِيَّاً فحَسب، بل كانَ الله. وسيكُونُ هذا هُوَ التَّشديدُ الخاص الذي سنراهُ في تصريحاتِ يسوع في حِوارِهِ العدائِي معَ القادَةِ الدِّينيِّين، والتي سجَّلَها يُوحَنَّا في الإصحاحاتِ 5 إلى 8.

هذه الحقيقة العميقة التي يُشارِكُها معنا يُوحنَّا، يُمكِنُ تلخيصُها في كلمة "تجسُّد،" أو Incarnation. يُخبِرُنا يُوحنَّا أنَّ اللهَ القَدير صارَ جسداً. الكلمة اليُونانيَّة Carne "كارني" تعني "جسد". فالتجسُّدُ يعني الصَّيرُورَة جسداً. وهكذا يُخبِرُنا يُوحَنَّا أنَّ اللهَ القَديرَ صارَ جَسداً. فإنجيلُ الميلادِ هذا هُوَ الأخبارُ السارَّة أنَّ اللهَ صارَ جسداً لِيُخَلِّصَنا.

أنا مُصَمِّمٌ جدَّاً أن أُوضِحَ معنَى مَفهُوم التَّجسُّد، ولهذا أُريدُكَ أن تستخدِمَ مُخَيِّلَتَكَ لبِضعِ دقائِق. تَصَوَّرْ أنَّكَ تَجِدُ بإستِمرار نملاً في مطبَخِكَ وفي كُلِّ منزِلِكَ. ولنفتَرِضْ أنَّكَ ترغَبُ بِإيجادِ حَلٍّ لمُشكِلَةِ النَّملِ هذه. وإذا بِكَ تكتَشِفُ أنَّ النَّملَ يأتي من وكرٍ في زاوِيَةٍ الحديقة. ويُوجَدُ خطٌّ منَ النَّملِ يتحرَّكُ بإستمرار من وكرِ النَّملِ هذا إلى داخِلِ منزِلِكَ. النَّملُ يحصَلُ على الغِذاءِ من منزِلِكَ، ويرجِعُ إلى الوكرِ حيثُ يُخَزِّنُ طعامَكَ ويأكُلُهُ.

لَو كانَ بإمكانِكَ أن تتفاهَمَ معَ النَّملِ في ذلكَ الوكر، لكُنتَ قد توصَّلتَ إلى حَلٍّ معَهم. لَرُبَّما قد ترغَبُ بأن تترُكَ للنَّملِ كَمِّياتٍ منَ الطَّعام قُربَ الوكر، إذا وافَقَ النَّملُ على البَقاءِ بعيداً عن منزِلِكَ. وبِمُلاحَظَتِكَ للنَّمل، سَوفَ تعرِفُ أنَّهُم يتفاهَمُونَ معَ بعضِهِم، ولكنَّ مُشكِلَتَكَ هي أنَّكَ لا تقدِرُ أن تتفاهَمَ معَ هذا النَّمل.

تَصَوَّرْ أنَّكَ تُريدُ أن تتَفاهَمَ فعلاً معَ هذا النَّمل، وأنَّكَ أحبَبتَ النَّملَ لِدَرَجَةِ أنَّكَ تخلَّيتَ عن وُجُودِكَ كَكائِنٍ بَشَرِيٍّ، وأصبَحتَ نملَةً. ثُمَّ نزَلتَ إلى وكرِ النَّملِ ذاك، وهُناكَ قُلتَ للنَّملِ، "قد أبدُو لكُم وكَأنَّني نملَة، ولكنَّي بالحقيقة ذلكَ الإنسان الذي يَعيشُ فَوق، في المنزِل الذي تدخُلُونَهُ منَ الحديقة. وأنا مُستَعِدٌّ أن أتخَلَّى عن كيسٍ يَحوِي كيلوغرامَين منَ السُّكَّر الذي سأترُكُهُ في زاوِيَةِ الحديقة، إذا وافَقتُم على الإبتِعادِ عنِ منزِلي."

رُغمَ أنَّهُ بطريقَةٍ ما يُعتَبَرُ هذا الإيضاحُ مُثيراً للضَّحِك، ولكنِّي أعتَقِدُ أنَّهُ يُوضِحُ بِشَكلٍ مُصَغَّر المفهُومَ الكِتابِيَّ الجَميل عنِ "التَّجَسُّد." فَكِّرْ بالتَّحدِّي الذي واجَهَهُ اللهُ عندما قرَّرَ أن يُعلِنَ مُعجِزَةَ ورِسالَةَ الخلاصِ للكائِناتِ البَشَريَّة. فالأخبارُ السَّارَّةُ التي تمَّ إعلانُها في هذا الإنجيلِ الرَّابع، هي أنَّ اللهَ أحبَّ العالَمَ لِدَرَجَةِ أنَّهُ صارَ جسداً إنسانِيَّاً، لكي يقدِرَ أن يُوصِلَ خلاصَهُ وحياتَهُ الأبديَّة لكَ ولي.


بالإختِصار

بَينما يُخبِرُنا يُوحنَّا في مُقَدِّمَتِهِ عمَّا سيقُولُهُ لنا، يُخبِرُنا أنَّ يسُوعَ كانَ الكلمة، وكونِه الكلمة، كانَ عندَ اللهِ الآب، وكانَ الكلِمَةُ الله. وصارَ جسداً وحلَّ بينَنا، حتى لا نعُودَ نقرَأُ عنِ اللهِ فقط على صَفحَةٍ مُقَدَّسَةٍ، بل أرادَنا أن نرى كيفَ يبدُو الله، وعاشَ بينَنا في حياةٍ إنسانِيَّة. الكَلِمَةُ اليُونانِيَّةُ المُتَرجَمَةُ "حَلَّ" هي كَلِمَةٌ تَعني "نصبَ خيمَتَهُ بينَنا." فعندما صارَ اللهُ إنساناً، أعلنَ ما هُو َاللهُ، وأظهَرَ لنا كُلَّ الحقِّ الذي بإمكانِنا أن نفهَمَهُ عنِ الله (يُوحَنَّا 1: 1، 14، 18).

ويُخبِرُنا يُوحنَّا أيضاً في هذه الأعداد الإفتِتاحِيَّة التي نُسمِّيها المُقدِّمَة، أنَّهُ "كانَ في العالَم وكُوِّنَ العالَمُ بهِ ولم يَعرِفْهُ العالم. إلى خاصَّتِهِ (أي الشَّعب اليَهُودِيّ) جاءَ وخاصَّتُهُ لم تقبَلْهُ. وأمَّا كُلُّ الذينَ قَبِلُوهُ فأعطاهُم سُلطاناً أن يَصِيرُوا أولادَ الله، أي المُؤمِنُونَ بإسمِهِ. الذين وُلِدُوا ليسَ من دَمٍ ولا من مشيئَةِ جسدٍ ولا من مَشيئِةِ رَجُلٍ بَل من الله." (يُوحَنَّا 1: 12، 13)

وبينما يُخبِرُنا هذا الرَّسُولُ المَحبُوبُ عمَّا سيقُولُهُ لنا، يُعبِّرُ عن ذلكَ كالتَّالِي: عندما أصبَحَ الكَلِمَةُ جسداً وَحَلَّ بينَنا، جاءَ إلى النَّاس في هذا العالم. جاءَ إلى خاصَّتِهِ، الشعب اليَهُودِيّ. مُعظَمُ اليَهُودِ لم يقبَلُوه، خاصَّةً رِجالُ الدِّينِ بينَهُم. ولكنَّ الذي قَبِلُوهُ، أصبَحُوا مَولُودِينَ من جَديد."

الكلمة "يقبَل" تعني أنَّهُم لم يُؤمِنُوا بهِ. فعندما كانَ يسُوعُ موجُوداً هُنا في الجَسَد، لم يَطلُبْ الناس أن يحنُوا رُؤُوسَهُم ليطلُبُوا منهُ أن يدخُلَ قُلُوبَهم، لأنَّهُ كانَ معَهُم في الجَسَد. لم يكُنِ العَرضُ أن يقبَلُوهُ بهذا المعنى. لأنَّ هذا كانَ سيأتي لاحِقاً. ولكنَّ كَلِمَة "يقبَل" هي رَديفٌ لكلمة "يُؤمِن." كانَ في هذا العالم وكُوِّنَ العالَمُ بهِ ولم يعرِفْهُ العالم." صُلِبَ على صَليبٍ من الخشَب، وخلقَ التَّلَّةِ التي نُصِبَ صَليبُهُ عليها،" كما قالَ المُرنِّم. لَم يَكُنِ اليَهُودُ الشَّعبَ الوحيدَ الذي رَفَضَ المسيح. يَقُولُ أحدُ المُرَنِّمينَ السُّود في إحدَى ترنيماتِ الميلاد التي نظَمها، "لم نعلَم أنَّ ذاكَ كانَ أنت، يا رَب! لم نعلَم أنَّكَ أنت."

ولكنَّ الأخبارَ السارَّةَ تقُولُ: قَبِلَهُ البَعضُ، مثل التَّلاميذ الإثنَي عَشَر. كَثيرُونَ لم يُدرِكُوا أنَّ التلاميذَ الإثنَي عشَر كانُوا جَميعُهُم يَهُوداً.  بَعضُ اليَهُودِ آمنُوا، ولأُولئكَ الذين آمنُوا "أعطاهُم سُلطاناً أن يَصِيرُوا أولادَ الله، أي المُؤمنُونَ بإسمِهِ."

بكلماتٍ أُخرى، جاءَ من أجلِ الناس. ومُعظَمُ الناس لم يُؤمِنُوا بهِ عندما أخبَرَهم من كانَ هُوَ بالحقيقة. ولكنَّ البَعضَ آمنُوا بهِ، وعندما فعلُوا، أعطاهُم سُلطاناً أن يَصيرُوا كما أرادَهُم اللهُ أن يكُونُوا – أي أبناءَ الله. أُولئكَ الذين آمنُوا، أخذُوا منهُ السُّلطانَ ليُصبِحُوا أبناءَ الله، فاجتازُوا في إختِبار. كانَ هذا الإختِبار وكأنَّهُ ولادَةٌ ثانِيَة.

فجميعُهم كانُوا قد وُلِدُوا جسديَّاً. أي أنَّهُم وُلِدُوا من دمٍ، من مَشيئةِ جسدٍ، أو من مَشيئةِ رَجُلٍ. جميعُهم إختَبَروا ولادَةً جسديَّةً. ولكن عندما قَبِلُوا من يسُوع السُّلطان ليُصبِحُوا أبناءَ الله، إختَبَروا ولادَةً لم تكُنْ من الجَسَد. لقد إختَبَرُوا ولادَةً رُوحيَّة. يُخبِرُنا يُوحنَّا أنَّهُم "وُلِدُوا منَ الله"، أو "وُلِدُوا من فَوق." في الإصحاح الثَّالِث من هذا الإنجيل، سوفَ يُسَمِّي يسُوعُ هذا الإختِبار "بالولادَةِ الثَّانِيَة."

كما يقُولُ يُوحنَّا، "ليسَ من دَمٍ، ولا من مَشيئَةِ جسدٍ، ولا من مَشيئَةِ رجُلٍ، بل من الله." لقد وُلِدُوا من الله. في يُوحَنَّا الإصحاحِ الثالِث، يُخبِرُنا يسُوعُ أنَّهُم وُلِدوا ثانِيَةً.

بينما تقرأُونَ هذا الإنجيل، لاحِظُوا أنَّهُ بعدَ أن يُخبِرَنا يُوحنَّا بما سيقُولُهُ لنا في هذه المُقدِّمة، سيبدَأُ بوصفِ مُقابلاتٍ أجراها يسُوعُ معَ أنُاسٍ وُلِدُوا من جَديد، لأنَّهُم تجاوَبُوا معَهُم بالطريقَةِ الصَّحيحة. أوَّلُهُم كانُوا أُولئكَ الذين أصبَحُوا فيما بعد رُسُلَهُ. ثُمَّ إلتَقى معَ آخرين، مثل مُعَلِّم النَّامُوس نيقُوديمُوس الذي أخبَرَهُ يسُوع أنَّهُ عليهِ أن يُولَدَ من جَديد.

في الإصحاحِ 4 يتكلَّمُ يسُوعُ معَ إمرأَةٍ عندَ بِئرٍ في السامِرة. ولقد وصفَ يسُوعُ لها إختِبارَ الولادةِ الجديدة بِلُغةٍ مُختَلِفَةٍ تماماً. لقد تكلَّمَ معها عن الشُّرب – وعن ماءٍ إذا شَرِبتْ منهُ سيُروي ظمأَها إلى باقي حياتِها. وسوفَ يتقابَلُ معَ رَجُلٍ أمامَ بِركَةٍ في الإصحاحِ الخامِس، وسيتكلَّمُ معَ شخصٍ أعمى في الإصحاحِ التَّاسِع. وسيتكلَّمُ معَ أشخاصٍ مُختَلِفين، في لِقاءاتٍ أجراها خِلالَ حياتِهِ معَ أناسٍ إلتقى بهم عبرَ هذا الإنجيل. ولكن ماذا تُخبِرُناهذه المُقابَلاتُ معَ هؤلاء الناس؟

يُخبِرُنا يُوحنَّا صراحَةً ما تقُولُهُ لنا. عندما ذهبَ يسُوعُ وإلتَقى بالناس ولم يُؤمِنُوا بهِ، لم يحدُثْ شيءٌ. ولكن عندما آمنُوا، أعطاهُم سُلطاناً أن يَصِيروا أبناءَ الله، فأختبَرُوا أمراً مُمَيَّزاً. لقد وُلِدوا من الله. هذا ما سيُخبِرُنا بهِ يُوحنَّا، بِحَسَبِ هذه المُقدِّمة. في كُلِّ هذه الإصحاحات واللِّقاءات التي تتبَعُ، هذا بالتحديد ما سيُظهِرُهُ لنا يُوحنَّا، وما سيُخبِرُنا بهِ.

عندما وصلَ يُوحنَّا إلى نهايَةِ إنجيلِهِ، أخبَرنا ما قالَهُ لنا بإعطائِنا هدفَهُ المُعلَن من كتابَةِ الإنجيل. أخبَرنا أنَّ هُناكَ أُمُوراً كَثيرَةً عمِلَها يسُوع. فهُوَ يقُولُ في نهايَةِ الإصحاح 20، "وآياتٍ أُخَرَ كثيرة صنعَ يسُوعُ قُدَّامَ تلاميذِهِ لم تُكتَبْ في هذا الكتاب. وأمَّا هذهِ فقد كُتِبَت لِتُؤمِنُوا أنَّ يسُوعَ هُوَ المَسيح إبنُ الله ولِكَي تَكُونَ لكُم إذا آمنتُم حياةٌ بإسمِه."

  • عدد الزيارات: 9380