الفَصلُ الثَّاني والعِشرُون فيما يتعلَّقُ بجمعِ التَّقدِمات
(1كُورنثُوس 16)
بعدَ أن رفَعنا بُولُس إلى المُرتَفعاتِ السَّماوِيَّة في إصحاحِ القِيامَةِ، يُعيدُنا بُولُس إلى الأرض بالطريقَةِ التي بدأَ بها الإصحاح الأخير من هذه الرِّسالَة الرَّاعَويَّة العمليَّة: "وأمَّا من جِهَةِ الجَمعِ." نجدُ مرحَلةً مُثِيرَةً للإهتِمام في حَياةِ وخدمَةِ بُولُس الرَّسُول، عندما نُرَكِّزُ على تفاصيلِ هذا الجمع بالتحديد. كانَ لدى بُولُس صُعوبَةً بأن يُقبَلَ من قِبَلِ اليهُود المُؤمنين في أُورشَليم. لَرُبَّما كانَ هذا بسببِ كونِهِ قد قادَ حملَةً إضطِّهادٍ عنيفٍ ضدَّ المُؤمنينَ المَسياوِيِّين قبلَ أن يتجدَّدَ على طريقِ دِمَشق (أعمال 8: 1-3؛ 9: 1، 2).
أجدُ هذا مُؤثِّراً، أن يكُونَ الشخصُ نفسُهُ الذي كانَ مرَّةً كارِهَ المسيح وقاتِلَ أتباعِهِ، وقد أصبَحَ الآن يجمَعُ تقدمِةً لمُساعَدَةِ المُؤمنينَ اليهُود الذي كان يضطَّهِدُهُم سابِقاً، والذي كانُوا يتألَّمُونَ في أُورشليم واليَهُوديَّة من مجاعَةٍ عظيمة . القُوَّةُ الديناميكيَّةُ الأعظَم التي جعَلَت من كنيسةِ يسُوع المسيح قُوَّةً كاسِحة في هذا العالم هي نعمَةُ الله المُغيِّرَة.
بينما ينصَحُ بُولُس بِبَعضِ التعليماتِ العمليَّة في يتعلَّقُ بجمعِ التَّقدِمات، يُعطينا بعضَ المبادِئ الهامَّة عن الوكالة. هذه المبادِئ مُوسَّعَةٌ بِعُمقٍ في الرِّسالة التي ستَتبَعُ هذه الرسالة (2كُورنثُوس 8 و9). يقُولُ تعليمُهُ في هذا الإصحاح: "في كُلِّ أوَّلِ أُسبُوعٍ لِيَضَعْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُم عندَهُ، خازِناً ما تيسَّر، حتَّى إذا جِئتُ لا يكُونُ جمعٌ حينئذٍ." (16: 2)
هُناكَ أمرانِ جديرانِ بالمُلاحَظَةِ في هذا العَدَد. أحدُهُما أنَّ بُولُس يذكُرُ اليومَ الأوَّلَ في الأُسبُوع. أليسَ مُثيراً للإهتِمامِ أنَّهُ في تلكَ المرحَلَة، أصبَحَ يومُ الرَّبِّ كما دعاهُ الرُّسُل، ليسَ اليوم السابِعَ من الأُسبُوع، بل اليوم الأوَّل من الأُسبَوع؟
تُوجَدُ بَراهِينُ كَثيرة على قِيامَةِ يسُوع المسيح. أَحَدُها أنَّ كنيسةَ يسُوع المسيح إختارت اليومَ الأوَّلَ في الأُسبُوع، ليكُونَ يومَ العبادَةِ، لأنَّهُ اليوم الذي قامَ فيهِ الرَّبُّ من الموت. لهذا فمنَ المُثيرِ للإهتِمامِ أن يكتُبَ بُولُس الرَّسُول: "في كُلِّ أوَّلِ أُسبُوعٍ ليَضَع كُلُّ واحِدٍ منكُم عندَهُ خازِناً ما تيسَّر."
ثُمَّ يُعطينا المبدَأَ التَّالي: "خازِناً ما تَيَسَّر..." أو "بحَسَب ما بارَكَهُ الله." ما هُوَ الأساسُ الذي يُحدِّدُ المُؤمنُونَ من خلالِهِ كما ينبَغي أن يُعطُوا لِعَمَلِ الرَّبّ؟ في العهدِ القَديم، كانَ المبدأُ المُتَّبَعُ هُوَ العُشرُ، والذي كانَ العُشرُ الأوَّلُ من مدخُولِ الإنسان. فلقد أعطَى اللهُ شعبَهُ إسرائيل العُشرَ كمبدَأ قِياسٍ ليُظهِرَ لهُم إن كانَ أوَّلاً في حياتِهم. (لقد عرفَ اللهُ دائماً مقدارَ إلتزامِهِم تجاهَهُ.) ولقد علَّمَهُم أيضاً أن يُعطُوا تقدِماتٍ، التي كانَت تفُوقُ العُشرَ. وفوقَ ذلكَ، كانُوا يُقدِّمُونَ تضحياتٍ، عرَّفَها داوُد عندما أعلنَ أنَّهُ لن يُقدِّمَ للرَّبِّ ذبائِحَ مجَّانِيَّة (صموئيل الثَّاني 24: 24).
ولكن عندما نَصِلُ إلى العهدِ الجديد، تُصبِحُ القَضِيَّةُ قضيَّةَ وكالَة. فالوكالَةُ تُغَطِّي على كُلِّ هذه المقاييس، لأنَّ الوكالَةَ هي إعترافٌ بأنَّ كُلَّ ما نملِكُ هُوَ أصلاً مُلكٌ لله. وكَوُكلاء على ما يَخُصُّ اللهَ أصلاً، تُصبِحُ القَضِيَّةُ أن نكُونَ أُمناءَ في طريقَةِ إدارتنا لما وكَّلَنا عليهِ اللهُ. مِعيارُ العطاءِ في العهدِ الجديد هُوَ "كما تَيَسَّرَ، وكما أعطانا اللهُ." سيُعلِّمُ بُولُس في رسالتِهِ التالِيَة إلى أهلِ كُورنثُوس، أنَّ الوكالة غيرُ مَبنِيَّةٍ على ما ليسَ لدينا، بل على ما لدينا.
ثُمَّ نرى هُنا مبدأ الإستِقامَة في إدارَةِ وتوزيعِ التَّقدِمة من قِبَلِ أُولئكَ المُكلَّفِينَ بِتَسليمِها للقِدِّيسينَ المُتألِّمينَ في أُورشَليم. يَقُولُ بُولُس أنَّ عليهم أن يُعَيِّنُوا أشخاصاً يُرافِقُونَ تقدِمَتَهُم (1كُورنثُوس 16: 3). نرى هُنا مبدَأَ تقديم الحِساب أمامَ مرجِعيَّةٍ ما. يُمكِنُ أن يُوجدَ نقصٌ في المَرجِعيَّة في تقديمِ الحِسابِ في جَسَدِ المسيح. هُناكَ خدماتٌ إستلَمَت ملايين الدُّولارات، بدُونِ أن تكُونَ هُناكَ مرجِعيَّةٌ لتقديمِ الحسابِ. ولكن لا ينبَغي أن تكُونَ هكذا الحالُ في جسدِ المسيح. بَينَما يأخُذُ بُولُس التَّقدِمة، لاحِظُوا كيفَ يُصِرُّ بعنايَةٍ على ضَرورَةِ وُجُودِ مرجِعيَّةٍ لتقديمِ الحساب في الأُمورِ المالِيَّة.
في الإصحاحَينِ اللذَينِ أشرتُ إليهِما في كُورنثُوس الثَّانِيَة، يُقدِّمُ بُولُس للكُورنثُوسيِّين نمُوذَجَ عطاء الفِيلبِّيِّين (2كُورنثُوس 8، 9). فكنيسَةُ فيلبِّي كانت الكنيسةَ المُفضَّلَةَ عندَ بُولُس، وكانت الكنيسة التي ثابَرَت على دَعمِ بُولُس مالِيَّاً. لقد كانَ الفِيلبِّيُّون ناضِجينَ رُوحيَّاً حيالَ مبادِئِ الوكالة، إلى دَرَجَةِ أنَّ بولُس سمحَ لهُم أن تكُونَ لهُم شراكَةٌ دائمةٌ معَهُ، كالمصدَرِ الأوَّلِ لدعمِ خدمَتِهِ.
يكتُبُ بُولُس الرَّسُول في الإصحاحِ الأخير من هذه الرِّسالَةِ: "ثُمَّ إن أتى تيمُوثاوُس فانظُرُوا أن يكُونَ عندَكُم بِلا خَوفٍ. لأنَّهُ يعمَلُ عملَ الرَّبِّ كما أنا أيضاً. فلا يحتَقِرْهُ أحدٌ بَلْ شَيِّعُوهُ بِسلامٍ ليأتِيَ إليَّ لأنِّي أنتَظِرُهُ معَ الإخوة" (1كُورنثُوس 16: 10- 11).
يُعتَبَرُ تيمُوثاوُس شَخصِيَّةً مُثيرَةً للإهتِمام. يبدُو وكأنَّهُ شابٌّ خَجُولٌ وحسَّاسٌ جداً. عندما أرادَ بُولُس أن يُشارِكَ بحقيقَةٍ عظيمة، أحبَّ أن يُغَلِّفَ هذه الحقيقة في قالَبِ شخصٍ ما، وغالِباً ما كانَ هذا الشخص تيمُوثاوُس. عندما أرادَ بُولُس أن يُظهِرَ لكنيستِهِ المُفضَّلَة في فيلبِّي كيفَ يعيشُونَ حياةَ التمثُّلِ بالمسيح، أرسَلَ تيمُوثاوُس لِيَعيشَ بينَهُم. كتبَ لِلفِيلبِّيِّين قائِلاً ما معناهُ: "لأن ليسَ لي أحدٌ قد يُحِبُّكُم كما سيُحِبُّكُم تيمُوثاوُس. فهُوَ سيُحِبُّكُم بشكلٍ طَبيعيّ لأنَّهُ لا يطلُبُ ما لِنَفسِهِ. إنَّهُ غَيرُ أنانِيّ في طريقَةِ تعامُلِهِ معَ الناس." (فيلبِّي 2: 19- 21).
يبدَأُ بُولُس في العدد 13 تحريضهُ الخِتامِيّ. "إسهَرُوا. أثبُتُوا في الإيمان. كُونُوا رِجالاً. تَقَوَّوا. لِتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُم في مَحَبَّة." يختُمُ بُولُس عادَةً رسائِلَهُ بهكذا تحريضات. ثُمَّ يُرسِلُ تحيَّاتٍ من أشخاصٍ أمثال أهل بيت إستفاناس. ويذكُرُ أشخاصاً آخرين معرُوفِينَ لَدَيهِ. مُعظَمُ رسائِلِ بُولُس ستنتَهي معَ هذه التَّحيَّات.
ثُمَّ لاحِظُوا في الأعدادِ الأخيرة: "تُسلِّمُ عليكُم كنائِسُ آسِيَّا. يُسلِّمُ عليكُم في الرَّبِّ كَثيراً أكيلا وبِرسكلا معَ الكنيسة التي في بيتِهما." (19) كانت الكنيسةُ في كُورنثُوس تلتَقي في منازل أشخاص مثل خُلُوي، وأكيلا وبرسكِلا. "يُسلِّمُ عليكُم الإخوة أجمَعُون. سَلِّمُوا بعضُكُم على بعضٍ بِقُبلَةٍ مُقَدَّسَةٍ. السلامُ بِيَدي أنا بُولُس. إن كانَ أحدٌ لا يُحِبُّ الرَّبَّ يسُوعَ فليَكُن أناثيما. ماران آثا. نِعمَةُ الرَّبِّ يسُوع المسيح معَكُم. مَحَبَّتي معَ جَميعِكُم في المسيحِ يسُوع. آمِين." (20- 24).
لقد كانت تحيَّاتُ بُولُس في كُلِّ رسائلِهِ هي التالية: "نعمَةُ رَبِّنا يسُوع المسيح معَكُم." لقد آمنَ بُولُس أنَّهُ إن كانت لديكُم نعمَةُ الرَّبِّ يسُوع المسيح في حياتِكُم، عندها سيكُونُ لديكُم رحمة وبركة وقُوَّة الله تعمَلُ في حياتِكم أيضاً. فَبِدُونِ نعمَةِ الله، لكانَت الحياةُ التي عاشَها بُولُس ونصحَ بها مُستَحيلَةً. لم يكُن هُناكَ أيُّ شَيءٍ يتمنَّاهُ بُولُس للنَّاس أعَظم من نعمَةِ رَبِّنا يسُوع المسيح.
عندما يختُمُ بُولُس رسائِلَهُ بهذه الطريقة، يقُولُ:"بنعمَةِ الله، أستطيعُ أن أحيا هذه الحياة التي من أجلِها خُلِّصتُ ودُعيتُ، وتستيطعُونَ أنتُم كذلكَ أن تعيشُوها، وذلكَ بِنِعمَةِ رَبِّنا يسُوع المسيح." لقد بدأَ بُولُس هذه الرِّسالة بدعَوةِ هؤلاء الكُورنثُوسيِّين "بالقِدِّيسين"، قائِلاً لهم أنَّهُم دُعِيَوا لِيَكُونُوا قِدِّيسين. وأخبَرَهُم أيضاً أنَّ اللهَ كانَ أميناً وإستطاعَ أن يُؤهِّلَهُم ليُتَمِّمُوا المقاصِدَ التي من أجلِها دعاهُم. وبالواقع يختُمُ بُولُس هذه الرسالة بالطريقَةِ التي بدَأَها بها (1: 1- 3، 9).
أرجُو أن تكُونَ هذه الدِّراسَة للرِّسالَةِ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس قد ساعدتَكَ أيُّها القارِئُ الكريم، على النُّمُوِّ في نعمَةِ الرَّبِّ يسُوع المسيح في حياتِكَ. فنِعمَتُهُ هي القُوَّة التي ينبَغي أن نتحلَّى بها أنا وأنتَ، لكي نحيا الحياة التي من أجلِها خَلُصنا، وإليها دُعينا، باللهِ ويسُوع المسيح، كَقِدِّيسينَ أحياء في عالَمٍ خاطِئ.
- عدد الزيارات: 2966