الفَصلُ الحادي والعِشرُون "كُلُّ الأشياء لكُلِّ النَّاس"
(1كُورنثُوس 9: 1- 23)
لنَفتَرِضْ أنَّ قسِّيساً أسَّسَ كَنيسةً بعدَ أن قادَ أعضاءَها للمسيح. فبينما كانت تنمُو الكنيسةُ، تطلَّبَ الأمرُ تخصيصَ خُدَّامٍ آخرين للرِّعاية. فماذا لو قامَتِ الكنيسةُ بدَعمِ هؤلاء الخُدَّام الآخرين جميعاً، ولكنَّها لم تدعَم الراعي الذي أسَّسَها؟ فهل سيكُونُ هذا صواباً؟
هذا ما حدَثَ في كنيسةِ كُورنثُوس. فالخُدَّامُ الذين بَنُوا على الأساس الذي سبقَ وبناهُ بُولُس، كانُوا مدعُومِينَ من الكَنيسة، ولكنَّ بُولُس لم يأخُذْ بتاتاً دعماً من المُؤمنين الكُورنثُوسيِّين. في الإصحاحِ التاسِع إستَخدَمَ هذا كمَثَلٍ على تطبيقِهِ "مبدَأ الأخ الأضعَف" على حياتِهِ الشخصيَّة. إعتَبَرَ بُولُس الكُورنثُوسيِّينَ كالإخوة الأضعَف في مجالِ العطاء.
يبدُو أنَّ البعضَ في كنيسةِ كُورنثُوس شكَّكُوا بحَقِّ بُولُس بأن يدعُوَ نفسَهُ رَسُولاً. تذكَّرْ أنَّ الرُّسُلَ الذين إختيرُوا في أعمال 1، تمَّ إختِيارُهُم لأنَّهُم كانُواَ معَ الرَّبِّ منذُ معمُوديَّتِهِ حتَّى صُعُودِه. فبناءً على هذا المِعيار، لم يكُنْ بُولُس مُؤهَّلاً ليكُونَ رَسُولاً. بعدَ أن تعامَلَ بُولُس معَ هذا المَوضُوع في الإصحاح التاسِع، رجعَ ليتكلَّمَ عن مَوضُوع المحبَّة للأخِ الأضعف في الإصحاحِ العاشِر.
كتبَ بُولُس يقُول، "ألستُ أنا رَسُولاً؟ ألَستُ أنا حُرَّاً؟ أما رأيتُ يسُوعَ المسيح ربَّنا؟ ألستُم أنتُم عملي في الرَّبّ؟ إن كُنتُ لستُ رَسولاً إلى آخَرين فإنَّما أنا إليكُم رَسُولٌ، لأنَّكُم أنتُم خَتمُ رِسالَتي في الرَّبّ." (1كُورنثُوس 9: 1- 2)
فالرَّسُولُ (أو الذي أُرسِلَ) كانَ الشخصُ الذي يتمُّ إرسالُهُ إلى آخرين، مثل المُرسَل. ويُبرهِنُ بُولُس بأنَّهُ أُرسِلَ إلى كُورنثُوس، حيثُ كانَ الناسُ وَثَنيِّينَ بكُلِّ ما للكَلِمَةِ من معنىً. ولكن نتيجَةً لمجيئهِ إليهم، إختَبَرُوا الخلاص؛ وهكذا كانُوا نتيجَةَ عملهِ للرَّبّ. هؤُلاء الكُورنثُوسيِّونَ الذين كانُوا مرَّةً وثَنِيِّين، والذين صاروا في المسيح، يُؤكِّدُ بُولُس أنَّهُم كانُوا بُرهاناً مُقنِعاً على رَسوليَّتِهِ.
ثُمَّ يقُول بُولُس، "هذا هُوَ إحتِجاجِي عندَ الذين يفحَصُونَني. ألَعَلَّنا ليسَ لنا سُلطانٌ أن نأكُلَ ونَشرَبَ؟ ألعَلَّنا ليسَ لنا سُلطانٌ أن نَجُولَ بِأُختٍ زوجَةٍ كباقي الرُّسُل وإخوةِ الرَّبِّ وصَفا؟ أم أنا وبرنابا وحدَنا ليسَ لنا سُلطانٌ أن لا نشتَغِل؟... إن كُنَّا قد زَرَعنا لكُم الرُّوحِيَّات أفَعَظِيمٌ إن حصدنا منكُم الجَسَدِيَّات؟ لَكِنَّنا لم نستَعمِلْ هذا السُّلطان. بل نتحمَّلُ كُلَّ شَيءٍ لئلا نجعَلَ عائِقاً لإنجيلِ المسيح." (1كُور 9: 3- 6، 11- 12)
كانَ لدى بُولُس الحَقّ بأن يقبَلَ دعماً من كنيسةِ كُورنثُوس، ولكنَّهُ لم يأخُذْ منهُم أيَّ دَعمٍ، ولا من الذين في أفسُس، ولا من الذين في تسالونيكي. الكنيسةُ التي دعمَتْهُ عندما كانَ يخدُمُ هذه الكنائس كانت كنيسة فيلبِّي. وثقَ بُولُس أنَّ الفِيلبِّيِّين كانُوا ناضجِينَ كفايَةً لتكُونَ لهُم الدوافِعُ السليمة لدعمِ خدمتِهِ، فأعطاهُم إمتياز قُبول دعمِهم لهُ.
لم يُرِدْ بُولُس أن يجعلَ عثرَةً أمامَ المُؤمنين الكُورنثُوسيِّينَ بسببِ هذه القَضِيَّة. فلو أصرَّ على نوالِهِ الدعم الذي كانَ يَحِقُّ لهُ، لكانَ البعضُ منهُم قد قال، "إنَّ كُلَّ ما يفعلهُ بُولُس هو أن يحصَل منَّا على المال." وهكذا أصرَّ بُولُس على كونِهِ قدَّمَ الإنجيل مجَّاناً في كُورنثُوس، لكي لا يضعَ عثَرَةً أمامَ أحدٍ من المجيءٍ إلى الإيمانِ بالمسيح. فهل ترى كيفَ كانَ بُولُس يُطبِّقُ مبدَأَ الأخِ الأضعَف في علاقَتِهِ معَ كنيسة كُورنثُوس؟
هذا يقُودُنا إلى أحدِ أعظَمِ المقاطِع في العهدِ الجديد عمَّا يُسمِّيهِ الناسُ بفلسفة الخدمة. يقُولُ بُولُس في العدد 16، "إذ الضَّرُورَة موضُوعَةٌ عليِّ. فويلٌ لي إن كُنتُ لا أُبَشِّر." هكذا كانت الحالُ بالنسبَةِ لبُولُس. كانَ سيُصابُ بالأسى لو لم يُبَشِّرْ بالإنجيل. لقد كانَ إلتزامُهُ بأنْ يُقدِّمَ الإنجيل "بدونِ كلفة" (18) – وبينما هُوَ يعمَلُ ذلكَ، كانَ يُطَبِّقُ مبدَأَ المحبَّة للأخِ الأضعَف.
في هذا الإطار أعطانا بُولُس فلسفتَهُ للخدمة: "فإنِّي إذ كُنتُ حُرَّاً من الجَميع إستَعبَدتُ نفسِي للجَميع لأربَحَ الأكثَرين." (19) فبالنسبَةِ لليَهُودي الذي تحتَ النامُوس، جعلَ بُولُس نفسَهُ وكأنَّهَ تحتَ النَّامُوس. وللضَّعِيف، أصبحَ ضعيفاً، لكي يربحَ الضُّعفاءَ للمسيح. "صِرتُ للكُلِّ كُلَّ شَيءٍ لكي أربَحَ على كُلِّ حالٍ قوماً." (22)
كُلُّ ما نفعَلُهُ ينبَغي أن يُقاسَ في كيفيَّةِ تأثيرِهِ على الآخرين. فعلينا أن نجعلَ الآخرينَ في مركَزِ إهتماماتِنا. وأن نجعَلَ الأخَ الأضعَفَ في مركَزِ إهتماماتِنا، وليس أنفُسنا - وكُلُّ هذا من أجلِ قضيَّةِ الإنجيل. لقد جعلَ بُولُس من اليَهُودِيِّ المُتَدَيِّن، ومن الأخِ الأضعَف، ومن المُؤمن النَّامُوسيّ، ومن الذي لا نامُوسَ لهُ، ومن الأشخاصِ الضَّالِّين، جعلَهُم جميعاً في مركَزِ حياتِهِ وخدمتِه. وإستَعبَدَ نفسَهُ لهؤُلاء الناس، وصمَّمَ أن يعمَلَ أيَّ شَيءٍ لكي يستَرعِيَ إنتباهَهُم ويُبَشِّرَهُم بالإنجيل.
- عدد الزيارات: 2867