الفصلُ الثالِث تَركيزٌ على الإيمان
إنَّ الجوهَرَ الحقيقيّ لرسالةِ الكاتِب نجدُهُ في الإصحاحِ الحادِي عشر من هذه الرسالة. فالإصحاحُ الحادي عشرَ من عبرانيين يُعرَفُ بِ"إصحاحِ الإيمان" في الكتابِ المقدَّس. يبدَأُ الإصحاحُ في الواقِع في نهايَةِ الإصحاحِ العاشِر، عندما يبدَأُ بإعطاءِ قُرَّائِهِ جُملَةَ أسبابٍ من أجلِها ينبَغي عليهم أن لا يطرَحُوا إيمانَهم جانِباً (عبرانِيِّين 10: 35). فهُوَ يقُولُ أنَّهُم لا ينبَغي أن يتخلُّوا عن إيمانِهم لأنَّ الإيمانَ خلَّصَهم. ويحُضُّهُم على أن يُعيدُوا التفكير بتلكَ المرحلة التي فيها آمنُوا وخلُصُوا. هذا هُوَ جوهَرُ موضُوع هذه الرِّسالة – لا تطرَحُوا إيمانَكُم، لأنَّ الإيمانَ خلَّصَكُم.
يبدُو أنَّهم إختَبَرُوا التوبَةَ الحقيقيَّة والرجُوعَ إلى شخصِ المسيح الذي كانَ مُرافَقاً بالمحبَّةِ الأُولى الصافِية للمسيح. لقد ذكَّرَهُم بذلكَ الإختِبار، وكيفَ إحتَمَلُوا خسارَةَ كُلِّ شَيء، عالِمينَ أنَّهُم سينالُونَ مُجازاةً أفضل في السماء. والآن، ينصَحُ الكاتِبُ أن نرجِعَ ونُفكِّرَ بالإختِبارِ الأساسيّ للإيمانِ والخلاص، وأن نُفكِّرَ بما عناهُ لنا، وأن نُدرِكَ أنَّنا خَلُصنا بالإيمان. لهذا، مهما حدَثَ، علينا أن لا نتخلَّى عن إيمانِنا الذي خلَّصَنا.
ثُمَّ في العدد 38 من الإصحاحِ العاشِر، يقتَبِسُ الكاتِبُ من حبقُّوق، "أمَّا البارُّ فبالإيمانِ يحيا." (حبقُّوق 2: 4). في هذا الإطار، يقُولُ الكاتِبُ ما معناهُ، "لا يُمكِنُكُم أن تطرحُوا إيمانكُم لأنَّكُم ستحتاجُونَهُ. فأنتُم لا تخلُصُونَ فقط بالإيمان بل وتحيونَ بالإيمان.
من الصَّعبِ جداً تعريف الإيمان، ولكن بالإمكانِ وصفُهُ. يقُولُ الكاتِبُ: "وأمَّا الإيمانُ فهُوَ الثِّقَةُ بما يُرجى والإيقانُ بأُمُورٍ لا تُرى." الرَّجاءُ هُوَ الإقتِناعُ أنَّ خَيراً يُوجدُ في هذا العالم، ويوماً ما سوفَ نَلتَقي بهذا الخَير. قدَّمَ داوُد تحدِّياً للفاشِلينَ والهارِبينَ بهذا السؤال، "من هُوَ الإنسانُ الذي يَهوَى الحَياة ويُحِبُّ كثرَةَ الأيَّام لِيَرَى خيراً؟" ثُمَّ يُجيبُ على سُؤالِهِ بتقديمِ هذه الدعوة: "ذُوقوا وانظُروا ما أطيبَ الرَّبّ. طُوبى للرَّجُل المُتَوَكِّل عليهِ!" (مزمُور 34: 12، 8) فِلِكَي يكُونَ الإيمانُ إيماناً، ينبَغي أن يكُونَ هناكَ برهانٌ يدعَمُ الإقتِناع أنَّ خيراً ما سيحدُثُ.
ولكنَّ إطارَ الفكرة هُنا هُوَ، "لا تطرَحُوا إيمانَكُم بسبب ما هوَ الإيمان. فالإيمانُ هُوَ جوهَرُ رجائِكُم أو الأساسُ الذي يجعَلُ من رجائِكُم معقُولاً. الإيمانُ هُوَ بُرهانُ الأُمُور التي لا تُرى، أي الهدف غير المنظُور لإيمانِكُم."
عندما يكُونُ إيمانُكُم إيماناً كِتابِيَّاً، ينبَغي أن يكُونَ مَوضُوعَ إيمانكُم غير منظُور. فأنتُم تُلغُونَ الحاجَةَ للإيمانِ عندما يكُونُ بإمكانِكُم أن تروا مَوضُوعَ إيمانِكُم. عندما يكُونُ الإيمانُ كِتابِيَّاً، يكُونُ موضُوعُ إيمانِكُم غير منظُور، ولكن يكُونُ هُناكَ بُرهانٌ يدعَمُ الإقتِناع أنَّ الموضُوع غير المنظُور مُوجُودٌ هُناك. إنَّ هذا يُشبِهُ رائِحَةَ وجبَةِ طعامٍ شَهِيَّة لم ترونَها بعد، ولكنَّ رائِحتها الزَّكِيَّة هُوَ بُرهانٌ على أنَّ الوجبَةَ هي على وشكِ أن تُقدَّم. لهذا، فإنَّ أفضَلَ تعريفٍ للإيمان مُمكِن أن يكُون: "الإيمانُ هُوَ فِعلُ الإيمانِ بشيءٍ، أو بشخصٍ، لا تستطيعُونَ رُؤيتَهُ، ولكنَّهَ مَبنيٌّ على دَليل أو بُرهان."
في هذه الحال، الأمرُ غيرُ المنظُور هُوَ الله. فالكاتِبُ يقُولُ أنَّ أعظَمَ بُرهانٍ في العالم عن وُجودِ اللهِ هُوَ الشخص الذي لديهِ إيمانٌ. فبِحَسَبِ العهدِ الجديد، الإيمانُ هُوَ هِبَةٌ من الله. (أفسُس 2: 8؛ فيلبِّي 1: 29) لهذا، فالشخصُ الذي لديهِ إيمانٌ هُوَ البُرهانُ الأعظَمُ على الأرض بأنَّ واهِبَ الإيمانِ مَوجُودٌ. يقُولُ الكاتِبُ، "الإيمانُ هُوَ الثِّقَةُ بما يُرجَى والإيقانُ بأُمُورٍ لا تُرى." فمن بينِ عدَّةِ أُمُورٍ، يُخبِرُنا كاتِبُ هذه الرسالة العميقة أنَّ الإيمانَ هُوَ بِحدِّ ذاتِهِ بُرهانٌ على وُجُودِ الله غير المنظُور.
يُعطي الكاتِبُ لقُرَّائِهِ سبباً جديداً لعدَمِ طرحِهم إيمانَهم، إذ يقُول: "لأنَّهُ بدونِ إيمانٍ لا يُمكِن إرضاؤُهُ، لأنَّهُ يَجِبُ أنَّ الذي يأتي إلى الله يُؤمِنُ بأنَّهُ مَوجُودٌ وأنَّهُ يُجازِي الذينَ يطلُبُونَهُ. (عبرانِيِّين 11: 6)
تمسَّكَ بمنطِقِ حُجَّةِ الكاتِب، الذي يُعبِّرُ عن كافَّةِ الأسباب التي من أجلِها على قُرَّائِهِ أن لا يطرَحُوا إيمانَهُم. يقُولُ أنَّهُ عليهم أن لا يطرَحُوا إيمانَهُم لأنَّهُ بدُونِ إيمانٍ لا يُمكِنُهُم أن يقتَرِبُوا من الله ولا أن يُرضُوه. ثُمَّ يُخبِرُنا عن أشخاصٍ أرضُوا اللهَ بإيمانِهم.
فأخنُوخ كانَ ذلكَ الإنسان الذي نقلَهُ اللهُ إلى حضرتِهِ بسببِ إيمانِه. وكأنَّ أخنُوخ مَشَى معَ اللهِ لدرجةِ أنَّهُ ذاتَ يوم، قالَ اللهُ لهُ، "يا أخنُوخ، لقد أصبحنا الآن أقرَب إلى بَيتي ممَّا إلى بيتِكَ؛ فلماذا لا تأتي معي إلى بيتي وحسب؟" وهكذا أخذَ اللهُ أخنُوخ بكُلِّ بَساطَةٍ إلى السماء لأنَّ أخنُوخ سارَ معَ اللهِ وأرضاهُ (عبرانِيِّين 11: 5).
ثُمَّ، يُعطِي أمثِلَةً عن أشخاصٍ أتقِياء كانُوا أصحابَ إيمان. تأمَّل في الإصحاحِ الحادِي عشر من الرِّسالَة إلى العِبرانِيِّين وضعْ خطَّاً تحتَ كُلِّ الأفعال، وكلمات الفِعل. جميعُ هؤُلاء كانُوا أبطالاً في الإيمان لأنَّهُم عمِلُوا شيئاً. لِهذا أقُولُ أنَّ الإيمانَ هُوَ فِعلُ إيمانٍ في شَخصٍ، أو شَيءٍ، لا تستطيعُ رُؤيتَهُ، ولكنَّهُ مُبرهَنٌ بِدَليلٍ.
عندما كلَّفَ اللهُ نُوحاً ببِناءِ الفُلك، لم تَكُن قد أمطَرَت على الأرض بعد. يَصِفُ الكاتِبُ تحدِّي الإيمان الذي واجَهَهُ نُوح، الذي آمنَ "بأُمُورٍ لم تُرَ بعد." فنوح لم يسبِقْ لهُ أن رأى مطراً. إنَّ قِصَّةَ نُوح، التي تُغطِّي أربَعَةَ إصحاحاتٍ من سفرِ التكوين، تُوصَفُ في عددٍ عميقٍ من إصحاحِ الإيمانِ: "بالإيمان نُوحٌ لمَّا أُوحِيَ إليهِ عن أُمُورٍ لم تُرَ بعد، خافَ فبنَى فُلكاً لِخَلاصِ بيتِهِ فَبِهِ دانَ العالَمَ وصارَ وارِثاً للبِرّ الذي حسبَ الإيمان." (11: 7)
لقد كانَ نُوحٌ كارِزاً بالبِرّ لمُدَّةِ مائةٍ وعشرينَ سنَةً، التي قضاها في بناءِ الفُلك. فالطريقَةُ الوحيدَةُ التي كانت مفتُوحَةً للخلاص كانت بالفُلك. يُخبِرُنا بُطرُس أنَّ الفُلكَ كانَ صُورَةً عن الخلاص. في هذا الإصحاح، نُخبَرُ أنَّ نُوح هُوَ صُورَةٌ عن الإيمان، وعمَّا يعنيهِ الإيمانُ وماذا يعمَلُهُ الإيمان.
أشخاصٌ كثيرون يعتَقِدُونَ أنَّ الصُّورَةَ المجازِيَّة التي يُقدِّمُها الكاتِبُ في عبرانِيِّين 12: 1- 2 هي أنَّنا بِمَثابَةِ أبطالٍ رِياضِيِّين نركُضُ في المَيدان، بينَما تُراقِبنا "سحابَةٌ من الشُّهُود" بينما نركُضُ نحنُ في الميدان. لقد سَبَقَ لهُم وركضُوا سِباقَهم. هل تُؤمِنُ أنَّهُ بإمكانِ الأشخاص المُتَوَفِّين، أُولئكَ الذين سبقُونا إلى المجد، أن يعرِفُوا ماذا يحدُثُ في حياتِنا؟ يُضيفُ كاتبُ العبرانيِّين إلى حُجَّتِهِ هُنا في إصحاحِ الإيمان، أنَّهُ علينا أن لا نطرَحَ إيمانَنا جانِباً، لأنَّ سحابَةً من الشُّهُود تُراقِبنا وتهتِفُ فَرَحاً لنا عندما نركُضُ في سباقِ الحياة.
أنتَ واحِدٌ من أولادِ الله، وبما أنَّكَ كذلكَ، عندما تعصى وصاياهُ، سوفَ يُؤدِّبُكَ. بحَسَبِ كاتِبِ هذه الرِّسالة، إن كُنتَ تتألَّمُ بسببِ خُضُوعِكَ للتأديب، فإنَّ ألمَكَ هُوَ تأكيدٌ لكونِكَ إبناً (أو إبنةً) لله. يقُولُ كاتِبُ العبرانيِّين: "لا تحتَقِرُوا تأديبَ الله. فعندما يُؤدِّبُكُم اللهُ، فإنَّ هذا يُبَرهِنُ أنَّكُم أبناؤُهُ. وسوفَ يُؤدِّي تأديبُكم لأن تشتَرِكُوا في قداسَتِهِ." ويُخبِرُنا الكاتِبُ أيضاً أنَّ التأديبَ يُؤتي ثمرَ بِرٍّ في السلام.
يختُمُ الكاتِبُ هذه الرسالة العميقة بحَضِّنا لنكُونَ مُضِيفينَ للغُرَباء. يقُولُ في الإصحاحِ الأخير، "لا تنسُوا إضافَةَ الغُرَباء لأنْ بِها أضافَ أُناسٌ ملائِكَةً وهُم لا يدرُون." ثُمَّ يقُولُ لنا الكاتِبُ أن نذكُرَ المُقَيَّدِينَ، وكأنَّنا مُقيَّدُونَ معهُم. فلقد كانَ الكثيرونَ من أعضاءِ الكنيسةِ الأُولى في السجن. يختُمُ الكاتِبُ هذه التُّحفَة الرُّوحيَّة بِحَضٍّ على إطاعَةِ القادة الرُّوحِيِّين المسؤولينَ عن خَيرِنا الرُّوحِي.
- عدد الزيارات: 3054