Skip to main content

الفَصلُ الثامِن "نماذِج بُولُس"

في الإصحاح الحادِي والعشرين، نقرَأُ أنَّ بُولُس وصَلَ إلى أُورشليم وبدَأَ بالوعظ. ونتيجَةً لوعظِهِ، تعرَّضَ لِهُجُومٍ من قِبَلِ الجُموع الصاخِبَة (27). لقد ضربَ الجمعُ بُولُسَ حتَّى قارَبَ الموت، وعندها أتى ضابِطٌ رُومانِيٌّ معَ جُنودِهِ، وأنقُذُوا بُولُس من أيديهم. بينما كانَ الجُنُودُ يحمِلُونَ بُولُس فوقَ رُؤُوسِهم إلى داخِلِ القلعة، حيثُ سيكونُ سجينَ رُوما، إلتَمسَ بُولُس من القائد العسكَري أن يُنزِلُوهُ عنِ الأكُفّ وأن يدعُوهُ يعِظ، لأنَّهُ رأى فُرصَةً رائعةً للوعظِ بالإنجيل. وهكذا ألقَى عظةً رائعة، نراها مُسَجَّلَةً في الإصحاحِ التالي.

لم تكُن هذه العظة كالعظة التي ألقاها بُولُس على تلَّةِ مارس في آريوس باغُوس. هُنا لم يقتَبِس بُولُس من الشُّعراء والفلاسفة، ولم يستَخدِم كلامَ الحكمةِ الإنسانيَّةِ المُقنِع. بل أعطى شهادةَ إختِبارِهِ الشخصي للمسيح. وأخبَرَ عن قصَّتِهِ أو إختِبارِهِ معَ الله  ومعَ يسوع المسيح. ولم تكُن ردَّةُ الفعلِ مُتنوِّعة. نقرأ: "فسَمِعوا لهُ حتَّىهذه الكَلمة ثُمَّ رفعوا أصواتَهُم قائِلين خُذْ مثلَ هذا منَ الأرض لأنَّهُ كانَ لا يجوزُ لهُ أن يعيش." (22: 22) فعندما ثارَ الجمعُ مُجَدَّداً، عادُ الجُنودُ وأخذُوا بُولُس إلى القَلعَة.

عندما كانَ الرومانُ يُوقِفونَ أحداً، كانُوا يقومونَ بِتقييدِهِ إلى عامُودٍ وسطَ الساحة وبجلدِهِ، وكانُوا يفعلونَ هذا إلفاتاً للإنتِباه. وكانُوا يُسمُّونَ هذا "الفحص بالضرب." وبينما كانوا على وشكِ تقييدِ بُولُس إلى عامُودٍ لضربِهِ، قالَ بُولُس للجُنود الذينَ كانُوا يُقيِّدُونَهُ أنَّهُ مُواطِنٌ رُومانِيّ. فذهبَ الجُنودُ إلى الأمير وأخبَروهُ أن لا يجلُدَ بُولُس (29). لا يسعُني إلا أن أتساءَلَ لماذا لم يُعلِن بُولُس حقُوقَهُ كحامِلٍ للجِنسيَّةِ الرُّومانيَّة عندما أُوقِفَ هُوَ وسيلا وضُرِبُوا في فِيلبِّي. لرُبَّما سمحَ لنفسِهِ أن يُضرَبَ هُناكَ، لأنَّهُ أرادَ أن يستَخدِمَ هذا كَوَرَقَة ضغط على حُكَّامِ تِلكَ المدينة فيما بعد.

بعدَ أن قرَّرَ الرُّومانُ أنَّهُ لم يعُد بوُسعِهم أن يضرِبُوه، وضعُوهُ في السجن. وفي اليومِ التالي، قرَّرُوا أن يبدَأوا المُحاكَمة أمامَ رئيسِ الكهنة والسنهَدريم. ودُعِيَ اليهودُ المُتَديِّنون الذين كانوا يُحاجِجونَ بُولُس، لِكي يُوجِّهوا لهُ التهمَ في المُحاكَمة.

يبدأُ سجلُّ المُحاكَمة في أعمال 23. كانَت هذه أوَّلُ مُحاكمَةٍ من سلسلةٍ طويلةٍ من المُحاكمات التي سيخضَعُ لها بُولُس. نرى إنسانِيَّة بُولُس عندما تبدَأُ هذه المُحاكَمة. فلقد جالَ بنظَرِهِ في قاعةِ المحكمة بمقدارِ ما ساعدَهُ نظرُهُ على تمييزِ الحاضِرين، ولاحظَ أنَّ نصفَ الحُضور هُم من الفرِّيسيِّين، أي من اليهود المُحافِظين. لقد كانُوا جماعَةً مُنظَّمة مُهِمَّتُها الدفاعُ عن إستقامَة الإيمان اليهوديّ. وكانَ النصفُ الآخرُ من الحُضورِ من الصدُّوقِيِّين. وكانَ هؤلاء من المُتحرِّرين. فلم يكنِ الصدُّوقِيُّونَ يُؤمِنونَ لا بالقِيامَة، ولا بالأُمور الخارِقة للطبيعة. وهكذا نظرَ بُولُس حولَهُ في قاعَةِ المحكمة، فرأى أنَّها مقسومَةٌ مُناصفةً بينَ الصدُّوقِيِّينَ المُتَحرِّرين، والفريسيِّينَ المُحافِظين. فوقفَ بُولُس وقدَّمَ تصريحاً حَذِقاً قائلاً، "ايُّها الرجالُ الإخوة أنا فرّيسيٌّ إبنُ فرِّيسيّ. على رجاءِ قِيامَةِ الأمواتِ أن أُحاكَم." (أعمال 23: 6)

عندما صَرَّحَ بُولُس بفِطنةٍ بإيمانِهِ بِقيامَةِ الأموات، حدثَت مُنازَعَةٌ بينَ الفَرِّيسيِّينَ والصدُّوقِيِّين، فإنحازَ الفرِّيسيُّونَ إلى بُولُس. لقد عرفَ بُولُس أنَّهُ لن ينالَ مُحاكَمةً عادِلة في هذه المحكَمة، بسبب مُحاولةِ اليهود السُّخرية منهُ. فقرَّرَ أن يقلِبَ المحكمةَ رأساً على عقِب، كما فعلَ في مَدينَةِ فيلبِّي. فكانَ على الجُنودِ أن يُنقِذوهُ ثانِيَةً ويأخذُوهُ إلى القَلعة ليضعُوهُ في السجن، من أجلِ حِمايَتِه.

فقامَ أربعونَ من هؤلاء اليهود بأخذِ عهدٍ على أنفُسِهم بأن لا يأكُلوا ولا يشرَبوا إلى أن يقتُلوا بُولُس. كانت خطَّتُهم أن يكمُنوا لهُ على الطريق، ويقتُلوهُ بينما يُحضَرُ للإستجواب (12). وسمِعَ إبن أُخت بُولُس هؤلاء اليهود الصائمين يتآمَرونَ لقَتلِ بُولُس، فجاءَ إلى السجن وزارَ بُولُس وأخبَرهُ عن هذه المُؤامَرة. ثُمَّ ذهبَ الشابُّ إلى الأمير وأخبَرهُ ما كانَ يُخطِّطُ لهُ هؤلاء الأربعون يهوديَّاً.

فإتَّخذَ هذا الأميرُ قراراً بأن يُرسِلَ بُولُس إلى مكانٍ آخر ويُخرِجَهُ من تحتِ مسؤوليَّتِه. وهو لم يكُن يعرِف ماذا فعلَ بُولُس أو ما الذي كانَ يحدُث، ولكنَّهُ عرفَ أنَّ هذا الرجُل كانَ مصدَرَ المشاكِل. وهكذا نقرأُ أنَّهُ "دعا إثنين من قُوَّادِ المِئات وقالَ أعِدَّا مِئتَي عسكَري ليذهَبوا إلى قيصَريَّة وسبعينَ فارِساً ومئتي رامِحٍ من الساعَةِ الثالِثة من الليل. وأن يُقدِّما دوابَّ ليُركِبا بُولُس ويُوصِلاهُ سالِماً إلى فيلكس الوالي." (23، 24)

أليسَ هذا مُثيراً للإهتِمام؟ فتحتَ جناحِ الظَّلام، إذا بِهذا اليهوديُّ الصغيرُ القامة الضعيفُ النظَر، والذي كانَ مُجرَّحاً من كثرةِ ضربِ اليهود المُتعصِّبينَ الهائجينَ لهُ، إذا بهِ يُحاطُ بحمايَةِ أربعمائة وسبعين جُندِياً رومانيَّاً لحمايتِهِ، ثُمَّ تسلَّلَ هؤلاء بهِ من البابِ الخلفي للقلعة، وأخذوهُ على شاطِيءِ البحرِ المُتوسِّط، ذاهِبينَ من أورشليم إلى قيصريَّة في فلسطين.


المُثُول أمامَ حاكِمَين

عندما وصلَ بُولُس إلى قيصريَّة في فِلسطين، سُلِّمَ للوالي فيلكس. فطلبَ فيلكس من اليهود أن يحضُروا إلى قيصريَّة لكي يتَّهِمُوا بُولُس بِجرائِمِهِ. فجاءَ اليهود، وهُنا أيضاً ألقى بُولُس رسالةً عظيمة أمامَ الوالي ومحكَمَتِه. فأخبَرَ بُولُس مُجدَّداً بقصَّةِ إختِبارِهِ.

وفي نهايَةِ هذه المُحاكَمة، قرَّرَ فيلكس أنَّ هذا الرجُل بُولُس لا يجب أن يُعتَبَرَ مُجرِماً. ولكنَّهُ قرَّرَ أن يُبقِيَ بُولُس تحتَ الإقامَةِ الجبريَّة نوعاً ما، إلى أن يُقرِّرَ فيلكس ما سيفعلُهُ بهذا السجين غير الإعتِيادِي (أعمال 24: 22، 23).

لقدِ اِفْتُتِنَ الحاكِمُ فيلكس وزوجتُهُ اليهُوديَّة درُوسيلا بِبُولُس ساعةَ سمِعاهُ يُدافعُ عن نفسِهِ. تأَثَّرا جداً حتىَّ طَلَبا مَوْعِداً معَهُ على اِنْفراد. ولقد كانَ من دَواعي سُرورِ بُولُس أن يقومَ بهذا العمل، ولكنَّ رسالتَهُ كانَت تُسبِّبُ الإضطراب. "وبينما كانَ بُولُس يَتَكلَّمُ عَنِ البرِّ والتَّعفُّفِ والدينونةِ العتيدةِ أنْ تكونَ، اِرتعَبَ فيلكس وأجابَ: أمّا الآن فاذهبْ ومتى حَصَلْتُ على وَقْتٍ أَستدعيكَ". (24، 25).

لقد تبكَّتَ الحاكِمُ بِوُضُوحٍ من الرُّوحِ القُدُس عندما سمِعَ بُولُس يعِظ، في الجماعَةِ أم على إنفِراد. فكانَ غالِباً ما يدعُو بُولُس، ولكنَّنا نُخبَرُ أنَّ دوافِعَهُ كانت أن يأخُذَ من بُولُس مالاً ليُطلِقَهُ. ونقرَأُ أيضاً أنَّهُ أبقَى بُولُس في السجن ليسترضِيَ اليهود.

ولمّا كََمَلَتْ سنتانِ، ماتَ فِيلكسُ وجاءَ بوركيوسَ فستوس خليفةً له. عندما اكتشفَ الحاكمُ فستوس حالما استلمَ السُّلطةَ أنَّ في حَوْزَتِهِ سَجينا مشهوراً دينياً وسياسياً، إستدْعاهُ إلى المحُاكمةِ. لقد عَرَفَ بولسُ أنَّه لن يُحاكَمَ بعدالةٍ في محاكِمَ تحتَ تأثيرِ اليهُود في أورشليم. لهذا رَفَعَ بُولُس دعواهُ في هذه المُحاكَمة إلى قيصر، الذي كانَ من حقِّهِ كمُواطِنٍ رُومانِيّ (أعمال 25: 10). فأجابَ الحاكمُ: "إلى قيصر رفعْتَ دعواكَ، إلى قيصر تَذهبُ" (12). 


أمامَ المَلِك أغريباس

بينما كَانَ يَنْتَظِرُ بولسُ أن يُرَحَّلَ إلى روما، نَزَلَ الملكُ أغريباس وزوجتُهُ برنيكي ضَيفانِ على الحاكمِ فستوس. فبعدَ أن سمِعا عن بُولُس، أخبَرا فستُوس أنَّهُما يُحِبَّانِ أن يلتَقِيا بِبُولُس (22). هل تَذْكُرُ ما قالَهُ الربُّ لحنانيا عن خطتِهِ لبولس، قال له: "سيَحملُ إسمي أمامَ أُممٍ وملوك وبَني إسرائيل" (أعمال 9: 15). لقد تحقَّقَت هذه النُّبُوَّة عندما إلتَقى بُولُس بالمَلِك أغريباس.

وهكذا أُحضِرَ بولسُ أمامَ الملكِ والملكة، حيثُ ألقَى عظَةً أُخرى رائعة. مَرَّةً أُخرى أخبَرَ بُولُس عن قصَّةِ تجديدهِ على طَريقِ دِمَشق. وبينما كان بولس الرسولُ يَخْتِمُ عِظتَهُ العظيمةَ، وَقَفَ الحاكمُ وقالَ: "أنتَ تهذي يا بولس. الكُتُب الكثيرة تُحَوِّلُكَ إلى الهَذَيان!" (أعمال 26: 24).

إنَّ المصطلح "تهذي" يعني في اليونانية "غريب الأطوار،" أو "خارج مِحوَر ذاتِكَ". نعم هذا صحيح، لقد ابْتَعَدَ بولُس عَنِ المركز. كانَ لبولس مركزا آخرَ تَدورُ حولَهُ حياتُهُ. ذلك المركزُ كانَ المسيحَ يسوع المُقامُ الذي قابَلَهُ على طريقِ دمشق. فمثل فيلكس، تأثَّرَ الحاكِمُ فِستُوس أيضاً بكلماتِ بُولُس.

لكنَّ بولس تحوَّلَ بالحديثِ إلى الملك. كانَ الملكُ أغريباس مِنْ أصلٍ يهودي، لهذا سألَهُ بُولُس، "أَتؤمنُ أيُّها الملكُ أغريباس بالأنبياء؟ أنا أَعْلَمُ أنَّك تُؤمنُ. فقالَ أغريباس لبولس بقليلٍ تُقنِعني أنْ أَصيرَ مسيحيا" (27، 28).

على الرَّغْمِ مِنْ أنَّ بعضَ المُفسِّرين لا يَرونَ صِدقاً بل تهكُّماً في كلامِ أغريباس عندما قالَ "بِقيلٍ تُقنعَني أنْ أَصِيرَ مسيحيا"، إلاّ أنَّني أرى إخلاصا فيما قال. لهذا كانَ جوابُ بولس مُخلِصا أيضا إذْ قالَ: "كنتُ أُصلِّي إلى الله أنَّه بقليلٍ وبكثيرٍ ليس أنتَ فقط، بلِ أيضا جميعُ الذين يَسمعونَني اليومَ يَصيرون هكذا ما خلا هذه القيود". (29)

سببٌ آخرٌ يجعلُني أَعتقدُ أنَّ أغريباس كانَ صادقا، هو ما نقرأُهُ عن تجاوُبِ الملك، والملكة، والحاكِم، بعدَ أن تكلَّمَ بُولُس: "فلمَّا قالَ هذا قامَ الملكُ والوالي وبرنيكي والجالسون معهم. وانصرفوا وهم يُكلِّمونَ بعضُهم بعضا قائلين إنَّ هذا الإنسانَ ليس يَفعلُ شيئا يَستحقُّ الموتَ أو القيود. وقالَ أغريباس لفستوس كانَ يُمكنُ أنْ يُطلقَ هذا الإنسانُ لو لم يَكنْ قد رَفَعَ دعواه إلى قيصر". (30 – 32)


رحلَة بُولُس إلى رُوما

إحدَى أكثر القصص إثارَةً في هذا السفرِ التاريخيّ المُوحَى بهِ، هُوَ سردُ لُوقا لرَحلَةِ بُولُس في البَحرِ إلى رُوما (أعمال 27). لقد برهَنَ بُولُس عن قُدُراتٍ قِيَادِيَّة غير إعتِيادِيَّة عندما حمَلَ شهادَةً عجائِبِيَّة لكُلِّ الناجِينَ من هذه الرحلة معَهُ. لقد أخذَ كَلِمَةً من الرَّبّ أنَّهُ بسبب ظُروف الطقس التي تُهدِّدُ سفرَهُم بالخَطر، فعلى السفينة أن لا تُبحِر عندما تَصِلُ إلى كريت. ولكنَّ القادَةَ الرُّومانِيين لم يُصغُوا لنصيحَةِ سجينِهم بُولُس.

وعندما هبَّت العاصِفة التي تنبَّأَ بها بُولُس، وبعدَ أربَعةَ عشرَ يَوماً من إستسلامِ السفينةِ لأهواءِ العاصِفة الهوجاء، وبعدَ أن أصبحَ المُسافِرونَ مُصابينَ بدُوارِ البَحرِ، وغيرَ قادرينَ على تناوُلِ الطعام، وعظَ بُولُس هؤُلاء المُسافِرينَ المَذعُورينَ رُفَقاءَهُ (20- 26). لقد أكَّدَ بُولُس لكُلِّ المُسافِرينَ على مَتنِ السفينَةِ أنَّ اللهَ ظهرَ لهُ وأكَّدَ لهُ أنَّهُ بالرُّغمِ من أنَّ السفينَةَ سوفَ تتحطَّمُ إلى أشلاء، ولكنَّ أحداً من رُكَّابِها لن يُصابَ باذىً، بل سينجُون.

وعندما تحقَّقت الكلمة النَّبَويَّة التي أخذَها بُولُس من الرَّبّ بِحذافِيرِها، نجحَ النَّاجُونَ في الوُصُولِ إلى جزيرَةِ مالطا. فأشعَلوا ناراً لكي يُجفِّفُوا ثِيابَهُم المُبلَّلَة وأجسادَهُم التي كانت ترتَجِفُ برداً. وإذا بأفعى سامَّة تنشُبُ من وسطِ الحطَب المُشتَعِل وتنقَضُّ على يدِ بُولُس وتلسعهُ. فظنَّ سُكَّانُ مالطا الأصليِّين أنَّ بُولُس كانَ ولا بُدَّ مُذنِباً بجرائِمَ فظيعة، ولهذا كانَ اللهُ يقتصُّ منهُ العِقاب. ولكن عندما نفضَ بُولُس الأفعى السامَّة من يدِهِ إلى النار، ولم يُصبهُ شيءٌ من الضرَر، ظنَّ السُّكَّانُ الأصلِيُّونَ أنَّهُ ينبَغي أن يكُونَ إلهاً.

عندما تمَّت مُتابَعةُ الرِّحلة إلى رُوما على متنِ سفينَةٍ أُخرى، قدَّمَ لُوقا صُورَةً جميلةً عن المُجتَمَعِ المَسيحي الرُّوحِي في رُوما، الذي هُوَ كنيسةُ المسيح الحَي القائم من الموت. مِنَ المُؤثِّر جِدَّاً أن نقرَأَ كيفَ تعلَّمَ المُؤمِنُونَ في رُوما عن وُصولِ بُولُس المُتوقَّع، وكيفَ تشجَّعَ وتعزَّى قَلبُهُ، عندما لاقاهُ المُؤمنونُ عندَ دُخُولِهِ إلى مدينَةِ رُوما سجيناً.

بينما سُلِّمَ السُّجناءُ إلى سُلطاتِ السجن الرُّومانِيَّة، سُمِحَ لبُولُس أن يسكُنَ في الإقامَةِ الجَبرِيَّة في بيتٍ إستأجَرَهُ لنَفسِهِ، حيثُ مكثَ قسرِيَّاً لمُدَّةِ سنتَين. لقد سُمِحَ لهُ بدَعوَةِ قادَةِ اليَهُود في المدينة، وإنسجاماً معَ ستراتيجيَّتِهِ التي تقُولُ "لليهودِي أوَّلاً"، راحَ يكرِزُ بالإنجيل مُعلِناً أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح المُرسَل لهُم. فآمنَ البعضُ منهُم، ولكنَّ مُعظَمَهُم أصبَحوا أعداءَ ألِدَّاء لبُولُس.

في هذا المنزِلِ المُستَأجَر، كتبَ بُولُس رسائِلَهُ المدعُوَّة برسائِلِ السجن – غلاطية، أفسُس، فيلبِّي، وفيلمون – وكانَ مسمُوحاً لهُ بإستِقبالِ الضُّيُوف، وكانت آخِرُ صُورَةٍ رسمها لنا لُوقا عن هذا الرسُول المحبُوب، هي أنَّهُ كانَ يكرِزُ بملكوتِ اللهِ لكُلِّ الذين كانُوا يزُورونَهُ ويُصغُونَ إليهِ (28: 30، 31).

بمعزَلٍ عمَّا نتعلَّمُهُ من رسالةِ بُولُس الرسُول الثانِية إلى تيمُوثاوُس، علينا أن نعتَمِدَ على تاريخِ الكنيسة لكي نعرِفَ نهايَة حياة بُولُس وخدمته. يعتَقِدُ مُعظَمُ المُفسِّرينَ أنَّ بُولُس مَثَلَ للمُحاكَمَةِ أمامَ قيصَر، ثُمَّ أُطلِقَ سراحُهُ، ثُمَّ ذهبَ مدعُوماً من كنيسةِ رومية لكي يُوسِّعَ تُخُومَ خدمتِهِ الإرساليَّة العظيمة إلى إسبانيا.

عندما أَحرَقَ نَيرُون رُوما، وألقى اللائمةَ على المسيحيِّين، إنفجرَ ضدَّ الكنيسةِ إضطِّهادٌ عنيفٌ إستمرَّ لمُدَّةِ ثلاثِ قُرونٍ. فأصبَحَ المُؤمنونَ بالمسيح مكرُوهِينَ، واعتُبِرُوا وكأنَّهُم ألدّ أعداء حُكُومَة وشعب رُوما. ولقد أصبَحَ كُلٌّ من بطرُس وبُولُس أكثَرَ شخصيَّتين مكروهتين. فأُلقِيَ القبضُ مُجدَّداً على بُولُس. ويعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّهُ سُجِنَ عندَها في سجنِ المَامِرتَاين المُرعِب في رُوما، من حَيثُ كتبَ رسالتَهُ الثانِية إلى تيموثاوُس، قبلَ أن يُقطَعَ رأسُهُ.

هل تشعُرُ أنَّكَ بدأتَ تتآلَفُ معَ هذا الرسُول العظيم والرائع؟ إنَّهُ كاتِبُ الأسفار الثلاثة عشر التالية من العهدِ الجديد، والتي سنقُومُ بدراستِها تِباعاً. فجميعُنا نحتاجُ إلى أبطال ونماذِج من الإيمان لنقتَدِيَ بها. صلاتي هي أن تُحِبَّ بُولُس كما أحببتُهُ أنا منذُ أن قرأتُ أوَّلاً هذه الإصحاحات من سفرِ أعمالِ الرُّسُل التي كُنَّا بِصددِ دراستِها.

من خِلالِ الإصحاحاتِ الأخيرة من هذا السفر التاريخيّ، لدينا شعُورٌ أنَّ كُلَّ شيءٍ يسيرُ نحوَ أَوْجِ القِمَّة، عندَ زِيارة بُولُس إلى عاصِمة الأمبراطُوريَّة الرُّومانِيَّة، وإلى مُحاكمتِهِ أمامَ قيصَر. يتولَّدُ لدينا الشعُور بأنَّ سِياقَ سَردِ التاريخ يتوقَّفُ فجأةً بدونِ نهايَة في آخرِ هذا السفر التاريخي. يعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّ الإضطِّهاد قد يكُونُ السبب الكامِن وراءَ هذه النهايَة المَبتُورة لسفرِ الأعمال. فإذا لاحظتَ ضمير المُتكلَّم الجمع "نحنُ" في الإصحاحَين الأخيرين، يتَّضِحُ أنَّ لُوقا كانَ معَ بُولُس في تِلكَ المرحلة البَحريَّة العاصِفة، وعندَ دُخُولِهِ إلى رُوما. ولرُبَّما تمَّ توقِيف لُوقا معَ بُولُس، فلم يعُدْ بإمكانِهِ أن يُتابِعَ كتابَةَ تاريخِهِ الرائع عن الجيل الأوَّل للكنيسة.

وكما ذكرتُ في بِدايَةِ هذا الكُتَيِّب، قد يكُونُ من ترتيبِ العنايَةِ الإلهيَّة، أنَّ تاريخَ الكنيسةِ هذا لم ينتَهِ، لأنَّنا نحنُ الآن، كما سبقَ لنا وكَّنا، نكتُبُ الإصحاحَ التاسِع والعِشرين من سفرِ الأعمال، مُنذُ يوم الخمسين، عندما وُلِدَت كنيسةُ المسيحِ المُقام.

  • عدد الزيارات: 9867