الفَصلُ الثَّامِن الطَّاعَةُ المَمسُوحَة
إذ نُتابِعُ دِراسَةَ حياةِ شاوُل وداوُد، نحتاجُ أن نتذَكَّرَ أنَّ مَسحَةَ الرُّوحِ القُدُس لا تجعَلُ منَ النَّاسِ رِجالاً آلِيِّين. وهذا لا يعني أنهم يفقدون حُرِّيَّةَ إرادتهم. فشاوُل ظلَّ قادراً أن يتخذَ خَيَارات، ولقد إتَّخَذَ بإستِمرار الخيارات الخاطِئة. فسَحَبَ اللهُ رُوحَهُ من شاوُل (1صَمُوئيل 16: 14؛ 18: 12).
هل مُمكِن أن يحدُثَ هذا مَعَنا اليوم؟ أنا أؤمنُ أنهُ يوجدُ فَرقٌ بينَ الطريقة التي تعاملَ فيها الروحُ القدس معَ الناس في العهدِ القديم، وبين الطريقة التي يتعاملُ فيها الروح القدس مع الناس في العهدِ الجديد، ما بعدَ الصلب ويوم الخمسين. فمثلاً صلَّى داوُد عندما أخطأَ، "لا تَطرَحني من قُدَّامِ وَجهِكَ، وروحَكَ القدوس لا تنزِعهُ مني." (مَزمُور 51: 11) أمَّا الآن فيَقُولُ لنا يسُوع: "لا أترُكك ولا أُهمِلك." (عبرانِيِّين 13: 5). فإذا إختَبَرنا الولادةَ الثانية، عندها يبدأُ اللهُ عملَهُ الروحي فينا ويُكمِّلُهُ إلى يومِ المسيح، لأن "اللهَ هو العامل فينا أن نُريدَ وأن نعملَ من أجلِ المَسرَّة." (فيلبي1: 6، و2: 13). ففي أيَّامِنا الحاضِرة، هُناكَ مجالان لعملِ الروح القدس فيِنا: (1) فهُناكَ عملُ الروح القدس فينا، الذي هُوَ الولادَةُ الجديدة، وذلكَ المجال من عملِهِ مُعلَنٌ كثَمَرِ الرُّوح. (غلاطية 5: 22- 23). (2) وهُناكَ بركةُ الروح القُدُس ومسحتُهُ علينا. ومجالُ عملِ الرُّوحِ مُعلَنٌ لنا من خلالِ مواهِبِ الرُّوحِ القُدُس، التي تُقَوِّينا لمجمُوعَةٍ مُتَنَوِّعَة منَ الخدماتِ.
للأسَف سَبَّبَ عِصيانُ شاوُل أنَّ الرَّبَّ طَرَحَهُ بعيداً عن محضَرِهِ، ونزَعَ منهُ رُوحَهُ القُدُّوس. وعندها، أصبَحَت حياةُ شاوُل تعريفاً حَيَّاً لما نُسمِّيهِ اليوم الشَّخصيَّة المُحَطَّمَة.
تَحَطُّم شاوُل
لو كُنَّا سنُشخِّصُ حالَةَ شاوُل اليوم، لَقُلنا أنَّهُ يُعانِي من جُنُونِ الإرتِياب المَمزُوج بإنفصامِ الشَّخصيَّة. ويُعَرِّفُ القامُوسُ مرضَ إنفِصامِ الشَّخصِيَّة بِتفَكُّكِ الشَّخصِيَّة. هذا التَّعريف يُناسِبُ تماماً حالَةَ شاوُل. فشاوُل كانَ مُصاباً بِجُنُونِ الإرتِياب. وأصبَحَ يعتَقِدُ أنَّ كُلَّ شَخصٍ حَولَهُ صارَ يتآمَرُ ضِدَّهُ، خاصَّةًَ الشَّاب داوُد. وهكذا أصبَحَ شاوُل يغارُ من داوُد، مُقتَنعاً أنَّ هذا الأخير قد دبَّرَ خطَّةً لإغتِصابِ العَرش منهُ (1صَمُوئيل 18: 8؛ 20: 30- 31). فلقد كانَ شاوُل يُعانِي الأمَرَّين بِسَبَبِ نُبُوَّةِ صَمُوئيل عن تمزيقِ المملكة عنهُ وإعطائِها لمن هُوَ أفضَل منهُ – أي لِشَخصٍ يعمَلُ مشيئةَ اللهِ الكامِلة بِكُلِّ قَلبِهِ (13: 14).
إنَّ الصِّفةَ التي تطغَى على حياةِ شاوُل بكامِلها، يُمكِنُ التَّعبيرُ عنها بكلمةٍ واحِدَة هي عِصيان. ولقد عبَّرَ اللهُ بكلمةٍ واحِدَةٍ عن فحوى حياةِ شاوُل: "إيخابُود"، التي تعني، "زالَ المَجدُ."
داوُد: رَجُلٌ بِحَسَبِ قَلبِ الله
لقد كانت حياةُ داوُد نقيضاً مُطلَقاً لحياةِ شاوُل. فالميزَةُ التي طَغَت على حياةِ داوُد كانت الطَّاعَة – ولهذا كانَ رَجُلاً بِحَسَبِ قَلبِ الله، ويعمَلُ مَشيئَةَ الله. وبينما كانت حياةُ شاوُل تتفكَّكُ وتتحطَّمُ بِسبَبِ كَونِهِ طَلَّقَ نفسَهُ عنِ الله، كانَ اللهُ يجمَعُ حياةِ داوُد ليَجعَلَها وحدَةً مُتكامِلَة، لأنَّ داوُد كانَ يُرَكَّزُ على الطَّاعَة، أكثَر مما رَكَّزَ شاوُل على العِصيان.
لقد أَرسَلَ اللهُ صموئيل إلى بيتِ يسَّى البيتلحمي، لكي يمسحَ شابَّاً سيَحِلُّ مَحَلَّ شاوُل ليَكُونَ مَلِكاً على إسرائيل. ولكنَّ النَّبِيَّ الكاهِنَ ظَنَّ أنَّ الإبنَ الأكبَر بدا وكأنَّهُ أهلٌ ليُصبِحَ مَلِكاً عظيماً، فصَحَّحَ اللهُ وُجهَةَ نظَرِهِ بهذه الحقيقَةِ الصَّريحَة: "لا تنظُرْ إلى منظَرِهِ وطُول قامتِه لأني قد رفضتُهُ. لأنَّهُ ليسَ كما ينظُرُ الإنسانُ. لأنَّ الإنسانَ ينظُرُ إلى العينين وأما الربُّ فإنَّهُ ينظُرُ إلى القلب." (1صَمُوئيل 16: 7).
وعبَّرَ يسَّى بنيهِ السبعة أمامَ صموئيل فقالَ صموئيل ليسَّى لم يختر الرب هؤلاء. وقالَ صموئيل ليسَّى هل كمُلُوا الغِلمان. فقالَ بقي بعدُ الصغير وهوذا يرعى الغَنَم. (16: 10 و11) "فقالَ صموئيل ليسَّى أرسِل وأتِ بهِ." وبالطَّبعِ فإنَّ داوُد الأصغَر والأقَل أهمِّيَّةً بينَ إخوتِهِ، وهذا الكلامُ يبدُو مألُوفاً بالطَّبع، كانَ هُوَ الذي إختارَهُ اللهُ لِيَكَونَ الملكَ التَّالي على إسرائيل (16: 12). فأخذَ صموئيل قرنَ الدُهنِِ ومَسَحَهُ في وسطِ إخوتِه. وحلَّ روحُ الربِّ على داوُد من ذلكَ اليوم فصاعداً." (1صَمُوئيل 16: 13)
لقد مرَّ وقتٌ طويل قبلَ أن يُصبِحَ هذا الرجُل داود ملِكاً. فعندما نلتقي بداود في 1صموئيل16- 31، نرى وصفاً لكلِّيَّة لاهوت الله الإعداديَّة التي دَرَسَ فيها داوُد. فبينما كانَ شاوُل يُلاحِقُهُ بحسَدٍ راغِباً بِقَتلِهِ، إجتازَ داوُد بكلِّ أنواع الإختبارات والتَّجارِب التي علَّمَتْهُ أن يَثِقَ باللهِ وأن يُطيعَهُ مهما كانَتِ الظُّرُوف. وكُلُّ هذه الإختبارات كانت تدفعُ داود بإتجاهٍ واحد، فكانت تهدفُ جميعُها لتدريب داود ليُصبِحَ ملكاً. وهكذا كان اللهُ يُحضِّرُ داوُد للخدمة التي أعدَّها لأجلِه. هل تعلَمُونَ أنَّ اللهَ يعمَلُ معنا أيضاً بهذه الطريقة؟ فكُلُّ يَومٍ نَعيشُهُ يُحَضِّرُنا لِيَومٍ آخر سنعيشُهُ. فإن كُنَّا نُحِبُّ اللهَ وإن كُنَّا مَدعُوِّينَ حسبَ قصدِهِ، فكُلُّ ما نختَبِرُهُ سيُساهِمُ بما يُريدُنا اللهُ أن نعمَلَهُ في مُستَقبَلِنا (رُومية 8: 28).
دَعُونا ننظُرُ إلى بعضِ الإختِباراتِ التي جعلَ اللهُ داودَ يجتازُها، لنرى كيفَ شكَّلَهُ اللهُ ليُصبِحَ الرَّجُلَ الذي أرادَهُ أن يَكُونَهُ.
داوُد الرَّاعي
من المُثيرِ للإهتمام أن نُلاحظَ أن الكثير من القادة العظام في الكتاب المقدس كانوا رُعاةَ غنم، مثل موسى وداود. وكرُعاةِ غنم، تعلَّموا مبادئَ جعلت منهم قادة عُظماء. فداود تعلَّمَ الكثير عندما كان راعياً. ففي بعضِ الأحيان عندما كانَ داوُد يرعى غنمَ أبيهِ، كانَ عليهِ أن يُصارِعَ الأُسُودَ والدّبَبة التي كانت تُهاجِمُ الخِراف. (1صمُوئيل 17: 34- 36). ومثل يسوع المسيح المَسيَّا، كانَ داوُد مُستَعِدَّاً أن يضعَ حياتَهُ من أجلِ الخِراف (أُنظُرْ يُوحنَّا 10: 11- 15). فلا بُدَّ أنَّ اللهَ قالَ عندما رأى هذا، "إن كانَ هذا الشَّابُّ يشعُرُ بهذه الطريقة حيالَ خِرافِ والِدِه، فلا بُدَّ أنَّهُ سيشعُرُ بِنَفسِ الطَّريقَة حيالَ خِرافِي. لهذا سوفَ أجعَلهُ مَلِكاً!"
داوُد المُوسِيقار
عندما مرَّ شاول في الإكتئاب والهَلع وتقلُّب المزاج، وبكُلِّ العوارض التي نُسمِّيها "هَوَس الإكتئاب،" إحتاجَ للمُساعَدة. فإقتَرَحَ خُدَّامُهُ إستَخدامَ المُوسيقى لمُعالَجَتِهِ وللتَّرويحِ عن نفسِهِ. وصدَفَ أنَّ أحَدَهُم كان عالِماً بمَوهِبَةِ داوُد المُوسيقيَّة: قالَ واحِدٌ من خُدَّامِ شاوُل أنَّهُ كانَ يعرِفُ شابَّاً من بَيت لحم، إبن رَجُلٍ إسمُهُ يَسَّى، الذي لم يَكُن فقط مَوهُوباً بالعَزفِ على القِيثارَة، بل كانَ أيضاً شابَّاً جميلَ الطَّلعَةِ، شُجاعاً، قَوِيَّاً، وحكيماً. وفوقَ ذلكَ كُلِّهِ، "كانَ الرَّبُّ مَعَهُ." (16: 18).
وهكذا رَطَّبَ داوُد رُوحَ شاوُل بمُوسيقاه (23)، والأرجَح أنَّهُ رَنَّمَ مزاميَر كانَ قد سبقَ وكَتَبَها. تَذَكَّرْ أنَّ داوُد كتبَ حوالي نصف سِفرِ المزامير المُوحَى بهِ منَ الله، والذي كانَ كتابَ التَّرنيمِ عندَ اليهُود. وقرابَةَ نهايَةِ حياتِهِ، عمِلَ ترتيباتٍ أيضاً لتنظِيمِ العِبادَةِ في الهَيكَل – الأمرُ الذي تطَلَّبَ أربَعَة آلاف كاهِن كانُوا يَعزِفُونَ المُوسيقى التي ألَّفَها داوُد بِنَفسِهِ، لكَي يُسَبِّحُوا الرَّبَّ. (1أخبار الأيَّام 23: 5) وهكذا ساهَم داوُد أكثَرَ من أيِّ شَخصٍ آخر في تاريخِ شعبِ الله، بالدَّمجِ بينَ المُوسيقى وكلِمَةِ الله معاً إلى الأبد.
داوُد المُحارِب
لقد حارَبَ داوُد حُرُوبَ الرَّبِّ منذُ نُعُومَةِ أظافِرِه. أتَذكُرُونَ قِصَّةَ داوُد وجُولييت؟ (1صَمُوئيل 17). كانَ جُولييت بطَلَ الحرب عندَ الفِلسطِيِّين، وكانَ مارِداً – لأنَّهُ كانَ أطوَلَ من ثلاثَةِ أمتارٍ! (4) ولقد إستَهزَأَ جُولييت بجُنودِ الرَّبّ، الذين إرتَعدَت فرائِصُهُم خَوفاً. فداوُد، الذي كانَ قد ذهبَ إلى ساحَةِ المعركَة حامِلاً زاداً منَ الطَّعامِ لأشقَّائِهِ ولضُبَّاطِهم، سَمِعَ عندها تحدِّياتِ جُولييت. ثمَّ أعلَنَ داوُد أنَّهُ سيُحارِبُ هذا "الفِلسطِيِّ الأغلَف." وعندما واجَهَ جُولييت، قالَ لهُ: "أنت تأتي إليَّ بسيفٍ وبرمحٍ وبتُرسٍ. وأنا آتي إليكَ باسمِ ربِّ الجنود إلهِ صفوف إسرائيل الذين عيَّرتَهم…فتعلمُ كُلُّ الأرضِ أنهُ يوجدُ إلهٌ لإسرائيل. وتعلمُ هذه الجماعة كُلُّها [أي جيشُ العِبرانيين] أنهُ ليسَ بسيفٍ ولا برُمحٍ يُخلِّصُ الربُّ لأن الحربَ للربِّ وهو يدفعكُم ليدِنا." (17: 45- 47).
إنَّ جوهَرَ ما قالَهُ داوُد هُوَ أنَّ القَضِيَّةَ كانت للرَّبّ، والحَرب حربُهُ.
داوُد القائِد
لقد أصبحَ داوُد أيضاً قائداً عسكرياً عظيماً، حيثُ كان لهُ تأثيرٌ عظيمٌ على رجالِه. وكانَ رِجالُهُ مُستَعِدِّينَ أن يُخاطِرُوا بحياتِهم من أجلِهِ. فعندما كانَ داوُد هارِباً من المَلِك المَجنُون شاوُل، وكانَ يختَبِئُ في مغارَة عدُلام، إجتاحَ الفِلسطِيُّونَ إسرائيل وإحتَلُّوا بيتَ لحم. وعندما جاءَ ثلاثَةٌ من أبطالِ داوُل لرُؤيَتِهِ، قالَ داود، "من يسقيني ماءً من بئرِ بيت لحم." فذهبَ ثلاثةٌ من رجالِ داوُد الثلاثين الأبطال، واستلُّوا سُيوفَهُم، وشقُّوا طريقَهم عبرَ أبوابِ مدينة بيت لحم، وُصولاً إلى البئر من حيثُ أتوا بكأسِ ماءٍ لداود، ثم شقُّوا طريقَهم رجُوعاً إلى خارج المدينة حتى وصلوا إلى داود وقالوا لهُ، "هذه كأسُ الماء التي طلبتَها." فأخذَ داوُد كأسَ الماءِ وسكَبَها للربِّ على الأرضِ وقال، "أنا لستُ مُستَحِقَّاً أن أشربَ هذا الماء لأنَّكُم خاطرتُم بحياتِكم من أجلِه." (2صَمُوئيل 13- 17) يُقالُ أنَّ القائدَ هو شخصٌ يتبعُهُ آخرون. فبِهذا المنظار، يُعتَبَرُ داود قائداً بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى.
داوُد ويُوناثان
وعندما ندرسُ حياةَ داوُد، نلاحظ أيضاً علاقةَ داود بيوناثان، إبن الملك شاول، التي نجدُ فيها مثالاً رائعاً عن الصداقة التي تظهرُ في هذا الأدب التاريخي. عندما عرفَ داود أن يوناثان قد قُتِل، قال داود، "كيفَ أبكي عليكَ يا يوناثان. كم أحببتُكَ، وحُبُّكَ لي فاقَ حُبَّ النساء." (2صَمُوئيل 1: 26)
مُعظَمُ الرجال اليوم لا يتجرَّأون أن يقولوا لرجُلٍ آخر، "أُحبُّكَ" لئلا يُتَّهَموا بالشذوذ. ولكنَّ الصداقةَ بين رجُلٍ ورجُل، أو بين إمرأة وإمرأة، هي علاقةٌ جميلة. بإختباري الخاص، عندما يُخَطِّطُ اللهُ لِشيءٍ جَميلٍ في هذه الحَياة، يأتي الشَّيطانُ ويُشَوِّهُهُ بأبشَعِ الخطايا التي تُدَنِّسُ هذه البَركة الرُّوحِيَّة، التي كانَ اللهُ سيَمنَحُنا إيَّاها. وهدَفُ إبليس بالطَّبعِ هُوَ إخافَتُنا لنَهرُبَ بَعيداً عن الخير الذي أرادَهُ اللهُ لنا. فاللهُ هوَ الذي جمعَ قَلبَي داوُد ويُوناثان معاً في صَداقَةٍ بَريئَةٍ نادِرَة الوُجُود.
ماذا كانَ السِّرُّ الرُّوحِيُّ في حياةِ داوُد؟ لقد كانَ مُستَسلِماً كُلِّيَّاً لله، وأرادَ أن يعمَلَ كُلَّ مَشيئَةِ الله. يَقِفُ داوُد على صَفحاتِ الكِتابِ المُقدَّس كنَمُوذَجٍ عَظيمٍ لما يستَطيعُ اللهُ أن يعمَلَهُ من خلالِ شَخصٍ مُلتَزِمٍ كُلِّيَّاً بالله.
- عدد الزيارات: 13657