Skip to main content

سِفرُ القُضاة الفَصلُ الأوَّل نِزاعُ الإرتِداد

يُغَطِّي سفرُ القضاة أربعمائة سنة من التاريخ العِبريّ. والجملة الإفتتاحيَّةُ في سفر القضاة تُسجِّلُ موتَ يشوع وغيابَ القيادة الذي نتجَ عن موتِه. يبدو أن يشوع لم ينجح في تدريب خليفَة له ليُسلِّمَهُ دورهُ القيادي. وبطريقة ما، يصفُ سفرُ القضاة فراغاً في القيادة، مِمَّا جعلَ شَعبَ إسرائيل ضائِعينَ، نتيجَةً لِفشلِ يشوع في تدريب من يحلُّ محلَّه. ونُلاحظُ عبر سفر القضاة بكامِلِهِ، أن هؤلاء القضاة جميعاً لم ينجحوا في تدريبِ من يخلفهم في أدوارِهم القِياديَّة، ومن يُؤَمِّنُ إستِمرارِيَّةَ قيادَةِ شَعبِ الله.

العددُ المفتاحي في سفر القضاة يُخبِرنا أنهُ لم يكُن هناكَ مَلِكٌ في إسرائيل خلال هذه الحقبة التاريخية، "وكلُّ واحدٍ كان يعملُ ما يحسُنُ في عينيه." (قُضاة 17: 5- 7) يعتقدُ الكثيرُ من عُلماء الكتاب المقدس أن صموئيل هو كاتب سفر القضاة. وبِما أنَّهُ لم يُوجَد مَلِكٌ خِلالَ أيَّامِ القُضاة، فعلى الأرجح أنَّ كاتِبَ هذا السفر دَوَّنَهُ لاحقاً في مرحلة المُلك، التي منها كانَ يتطلَّعُ إلى الوراء. وتُعتَبَرُ هذه الحقبة التي حكمَ فيها القُضاةُ بمثابةِ العصر المُظلِم في التاريخ العبري، قبلَ أن يَكُونَ لِشَعبِ إسرائِيلَ مَلِكٌ.

الرسالةُ التَّعَبُّدِيَّةُ التي نَجِدُها في سفر القضاة تُعالِجُ مُشكِلَةً أساسِيَّةً تُسمَّى بالإرتِداد. تتألَّفُ كلمة إرتداد من كلمتين: الوقوف بعيداً. وأحياناً قد تعني هذه الكلمة، "السُّقوط بَعيداً" عن إلتِزاماتِ الإيمان. تذكَّرْ أنه في نهايةِ سفر يشوع، إتَّخذَ بنو إسرائيل إلتِزاماً، وخَتَمُوا إيمانَهُم بعهدٍ عَلَنِيّ. قال يَشُوعُ، "إختاروا من تعبُدون، وأما أنا وبيتي فنعبُدُ الربَّ." ولقد تعهَّدَ الشَّعبُ أمامَ اللهِ وأمامَ يشُوع قائِلين: "نختارُ أن نضعَ اللهَ أوَّلاً. ونختارُ أن نخدُمَ اللهَ ونُطِيعَهُ."

لقد إختاروا أن يخدموا الرب، وإتَّخذوا ذلك الموقف هُم وعائِلاتُهُم. فالإرتداد بكل بساطةٍ هو التالي: أن تتَّخذَ موقفاً كذلك الذي إتَّخّذَهُ بنو إسرائيل، وفيما بعد تَتَّخِذُ موقفاً بالإبتعاد عن الموقف الأوَّل، أو تَسقُطُ من إلتِزامِكَ باللهِ وبِعَهدِكَ معَهُ.


حلَقَةُ الإرتِداد

في سفرِ القُضاة، نَجِدُ حَلَقَةَ إرتِدادٍ إجتازَ عبرَها بنُو إسرائيل سَبعَ مرَّاتٍ، خلالَ أربَعمائة سنة أو أكثَر بِقَليل. فكِّرْ بهذه الحلقة وكأنّها ساعة، حيثُ تبدَأُ حلقَةُ الإرتِدادِ هذه معَ عقرَبِ السَّاعَةِ وهُوَ يُشيرُ إلى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ عشر. وهذا يُشيرُ إلى بني إسرائيل عندما كانَ اللهُ أوَّلاً عندَهُم، وهُم على نفسِ الإتِّجاهِ معَهُ. ولكن في تمامِ الساعةِ الواحدة، ابتعدَ بنُو إسرائيل عن إلتِزامِهِم تجاهَ الله. في الساعة الثانية ظهرَ بينهم الفساد الأخلاقي، وتَبِعَهُ الفَسادُ السِّياسِيُّ في الساعة الثالثة. وفي الساعة الرابعة من الحلقة، سَلَّطَ اللهُ عليهم عدوَّاً قاسياً. وفي الساعة الخامسة حدثت حَربٌ وهُزِمَ شعبُ الله من قِبَلِ هذا العدو. وعندما وصلَ عقرَبُ السَّاعَةِ إلى الأسفَل، إلى السَّاعَةِ السَّادِسَة، كانَ بنُو إسرائيل قد أصبَحُوا عَبيدَ ذلكَ العَدُوّ الذي هزَمَهُم.

وإذ يتحرَّكُ عقرَبُ السَّاعَةِ صُعُوداً منَ الجِهَةِ الأُخرى، نَجدُ في السَّاعَةِ السَّابِعة نهضَةً رُوحيَّة. هُنا كانَ يَصرُخُ الشعبُ إلى الله طالِبينَ الرَّحمَة. وفي الساعة الثامنة، كانَ يُقيمُ اللهُ عليهم قائداً، فيدعُوهُ ويُؤهِّلهُ ويُوحِيَ لهُ بأن يَقُودَ ثَورَةً ويُطيحَ بالعَدُوِّ الشرِّير. وكانَ يُسمَّى مثلُ هذا القائد بالقاضِي. في السَّاعَةِ التَّاسِعة, كانَ يبدَأُ مثلُ هذا القاضي بحشدِ القُوى والوسائِل للإطاحَةِ بالعَدُوِّ المُحتَلّ. وفي الساعةِ العاشرة، نجِدُ ثَورَةً، ثُمَّ يأتي النَّصرُ في الحادِيَةِ عشرة. وبعدَ تحقيقِ النَّصرِ والإطاحَةِ بالعَدُوّ، يكُونُ بَنُو إسرائيل قد رَجَعُوا إلى السَّاعَةِ الثانِيَةِ عشرة، وهُم يخدُمُونَ اللهَ ويُحِبُّونَهُ مُجَدَّداً.

لقد كانت لديهم حَقَبَاتٌ مُتنوعة من الزمان تمتَّعوا فيها بالسلام، إلى أن نَعُودَ ونقرأُ تلكَ الكلماتِ المُريعَة ثانِيَةً: "وعادَ بنُو إسرائيل ليَعمَلُوا الشَّرَّ في عَينَي الرَّبّ." عِندَها نُدرِكُ أنَّ حلقَةَ الإرتِدادِ تعُودُ لتَحدُثَ ثانِيَةً، وثالِثَةً، ومراراً وتِكراراً. لقد تمتَّعَ بنُو إسرائيل بالسلام لفترة ثمانين سنةً أحياناً، ولكن هذا الإرتداد عادَ ليظهرَ مُجدَّداً، وهكذا تردَّدَتْ حلقةُ الإرتِدادِ هذه سبعَ مرَّاتٍ.

هُناكَ على الأقل تطبيقان تعبُّدِيَّانِ وعمَلِيَّانِ لهذه الرسالة الأساسيَّة في سفر القضاة. أولاً على مستوى التطبيق الشخصي. فهل من المُمكِن أن نَسقُطَ مُجَدَّداً وأن نبتَعِدَ مُجدَّداً عَمَّا نُؤمِنُ بهِ؟ وهل من المُمكِن أن نَقَعَ في الإرتداد؟ يقولُ سفرُ القُضاةِ: نعم، هذا مُمكِن!

يُحذِّرنا سفر التثنية والرسول بولس، "من ظنَّ أنَّهُ قائمٌ (بإستِمرار)، فلينظُرْ أن لا يسقُطَ هو أيضاً." فكَونُنا قد دخلنا "أرضَ مَوعِدِنا كنعان" وانتصرنا، فهذا لا يعني أنَّهُ لا يُمكِنُ أن نرتدَّ أو أن نسقُطَ بَعيداً عمَّا نُؤمِنُ بهِ. يُرينا سفرُ القُضَاةِ مراراً وتكراراً أن بَني إسرائيل سَقَطُوا في الإرتِداد. وعلى مِثالِهم، نحنُ أيضاً نلتزم أن نضعَ اللهَ أوَّلاً ونقومُ بإلتزاماتٍ وتعهُّداتٍ عظيمةٍ لله في بعضِ الأوقات، ولكننا سُرعان ما نسقطُ فيما بعد. وعندما نسقط، يتحتَّمُ علينا أن ندفَعَ ثمنَاً باهِظاً لِعواقب الإرتداد.

التطبيقُ التَّعبُّدِيُّ الثاني في سفر القضاة، هو ما يُمكِنُ تسمِيَتُهُ: الإرتِدادُ الوطني القومي. فكما إجتازت أُمَّةُ بني إسرائيل حلقة الإرتداد المُتكرِّرة هذه في سفر القضاة، فمنَ المُمكِنِ أن تجتازَ أُمَمٌ مُعاصِرةٌ هكذا حلقة اليوم.

فِي مَراحِلَ مُعَيَّنة، شكَّلَت الأراضِي المُقدَّسة مركز عمل الله الأساسيّ، وكانت أُورشَليمُ بِمثابَةِ عاصِمَةِ العالم الرُّوحِيَّة. ولكنَّ القادَةَ الرُّوحِيِّين إبتَعَدُوا عنِ اللهِ، ورفَضُوا المسيحَ وتصريحاتِهِ المَسياوِيَّة. فعندما دخلَ يسُوعُ إلى أورشَليم صَبيحَةَ أحَدِ الشَّعانِين، قالَ للقادَةِ الدِّينيِّين، "إن لم تأتُوا بِثِمارِ ملكُوتِ الله، فإنَّ اللهَ سوفَ يأخُذُ منكُم المَلكُوت وسيُعطِيهِ لِشعبٍ يأتي بِثمارِهِ." بكلماتٍ أُخرى، "اللهُ سوفَ ينقُلُ مركَزَ عملِهِ"، إن كانَ الوطنُ الذي يستَضيفُ مركَزَ عملِ اللهِ لا يَأتي بِثمارِ ملكُوتِ الله. قالَ يسُوع، "إنَّ الإلتِزامَ تجاهَ الله هُو مِثلُ السُّقُوطِ على حَجَرٍ. فإمَّا أن تقعَ على هذا الحَجَرِ وتتَكسَّرُ عليهِ، وإمَّا أن يقعَ الحَجَرُ عليكَ ويسَحَقَكَ." (متَّى 21: 42- 44)

عندما أخذَ يسُوعُ المَلَكُوتَ بعيداً عنِ رِجالِ الدِّين في إسرائيل، أعطى هذا الملَكُوتَ لكنيستِهِ. هذا يعني أنَّ هذا التَّطبيقَ التَّعَبُّدِيّ في تعليمِ حلَقَةِ الإرتدادِ ينبَغي أن يُوَجَّهَ بالدَّرجَةِ الأُولى إلى الكنيسة. وبما أنَّهُ يُوجَدُ تَفسِيرٌ واحِدٌ ولكن الكَثير من التَّطبيقاتِ الكتابِيَّة، فإنَّ هذا التَّحذِير عنِ الإرتِداد يُمكِنُ أن يُطَبَّقَ على خدماتٍ مثل الآلاف منَ الكُلِّياتِ والجامِعاتِ ومعاهِدِ اللاهُوت الكنسيَّة، التي تأسَّسَت لتعليمِ كلمةِ الله.

ينبَغي أن نُطَبِّقَ هذه التحذِيراتُ المُرهِبَة حيالَ الإرتدادِ في سفرِ القُضاة، على الصَّعيدِ الشَّخصِيّ، المُؤسَّساتِي، والوَطنِي. إنَّ رِسالَةَ هذا السِّفر هي أنَّهُ يتوجَّبُ علينا أن نَكُونَ دائماً في السَّاعةِ الثَّانِيَةِ عشرة، أي أن نُحِبَّ اللهَ وأن نَعبُدَهُ ونخدُمَهُ.

  • عدد الزيارات: 6531