Skip to main content

الفَصلُ الثَّامِن أينَ أخُوكَ؟

أحد مَواضِيع الكتاب المُقدَّس الأساسيَّة هُوَ حاجَةُ الإنسان للمُصالَحَةِ معَ الله. ولقد بادَرَ اللهُ بِجعلِ المُصالَحة مُمكِنَةً، سُرعانَ ما إقتُرِفَتِ الخَطَيَّةُ الأُولى. ففي تكوين 3: 15، نَجِدُ النُّبُوَّةَ المَسياوِيَّةَ الأُولى تظهَرُ، عندما يتكلَّمُ اللهُ معَ الأفعى: "وأضَعُ عداوَةً بينَكِ وبَينَ المرأةِ وبَينَ نَسلِكِ ونَسلِها. هُوَ يسحَقُ رأسَكَ وأنتِ تَسحَقِينَ عَقِبَهُ."

معَ العِلمِ أنَّ الحَيَّةَ تُشيرُ إلى الشَّيطان، نَجِدُ هُنا أوَّلَ إشارَةٍ في الكتابِ المُقدَّس إلى أنَّ اللهَ سوفَ يُرسِلُ شَخصاً إلى هذا العالم ليُصَحِّحَ الوضع. هذه هي النَّتيجَةُ النَّبَوِيَّة لِخَطِيَّةِ آدم وحَوَّاء.

ولكن كانت هُناكَ عِدَّةُ عواقِب سَلبِيَّة! أوَّلاً، أنَّ الجِنسَ البَشَرِيَّ إنفَصَلَ عنِ الله. ثُمَّ نقرأُ في الإصحاح الرَّابِعِ عن عاقِبَةٍ أُخرى من عَواقِبِ السُّقُوط – ألا وهي الصِّراع. يَصِفُ اللهُ الصِّراعَ لنا – الصِّراعَ كما كانَ في ذلكَ الزَّمان، لكي نفهمَ الصِّراعَ كما هُوَ عليهِ الآن. فنَحنُ في صِراعٍ مع نُفُوسِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ معَ زَوجاتِنا أو أزواجِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ معَ أولادِنا ومعَ أهلِنا؛ ونحنُ في صِراعٍ معَ أربابِ عملِنا، وبالطَّبعِ نحنُ نشهَدُ صِراعَ الأُمَمِ معَ بَعضِها البَعض. فالصِّراعُ هُوَ إحدى مشاكِلِنا الكُبرى. في تَكوين 4، سوفَ نكتَشِفُ بعضَ الأسبابِ الرَّئيسيَّة لِلصِّراع، وبعضَ الحُلُولِ التي يُمكِنُ أن تَضَعَ حَدَّاً لهذه الصِّراعات. يُعطِينا سِفرُ التَّكوين هذه المعلُوماتِ في شَكلِ قِصَّةٍ عن شَقيقَين.

هذانَ الشَّقِيقانِ هُما مألُوفانِ جِدَّاً عندَنا – قايين وهابِيل. وبينما تَتَتَابَعُ القِصَّةُ فُصُولاً، خطَرَ لِقايين فكرَةٌ، بأن يُقدَّمَ تقدِمَةً للهِ. وبما أنَّهُ كانَ مُزارِعاً، قدَّمَ لِلرَّبِّ تقدِمَةً من ثِمارِ الأرض. أمَّا أخاهُ هابِيل فكانَ راعِياً، فقدَّمَ للهِ ذبيحَةً حيوانِيَّة. فقُبِلَت تقدِمَةُ هابِيل منَ اللهِ، أمَّا تقدِمَةُ قايين فلم تُقبَلْ.

هُنا يُسيءُ الكَثيرُونَ فهمَ هذا القَضِيَّة، ظَانِّينَ أنَّ ذبيحَةً هابِيل قُبِلَت لأنَّها كانت ذَبيحَةً حيوانِيَّة. ولكن بِصراحَة، ليسَ هذا ما يَقُولُهُ نَصُّ الكتابِ المُقدَّس. فتَقدِمَةُ هابِيل قُبِلت أمامَ اللهِ لأنَّ هابِيل كانَ مقبُولاً كَشَخصٍ أمامَ الله. وتقدِمَةُ قايين لم تُقبَل أمَامَ اللهِ، لأنَّ قايين كَشَخصٍ لم يَكُنْ مقبُولاً أمامَ الله (تكوين 4: 6- 7).

عندما تَصلُونَ إلى قِصَّةِ قايين وهابِيل، منَ السَّهلِ أن تقرأُوا أو تُفَسِّرُوا ما لا يَقُولهُ النَّصُّ. فقايينُ لم يُطلَبْ منهُ أن يُقدِّمَ ذَبيحَةً حَيَوانِيَّة. بالحقيقة، في سفرِ اللاوِيِّين، كانَ يُطلَبُ منَ الشَّعبِ أن يُقَدِّمُوا حِنطَةً أو غيرَها من ثِمارِ الأرضِ كتقدِمَةٍ للرَّبِّ. فإذاً ليسَ المُهِمّ في هذه القِصَّة نَوع التَّقدِمَةِ؛ بل الأشخاص هُم المُهِمُّونَ في هذه القِصَّة. فقايينُ نفسُهُ لم يَكُنْ مقبُولاً، وعندما إكتَشَفَ هذا، ثارَ غضَبُهُ وأُصيبَ بالإكتِئاب والإحباط.

وتماماً كما فعلَ اللهُ سابِقاً معَ والِدَي قايين، آدم وحَوَّاء، سألَ اللهُ قايينَ: "لماذا إغتَظتَ ولماذا سَقَطَ وجهُكَ؟" (تكوين 4: 6) بالطَّبعِ، كانَ اللهُ يَعرِفُ الأجوِبَةَ على هذه الأسئلة. ولكنَّ قَلبَ قايين العَنيد لا يبدُو أنَّهُ فَهِمَ قصدَ اللهِ من سُؤالِهِ، فتابَعَ اللهُ بالقَول: "إن أحسَنتَ أفلا رَفعٌ، وإن لم تُحسِنْ فعِندَ البابِ خَطِيَّةٌ رابِضَةٌ، وإليكَ إشتِياقُها، وأنتَ تَسُودُ عَلَيها." (تكوين 4: 7) وللأسَفِ الشَّديد، لم يَضبُطْ قايين نفسَهُ فيما يتعلَّقُ بهذه الخَطيَّة، بَل نقرَأُ في العدد الثَّامن أنَّهُ قتَلَ أخاهُ في مَوجَةِ غَضَبٍ عارِم.

فجاءَهُ سُؤالُ اللهِ مُجدَّداً، "أينَ أخُوكَ؟" ماذا فَعَلتَ؟" ولكنَّ قايين ظَلَّ متَمَسِّكاً بِعِنادِهِ، رافِضاً الإعتِرافَ بِخَطَئِهِ، إلى أن فضَحَهُ اللهُ صراحَةً، مُخبِراً إيَّاهُ بأنَّهُ يعلَمُ بما جَرى. (تكوين 4: 9- 10).

في تكوين 3 كانَ السُّؤالُ: "أينَ أنتَ؟" وفي تكوين 4 صارَ السُّؤالُ، "أينَ أخُوكَ؟" لقد حاوَلَ اللهُ بِطَرحِهِ هذا السُّؤالَ، أن يجعَلَ قايين يعتَرِفُ ويُدرِكُ ما حصَلَ بالفِعل – أنَّهُ صَبَّ جامَ غَضَبِهِ على شَخصٍ بَريءٍ، وأنَّهُ رُغمَ ذلكَ لم يكُنْ يَزالُ غاضِباً؛ فأعمالُهُ لم تَجِدْ حَلاً لأيَّةِ مُشكِلَة؛ بدلَ ذلكَ، جعَلَتْ أعمالُهُ الوضعَ يزدادُ سُوءاً.

وإذا رَجَعنا قَليلاً إلى الوراء، نَجِدُ أنَّ العدد 7 هُوَ المِفتاحُ لكُلِّ هذه القِصَّة. إنَّهُ يُعالِجُ قَلبَ قَضِيَّةِ الصِّراع، ويُقدِّمُ الحَلَّ: إن أحسَنتَ، سوفَ تَكُونُ مَقبُولاً أمامَ اللهِ، وأمامَ نفسِكَ، ولن يتوجَّبَ عليكَ أن تَقضِيَ حياتَكَ وأنتَ تَضرِبُ حتَّى المَوت الشخصَ المقبُولَ أمامَ الله. هُناكَ مقطَعٌ في كلمةِ اللهِ، منَ المَوعِظَةِ على الجَبَل، يَتَوازَى معَ قِصَّةِ قايين وهابِيل. نَجِدُ هذا المقطع في الأعدادِ الخَمسَةِ الأُولى منَ الإصحاحِ السَّابِع من إنجيلِ متَّى. يطرَحُ يسُوعُ أسئِلَةً علىِ الأشخاص ذَوي الرُّوحِ الإنتِقادِيَّةِ المُفرِطَة. يسألُهُم لماذا هُم إنتِقادِيُّونَ إلى هذا الحَدّ، وكَيفَ يتوقَّعُونَ أن يَكُونُوا نافِعينَ معَ هكذا رُوحٍ إنتِقادِيَّة؟ ويستَخدِمُ الإيضاحَ السَّاخِر بأنَّهُم يُشبِهُونَ شَخصاً يبحَثُ عن قَذَىً في عَينِ أخيهِ ويتغافَلُ عنِ الخَشَبَةِ في عينهِ.

يَعتَقِدُ الكَثيرُونَ أنَّ هذا المَقطَعَ يُعَلِّمُنا أن لا نحكُمَ على الآخرين. ولكنَّ يسُوعَ كانَ يَقُولُ بالحقيقَةِ ما أرادَ اللهُ أن يُعَلِّمَهُ لِقَايين: "أنتَ لا تنظرُ إلى القَضِيَّةِ الصَّحيحة. توقَّفْ عنِ الإنشِغالِ بأُمُورِ أخيكَ وعنِ إنتِقادِهِ، واهتَمّ بِشُؤُونِكَ أنتَ وبإنتِقادِ نفسِكَ."

ولكن شُكراً للهِ أنَّ مَوتَ هابِيل لم يَقضِ نهائِيَّاً على كُلِّ خَير. فبَعدَ جِيلَين، كما نَجِدُ في تكوين 4: 26، نرى أوَّلَ مَثَلٍ عن إنسانٍ يُحاوِلُ الإتِّصالَ باللهِ بواسِطَةِ الصَّلاة. وحتَّى ذلكَ الحِين، كانَ التَّواصُلُ بينَ اللهِ والإنسانِ مَبنِيَّاً دائماً على مُبادَرَةٍ منَ الله.

نحنُ جَميعاً نتعامَلُ معَ الصِّراعاتِ طِوالَ الوقت. أحياناً لا نَكُونُ نحنُ مَصدَرَ هذه الصِّراعاتِ؛ وأحيانا أُخرى نكُونُ نحنُ مصدَرُها. ولكن في كُلِّ وقتٍ تَجِدُونَ أنفُسَكُم وسطَ صِراعٍ ما، حاوِلُوا أن تُسَيطِرُوا على عواطِفِكُم بشكلٍ كافٍ يسمَحُ لكُم أن تَتساءَلُوا عمَّا هي حقيقَةُ المُشكِلَة. ثُمَّ، وكما يقتَرِحُ تكوين 4: 7، إعمَلُوا ما هُوَ صَوابٌ، كُونُوا مَقبُولِينَ أمامَ اللهِ وأمامَ نُفُوسِكُم، لكي لا يتوجَّبَ عليكُم قضاءَ حياتكُم وأنتُم تضرُبُونَ هابيل حتَّى المَوت.

  • عدد الزيارات: 3307