Skip to main content

معرفة محبة المسيح الفائقة المعرفة

(3: 19)

19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.

أ ـ نوع المعرفة: إن المعرفة المقصودة هنا، هي من طراز جديد راقٍ، ذات مستوى روحيّ سام. هي القوة المميّزة التي تمتاز بها الطبيعة المتجددة، وبها تتذوّق حلاوة محبة المسيح الفائقة المعرفة، فهي معرفة روحيّة للمحبة التي تعجز دونها المعرفة الطبيعية ـ هي معرفة قلبية للمحبة التي لا تقوى على إدراكها المعرفة العقلية، فلا يعرف لغة القلب سوى القلب. ولا يميّز محبة الله سوى القلب المتجدد بنعمة الله.

ب ـ موضوع المعرفة: "... محبة المسيح". هذه هي المحبة التي أحبّ بها المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها (5: 25). وهي المحبة التي أحبّ بها كلّ فردٍ في الكنيسة: "الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية2: 10، أنظر أيضاً رومية8: 35و39، 2كو5: 14، رؤيا1: 5). وبما أنّ الرسول طلب لأجل أهل أفسس أن يعرفوا: "مع جميع القديسين"، فواضح أنه أراد محبة المسيح للكنيسة كمجموع أولاً، ثم كأفراد.

وصف الرسول هذه المحبة بقوله: "الفائقة المعرفة". مهما يكن نوع هذه المعرفة، عقلية كانت أم روحية، فهي قاصرة عن أن تدرك محبة المسيح التي تتحدّى كلّ قياس. فكلما عرف الإنسان من هذه المحبة الفائقة، أدرك أنه لا يعرف عنها شيئاً، وكلّما ارتقى إلى قمّة منها، عرف أنه أمام جبلٍ أشمّ. وكلّما ذاق قطرةً منها، تحقّق أنه أمام بحرٍ خضمّ ـ من الآن إلى الأبد يجد أمامه درساً لم يعرفه عنها بعد. إنّ في هذا دليلاًَ على لاهوت المسيح المجيد، وسموّ محبّته الفائقة الوصف والإدراك، فما من محبة بشرية ـ مهما سمت أوصافها ـ ينطبق عليها هذا الوصف الجليل: "الفائقة المعرفة". ولن يعدل "محبة المسيح الفائقة المعرفة"، سوى سلام الله "الذي يفوق كلّ عقلٍ" (فيلبي4 :7). "وليس أحدٌ يعرف الابن إلاّ الآب" (متى11: 27).

ج ـ غاية الغايات: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله" ـ هذه هي الذروة القصوى التي بلغتها صلاة الرسول في هذه الرسالة. بل هي الغاية المجيدة التي بجانبها تُحسب كل الغايات السابقة مجرّد وسائل مؤدية إليها: "(...لكي يعطيكم أن تتأيّدوا".. "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم".. "حتى تستطيعوا أن تدركوا".. "وتعرفوا محبة المسيح" ـ هذه كلّها وسائل تمهيدية لغاية نهائية ـ هي: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله". بل هذا هو قلب صلاة بولس، وكلّ ما سبقه ليس سوى مقدّمات.

في كولوسي1: 9، صلّى بولس لأجل المكتوب إليهم قائلاً: "من أجل ذلك نحن أيضاً منذ يوم سمعنا لم نزل مصلّين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته". لكنّه في هذه الرسالة وفي هذه الآية التي نحن بصددها، طلب لأجلهم ما هو أفضل ـ إذ قال: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله". فالامتلاء من معرفة مشيئة الله أمرٌ عظيم، ولكن أعظم منه بما لا يقاس، الامتلاء إلى كلّ "ملء الله".

"لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله" ـ ترسم هذه العبارة في أذهاننا صورة وعاء متّصل بموردٍ عظيم فيّاض. وسيظلّ متّصلاً به حتى يمتلئ إلى كلّ ملئه. أما الوعاء فهو الكنيسة ـ أفراداً أو جماعة. وأما هذا المورد العظيم فهو الإله جلّ وعلا. فطلب الرسول أن يمتلئ كلّ فردٍ إلى كلّ ملء الله، والفرد يمتلئ كلياً أو جزئياً حسب استعداده وقابليته وتشوّقه، لتمتلئ كلّ ملكةٍ فيه بالنعمة، وبالروح القدس، وبالتالي يمتلئ بكلّ بركات الله.

"إلى كلّ ملء الله" هذا هو الحدّ الغير المحدود، والقياس الذي لا يُقاس، والنهاية اللاّنهائية التي إليها تمتلئ النفس. على أنه لا يستنتج من هذا، بالضرورة، إن في إمكان النفس أن تصل إلى هذا الملء ـ إن في الحال أو في الاستقبال، بل المستفاد منه أن أمام النفس مجالاً سامياً متّسعاً إلى ما لا نهاية، إليه تتسامى النفس وترتقي متدرّجةً في مدارج القداسة والأمجاد، وكلّما ارتقت وجدت أمامها مجالاً أسمى وخيراً أعلى. فتنمو طوال الأبدية إلى هذا الحدّ الغير المحدود، إذ لا نهاية لنموّها، وهنيئاً لها بهذا النهاية اللانهائية، لأن وقف النموّ يؤدي إلى الجمود، والجمود هو أول درجات الانحلال، والانحلال يختتم بالزوال.

"إلى كلّ ملء الله" ـ إلى كلّ الغنى الإلهي ـ غنى النعم والصفات والطبيعة، فيصير المؤمنون شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4). إنّ كلّ ملء الله هو في المسيح، وكلّ ملء المسيح، لنا نحن المؤمنين (كولوسي 2: 9و10).

إن قياس امتلائنا، عملياً، ليس ملء الله، بل قابليّتنا نحن واستعدادنا. يقول الدكتور سكروجي: إنّ حرف الجر المترجم "إلى" يجوز أن يُترجم إلى "في" فيكون ملء الله هو البيئة الروحية المقدّسة التي فيها نحيا ونتحرّك ونوجد، وفيها نمتلئ. ويجوز أيضاً أن تترجم إلى حرف الجرّ "بـ" فيكون ملء الله هو موضوع امتلائنا. ولكننا نميل إلى الاحتفاظ بالترجمة العربية: "إلى"، فيكون ملء الله هو الحدّ الأقصى الذي إليه نرتقي، ونتقدّم، وننمو في امتلائنا.

إن الصفات الإلهية المطلقة: مثل العلم بكلّ شيء، والقدرة على كلّ شيء، والوجود في كلّ مكان، لا يمكن أن تكون من نصيب البشر، ولا يمكنهم أن يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية في الصفات الأدبية. وفي هذه أيضاً يختلفون عن الذات العليّة في النوع والكميّة. ولكن لن يُتاح لهم شيء من هذا، إلاّ متى حلّ المسيح بالإيمان في قلوبهم، وملأها إلى التمام، ونحن جميعاً ناظرين مجد الربّ بوجهٍ مكشوف كما في مرآة نتغيّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الربّ الروح" (2كو3: 17).

في هذه الحياة لا يمكننا أن ننمو فنبلغ كلّ ملء الله، لأننا كنبات منقول من تربته الأصلية إلى تربة غريبة عنه، فنموّه معطّل، وارتقاؤه معرقل. لكننا إذ نبلغ السماء ونتحرر من المادة وأغلالها، ننمو تدريجياً إلى كمال القصد الإلهيّ الذي أراده الله فينا، وبنا، وبواسطتنا.

  • عدد الزيارات: 6650